الثورة السورية بعد ثمانية أعوام -مقالات مختارة-
لو صارت مجرد ذكرى ثامنة/ عمر قدور
منذ ثلاث سنوات أصبح لمرور ذكرى الثورة طعم أكثر مرارة، أي بعد التدخل العسكري الروسي المباشر، وقلب الموازين لمصلحة قوات الأسد والميليشيات الشيعية الحليفة. ذلك لا يعني أن الوضع من قبل كان في أفضل حال، سواء مع منهج الإبادة والتدمير المستمرين، أو مع ما ظهر من عدم اكتراث دولي إزاء المقتلة السورية، أو ما ظهر في معسكر الفصائل التي تقاتل الأسد من أمراض الأسدية نفسها، أو من اختلاطها مع طموحات الاحتكار والهيمنة الإسلامية.
في سيناريو مختلف “شديد التفاؤل” كان ينبغي للسوريين الاحتفال بهذا التاريخ بوصفه بداية خلاصهم، وفي سيناريو متأخر عنه “وأقل وردية” كان لمنسوب الحفاوة أن ينخفض لصالح استخلاص العبر من الحرب. لا هذا حدث ولا ذاك، لكن من المرجح أن يبقى منتصف آذار تاريخاً يحفر في ذاكرة الجميع، ممن، رغم كل المآسي، يرونه تاريخاً ناصعاً، وممن، رغم كل المآسي أيضاً، يرونه تاريخاً أسود.
قبل اندلاع الثورة كان بشار قد أعلن الحرب، عندما صرّح لصحيفة غربية بأن سوريا ليست تونس أو مصر، وما فهمه السوريون حينها من التحذير أو التهديد أن حكمه ليس كحكم بن علي أو مبارك. وقد أثبتت الأحداث اللاحقة أن نية الحرب لدى السلطة ومؤيديها مبيّتة من قبل، إذا تجاوزنا كون الأسدية في حد ذاتها مشروع حرب دائمة على السوريين. اندلاع الثورة كان تعبيراً عن هذا المأزق، إذ لا يمكن لبلد أن يشهد الاستقرار بينما يكون خاضعاً طوال عقود لمنطق الحرب، مهما كان تمويه الأخيرة متقناً.
الوحشية التي طفت على السطح منذ اندلاع الثورة أتت بمثابة فرصة مرّةٍ لفهم العالم وموازينه السياسية، أكثر مما هي مناسبة لفهم الأسدية التي يعرفها السوريون سلفاً. ضمن الحسابات السياسية الدولية يصعب تصور انتصار الثورة، مع الاحتفاظ بأقسى أنواع النقد والهجاء تجاه أداء الهيئات التي تولت تمثيلها. امتناع الانتصار خارجياً، فوق وجود سلطة تحتكر مفاتيح القوة داخلياً، لم يكن ليعني سوى ما شهدناه خلال السنوات الثماني الأخيرة، والتواطؤ الدولي على إبقاء الأسدية لا يعني سوى ترك الحرب مفتوحة بأداتها الرئيسية والأكثر وحشية.
هذه الحرب المستمرة على حاضر ومستقبل السوريين تبقي الصراع الداخلي متمركزاً عند تاريخ اندلاع الثورة، إذ بدءاً منه ثمة شقاق لا يمكن ردمه إلا بمصالحة تاريخية على جثة الأسدية. بهذا المعنى سيبقى التاريخ المذكور حدثاً تأسيسياً، رغم محاولات ردمه المادية والمعنوية. الموالون قبل المعارضين لن ينسوه، وسيبقى مهيمناً على مخيلتهم ومنبعاً لمخاوفهم ووحشيتهم معاً. بوعيه أو بلاوعيه، يدرك الموالي أمرين متناقضين؛ انتصار الأسدية وفشلها في الوقت نفسه. هي قد انتصرت أولاً بفعل خارجٍ داعم أو متواطئ، لا بفعل قوتها الذاتية أو نجاحها في تطويع السوريين إلى الأبد الذي كانت تلوّح لهم به.
بالمعنى السابق لنقض فكرة الأبد تكون الثورة قد حدثت وانتصرت، إلا أنها فشلت أيضاً، أي أنها نجحت سلباً من حيث تقويض ما قامت لتقويضه، وفشلت إيجاباً في جعل البديل متاحاً. هذا التمزق بين الانتصار المخفي والفشل الدامي سيبقي تاريخ اندلاعها ماثلاً في أذهان أنصارها، سواء من اضطر منهم إلى المنافي أو من بقي تحت سيطرة الأسد. الضغط الذي يمثّله التاريخ سيبقى مثقلاً باستحقاقات لم تنفّذ، وعلى الصعيد الوجداني سيظل مثقلاً بذلك العدد المهول من الضحايا. بل لا نجافي الواقع إذا قلنا بأن هذه الوضعية ستبقي الحزن معلّقاً، لأن دفن مرحلة بأكملها مع ضحاياها لم يحدث بعد.
الغضب الملازم لفشل الثورة سيبقى دافعاً لاستكمالها، أو لدى البعض للانتقام أو الثأر ممن تسبب في فشلها. في كل الأحوال، قلة فقط ستتأقلم أو تتصالح مع الفشل وتركن إليه في قرارتها، بينما ستحتفظ الكثرة المجبرة على البقاء تحت سيطرة الأسد بأحقادها إلى أن تحين الفرصة المناسبة. هذا ما يدركه تنظيم الشبيحة وأتباعه، لذا سيكون التعايش الإجباري بين الطرفين محفوفاً بالقهر المادي أو المباشر للطرف الأضعف، والقهر المعنوي للطرفين.
في جو يُمنع فيه التعبير عن أسباب القهر، من المتوقع تصريف تلك الطاقة عبر مختلف أنواع العنف التي لا تحمل مخاطر السياسة. وحيث تحتفظ ذاكرة الجميع بأشد المشاهد فظاعة، وبكل أنواع الاستباحة والاستهتار بالإنسانية، سيكون من الصعب جداً ضبط المستوى الغرائزي الذي انحدر إليه الوضع. الصورة التي يُراد ترويجها عن أناس لا يريدون سوى العيش بهدوء وأمان تحمل بعض الصحة، وعلى نحو مؤقت، فالحق في الحياة ليس أقصى ما يسعى إليه البشر في أي مكان، ولو كان كافياً لما اندلعت الثورة من قبل.
قد لا نجازف إذا قلنا أن نسبة كبيرة من السوريين، بكافة انتماءاتهم، لم تستوعب فكرة الثورة، وهي كما نعلم أول تجربة من نوعها، في سوريا والعديد من بلدان المنطقة. لقد عايشت أجيال من قبل انقلابات، أطلق عليها قادتها زوراً اسم “الثورة”، وشهدت تلك الأجيال صراعاً على السلطة أكثر مما هو صراع على طبيعة السلطة. عدم اعتراف كثيرين بالمغزى التأسيسي للثورة لا ينفيه إلا في عقولهم، ولا يمحو الآثار والارتدادات المقبلة، والنسخة المتهافتة الموروثة من الماضي تفيدنا بأن هذه السلطة قد استهلكت نفسها بقدر ما استهلكت من حيوات السوريين.
لو أنها صارت مجرد ذكرى ثامنة، لثورة أدت دورها وانقضت، لكان ذلك أفضل ما تفعله ثورة على الإطلاق، إذ يكون أبناؤها “قبل خصومها القدامى” قد تخلصوا وفاءً لها من فكرة التقديس. أما، بما نحن عليه، فإن الذكرى مثقلة فضلاً عن بحر الدماء بكل ما ينبغي فعله وقوله كي لا تضيع فكرة الحرية أو العدالة، ولعلها قسمة ذات دلالة بليغة أن تحمل لأبناء الثورة آلام ثماني سنوات من المقتلة، بينما تحمل للقتلة نصراً مغشوشاً اليوم ومسموماً في ما بعد.
المدن
استعادة غير نوستالجيّة لـ 2011
تنسيقية ألفينوإيدعش من أجل الحرية
فيما يلي خلاصات ورؤوس أقلام، ومسودّة بيان سيبقى غير ناجز، صادرة عن اجتماع متواصل كبير، عقدته على مدى أيام مجموعة من السوريات والسوريين، أقرب لأواسط العمر من بداياته. مقيمون بغالبيتهم خارج سوريا اليوم، تتوزّع انشغالاتهم بين النشاط في هيئات ومؤسسات المجتمع المدني والأكاديميا والفن والصحافة والدراسات العلمية والمهن اليدوية والعطالة، مختلفون عن بعضهم في كلّ شيء، ومجتمعون على أن 2011 كان أكثر من مجرّد عام، بل كان عاماً لكلّ الأعوام التي تلته، وعاماً ناظماً لكل مراجعات الأعوام التي سبقته، في حياتهم على الأقل.
علينا أن نبدأ خطابنا هذا باعتذارين مطوّلين بعض الشيء، ويتوضيح شفاف. أوّل الاعتذارات يخصّ الفوضى التي سيجدها القارئ في هذا النص، إذ أنه نتاج تجارب كثيرة، تتقاطع كثيراً وتختلف كثيراً. أغلبنا لم يستطع، حتى الآن، التغلّب على وضعية الميموزا (نبتة المستحية، حسب الاسم الدارج في سوريا) والخروج من تقوقعه على نفسه على طريقة الميموزا حين تنكمش أوراقها عند لمسها؛ فيما بدأ بعضنا الآخر مرحلة تلمّس جسده وأفكاره للتأكد أنها ما زالت موجودة، والتبصّر في نفسه والنظر إلى ما حوله، محاولةً لاكتشاف أين هو وماذا يفعل؛ وبعضنا الثالث أخذ دور الطليعة الثورية، وشرع يشاجر البعض الميموزي بعنف، يراه البعض المُتبصّر مفهوماً وإن غير منتج، ولعلّ فيه بعض النرجسية. لكن أليس هناك نرجسية في الوضع الميموزي أيضاً؟ أين ينتهي الخاص ويبدأ العام في القرارات المتعلّقة بالانكسارات وطرق جبرِها؟
هذا سؤال تأسيسي، ضمن أسئلة تأسيسية عديدة، تحاول الإجابة عليها مجموعةٌ مُجتمعة أصلاً على ذلك العام التأسيسي، عام كل شيء، عام 2011.
الاعتذار الثاني مُتعلّق بأننا لا نعرف بالضبط لمن نكتب هذا النص. فرغم أن العديد من أعضاء المجموعة التأسيسية ينشطون في مجالات المجتمع المدني والصحافة والنشر والفن، وبالتالي فإن تحديد «الجمهور المستهدف» أو «المستفيدين» هو جزء جوهري من بداية التفكير في أي «مشروع»، إلا أننا عجزنا عن التفكير بالتنسيقية كمشروع له «مستفيدون». ثمة أجزاء من البعض الطليعي الثوري تلوم البعض الميموزي على تعلّقه الزائد بموضة العلاج النفسي، حيث يُطلب من المرء أن يكتب، أن يكتب لنفسه، أن يكتب كوابيسه وأحلامه وأفكاره والأشياء التي يخاف منها، والأشياء التي يحنّ لها، وعن ماذا يحب، وماذا يكره، وماذا يُشعِره بالأمان… إلخ.
في الحقيقة، هناك إحساس بليد بالذنب في أن نكتب عن 2011 وكأننا نكتب عقب جلسة علاج نفسي. نعم، مجموع أحاسيسنا تجاه 2011 لها طابع الحلم والكابوس والأمل والفكرة والخوف والحنين والألم والحنان والحب، والأمان وانعدامه، وكل هذه الأمور. لكننا لسنا في جلسة علاج نفسي الآن واليوم، مع كل الاحترام والتقدير للعلاج النفسي، وكل الرفض والإدانة لسلوك المشككين به والساخرين منه.
على أي حال. لا نعرف من هو الجمهور المُستهدف من هذا النص. ربما يكون الجيل الأصغر منا، الذي وصل إلى عام 2011 وهو مراهق أو ما دون، ويحمل اليوم وزر وتبعات الحصار والتهجير واللجوء، أو الحياة تحت وطأة انتصار أسمال النظام وحلفائه؛ أو ربما يكون جيلنا ذاته، ألفينوإيدعشيون وألفينوإيدعشيات، من سوريا ومن غيرها، يبحثون عمّن يشعر بالوحدة المُزدحمة مثلهم؛ أو ربما يكون المستهدف هو أصدقاء ورفاق سابقون لنا، يحبّون رؤيتنا متخبطين لإثبات أن قرارهم بالجمود، أو قرارهم بالوقوف مع القوّة في لحظة سطوتها، كان قراراً مُحقّاً… لا بأس في ذلك، فليس لدينا مشكلة في تغذية الـ«قلنالكم».
في الحقيقة، نفضّل أيّ «قول»، حتى لو كان ذاك الذي «انقاللنا»، على الصمت. ونفضّل أيّ وجود مزعج على الرغبة بالمسح والإلغاء، ونفضّل الفوضى المستفّزّة على انضباطٍ صحيح مُفترض، ضمن وجهةٍ تاريخية مصيبة نظرياً. قد يبدو هذا الكلام طوباوياً ورومانسياً. هو كذلك، وهذا أصلاً نعتٌ سمعناه من كثيرين في 2011، يوم سُعدنا بانقلاب حياتنا رأساً على عقب مع أول هتاف من أجل كرامة وحرّية السوريين، في الحريقة ثم في الحميدية، ثم في درعا، وبعدها في أرجاء واسعة من الجغرافيا السورية.
هنا، عند الحديث عن درعا، يجب أن نتحدث عن التوضيح الشفّاف المذكور أعلاه: لقد انتصر قرار النشر يوم 15 آذار في تصويت ديمقراطي ضمن مجموعة مغلقة على الفيسبوك (رغم ذاكرتنا السيئة مع تصويتات الفيسبوك)، لكنه أدّى لانشقاق التيار الشعبوي من الألفينوإيدعشيين، أولئك الذين يصرّون على أن الثورة بدأت يوم 18 آذار في درعا، وبينهم قدرٌ لا بأس به من مدمني ذمّ المدينة وطبقاتها الوسطى، وإعلاء شأن الريف ورمنَسته. ندعوهم في هذا البيان بالشعبويين، رغم أنهم اتهمونا نحن بالشعبوية، إذ اعتبروا أننا نحاول استغلال أن 15 آذار هذه السنة يُصادف يوم جمعة، وأننا نودّ بنصّنا هذا استثارة مشاعر المجتمع المُحافظ بطبعه، عساه يخرج في مظاهرات من الجوامع بعد صلاة الجمعة.
تلاطمنا بعض الشيء من أجل اختيار اسم للتنسيقية أيضاً، لكن لم يؤد الخلاف على الاسم لانشقاقات، أقلّه حتى اللحظة الراهنة. كان هناك اتفاق مُحق على تجنّب تعميم الصفة الذكورية، لأن أكبر خلاصة لنا من تجربتنا، كانت أننا بالغنا بشدة في المنطق التأجيلي، ولم ننتبه إلى ضرورة خوض معركة الحريات الشخصية، إلا بعد أن كانت النزعة المُحافظة -امبراطورية التوجّه بطبعها- بقيادة التسلّطيين الإسلاميين قد انهمكت في إخراجنا من الصورة. وبالتالي، لم نقبل اسم «تنسيقية ألفينوإدعشيون» فقط، بل كان يجب أن نقول «تنسيقية ألفينوإدعشيون وألفينوإدعشيات». ولأنه كان ضرورياً أن نضيف إحالة للحرية، المعنى الأسمى في وجه كلّ الموبقات السلطوية التي ظهرت تحت ظلال عسكرة الثورة وأسلمتها، كان اقتراح اسم «تنسقية ألفينوإدعشيون وألفينوإدعشيات الأحرار والحرّات/الحرائر». لكنه كان خياراً صعباً بسبب طوله، وأيضاً لأننا خضنا ساعات من النقاش حول كلمة «حرائر»، نقاش كان «ديجافو» بكل معنى الكلمة… (بالمناسبة، لو أحسست، عزيزي القارئ، ببعض الديجافو وأنت تقرأ كلمة «حرائر» وتذكّرت النقاش حولها، فإذن أنت على الأرجح ألفينوإيدعشي، بادر بالانتساب!)
لذلك، قررنا في النهاية تثبيت اسم «تنسيقية ألفينوإيدعش من أجل الحرية».
أحد الزملاء في التنسيقية تحمّس للاسم، وتبرّع بتصميم لوغو للتنسيقية، باعتبار أن لديه خبرة مسبقة في الغرافيكس، ووعد بإرسال أفكار أولية بعد ساعات قليلة من انتهاء الاجتماع، لكنه اختفى ولم يعد يردّ على مسجات الفيسبوك منذ حينه. مرّت عشرة أيام حتى الآن، عشرة أيام لم تهزّ العالم كثيراً، صراحةً.
*****
لا ندري إذا كان اختيارنا لكلمة تنسيقية يعني أننا سننسق لإنجاز أعمال أخرى غير كتابة هذا النص، لكن هذا الاختيار استعادة ضرورية لتلك الكلمة التي لا نتذكر متى سمعناها أول مرة في السياق السوري. كان ذلك مبكراً على أي حال، والتنسيقية تبدو كلمة مختارة بعناية، لأنها لا تلقي على أصحابها وزر الاتفاق الإيديولوجي أو البرنامجي، لكنها تحمّلهم مسؤولية التنسيق فيما بينهم لتنفيذ النشاطات الاحتجاجية على الأرض.
هذا كان دورها منذ البداية، لكن إذا كان الأمر كذلك، ترى لماذا تناسلت التنسيقيات وانشقت على نفسها مرات ومرات، حتى بتنا نجد تنسيقيتين أو ثلاثاً في قرية صغيرة؟ لا يبدو البحث في الأسباب الحقيقية المتنوعة ممكناً الآن، لكن الواقع أننا لم نكن عام 2011 مجمعين على شيء سوى على ضرورة إسقاط الأسد، والـ «نا» لا تعود هنا على أعضاء تنسيقيتنا هذه فقط، بل تعود على عموم الذين تمردوا على النظام عام 2011.
ورغم أننا ندعي محاولة تقديم استعادة غير نوستالجية للحظة 2011، لكن بعض النوستاليجا ستفرض نفسها علينا رغم أنوفنا. كانت تلك لحظات مهيبة، عندما راحت أولى الصرخات تشق حجاب الأبد الأسدي، وعندما قام أوائل الشجعان بتمزيق الصور وتحطيم التماثيل الأسدية، ثم عندما تدفقت الآلاف المؤلفة من الحشود إلى الشوارع والأزقة تهتف للحرية، تطالب بإسقاط النظام، وتقدم أرواحاً عزيزة على مذبح الخلاص. كانت تلك لحظة تأسيسية للوعي بأن ما يبدو مستحيلاً الآن، قد يكون سيد المشهد غداً. هذا درسٌ لا ينبغي نسيانه.
سمعنا كثيرين من أصدقائنا يقولون اليوم إنهم لا يستطيعون مشاهدة فيديو كامل لمظاهرة كرنفالية من عام 2011، وبعض أعضاء هذه التنسيقية، يقولون إن أياديهم ترتعش وقلوبهم تنخلع عند مشاهدة فيديو كهذا، إذ تحضر في أذهانهم بحار الدم وأكوام الدمار التي أعقبت تلك المشاهد، ويُخيّم عليهم إحساس عارم باليأس، إذ ما الذي يمكن لشعب أن يفعله غير هذا كي يظفر بحقه في تقرير مصيره.
بعضنا يسترق النظر إلى فيديوهات كهذه بين الفينة والفينة، يحاول أن يغافل نفسه ويخادعها، وواحدٌ منا يعترف بأن أقسى نوبة هلع أصابته، كانت بعد أن استغرق في مشاهدة فيديو لمظاهرة ضخمة في حي الميدان الدمشقي. لقد كان واحداً ممن شاركوا في تلك المظاهرة، ولا يزال يتذكرها لحظة فلحظة، لكنه عندما شاهد الفيديو من منفاه البعيد، كاد يسقط مغشياً عليه.
ولكن فلندع النوستالجيا جانباً؛ هل يمكن أن تصير تلك الذاكرة عبئاً قاسياً لا يُحتمل، لأنها علامات على زمن لا يمكن استعادته، ولأنها تذكير متواصل بأن ما فعلته الجموع وقتها عاد عليها وبالاً وموتاً ودماراً وانسحاقاً، ولأننا نحن الناجون منها، نجونا ومات غيرنا.
ليست مقاومة شعور كهذا بالأمر الهيّن، لأن ما يُقال لنا تصريحاً وتلميحاً هو أن الكارثة الكبرى في سوريا سببها أن سوريين خرجوا إلى الشوارع متمردين على نظام الحكم في بلادهم، ثم انتهى الأمر إلى هزيمة مدوية لتمردهم، وإلى تمزيق البلاد وإلحاقها ممزقة بدول إقليمية وعظمى. لسان حال كل شيء حولنا يقول: لقد تسببتم بتدمير بلادكم وتحطيم حياة أهلها من أجل لا شيء.
ثمة رد نظري على هذا القول، لا يحتاج إلى كثير من النباهة، وهو أن من حوّل البلاد إلى ساحة حرب هو النظام لا خصومه، وأن إنكار هذا أو القفز فوقه هو ضرب من الانحطاط لا يمكن غفرانه. لكن المسألة ليست نظرية، بل تتعلق بالنقاش حول كيفية تجاوز الشعور العارم بالمرارة عندما تحضر مشاهد 2011 في الذهن بأي طريقة كانت.
عندما تباحث أعضاء تنسيقيتنا في الأمر، كان لا بد من التجربة العملية، والتجربة العملية في المواجهة المباشرة مع ثقل الذاكرة، تقول إن تلك اللحظات تصلح نبعاً للألم واللانكسار، كما تصلح نبعاً لطاقة متجددة لا تنضب، في قلبها أن ما هو مستحيل يمكن أن يصير حقيقة، وفي قلبها أن لحظات المجد النارية، لحظات عناق النار إذا صح القول، هي اللحظات الأكثر خلقاً وإبداعاً في تاريخ البشر.
ثمة إرث كفاحي لا ينضب في عام 2011، ولا نرى أمامنا سبيلاً لتجاوز مرارة الذاكرة المتعلقة به، سوى مواجهتها والاشتباك معها بكل ما يمكن من حب، والتفكير فيها بعمق، أن نضع عيوننا في عينها دون مواربة أو إحساس بالذنب، ودون الركون إلى سرديات المظلومية ولوم الآخرين والدنيا والتاريخ. حسناً، إذا كان لا بد من إحساس بالذنب، فليكن دافعاً للعمل، لا للانكفاء على النفس، وإذا كان لا بد من لوم، فليكن دافعاً للبحث عن العدالة، لا عن مظلومية لا يولد الاستسلام لها شيئاً سوى احتقار العدالة.
وإذا كان لا بد من طلب الصفح من أحد، فسيكون ذلك من أنفسنا، ومن الغيّاب والحاضرين من أحبابنا، على أخطاء اقترفناها في سياق عملنا من أجل ما آمنّا ونؤمن به؛ ولكن ليس من المجرمين وحلفائهم وأحبابهم وزبائنهم واعتذارييهم. لهؤلاء، فوق ذاكرة نضالنا ضدّهم في 2011 وما قبله وما بعده، نحتفظ لهم بذاكرة عن كيف كانوا خائفين، كيف كانوا خائفين جداً، وفوق ذاكرة الماضي نحتفظ، وسنحتفظ دوماً، بأمل أن نراهم خائفين مرّة أخرى.
*****
بعض أبناء «تنسيقية ألفينوإيدعش من أجل الحرية» كانوا خارج سوريا في 15 آذار 2011، ولم يعودوا إليها إلّا في ذلك اليوم. لم يعودوا كأجساد مادية، بل ربما على العكس، حسموا أمرهم في ذلك اليوم أو بعده بقليل، وعبّروا عن مواقف علنية جعلت من المستحيل أن يعودوا إلى البلاد عبر بواباتها النظامية بغير سقوط النظام؛ لكنهم عادوا إليها بقلوبهم وعقولهم بعد أن كان واقع الانسلاخ التدريجي عنها يحكم حياتهم، وربطوا مصائرهم الشخصية بمصيرها بعد أن كانوا قد تعلموا على مدى سنوات طويلة أن الأجدى والأذكى هو السعي الفردي المحموم للخلاص من ظلمها وتخلّفها. كان بعضنا يعتقد أن «النجاح» والـ«الاندماج» والـ«تحضر» والـ«تمدن» يعني لنا، نحن الخارجين حديثاً من ذلك البلد الفقير المجهول الذي يدعى سوريا، أن نتجاوز «سوريتنا» وننساها، أن نبتعد عن معظم السوريين عندما نلقاهم لأنهم كما حذّرنا أهلنا على الأغلب من «المخابرات» أو «كتيبة التقارير». كنا نشتاق طبعاً، لكن لمجتمعاتنا المحلية وروابطنا الحميمية؛ مدننا وبلداتنا كانت هي أوطاننا، وفي حال دفعت بنا الأقدار إلى التسيّس، كان ذلك على الأغلب من أجل فلسطين أو العراق. أما سوريا فلم تكن إلا كناية عن مدرب الفتوة وعنصر المخابرات، والسفارات المخيفة ودوائر الدولة.
كل هذا تغيّر مع أول شهيد سقط في درعا. كثيرون منا نحن أبناء «الخارج» يتذكر تماماً أين كان عندما سمع الأخبار، وكم كانت الساعة، وماذا كان يفعل، وكيف انقلبت موازين الأمور والحياة كلها خلال ساعات قليلة. نتذكر تماماً أسماء البلدات التي كانت مجهولة لغير الحورانيين منا، وباتت فجأة قريبة وشديدة الألفة: الصنمين، إنخل، داعل، جاسم؛ نتذكر كيف اكتشفنا مع أولى فيديوهات المظاهرات القادمة عبر يوتيوب أن هناك سوريين لا يمتون لنا بصلة قرابة أو معرفة شخصية، وليسوا من كتبة التقارير الأمنية! نتذكر كيف بدا الخارج المتحضر مع أولى صور الشهداء باهتا سخيفاً وبلا معنى، وكيف باتت سوريتنا المنسية متألقة وعظيمة وملحمية.
هل يفترض الفكر النقدي منا أن ننظر إلى تلك اللحظات ونهز رأسنا بمزيج من الخجل والسخرية؟ قد نشعر ببعض هذا عندما نعود لنقرأ بعض منشوراتنا على فيسبوك، فنعثر على كمّ الجد والصرامة التي تحدثنا فيها عن «الضرورات الثورية»، و«المصلحة العليا»، و«التناقض الرئيسي والتنقاضات الثانوية»، و«ضرورة توحيد المعارضة»، لكننا لا نشعر بالخجل ولا بالسخرية عندما نتذكر المظاهرات والشهداء، أو عندما نستعيد كم الشجاعة والبطولة التي رأيناها فبتنا أشخاصاً آخرين بعدها، أو عندما نفكر بمعنى أن يضع الإنسان بملء إرادته كل مشاغله الفردية جانباً من أجل لحظة عامة خاطفة، تُظهر أفضل وأجمل مافي بني البشر. لا نشعر بالخجل ولا بالسخرية، بل بالفخر والامتنان.
*****
بعضنا لم يتمكن من تقبّل منفاه إلا بداعي المجزرة، أحدنا من المنفيين إلى باريس، يقول مثلاً إنه يشعر بألفة ما، دون انقباض وقلق، حين يمر في شوارع شهدت مجازر خلال كومونة باريس. المجزرة هي «العصب الغامض» إذا أردنا استخدام اللغة الطبية، ذاك العصب الممسك بتلابيب المخ منتقلاً إلى المعدة والأمعاء مروراً بالكبد. 2011 كانت لحظة استثنائية تَعدُ بتحرير العصب الغامض من المجزرة. 2011 كانت لحظة استثنائية لتحررنا من تواطئنا مع عائلة الأسد في أن نجهز على أنفسنا، ونستكمل قتلنا حين لا يقتلنا هو. معظمنا ممن تمرّسوا بالنجاة، كنا متوغلين في الثلاثينات أو نقترب منها، ما يعني أن ثمانينات سوريا زرعت في أحماضنا النووية مجزرة ينبغي النجاة منها. أن تبذل مجمل طاقتك للنجاة، هو أمرٌ سوري، ولحظة 2011 كانت لحظة فريدة أردنا الخلاص فيها جماعياً.
بعضنا يزعم أنه لم يخرج من عزلته وتقوقعه في دائرته الاجتماعية إلا مع أولى المظاهرات التي بدأت في سوريا، تلك النشوة لم تكن سياسية فقط، بل كانت نشوة الانفتاح على هوية جمعية ما، غير محددة المعالم كهوية سورية.
كانت أسماء الجمع كبيرة الأهمية بالنسبة لنا. أثناء «الجمعة العظيمة» في نيسان 2011، شهدت أطراف دمشق عدداً كبيراً من الشهداء الذين كانوا يحاولون الوصول إلى ساحة العباسيين في محاكاة لاحتلال الساحات العامة كما حصل في تونس أو القاهرة؛ فيما بعد نسينا موضوع الساحات العامة، في إخصاء آخر لنا كسوريين. الساحات العامة ليست لنا. في نيسان نفسه شهدت ساحة الساعة في حمص مجزرة. الإخصاء في سوريا يتم بالمجزرة، المجزرة وسيلةٌ وهدفٌ في آن معاً.
في أول 2011 كنا نهتم بالمحللين السياسيين السوريين الذين يخرجون على القنوات «المغرضة» يتحدثون عن انتفاضة السوريين، فيما بعد لم يعد الأمر يعنينا كثيراً.
يؤكد بعضنا أنه لم يكن يوماً ثائراً كما ينبغي، أو كما توحي الكلمة، لكنه يعرف شيئاً واحداً هو أن نظام عائلة الأسد «شرّك» حياته بالمعنى الشخصي للحياة، وأنه يكره هذا النظام. «التشريك» هو أن تهدر ثوب القماش بقصه بغير حذر وحساب. نظام عائلة الأسد شرّك حياتنا، ولحظةُ 2011 كانت لحظة لنُبقي شيئاً صالحاً من ثوب القماش.
*****
وبالحديث عن «الثائرين» الذين قد لا يكونون ثائرين كما ينبغي، لا يسعنا أن ننسى عبارة بدأنا نسمعها بكثافة منذ أواخر 2011؛ إنها «ثوار الفيسبوك». يبدو عسيراً التأريخ للحظة ولادة هذا المصطلح في السياق السوري، لكنه مرتبطٌ بلحظات الاستعصاء الأولى، التي بدا فيها أن الأمور لا تسير كما ينبغي، لأنه عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، وعندما ترتفع فاتورة الدم دون أفق للخلاص، وعندما يطول الصراع أكثر مما كنا نتخيل، يتصاعد التنازع على الشرعية والحق في اتخاذ القرار.
ثمة من يناضلون على الأرض، وثمة من لا يناضلون على الأرض، وهؤلاء الأخيرون هم ثوار الفيسبوك بحسب الأولين. تحمل الكلمة في ذاتها شحنة احتقار ونزع لمشروعية الحق بالكلام، إذ عليك أن تثبت ما الذي قدمته على الأرض، قبل أن يحق لك رفض الأسلمة أو العسكرة، أو اقتراح أشياء ترى أنها ترسم معالم طريق أفضل. ولأن الاتهام بالثورية الفيسبوكية كان يتم على فيسبوك، ويُستخدم سيفاً من قبل أشخاص يكتبون على فيسبوك، ضد أشخاص آخرين يكتبون على فيسبوك، أصبح من غير الممكن أن نعرف أين يبدأ الأمر وأين ينتهي.
وقد تفرّع عن تهمة ثوار الفيسبوك تهم كثيرة، كلها تندرج في سياق المزاودات حول من فعل كذا ولم يفعل كذا، وحول من يحق له قول هذا ومن لا يحق له قول ذاك. هل يمكن أن ننسى واحداً من أكثر الأبناء الشرعيين لعبارة «ثوار الفيسبوك» طرافة: «تعالوا عملوا كتيبة غيفارا قبل ما تحكوا». لا تزال تطالعنا هذه العبارة أحياناً، يتم قذفها مثل تعويذة في وجه كل من ينتقد سلوك الكتائب الإسلامية من مواقع تبدو علمانية.
لقد تنازع الثائرون مبكراً على الحق في القول، وعلى شرعية القول، ثم مع المسالك الوعرة التي سلكناها جميعاً، ومع تعدد أشكال الموت والخسارات والتهجير والنفي، ومع تعدد المواقع والاصطفافات وتضاربها، بات كل سوري عرضة لأن يُتهم بما يطعن في حقه بالقول، حتى أصبح الموتى وحدهم من يمتلكون شرعية الكلام.
*****
بعض أعضاء هذه التنسيقية، لم يكن لديهم حسابات فيسبوك أصلاً يوم هرب زين العابدين بن علي من تونس، لكننا جميعاً كنا قد أصبحنا فيسبوكيين عندما كان المصريون يعيشون أيامهم المجيدة في ميدان التحرير. يقول أحدنا إن نكتة مصرية دفعته إلى إنشاء حساب على فيسبوك، يُعرّفُ فيها أحدُ المصريين فيسبوك على أنه «بتاعة بيغيروا بيها الريّس».
نعرف اليوم أن فيسبوك لم يكن «بتاعة» صالحة لتغيير الرئيس، لكنه كان صالحاً للقيام بأشياء كثيرة. كان فيسبوك عالماً جديداً ينفتح أمام سوريين كُثُر عام 2011، عالماً للقول والتعبير عن النفس، عالماً للثورة والتضامن وإعلان الانحيازات. وقد اعتقد كثيرون أن وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها عالماً مفتوحاً يتيح تناقل الأفكار والأخبار سريعاً، ستؤدي إلى امتناع المجزرة أو شلّ قدرة مرتكبيها على حصد ثمارها على الأقل، وستكون ميداناً لتبادل الأفكار وبناء مساحات مشتركة للفعل والقول والتأثير.
لم يحصل هذا، المجزرة وقعت واستمرت وراح العالم يعاين فصولها على فيسبوك، وتحولت كثير من مساحات فيسبوك إلى مساحات للعدوانية والإقصاء وتراكم سوء الفهم، لكن هذا لا يلغي حقيقة أنه بات عالماً بديلاً للتواصل بالنسبة للسوريين المبعثرين في أرجاء الأرض، وبقدر ما تلقّى كثيرون منا أكواماً من الألم والصفعات والاحتقار عبر فيسبوك، تلقينا أيضاً كميات كبيرة من التضامن والدعم والصداقات، والمعرفة.
لم تسر الأمور كما ينبغي، لا في فيسبوك ولا في غيره، لكن عبارة «لم تسر الأمور كما ينبغي»، التي وردت مرتين أو ثلاثاً في هذا النص حتى الآن، هي عبارة ينبغي التوقف عندها ملياً.
*****
ترى كيف كان ينبغي للأمور أن تسير؟
في هذا النص، كان المقصود بالعبارة حيث وردت أن تفضي الثورة إلى تغيير نظام الحكم دون تدمير البلاد وإبادة شرائح من أهلها، وأن تكون الثورة ممراً إلى حياة أفضل. لكن مرة أخرى، ترى ما هي «الحياة الأفضل»؟
أسئلة كهذه ستفتح الباب على حوارات وأخذ ورد لا ينتهي، لكننا سننتهز هذه الفرصة كي نقول كلمة لأولئك الذين يعرفون بثقة كاملة كيف ينبغي للأمور أن تسير، أولئك السعداء بالتعرف على أنفسهم فقط، الذين يعرفون الحقيقة وحدهم، ويحملونها سيفاً يضربون به كيفما اتفق.
ستجدونهم في أماكن كثيرة، على فيسبوك خصوصاً، يختمون تعليقاتهم بكلمات مثل: نقطة انتهى. ينزّ من كلماتهم قيح التسلط والتعنيف والتوبيخ، ولا يكلّون ولا يملّون وهم يجوبون كل النقاشات والحوارات، يحطمون كل مساحة للكلام العام، ويحضرون دائماً كي يتهموا الآخرين بواحد من أمرين؛ الغباء أو الخيانة، ذلك أنهم يعرفون الحقيقة، وإذا كنت تقول شيئاً غير حقيقتهم تلك، فأنت أحد أمرين، جاهلٌ أو متواطئ. وعند الإسلاميين منهم تهمة أخرى ليس بعدها قول، هي الكفر والخروج على شرع الله.
ولهؤلاء مواقع متعددة، ومتناقضة أحياناً، فيهم أنصار النظام وخصومه وما بينهما، وفيهم إسلاميون وعلمانيون ويساريون وليبراليون، لكن سمات مشتركة تجمعهم؛ عبادة الأقوياء أصحاب السلطة أو اختلاق الأعذار لهم؛ أو مهاجمة الآخرين في نقاط ضعفهم الشخصية، الشخصية جداً؛ أو المزاودة باسم الوطن أو الدين أو الشهداء أو غيرها؛ أو كلها معاً، حتى ينتهي كثيرون منهم إلى موت كلّي للضمير، ذلك أن الضمير يقتضي أن نراقب أنفسنا، ولكن كيف يراقب نفسه من يعرف الحقيقة كلها؟!
بعضنا يكره هؤلاء الجلادين الرمزيين بالقدر نفسه الذي يكره فيه بشار الأسد.
*****
وماذا الآن؟
لنكن صريحين: أغلبنا لا يحبّ نفسه على ما هي عليه الآن، لكننا جميعاً متّفقون على أنه من الجيد أننا ما زلنا قادرين على أن نُحبّ أشياءً وأشخاصاً كثيرين. في العمق، نعتقد، نُحبّ بعضنا بعضاً، أو على الأقل نحبّ تلك اللحظة العملاقة التي جمعتنا وآمالنا واندهاشاتنا وانفعالاتنا. ربما يتجنّب اللاجئون منا اللقاء، لأن اللقاء يتطلب طاقة قادرة على استيعاب انعكاسات لحظات ماضية كثيرة على الحاضر؛ وربما لا نفعل ما يكفي لنكون سويّة، بل ربما نبالغ في قطعيّتنا وقسوتنا على بعضنا بعضاً؟ لماذا؟ في الحقيقة، غالباً لأننا قطعيون وقساة على أنفسنا، ونحن كذلك لأننا -ولا فخر- «حقّانيون» أكثر من كلّ ما مرّ بنا في تاريخ سوريا المعاصر.
أغلبنا اليوم يتلمّس نفسه ويتلفّت حوله. يودّ أن يتأكد من المكان والزمان، ومما جرى. ثمة بحثٌ مستمر عن أرض ثابتة في أرض لجوءٍ تُقدّم فرصاً كثيرة، فرصاً مهمّة بقدر كونها باردة مثل درابزون حديدي فجر يومٍ ثلجي.
نتلمّس أحياناً أهالينا الذين تركناهم في البلاد، ولا نصدق أن كل هذا الدهر قد مرّ علينا، وعليهم. نقرأ الدمار أحياناً في نيراتهم وأسنانهم المتداعية وتجاعيدهم المتغضنة، وفي جَنَف ظهورهم المتعبة وضيق حياتهم ويومياتهم، التي لم تعد تتجاوز حبوب أدويتهم والخوف الذي عاد، ويقولون لنا إنه قد انهار في 2011. نحدّق فيهم، فلا نصدق. «حدّق في الفظيع!»، وهل هناك أفظع من أن تحكم سيرورةُ بلد سيرورةَ حياتك الشخصية؟ نحن أيضاً أو بعضنا، بدأت أجسادنا بالانحناء.
أحد الكتاب في القرن العشرين، لا يهم اسمه، انتحر بعد عشرين عاماً من خروجه من المعتقلات النازية، وذلك عندما بدأت أصابع قدميه وعظام أوراكه تتغير؛ الشيخوخة استدعاءٌ للتعذيب في الذاكرة، كان يقول… نتلمّس معاً ما عرفناه وخبرناه معاً ونحاول أن نقول شيئاً، أي شيء لنغذي حديثاً ما، لا شيء.
هل سينجح هذا النظام مرة أخرى في بسط مملكة الصمت، حتى خارج حدوده؟ نحاول أن نقول شيئاً لأهالينا الذي قضوا أعمارهم ينتظرون السعادة، آه صحيح، الانتظار عند السوريين تجربة أصيلة لا تشبه الانتظار. الانتظار وتحضير خطط بديلة، لكل شيء. نحاول أن نقول شيئاً، أي شيء… «هل تضعين السلق مع الفول المقلى»؟ ما أخبار فلان؟ سافر. وفلان؟ مات… صمت. لا شيء على الإطلاق، ماذا نقول؟ في 2011 كان لدينا أشياء كثيرة نقولها معاً.
نتلمّس سلامتنا. سلامتنا المؤلمة. نحمل سلامتنا كالفتى الذي اختلس قطعة ثياب ثمينة من والده أو أخيه الأكبر ليتغندر بها، ولكنه خائف عليها من الاتساخ أو التجعيد، وفي الوقت نفسه ليس مُرتاحاً فيها تماماً. سلامتنا ليست لنا وحدنا، ففيها قطع كثيرة من سلامات مفقودة، لشهداء ومُعتقلين ومُغيّبين ومحطمين ومنسحبين وغيرهم. ماذا نفعل بتلك المساحات من سلامتنا التي هي فعلياً مُلك هؤلاء؟ هل يجب حفظها في مكان آمن بعيداً عن الأعين؟ أم يجب الكتابة عنها في الجرائد، كتلك الدعايات القصيرة عن إيجاد هوية أو جواز سفر أو مستندات باسم فلان، وعليه أن يُراجع قسم الشرطة لاستعادتها؟
ضمن تلمّسنا لعالمنا، نتلمّس الجغرافيا التي باتت، رغم فيسبوك وسكايب ووتس أب، شبكة جدران نُقذف داخلها من مساحة إلى أخرى. وكما يُقال، ثمة فيل في الغرفة، عتب مكتوم، حذرٌ صامت، بين من بقي منّا في الداخل السوري في مناطق سيطرة النظام اليوم، مناطق تركيز الأسديّة الأعلى، وبين من أُخرج من هذه المناطق وصار في مكانٍ آخر من هذا الكوكب، مناطق أقلّ أسديّة. في الواقع، ينقصنا التواصل، وينقصنا أن نتبادل الأفكار والأحاسيس كي نصل إلى نتيجة أننا نشعر بأشياء متشابهة في أجواء مختلفة، ومتباينة القسوة والخطر، بلا شك. لكن ثمّة لحظات توحّد المشاعر وتعيدها إلى نقطة الصفر: بعض اللاجئين منا ما زال يحتاج تجديد جواز سفره، وتنتابه أشكال مختلفة من القشعريرة القذرة عند مواجهة صورة بشار الأسد عند مدخل القنصلية السوريّة أو داخلها. وحين يروي ذلك، يقول بعضنا في الداخل: هل تعلم ماذا يعني أن تعيش، عام 2019، في قنصلية متواصلة؟ قنصلية أبشع؟ قنصلية «غير دبلوماسية»؟
«الفيل الذي في الغرفة» هو صورة بشار الأسد…
*****
ومثلما لا نعرف بعد بالضبط كيف نتعامل مع سلامتنا -التي ليست لنا وحدنا-، ما زلنا في مرحلة اكتشاف كيف نتعامل مع 2011. العام العظيم. عام كلّ شيء. أحدنا قال إن 2011 هو الجرح الذي ولدنا منه، وكان مقتنعاً أنه تعريفٌ عظيم قبل أن يتلقى وابلاً من السخرية من بعض زملائنا الآخرين. حصل بعض التشنّج في الموقف، لكن كان هناك كثيرٌ من الألفة والحنان في الكلام.
نعرف أننا لا نريد من 2011 أن يكون شعاراً، أو «ذكرى انطلاقة» نعود إليها موسمياً كلّ عام كما يُعيدك فيسبوك إلى ذكريات «في مثل هذا اليوم». نريد أن نمسك بـ 2011، أن نمسحه، نفككه ونعيد ترتيبه، ننظفه من الغبار، نغطّيه كي لا يبرد… نريد أن نراه، ونرى أجزاء أنفسنا التي بقيت فيه، أن نحكي له، أن نسمع منه، أن نضحك ونبكي سويّة.
نريد أن ندافع عن 2011 في وجه جلاّديه، الرمزيين والفعليين.
هذا العام العظيم، عام كلّ شيء، هو واحدٌ منا. نحبّه، نتابع أخباره، نطمئن إلى أن أموره بخير، أن أموره مقبولة حيث يعيش داخل سوريا، وأنه تعلّم لغة جديدة أو وجد عملاً في لجوئه. ربما لا طاقة لنا على لقائه باستمرار. لكننا نريده بخير. 2011 هو نحن، والشهداء والمعتقلون والمغيّبون من أهلنا وأصحابنا. هو ليس ماضينا، بل هو مستقبلنا. حاضرنا قائم على أن ندافع عن هذا الماضي، أن ونخوض المعارك من أجله، وأن ننظر إليه طويلاً، وأن نعاتبه، وأن نسخر منه، وأن نتشاجر معه، وأن نخاصمه لبعض الوقت قبل أن نصالحه. هو نحن، الـ«نحن» الذي لا يمكن إلا أن نكون شديدي الحنان معه.
2011 هو ما جرى، وما جرى هو هويتنا. هويتنا هي مجموع ذكرى من رحلوا وكرامتنا، نحن الذين بقينا. الباقي تفاصيل.
*****
عاشت سوريا، ويسقط بشار الأسد.
موقع الجمهورية
الثورة السورية الجرح المفتوح/ بشير البكر
سورية جرحٌ مفتوح على اتساعه، بعد مرور ثماني سنوات من الثورة. سقط أكثر من مليون قتيل، وتهجّر حوالي عشرة ملايين، وتدمّر ثلث العمران. هل يمكن أن يكون هناك ما هو أكثر وقعاً من الأرقام؟ إذا تركنا الأرقام تتحدث وحدها، فلن يجد السوري أمامه فسحة أملٍ، في ظل تخلٍ عربي ودولي عن المسؤولية السياسية والأخلاقية تجاه هذا البلد وأهله. ولكن الثورة لا تقاس بالأرقام، لأنها حركة الشعب في التاريخ، وهي مستمرة، طالما أن الأهداف لم تتحقق.
بات في حكم العادة في كل سنة، إجراء جردةٍ للسنوات التي مضت، ومحاولة استشراف ما تحمله السنة المقبلة. في كل وقفةٍ، هناك شعور يخامر السوريين بأن السنة الآتية ربما تكون مختلفةً عن بقية السنوات التي انقضت. وعلى أرضية هذا الأمل، يبدأون ببناء أحلام بشأن اقتراب الفرج وخاتمة المأساة التي طالت، ولم تتوقف تداعياتها الكارثية، إلا أنه في كل سنة تمر ينخفض سقف الطموحات. والثابت اليوم أنه لم يعد أحد يضع في حسابه نهاية تامّة للكارثة. وهناك إجماع بين السوريين على أن استعادة سورية كما كانت أمر مستحيل، ولكن هذا لا يمنع من الأمل بنهاية الحروب على الأرض السورية أولاً، وبعد ذلك على السوريين انتظار نوافذ أخرى، يمكن أن تنفتح على حلول. ومهما حصل، ليس أمامهم سوى استيعاب الدروس التي تعلموها على دروب النكبة. ومن هنا، فقط، يمكن لهم أن يؤسّسوا لمستقبل بلدهم.
وفي ظل الحال القائم على الأرض، لا أحد من السوريين يتوهم أن موازين القوى تبشر برحيل النظام قريباً، وذلك ليس لأنه نظامٌ تجاوز آثار الحرب، وبدأ يستعيد عافيته، وإنما لأن له وظيفة مرسومة، عليه أن يؤديها، وهذا الدور يحدّده له الروس الذين يمتلكون أوراق القوة، ويتحكّمون بمفاتيح النظام الأمنية والعسكرية والسياسية، فهم يحمون الأسد، ويؤمنون له الغطاءين، المحلي والدولي. وسبب دفاعهم عنه هو استعادة رأس المال الذي صرفوه، من أجل إعادته إلى المشهد من جهة، ومن جهة ثانية استخدام سورية قاعدة لهم، في ظل التجاذب مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. ويكفي هنا تصريح وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، بأن وزارته جربت 360 سلاحاً في سورية. وفي جميع الأحوال، لا يمكن مقارنة حجم التأثير الروسي بنظيره الإيراني الذي بات في الدرجة الثانية من حيث النفوذ، ويتراجع تبعاً للحصار الاقتصادي المضروب على إيران.
إلى ذلك، لا أحد من السوريين يصدّق أن النظام سوف يعود إلى ما كان عليه قبل ثماني سنوات. وحتى لو عادت الأجهزة التي كان يعتمد عليها، لن يكون في وسعها أن تمارس السطوة نفسها التي كانت تتمتع بها قبل الثورة، لأن السوري كسر جدار الخوف من جانب، وعلى الجانب الآخر لم يعد لدى النظام الأدوات اللازمة لتركيز أدوات الاستبداد من جديد، وفي الوقت ذاته، لن يسمح له الروس بأن يعود إلى ماضي عهده، ومثال ذلك ما حدث في درعا أخيراً، حين حاول النظام أن يعيد نصب تمثال لحافظ الأسد في درعا البلد، وكانت النتيجة أن أبناء درعا نزلوا إلى الشارع، وهم يردّدون هتافات الثورة في أول أيامها، حين انطلقت شرارتها الأولى من حوران عام 2011. وكان جديراً بالملاحظة أن الشرطة العسكرية الروسية هي التي قامت بتهدئة الموقف، وهذا ما يحصل في المدن الأخرى.
مضت ثماني سنوات على الثورة، ولكن النظام لم يتغير ويستوعب ما حصل. ومع أنه انكسر، فقد تراجع إلى الخلف نحو زمن حافظ الأسد، في حين أن السوريين يدركون أن الحل ليس بيدهم، ولكن أي حلٍ لن يكون على هوى الأسد وروسيا وإيران.
عن أخطاء الثوار.. وخطايا المعارضين/ موفق نيربية
كان جلد الذات عقاباً ذاتياً يمارسه الرهبان في بعض الأديرة الكاثوليكية، عقاباً للجسد وتعبيراً عن الندم على ما ارتكبه “الجلاد” من الخطايا. وهو في الطقس الشيعي ليس بعيداً عن هذا المعنى. ويجري استحضار هذا المفهوم كلما رأى البعض أن هنالك مغالاة في “النقد الذاتي”، ينبغي ألا تحجب الصفات الحميدة، ولا الجوانب المشرقة في الموضوع أو الشخص أو الجماعة المعنية. ربما يرتبط ذلك أيضاً بمفهوم الحرام والتابو، سواءٌ حين يكون الموضوع في حقل المقدس أو الملعون، الذي يجب ألا يُذكر أو يُرتكب لقداسته، أو لأنه يخفي اللعنة والشر.
في موضوع الثورة السورية، حين نتهرب من النقد الذاتي، نُطالب به، حتى يمكن قبولنا من جديد. وحين نحاول ممارسته بعمق، ينبري البعض أيضاً لمطالبتنا بألا نتمادى في جلد ذواتنا. من حيث أن المقدس والمدنس في حالتنا هو تابو، حرام، لايجوز اقترافه أو الامتناع عنه، لا يجوز الاقتراب منه ولا الابتعاد عنه.
هكذا هي الثورة السورية المجيدة، رغم كل ما حدث بعد سنتها الأولى، ثم لسبعٍ عجافٍ تلتها وخبا فيها اللون الزاهي في حياة هذه البلاد الرائعة.
رغم ذلك، ليس من احتفاءٍ أكبر من تشريح ذلك الحدث التاريخي الهائل، ومحاولة البحث عن أسباب ما حدث.
على عكس السائد، وعامداً متعمداً، سأبدأ من حيث أخطأ الثوار، أولئك الذين ما انفك العرف العفوي الشعبي- الشعبوي السائد، يُحرِّم تناولهم أو انتقادهم. ويشتم “المعارضين” باسمهم: نحن “ثوار”، وأنتم “معارضة”! وكلمة “الثوار” هنا تغطي معاني ومقاصد مختلفة أيضاً. فما زال بعض “الثورجيين” حين يذكر “الثوار” في الوضع الراهن، يقصد بهم أولئك المقاتلين على الأرض الباقين ومن حولهم، في الحالة التي آلت إليها الأوضاع، وعلى الرغم من أن هنالك على الأرض من هم ما زالوا يحملون الشعلة في يدٍ، والجمرة في اليد الأخرى، إلا أنني أستهدف تلك النجوم البارقة في السماء( أو في أرض الله)، الذين قادوا الانتفاضة منذ أيامها الأولى حتى سادت فيها النيران الحمراء والسوداء. أولئك هم الأقرب إلى أن نعتبر المساس بهم من التابو أو المحرم، ولن نفعل بعد الآن!
جاء الرواد من بين ملايين الشباب السوريين الذين عاشوا نظام عائلة الأسد وهو مستقر ثابت، تغلغل لعقود في آصغر شريان دم في جسم المجتمع السوري، وصنع شبكة عنكبوتية هائلة تشكل أجهزة الأمن قوتها الضاربة في كل مكان: مدرسة ومصنع ومزرعة، قرية وحي ومدينة. في ذلك المجتمع، اشترط الأسد على القوى الحليفة له ألا تعمل في صفوف الطلاب والجيش، فقطعها عن السياسة لتختنق بالتدريج، في حين كان يُدخل كل “الجماهير” في منظومته الشاملة الشمولية بتفريعاتها المختلفة. جيل الثورة عاش طفولته وفتوته لا يعرف ما هي السياسة، لولا أن اكتشفها كثقافة إكزوتيكية ونظرية من وسائط الميديا المعولمة. وبانفتاحه عليها، أكل ذلك الجيل تفاحة المعرفة، وانتظر فرصة ليقتحم المستحيل.
أولئك الشباب والفتيان ثاروا بتعطش هائل، وانطلقوا من القمقم كمارد أسطوري، وكانت لهم أخطاؤهم، ولا يجعلها مجرد أخطاء عادية إلا كونهم معذورين في ظرفهم ذاك. وإن قيل “شباب وفتيان” كثيراً، فلا ننسى أبداً تلك الفتيات والشابات الثائرات، اللواتي كن فتحاً مبيناً، ولا زلن، في تاريخ السوريين من أجل التقدم وصناعة المستقبل.
كان موقفهم السلبي من “السياسة” أكبر أخطائهم. بما عرفوه عن سياسات النظام وسياسيي المعارضة، وبما تشربوه على عجل من الثورات التي جاءت مع الربيع العربي، خلقت حاجزاً وهمياً – وأخلاقياً- بينهم وبين السياسة. كانوا يريدون “الثورة”، وطهر الثورة برأيهم لا يحتمل دنس السياسة ولا الملل الذي يوحي به المعارضون الذين عرفوهم. ولعلهم بعلومهم الحديثة كانوا يرون علم الإدارة الحديث، وتدفق الثورة من خلاله، كافيين ليستغنوا عن ممارسة السياسة. لقد أسسوا تنسيقياتهم واخترعوا مفهومها وآلياتها، ثم وحدوا تلك التنسيقيات، وظهرت “لجان التنسيق” و”اتحاد التنسيقيات”، ولم ير قادتهم ضرورة للعمل التنظيمي المسيس، رغم وجود العديدين بينهم من أبناء وأجواء المعارضة القديمة، ولعل ذلك هو السبب أيضاً. وحتى حين اضطروا لذلك، “تعاقدوا” معنوياً مع مستشارين منفردين يألفونهم ويأنسون إليهم.
في حين أن تلك كانت فرصة مواتية للتنظيم على أساس سياسي وثوري في الوقت نفسه، بتفويتها سيصبح “الثوار” في مرمى النظام وحقل رماياته، وسيكونون في ما بعدُ ضعافاً لا يستطيعون قيادة الناس، ولا يستطيعون انفكاكاً من طغيان المعارضة التقليدية، بالخصوص وبالتدريج مع تحولات الثورة عن حالتها النموذجية الأولى.
وخطأ ثانٍ كان في استسهال الخروج من حول الجوامع التي كانت بالفعل خياراً وحيداً يفرض نفسه. ولكن الدخول فيها، ثم استعارة مفرداتها القادرة على التجييش. ساهم في فتح الباب لعمليات التسلح والتطييف، إن النظر الآن يأتي من زاوية حادة ومركزة متأخراً لسنوات عن وقته، وذلك غير عقلاني إلى هذا الحد أو ذاك، مع أنه ربما يعكس وقوع كثير من القيادات الشابة أسرى التاريخ، الذي يتعمق دينياً مع ظهور رائحة الدم وطعمه يوماً بعد يوم. والموت يستحضر الآخرة دائماً. أعرف شباناً من الأروع والأكثر حداثة، أَلِفوا صوفياً هنا وسلفياً هناك واستأنسوا إليهما، واعتادوا رباط الأول وجهاد الثاني، مع التدرج في العمق من “الحاج فلان” و”أبو فلان” بأسمائهم وألقابهم العادية، إلى “أبي قتادة” و”أبي طلحة”.
خطأ ثالث، عاشه الثوار، حين سئموا بسرعة بطء الآخرين، وضعف استجابتهم. فغرقوا في دوامة دفعنا ثمنها غالياً. حدث ذلك يوم تأخرت المدن الكبرى، وطبعُها التأخر والحسابات الدقيقة المتأنية، فاندفعوا مع نداء التشهير بتلك المدن ومن ثم تكريس عزلتها وانعزالها، ولا أتحدث إلا نسبياً بالطبع. لقد ساعد ذلك على انزياح الثورةَ إلى الأطراف فالأرياف، حيث يكون الحصول على السلاح وحمله واستخدامه أكثر سهولة وإغراءً.
وغير ذلك، أن الشباب بسلميتهم واندفاعهم واستعدادهم للتضحية، لم يقوموا بما يلزمهم من إجراءات الحماية والأمن والسلامة، فتمكن النظام المتمكن من صنعته من قنص العديد من قادتهم الأبرار، واصطياد غيرهم للسجون فالموت أحياناً تحت التعذيب. في ذلك، خسر السوريون بعض القادة المحتملين الخارجين على أي قياس ومقايسة، الذين هم ثروة وطنية لا تقدر بثمن.
في حين كان للمعارضين خطاياهم، التي لا تغتفر ببساطة ولا تُنسى. وفي الحقيقة، يقع على عاتق تلك المعارضات الكثير من أسباب ما حدث للثورة السورية، وكذلك ما حدث للثوار. طبعاً من دون أن ننسى المرتكبين الكبار، من النظام الفاشي السفاح، إلى المضاربين الإقليميين، الذي يبيعون ويشترون ببساطة في سوق الدم.
ليست المعارضة السورية أساساً بمعارضة، بمفهومها المعروف. وهي رغم تحدّرها من قوى كانت منظمة وكبيرة في السابق، إلا أنها تقزمت وتهلهلت مع الزمن والقمع المتكرر الضربات. ولا ننسى الإشارة إلى أن قوة مهمة من بينهم (الإخوان المسلمين) قد تشردت بالكامل عملياً منذ عقود، بعد موجات عنف وعنف مضاد وطغيان نظام فاجر. ذلك كله يجعل المعارضة السورية ظاهرة غير طبيعية، بمقدار ما يعجب المرء بتضحياتها وصمودها، ينبغي عليه الإقرار بأنها ليست في حالة “تعبوية” يمكن أن تقوم على خدمة “ثورة” بالحقل السياسي.
حتى لو كانت تلك المعارضة أساساً ضحية لنزع السياسة من المجتمع، وضحية للحصار الدائم والإجبار المستمر على الاختيار بين تخفيض سقف شعاراتها وطروحاتها أو دخول السجون وتحمّل صنوف الاضطهاد المختلفة. لكنها بالنتيجة أصبحت رقيقة في كثافة سياساتها، حين تغالي وحين تسالم، وضخمة العجيزة حين تتحرك.
ومن أكبر خطايا المعارضة، التي كان شطرها الديموقراطي هو الأكبر والأهم حضوراً حتى قيام الثورة، الامتناع عن الوحدة والبرمجة بشكل مشترك، ووضع الصراعات الداخلية في مقدمة عوامل التأثير في مواقفها. إضافةً إلى الشغل الحثيث على احتواء الشباب واستيعابهم وإعطائهم “الدروس” بدلاً من مشاركتهم والاندماج معهم والاستفادة من تجربتهم والتسليم بما يحملونه من جديد وحديث ومبدع. في بعض الحالات، أدت الغطرسة والغلوّ- وحتى الطائفية- إلى تكريس ابتعاد الثوار الشبان عن المعارضة، أو إلى الانعزال عنها.
وإن كنا قد تحدثنا أعلاه عن “أخطاء” الثوار، في انجرافهم قليلاً مع موجات الصبغة الدينية أو العنيف في الثورة٫ فإن للمعارضة في هذا الحقل خطايا كبيرة وحاسمة. بعض تلك المعارضة يتبرأ الآن مما فعله ويقوم بتزوير التاريخ عامداً متعمّداً، وينتقد الانقياد- الذي مارسه- مع “الإسلاميين” ودعم استخدام السلاح والتشجيع على احتلال المدن وكل تلك الظواهر التي أودت بالثورة إلى حيث وصلنا من حالٍ يراها العالم حرباً أهلية، أو مجرد صراع بين نظام مستبد وإرهاب طائفي معولم. ينتقد أيضاً مواقفه من ذلك، ولكنه يمعن في تبريرها في الوقت نفسه.
أذكر جيداً يوم مؤتمر القاهرة في الثاني من يوليو/تموز 2012، لحظة الفرصة الكبرى لتصحيح المسار وقطف ثمار الثورة، وكيف كان كثيرون من المعارضين يشحذون ألسنتهم وما في حوزتهم من أدوات وآليات ومناورات من أجل تفخيخ ذلك النجاح وإنهائه، ولم يكن العديد من الإسلاميين وحدهم بين أولئك، بل أيضاً بعض “الديموقراطيين” الأكثر فعالية وتأثيراً!
يمكن الحديث كثيراً عن خطايا المعارضة السورية، ولا غضاضة، ولكن الحديث عن أخطاء الثوار تشوبه غصة ودمعة وبعض الألم، وخصوصاً حين تنهض أمام العين خيالات حية لأولئك الثوار الذين قضوا في سبيل وطن حر ومواطنين أحرار.. هم أحياء بيننا، وسيزدادون حياةً.
ثورة السوريين في تلك الأيام المجيدة لن تموت.. قد تتراجع وربما نرى فيها بعض ملامح الهزيمة أو الفشل، لكنها حية وعميقة جداً، وفيها بذور النصر عاجلاً أم آجلاً، وستزدهر!
المدن
في مآلات الصراع السوري بعد ثمانية أعوام/ ماجد كيالي
منذ سنوات بات من المتعذّر التيقن بتحولات ومآلات الصراع السوري، الذي بدأ منذ ثمانية أعوام (مارس 2018)، على شكل حراكات شعبية تستهدف تغيير النظام السياسي، القائم على التسلّط والاستبداد ونزع حقوق المواطنة، وذلك لأسباب عديدة، معقّدة ومتشابكة، داخلية وخارجية، لعل أهمها يكمن في الآتي:
أولا لم تستطع المعارضة السورية التي تصدّرت هذا الصراع، حتى الآن، تثبيت مركزها، لا في مواجهة النظام، ولا إزاء داعميها الخارجيين، ولا حتى إزاء شعبها، وذلك ليس، فقط، بسبب خلافاتها البنية وتخبّطها السياسي وتبعيّة معظمها، كأشخاص وكيانات، لأطراف خارجية، وإنما بسبب عدم قدرتها على بلورة كيان سياسي جمعي لها، أيضا، بحكم افتقاد السوريين لتجربة كفاحية سابقة، وبواقع غياب الأحزاب والحركات السياسية في سوريا، التي كانت محرومة من السياسة لأكثر من نصف قرن.
وبديهي أن هذا الأمر جعل من كيانات المعارضة الوليدة، التي تزايدت كالفطر بأشكالها السياسية والعسكرية والمدنية، ضعيفة ومشتّتة ومرتهنة للخارج، أكثر مما هي مرتهنة لمصالح شعبها وإرادته، وهو الأمر الذي أضعف صدقيتها وزعزع مكانتها إزاء مختلف الأطراف، أي إزاء داعميها وإزاء شعبها وإزاء النظام ذاته، كما لاحظنا في المشاهد المتعلقة بمفاوضات جنيف أو مفاوضات أستانة، وفي طريقة إدارتها لأحوالها، طوال السنوات الماضية.
ثانياً، التحوّل نحو العسكرة على حساب الحراكات الشعبية، وهذه المسألة لم تقتصر، فقط، على تحميل الشعب السوري أكثر مما يحتمل، وتركه فريسة للعنف المفرط الذي استخدمه النظام ضده، وإنما هي شملت الهيمنة على السوريين بواسطة القوة في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، بحيث قدمت المعارضة، بفصائلها العسكرية، في أغلب الأحوال نموذجا رديئا لا يختلف عن النظام، إن لم يكن أكثر سوءاً منه، في ما عرف بـ”المناطق المحررة”.
ناهيك أن كل ذلك تم في وضع لا يوجد فيه أي تكامل أو ترابط بين الكيانات السياسية والكيانات العسكرية، مع وجود فصائل عسكرية ذات مرجعيات وتوظيفات خارجية مختلفة ومتضاربة، أضرّت بالسوريين وبقضيتهم أكثر مما أفادتها، سيما مع فصائل دفعت دفعا لانتهاج أيديولوجيا دينية أو طائفية معينة، باعتبار ذلك بوابة لنيل الدعم أو لنيل القبول. وبديهي أن المقصود بالعسكرة هنا تلك الفصائل التي نشأت بإرادات ودعم خارجيين، وتوظيفات وارتهانات خارجية، وليس قيام مجموعات من السوريين بالدفاع عن نفسها إزاء عنف النظام، فهذان أمران مختلفان في المنطلقات والمسارات والغايات أيضا ولا يجوز الخلط بينهما.
ثالثا لم يعُد الصراع السوري يقتصر على التصارع من أجل التغيير السياسي، وفق معادلة شعب في مواجهة النظام، بعد كل ما جرى من تحوّلات في السنوات الثماني الماضية، إذ أضحى هذا الصراع يعرّف بالمداخلات أو بالتوظيفات الخارجية، المختلفة والمتضاربة، سواء كانت محسوبة على جبهة النظام أو محسوبة على جبهة المعارضة، وهذا يعني بداهة أن قواعد الصراع، وتاليا التحكم بمستوياته ومآلاته، خرجت من أيدي السوريين. وربما يجدر التذكير هنا بأن ذلك حصل في فترة مبكّرة، لكنه مازال قائما بل ويزداد قوة، على نحو ما بتنا نشهد، أو نستنتج، من خلال المشاهد الآتية:
1 – تواجد الولايات المتحدة الأميركية شرقي الفرات، سياسيا وعسكريا، ومعنى هذا الوجود كبير ومؤثر على مختلف الأطراف الخارجيين والداخليين، بغضّ النظر عن عدده، لاسيما في ما يتعلق بمستقبل سوريا، وأيضاً، بتحجيم النفوذ الإيراني في المشرق العربي، بقطع “الكرادور” الواصل من طهران إلى لبنان، عبر العراق وسوريا، ناهيك أن هذا الأمر يعني تحجيم أدوار اللاعبين الإقليميين.
2 – دخول روسيا على الخط منذ سبتمبر 2015، وتحوّلها إلى اللاعب أو المقرّر الرئيسي، في جبهة النظام، على حساب إيران، علما أن المسألة هنا لا تتعلق بحفاظ روسيا على مصالحها في سوريا فقط، وإنما هي تبتغي من ذلك تعزيز مكانتها في الإقليم أيضا، وعلى الصعيد الدولي وضمنه إزاء الولايات المتحدة.
3 – زيادة النفوذ التركي في الصراع السوري، سواء في الشمال في منطقة إدلب وأرياف حلب وحمص وإدلب واللاذقية، كما في سعيها للاستحواذ على منطقة آمنة على امتداد الحدود التركية السورية وبعمق يتراوح بين 20 و30 كلم. ومن الواضح أن تركيا في محاولتها تعزيز نفوذها في سوريا تسعى إلى تعزيز الاعتراف بدورها الإقليمي في المشرق العربي، وهي تحاول من وراء ذلك أن تفرض ذاتها إزاء القطبين الدوليين الفاعلين في المنطقة، الولايات المتحدة وروسيا.
4 – ظهور دور إسرائيل العلني، بعد أن كانت بمثابة قطبة مخفية في الصراع السوري، وذلك في محاولتها لعب دور مقرّر في مصير سوريا، سواء عبر الولايات المتحدة، أو عبر تفاهماتها مع روسيا، وهو ما يتجلى باللقاءات المتوالية بين فلاديمير بوتين وبنيامين نتنياهو، أو عبر مواصلتها شنّ غارات على مواقع عسكرية تابعة لإيران، أو تابعة لميليشيات تتبع إيران (خاصة حزب الله)، على امتداد الأرض السورية.
5- في خصوص إيران لا جديد بشأن دورها، فهي كانت متواجدة قبل كل الأطراف المذكورة، ومنذ بداية الصراع السوري، في ترجمة لتصريحات بعض مسؤوليها عن هيمنة إيران على أربع عواصم عربية، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. بيد أن الجديد هو التوافق الحاصل بين مختلف الأطراف الدوليين والإقليميين على أنه آن الأوان لتحجيم إيران ووضع حد لتدخلاتها في المنطقة.
6 – في الغضون لا يمكن إغفال تراجع أو اختفاء القوى اللادولتية، التي كانت فاعلة في الصراع السوري، والقصد هنا الميليشيات العسكرية الإسلامية المختلفة ومتضاربة الأجندات، من تنظيم داعش إلى جبهة النصرة وتوابعهما، إلى حزب الله وفاطميين وزينبيين ونجباء وعصائب أهل الحق وكتائب أبوالفضل العباس وغيرها من الميليشيات التي تشتغل كأذرع إقليمية لإيران، فهذه الميليشيات لعبت دورا كبيرا في طمس الصراع الأساسي، بين النظام وشعب سوريا أو أغلبية شعب سوريا، كما لعبت دورا كبيرا في تبرير أو في تغطية المداخلات والتوظيفات الخارجية، مباشرة أو مداورة، لذا من المفيد ملاحظة كيفية إغلاق هذه الصفحة، التي تعتبر من أكثر الصفحات غموضا والتباسا وتلاعبا في الصراع السوري.
كاتب سياسي فلسطيني
العرب
بائع سورية/ ميشيل كيلو
يقول اللسان الشعبي: “اللي بتنخزو شوكة بيحس فيا”. والشوكة التي تحسّ الأسدية بوخزها منذ سلمت الجولان لإسرائيل عام 1967 هي شوكة الوطنية. لذلك تلح عليها باعتبارها هوية حصرية لها، لا يجوز أن يشاركها أي سوري فيها، وتدّعي أنه لا شغل لها غير الدفاع عن الوطن، وحمايته، والموت في هواه، والبقاء في السلطة من أجله، بينما تتهم بالخيانة أي طرفٍ أو شخص يذكّرها بدورها في تاريخه الحديث، أو يتحفظ على ما يتعلق به من مواقفها وتصرّفاتها.
بعد ثورة الحرية عام 2011 التي كان أحد أهم أهدافها استعادة الوطن إلى صاحبه الشرعي: الشعب السوري، اختلقت الأسدية جملة أكاذيب لتبرير حربها ضده، باعتبارها دفاعا عن الوطن، ولأن أحدا لا يصدّق أن الشعب يمكنه أصلا خيانة وطنه، ويعلم جميع خلق الله أن الأسدية تبيد شعبها بسبب تمرّده عليها ورفضه عبوديتها، فقد فبركت مؤامرةً كونيةً ضد سورية، انخرط الشعب فيها، بدعمٍ خارجي، لذلك تشن الأسدية الحرب عليه، لتمنعه من تدمير وطنه.
استدعت الأسدية، بذريعة حماية الوطن من شعبه، تدخلا أجنبيا متنوعا إلى سورية، واستقدمت مرتزقة من أحط أصناف العالم السفلي، لحمايتها من مواطنيها، وفتحت وطنها أمام حرس إيران الثوري، وما تحت تصرفه من قتلةٍ محترفين في لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان… إلخ، قبل أن يستدعي هؤلاد بدورهم روسيا التي قامت بغزوٍ منظم، صحبه احتلال للأرض السورية، وتوضعت فيها بطرقٍ توحي بأنها لن تغادره إطلاقا، بينما تحول من غزو وطنه، من دون أخذ الإذن منه إلى جثةٍ سياسية هامدة، وفقد كرامته رئيسا إلى درجةٍ غدا معها من المألوف أن تراه واقفا كأي ذليل وراء جندي روسي، أمره بالبقاء بعيدا عن سيده بوتين، وهو يستعرض، في مطار حميميم السوري، قوات الاحتلال الروسية، أو منزويا كالمنبوذ قرب جدار، بينما يرحّب بوتين بضابط سوري، يفترض أنه ينتمي إلى الجيش الذي يأتمر بأمره باعتباره قائدا عاما للجيش والقوات المسلحة السورية، ويعلن ناطقٌ باسم موسكو أنها ستحمل الأسد كامل المسؤولية عن أي سوء يتعرّض له عميلها.
عن أي وطن يدافع من سلّم سورية للغزاة والمرتزقة الإرهابيين، وساندهم، وهم يرتكبون قرابة أربعمائة مذبحة ضد آمنيها، ويتصارعون على كل شبرٍ من أرضها وجنديٍّ في جيشها، ثم لا يخجل من الحديث عن وطنٍ أفقده عداؤه لشعبه الحق في أن يكون من أبنائه، كما أفقدته هذا الحق طلقة البندقية الأولى على متظاهرٍ سلميٍّ طالبه بالحرية، ولقمة الطعام التي يحتاج إلى موافقة الغزاة وحثالات العالم السفلي على أكلها الذين شطروه إلى نصفين، ليس فيهما أثر لسورية أو للوطن: أحدهما في موسكو، والآخر في طهران التي زارها مشحونا بطائرة نقل عسكرية، من دون حرّاس أو مترجمين أو مرافقين، واستقبله ولي أمره خامنئي، بالطريقة المذلّة التي دأب بوتين على استقباله بها: من دون علم، ومن دون إشارة تدل على هويته ومنصبه، وسرّب خبرا يقول إن الرابطة التي ستشده إلى إيران، من الزيارة فصاعدا، هي الرابطة المذهبية التي تجمعه بالجمهورية الإسلامية، وأقسم يمين الطاعة والولاء لمرشدها الذي صار مرشده هو أيضا، بعد أن عيّنه قاسم سليماني رئيس مليشيا تابعة للحرس الثوري، مقابل حمايته من … بوتين والثورة، وغضب حرس الملالي.
لن تعود سورية إلى هويتها وطنا، ما لم يسقط بائعها وأتباعه، ويخرج الغزاة الذين استقدمهم لحمايته من بناتها وأبنائها، ويستعيد شعبها حريته: الرصيد التأسيسي لوطنية جديدة تليق بثورته العظيمة.
باع الأسدان، الأب والابن، سورية وطنا: الأول ليصل إلى السلطة، والثاني ليحافظ عليها، فألغت الثورة عقود البيع بدمائها وتضحياتها، ويا درعا حنا معاكي للموت.
العربي الجديد
في تجربتي الثورتين الفرنسية والسورية/ حسين عبد العزيز
إذا كانت جميع الثورات العالمية تشترك في هدف واحد، هو استبدال أنظمة الحكم الديكتاتورية بنظم حكم ديمقراطية، فإن مسار الثورات يختلف اختلافاً كبيراً فيما بينها، بسبب اختلاف طبائع العمران (ابن خلدون)، أو اختلاف نظام الحكم وظروفه التاريخية (مونتسكيو). هكذا كانت في أوروبا ثورتان كبيرتان: الأولى إنكليزية عام 1688 سلمية الطابع، ولم تحمل أية تكاليف، والثانية كانت فرنسية عام 1789، حملت طابعاً عنيفاً منذ بدايتها، إلى أن وصلت إلى عهد الرعب مع روبسبير واليعاقبة. وفي العالم العربي، تراوحت الثورات بين النموذجين، فكانت الثورة التونسية كناية عن الثورة الإنكليزية، في حين كان النموذج السوري قريباً جداً من النموذج الفرنسي.
وبسبب قوة الملكية المطلقة، لم تكن في فرنسا مؤسسات فاعلة اجتماعياً وسياسياً، لا طبقة نبلاء ولا برلمان قادران على مواجهة الحكم الملكي المطلق، وكان من نتائج ذلك مجتمع يواجه مشكلات كبيرة في تكيّفه مع المشاركة السياسية. وقد طوّر الفلاسفة الفرنسيون الذين كانوا غير فاعلين في الحياة السياسية، بسبب الاستبداد الملكي، أيديولوجيات مثالية مفارقة للواقع، باسم العقل والحقوق والطبيعة والحرية والمساواة.. إلخ، وطبعت هذه الأيديولوجيات التنوير الفرنسي بطابعها: فولتير يدعو إلى إعلان الحرب على الكنيسة، وديدرو يدعو إلى قتل الملك، وآخرون يجاهرون بالإلحاد، ويضعون الدين في مرتبةٍ دونية مع العامة. وهكذا تمت ردكلة المفاهيم السياسية، وباسم هذه الأيديولوجيات ستكشف الثورة عن أنيابها، وتنجب عهد الرعب الفرنسي في أثناء الثورة.
في ظل ملكية القرن السابع عشر، لم تكن البرجوازية الفرنسية رأس حربة التحديث التي تأخذ الريف معها إلى عالم الرأسمالية الصناعية، بل كانت خاضعةً للتنظيم الملكي، وموجّهة نحو
إنتاج السلاح والكماليات، من أجل زبائن محدّدين. وللحد من هيمنة الطبقة الإقطاعية، زاد اعتماد الملك على البرجوازية الصاعدة، بإدخالهم في المؤسسة البيروقراطية للدولة، وكان من نتيجة ذلك أن هذه الطبقة الجديدة بدأت تتبنّى مقولات الدولة، وتتسم بسماتٍ مشابهةٍ لسمات الإقطاع، وهذه ممارسةٌ ميزت فرنسا عن إنكلترا.
وإذا كان بيع المناصب، في المراحل الأولى من نمو الملكية، قد ساعد على حشد الطبقة البرجوازية، من أجل هجوم الملك على الإقطاع، فقد كشف اللجوء المستمر إلى تلك الحيلة عن إضفاء السمات الإقطاعية على الطبقة البرجوازية، يؤكد أستاذ التاريخ المقارن بارنغتون مور.
هنا تلاقت مصالح البرجوازية البيروقراطية وتباعدت في الوقت نفسه مع مصالح الإقطاع، وكان أساس الخلاف في طبيعة العلاقة مع الدولة، وأدّى عدم التفاهم بينهما إلى عدم استقرار شمولي للمسار السياسي الفرنسي. ولذلك خاضت الديمقراطية الفرنسية صراعا عنيفا مع إقطاع رجعي، ودولة ذات صلة وثيقة بقوىً تحاول الحفاظ على الوضع الاجتماعي وتثبيته، وفي مقدمتها الكنيسة التي لم تشهد أي حركة إصلاح، وهو ما يفسر سبب الحركة العنيفة المناهضة للدين والكهنوت. وكان لرد الفعل الملكي، أو الثورة المضادة، الدور الرئيسي في تحويل انتفاضة جماهيرية محدودة إلى ثورة انتفاضة واسعة، ثم الثورة، حيث أدّت عملية محاصرة باريس بالجنود إلى دفع فقراء المدينة إلى اقتحام سجن الباستيل، للحصول على السلاح للدفاع عن أنفسهم، وقد شكل سقوط الباستيل بداية التحرير، لكنه شكل بداية الاتجاه الراديكالي للثورة الذي سيعبر عنه في عدة محطات: اجتياح قصر تويليري عام 1792، وإعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت في 21 يناير/ كانون الثاني 1793، وانتفاضة باريس الكبرى نهاية مايو/ أيار عام 1793.
ويُرجع الفيلسوف والمؤرخ، إريك هوبسبام، ضعف الاتجاه الثوري المعتدل، وطغيان الاتجاه الراديكالي، ممثلا باليعاقبة، إلى غياب طبقة قادرة على أن تطرح نفسها بديلا اجتماعيا، في وقتٍ لم يستطع الفلاحون في الريف طرح مبادراتٍ، واكتفوا بالبقاء قوة مسكونية رديفة، وبالتالي لم يكن أمام البرجوازية إلا اللامتسرولون الذين كانوا القوة الضاربة للثورة، ورمز يساريتها.
وكان من نتيجة طابع الحكم المطلق، وغياب الإصلاح الحقيقي في الدولة، أن أمسكت القوى الشعبية بمسار الثورة على حساب قوة الأفكار لدى الفلاسفة الذين لم يستطيعوا التأثير في مجرى السياسة، وكل ما قاموا به هو التفكير الجريء والخيالي، لأنهم كانوا أقل حريةً في استشارتهم، أو تقديم النصيحة.
مع اختلاف التجربة التاريخية، ثمّة تقاطعات مهمة تجمع التجربتين، الفرنسية والسورية، أولهما الحكم المطلق، بغض النظر عن المرجعيات السياسية أو الإبستيمولوجية أو الدينية المؤسّسة للشرعية.
بدأ نظام البعث بطموحات اجتماعية كبيرة، واستطاع تكوين نخبة حاكمة، عبر ائتلاف عابرٍ
للطوائف، ولها قاعدة اجتماعية متنوعة طائفيا أيضا، إلا أن فشله في تحقيق تقدم اقتصادي حقيقي من جهة، وطبيعة النظام الشمولي من جهة ثانية، قد أدّيا إلى إهمال الروابط المؤسساتية مع المجتمع، والاستعاضة عنها بولاءات بدائية وزبائنية، واستيعاب مصالح بيروقراطية عابرة للطوائف في جهاز الدولة عبر الأيديولوجيا الشعبوية الممأسسة في الحزب الحاكم.
وقد أحدث حافظ الأسد، بوصوله إلى السلطة، قطيعة مع المراحل السابقة التي شهدتها البلاد منذ الاستقلال، إن كان على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو حتى الاجتماعي، فمعه بدأت مرحلةٌ لها قواعدها ونظمها الحاكمة التي أنهت مرحلة الانقلابات والاضطرابات السياسية، وأنهت معها أيضا إمكانية أي حراكٍ سياسي مستقبلي، لقد تطلب الأمر تغيير منظومة التحالفات السائدة، لجعل الاستقرار السياسي إمكانية حقيقية.
عمد الأسد، بدايةً، إلى تأسيس منظومة حكم قائمة على علاقةٍ، تداخلية/ تخارجية في آن معا، للمؤسستين العسكرية والحزبية، بدأ أولا بتعزيز قاعدته العسكرية في الجيش، وهي قاعدة متنوعة طائفيا، لتحقيق هدفين متكاملين: ضمان ولاء الجيش له وفصل الجيش عن الحزب من أجل التخلص من ضغوطه الأيديولوجية الراديكالية، ثم اتجه إلى تعزيز مجموعة من الضباط العلويين الموثوقين في المناصب الحساسة، للتخلص من ضغوط المؤسسة العسكرية، الأمر الذي أعطاه قدرةً أكبر على التحرّك في السياسة، بمعزل عن ضغوط المؤسسة العسكرية التي وسمت تاريخ سورية الحديث.
هكذا أصبحت المؤسستان، العسكرية والأمنية، من توابع السلطة، لا من توابع الدولة، فيما أصبحت أيديولوجيا البعث أداة للهيمنة الفكرية للسلطة. وكان حصيلة ذلك تدمير البرجوازية السورية الحقيقية، وإلحاق ما تبقى منها بمؤسسات النظام، نوعا من الرشى السياسية والاقتصادية، فتقاطعت مصالحها مع مصالح النظام.
تصحّرت الحياة السياسية بالكامل في سورية، واستحال إجراء أي إصلاحٍ جدّي قادر على تغيير البنى السياسية والاقتصادية، الأمر الذي حال دون تشكل كتلة تاريخية سياسية، قادرة على ممارسة ضغوط على السلطة، سيما في ظل اتسام البرجوازية بشكل عام، والسنية بشكل خاص، في دمشق وحلب، بسمات إقطاعية، كما كان الحال في فرنسا، ولم تنشأ طبقة برجوازية ذات حامل سياسي حداثي، لها مطالب وطنية، لأن البرجوازية، على العموم، لا تنظر إلى المجتمع من منظار طبقي، وإنما من منظار تجاري، وهي لذلك ليست ملتزمة بالتغيير الثوري، وهذا ما جعلها دائما عائقا أمام الحداثة وعاملا مساعدا للنظام القائم، يقول الكاتب صقر أبو فخر.
وكما فرنسا، لم توجد في سورية مؤسساتٌ فاعلةٌ اجتماعيا وسياسيا، ولا برلمان فاعل، وكان
من نتائج ذلك إقصاء المجتمع عن المجال السياسي. ومع اندلاع الثورة، عمل النظام سريعا على تجاوزها بقوة السلاح، وبقوة علاقاته الاجتماعية مع المنظومات الطائفية المتنوعة. وعلى غرار فرنسا، كان لعنف النظام، أو الثورة المضادة، دور في تحويل الثورة من مسارها السياسي إلى مسارها العسكري. وعلى غرار فرنسا، عشية الثورة وفي أثنائها، لم توجد في سورية قوى اجتماعية ـ سياسية قادرة على تأطير الثورة، وتحريك مساراتها، ومن ثم تكثيفها، ولم توجد قوى اقتصادية قادرة على دعم الحراك الجماهيري، وممارسة ضغوط على السلطة، وهذا ما يفسّر خروج قيادة الشارع من الذين تغلبت عليهم صفة الحداثة، والانتماء إلى المجتمع المدني.
ومع انتقال الثورة من جانبها السلمي إلى جانبها المسلح، بدأت الشخوص الفاعلة تتغير، وبدأ يتغير معها خطاب المعارضة الذي أصبح أكثر جرأةً، وأكثر تعاليا عن الواقع، عبر محاولة دفع عجلات التاريخ إلى الأمام، واستلهام تخيلات سياسية لا تقبلها الوقائع التجريبية، وكان من نتيجة ذلك عدم حصول انسجام بين الفكر والواقع، فظل الأول متعاليا على الثاني. لكن الفرق بين التجربتين أن القوى الثورية الفرنسية نجحت في تعديل مسار الثورة، وإبعاد القوى الراديكالية (اليعاقبة) وإحلال الأفكار المعتدلة مع الجيرونديين، وبدأت الأفكار الفلسفية والقانونية تأخذ مجراها في نسيج السياسة. أما في سورية، فكان لمصالح المجتمع الدولي من جهة، وهيمنة التنظيمات الإسلامية المتطرفة من جهة ثانية، دور في انزياح الثورة عن أهدافها، واستحالة تصحيح مسارها.
العربي الجديد
من قال الربيع السوري انطفأ؟/ بول شاوول
عودة ذكرى ثورة 14 آذار تأتي هذا العام في حُلّة جديدة، وفي ظروف تؤكد كلها أن الربيع اللبناني، وهو أم الثورات العربية، لم ينتهِ. فالظروف الاجتماعية والسياسية والثقافية التي أملت تلك الانتفاضات ما زالت موجودة. بمعنى آخر أن الصراع بين تطلعات الشعوب العربية وبين الأنظمة الاستبدادية لم يقضِ ولم يمُت ولم يُدفَن لا في سوريا ولا في ليبيا ولا في اليمن ولا مؤخراً في السودان والجزائر. إنه الشعب العربي، المارد الذي حطّم قمقمه وتفجّر في الشوارع بتظاهراتٍ سلمية مثالية تطالب بالحريات وبإرادتها في صناعة مصيرها.
حتى في سوريا ها هي شُعلة الانتفاضة في درعا مهد الربيع السوري ترتفع بعد أن ظنها كثيرون قد انطفأت تحن رمادها. فتَحت رماد الشعوب جمرٌ وما بدأ معها ليس برسم الانتهاء أو القبول بالأمر الواقع والخضوع، واستبدادية نظام الأسد: حركة استفزازية أقدم عليها بشار بإعادة تمثال والده في درعا، ألهبت الجماهير، فخرجوا في تظاهرات سلمية، تذكر بانتفاضتهم السابقة عام 2011: سلمية، لا طائفية، وطنية، ترفع شعارات منها “انقلع يا بشار” أي “إرحل”. إنها شعلة الأمل من تحت تراب مقابر الشهداء والأطفال والمقاتلين الذين قتلهم الأسد مستنجداً بقوىً خارجية لقمع شعبه: من حزب إيران، ولافتته المذهبية حماية مقام السيدة زينب ليشارك في مقاومة الثوار ويتواطأ أو يساهم لارتكاب المجازر الجماعية وتهجير الملايين وتدمير الحضارة العربية في البلد الشقيق ومحو كل ما هو أثر عربي إسلامي، كل ذلك خدمةً لإيران سليماني، وفيلق القدس، والحرس الثوري.
والغريب أن الأسد الذي لا يمتلك حالياً من السلطة، سوى قليلها، بوجود خمسة جيوش أجنبية، ما زالت تتصارع في بلاده: الولايات المتحدة، إيران، روسيا، تركيا، وإسرائيل. ولكل منها حصتها ومنطقتها وموقعها خارج سلطته. ومع هذا ها هو يطمح إلى الدخول مجدداً إلى المعادلة السياسية اللبنانية عبر بعض عملائه المعروفين وعبر حلفه مع حزب إيران.
رئيس بلا سيادة، وسيادة بلا رئيس. رئيس بلا جمهورية، وجمهورية بلا رئيس. رئيس بلا شعب، وشعب بلا رئيس. رئيس خاضع للخارج وشعب ما زال متمسك بسيادته. رئيس يريد استعادة سلطته ورموزها في وقتٍ تبدو سلطته محدودة في بلده بين اللاعبين الكبار. رئيس يُريد تكرار ما صنع الثورة من دستورٍ على قياسه وانتخاباتٍ شكلية وأجهزة مشكوكٌ بها. كيف يمكن أن يتم انتخاب رئيس؟ (إذا حصل ذلك)، ونصف شعبه مشرد في جهات الأرض الأربعة. كيف يمكن أن يكتسب شرعية وهو يرفض إرجاع ملايين النازحين لإدامة ديموغرافية تهجير منهجي. والقبول بعوداتٍ انتقائية نسبية ليؤمن بها فوزه. لكن يفوز على من؟ وأي آلياتٍ انتخابية يمكن أن تكون شرعية أو مقبولة في ظل حكمٍ تسبب بقتل 500.000 سوري.
فلماذا لا يعتمد أن ينتخبه الموتى بدل الأحياء؟ وعندها قد يفوز بأصواتهم أكثر. إنه يعامل العائدين من شعبه إلى سوريا كما يعامل الموتى. فهؤلاء موتى، مصيرهم ربما أن ينتخبوه تحت ضغوط التهجير والسجن والتعذيب والقتل.
لكن النظام الميت، ما زال ينتظره شعب حي بأحلامه وشجاعته ومقاومته. وكل حديث عن نهاية الصراع في سوريا هو “حديث خرافة” بل حديث من لم يتبقّ من بلادهم له سوى الحطام والخيبة والخوف.
شُعلة درعا دليل على أن هذا الشعب ينبعث من تحت الرماد اليوم وغداً وبعد مئة عام.
المستقبل
سوريا بلد غير موجود حتى الآن/ يوسف بزي
لنأخذ هذا المثال على علاقة السوريين بـ”الدولة السورية”: طوال ثماني سنوات، تعرض عدد لا يُحصى من المواطنين السوريين في لبنان لأنواع لا تُعد من المضايقات أو الأذى أو الاعتداء.. عدا عن سلسلة قرارات أمنية وإدارية لبنانية بالغة الإجحاف في التعامل مع السوريين، سببت الكثير من المعاناة والمهانة لهم. مع ذلك، وخلال كل هذه السنوات، لم تقدم لا السفارة السورية ولا وزارة الخارجية أي شكوى رسمية ولا حتى مجرد احتجاج، ناهيكم عن أن تهتم تلك السفارة بشؤون “رعاياها”. وهذا محال.
لم يتساءل أحد فعلياً عن هذه المفارقة في علاقة الدولة بمواطنيها. من تمثل هذه السفارة (وكل سفارة سورية في العالم) إن لم تكن معنية بمصلحة حاملي صفة “التابعية السورية”؟ كيف يُعقل وجود سفارة غير مهتمة بما يصيب مواطنيها؟ بل وفي بلدان عدة، حدث أن السلطات المحلية أنقذت مواطنين سوريين مقيمين فيها من براثن سفارتهم بالذات.
سلوك “الدولة السورية” تجاه السوريين في أي مكان في العالم، هو هكذا: إنكار مسؤوليتها أو صلتها بهؤلاء المسمين “مواطنين سوريين”، إن لم يرتقِ هذا الإنكار إلى مستوى التآمر والملاحقة في أحيان كثيرة.
تُعدّ الدولة السورية واحدة من الدول القليلة في العالم التي “يخاف” حاملو جنسيتها من الذهاب إلى سفارتها، بل ويخاف من مطاردة موظيفها ومراقبتهم له في حالات كثيرة. وتقتصر اهتمامات تلك الدولة (في الخارج) بمن يوالونها حصراً، أي من هم جزء من الجماعة الحاكمة، ومن المتنفذين في أجهزتها أو المتشاركين معها في المصالح، ومن يمتّون لها بصلات قرابة أو مصاهرة، أو بانتماء لطائفة محددة.. وبشرط دائم: الولاء التام.
وحسب ما تخبرنا وقائع السنوات الثماني المنقضية، لا ينتمي لهذه الدولة حقاً (إذا استثنينا الصامتين الساكنين) أكثر من ربع حاملي الجنسية السورية. البقية الباقية، أي الأكثرية الساحقة من السوريين، هم خارج الدولة السورية.
نفي السوريين من دولتهم هو أمر جوهري لسياسة النظام، ومبدأ أساسي في سلوكه. انتزاعُ الهوية السورية وسلبها من أكثرية السكان، يتيح للدولة الأسدية أن لا تراهم “مواطنيها”، ما يحررها تماماً من أي التزام حقوقي أو سياسي أو أخلاقي تجاههم. وتحرُرُ النظام من أي “قرابة” بهؤلاء، أي ما يوازي أكثر من سبعين في المئة من السوريين، يسهل عليه إظهار العداء المطلق لهم، من دون أي قيد، كعداء قوم ضد قوم، وعداء هوية ضد هوية. بمعنى أن معظم السوريين هم “أجانب” (برابرة) يستحقون حرب إفناء.
حرمان السوريين من حقهم البديهي والطبيعي أي أن يكونوا سوريين وحسب، وامتناع الدولة أن تكون دولتهم، يبيح للسلطة المستولية على الدولة وأجهزتها أن تنفي صفة “الحرب الأهلية” وتجعلها حرباً ضد غرباء وأجانب وبرابرة.. وهوام غير مستحقي حتى سمة البشر. هم فائض وورم يستحق الاستئصال والإبادة.
العداوة الذي يظهرها بشار الأسد شخصياً تجاه الأغلبية الساحقة من السوريين، تطفح بحقد كلي وشامل، من الصعب معه الوصول إلى ما يسمى “الحل السياسي” أو “التسوية الأهلية”. هو اقترحَ وعملَ على مبدأ واحد وفكرة واحدة: التطهير.
فلا شيء يفسر بلوغ مستوى العنف الفالت من أي ضابط حد الوحشية القصوى، واستعمال القوة العارية حتى الدمار الشامل، وانتهاج سياسات التهجير حد الاقتلاع الكلي للسكان.. سوى مبدأ التطهير. فلقد تم اقتلاع ونفي مجتمعات كاملة، وحدثت إبادة عمرانية وبشرية بمدن وقرى وأصقاع ريفية شاسعة، وجعلها خلاء مستوياً. وبلغ هذا التطهير حد اجتثاث الأطلال ومحوها، وجرف الأراضي والبساتين وكل ما يدل على حياة سابقة، بما تحمله من ذاكرة وهوية. بل إن مخططات “إعادة الإعمار” الافتراضية، ترتسم على تغيير جذري للديموغرافيا، وتشترط نفياً تاماً للمجتمعات السابقة على التهجير والتطهير.
بهذا المعنى، ليس مبالغة عند اللبنانيين ذاك الخوف من أن يصيب اللجوء السوري في بلدهم ما أصاب اللجوء الفلسطيني. أي أن تتحول “الإقامة المؤقتة” إلى واقع دائم. فـ”دولة إسرائيل” تنكر على اللاجئين الفلسطينيين، بديهياً، صفة “المواطنة”، وبالتالي تنفي مسؤوليتها الحقوقية عن مصيرهم. ثم إنها تنفي عنهم حق الملكية العقارية لأراضيهم وبيوتهم، طالما أنهم خارج الدولة وكانوا متمردين عليها. كذلك، تنكر عليهم ذاك المبدأ الأساسي: حق العودة، كمهجري حرب وضعت أوزارها في منتصف عام 1948. والأهم أنها تنكر عليهم وجودهم القومي وهويتهم، وتعتبرهم فائضا بشريا لا ينتمي إلى “قوميتها”.
هذا المبدأ “الصهيوني”، يتخوف اللبنانيون من أن تحذوه الدولة السورية الأسدية. وهذا ما يحدث عملياً. ففي كل السجال اللبناني لما يسمونه “ملف النازحين السوريين”، ثمة شعور يتقاسمه جميع اللبنانيين، بمن فيهم حثالة الموالين للنظام السوري، أن بشار الأسد ودولته ينكران على معظم السوريين التالي: صفة المواطنة، حقوق الملكية العقارية لأراضيهم وبيوتهم، حق العودة “الآمنة”.
من يراقب الإجراءات المضنية التي تبذلها الدوائر اللبنانية، كل مرة، مع الجانب السوري، لتدبير عودة بضعة مئات إلى بلدهم، يلحظ كيف أن السلطة السورية تتمنع عموماً عن منح مواطنيها حق الحياة في بلدها، وكأنه “امتياز” يمنح لأقل من أقلية. من دون ذلك، فالعائد بلا “ضمانات” أو تصريح (كمن يطلب فيزا دخول!) قد يتعرض للاعتقال أو القتل أو للتجنيد الإجباري (على طريقة سفربرلك العثماني). عدا أن هذه العودة، في حال تحققها، مشروطة أن يخضع العائد إلى مضبطة الأسدية: الخنوع والمذلة للاستبداد والبطش اليومي.
كل المباحثات والمفاوضات والمبادرات التي تتعلق بتسهيل عودة السوريين إلى بلادهم، تبرهن تلقائياً أن النظام السوري يتصرف كسلطة استيلاء واحتلال، ويعمل على توطيد هوية خاصة به وبمجتمعه، لا تشمل عموم السكان ولا أولئك الذين يحملون الهوية السورية منذ أن تأسست سوريا الحديثة. وهو إذ نجح بـ”تطهير” القسم الأكبر من الجغرافيا السورية، فلا يريد أن يبدد نجاحه هذا ويتيح للمقتلعين الرجوع إلى أرضهم.
وعلى هذا، يمكننا أن نتحدث عن دولة احتلال بكل ما في الكلمة من معنى، ويتشارك “شعب” الأسد الخاص، مع الجيش الروسي والميليشيات الشيعية، في مهام هذا الاحتلال. ويصمت السياسيون اللبنانيون، فيما هم يتساجلون في “ملف” النازحين السوريين، عن واقع أن هؤلاء تحولوا إلى لاجئين بفعل احتلال ميليشيات لبنانية بالذات لقراهم وبلداتهم ومدنهم. إن معظم غرب سوريا، في الشريط الجغرافي العريض الممتد بموازاة الحدود اللبنانية، واقع تحت احتلال ميليشيا حزب الله. وهو بكل سهولة يمكنه على الأقل أن يعلن مثلاً قبوله بعودة سكان وادي بردى والغوطة الغربية والقلمون الغربي والقصير وريف حمص الغربي، وريف دمشق.. لكنه كقوة “احتلال” شريك أساسي في التطهير، سيظل ممتنعاً عن حل مأساة ضحاياه هو بالذات، الذي شردهم وقتل شبانهم ودمر بيوتهم وجرف أراضيهم.. ومعه سيظل السياسيون اللبنانيون ممتنعين عن الإقرار بمسؤولية الدولة اللبنانية (المادية والمعنوية) السياسية والحقوقية والأخلاقية، كشريكة بما حل بالسوريين، طالما أن جماعة لبنانية وازنة وأساسية هي شريكة، كاملة الشراكة، في الحرب التي شنها النظام السوري على سكان سوريا.
سوريا بلد غير موجود حتى الآن، سوريا الأولى قتلها الأسد. سوريا الماضي ماتت لسببين: الاحتلال والنزوح. وفقط عبر التحرير والعودة، يمكن إعادة هذا البلد إلى الوجود، دولة ومجتمعاً. فهل من سؤال عن مبرر لاستئناف الثورة، بعد هزيمة الثورة الأولى؟ هل من بديل آخر سوى صنع هوية سورية جديدة من دم ودموع وذاكرة السنوات الثماني المنقضية؟
تلفزيون سوريا
همسة في ذكرى الثورة السورية/ محمد جمال طحان
منذ بداية الثورة، تحرّكتُ مع عدد من المخلصين المحبّين لوطن حرّ، على جميع الأصعدة الممكنة. تابعنا المظاهرات وحاولنا تنظيم بعضها، وشكّلنا تنسيقية في حلب. ولم يكتفِ معظمنا بالعمل مع جهة واحدة لضرورات أمنية، فتشعّبت مهامّنا، ولم يخلُ الأمر من تشكيك ثوار بآخرين إلى أن توضّحت الصورة بسلسلة اعتقالات طالت معظمنا.
بعد أن طال أمد النظام الجائر من خلال الدعم الخارجي الذي تلقّاه من إيران وروسيا والصين، وصمت المجتمع الدولي وتغاضيه عمّا يحدث، وخوف معظم الدول العربية من نجاح الثورة خشية أن يمتد الربيع العربي إليها؛ تم قتل بعضنا تحت التعذيب أو بطرق الاغتيال، من السلطة أو من بعض الكتائب المتشدّدة التي كان بعض العاملين فيها من دسائس السلطة، أو ممن غُرّر بهم تحت راية الحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة.
وعملت السلطة على تنمية حقدٍ قديم تجذّر لدى بعض السذّج بين أبناء الريف وأبناء المدينة، ما أدى إلى تصرّفات ضرّت الثورة التي بدأت تتعثّر حين التحق بها عدد من اللصوص والمجرمين بغية الانتفاع، إمّا من الأموال المتدفقة من الدول أو من المغتربين، أو من السطو على بعض المصانع والدور.
وسط هذا الخضمّ حاول الباقون منّا تصحيح مسار الثورة من خلال إنشاء تجمّعات صافية في المناطق المحرّرة، أيضاً لم تخلُ من التشكيك من أطراف مختلفة، بالإضافة إلى اصطدامهم مع متشدّدين لا يفقهون جوهر الدين. وحاول آخرون العمل في المناطق التي لجؤوا إليها من خلال التنسيقيات الاغترابية، أو الروابط المختلفة دعماً للداخل.
ولأن المجتمع الدولي لم يتّخذ موقفاً صافياً من الثورة، لم ينجح المجلس الوطني في تشكيل قوّة معارضة موحّدة، وسقطت هيئة التنسيق في حفرة التخاذل. وبعد أن وضع الناس أملهم في الائتلاف، عادوا بخيبة أمل بعد أن اكتشف معاذ الخطيب عوامل التفشيل الدولية، فآثر الانسحاب، ولم يتمكّن الائتلاف من تشكيل حكومة مؤقّتة.
وسط هذا كلّه بات من الخطر على الثوار الذين بدأت الثورة بهم أن يتابعوا العمل في هذه المعمعة، وبخاصّة أنهم وزّعوا طاقاتهم على أعمال متنوّعة تتعلّق بالإغاثة والدعم المالي والطبي والتظاهر والعمل الإعلامي والتوعية وحمل السلاح.
حاولت، كما حاول كثيرون، البحث عن مجال للعمل الثوري نستطيع أن نكون مفيدين فيه، ونعرف جدواه، مع فئة مخلصة. نجح بعضنا وفشل آخرون في إيجاد مكان مناسب لهم، فآثروا الانسحاب بعد أن أصيبوا بخيبة أمل.
بالنسبة لي، بالرغم من تواصلي المستمر مع الداخل، لم أجد جدوى من أي عمل خارج نطاق الكتابة لأقول رأيي في ما يحدث ووجهة نظري عمّا يجب أن تكون الأمور عليه.
ربما يحلو لبعض من هم في الداخل أن يقولوا إن الذين خرجوا من سوريا هربوا من المواجهة، أو انسحبوا من الثورة وتنكّروا لها. هذا الكلام غير دقيق، فما نفع بقاء معظمنا في الداخل وتعريض نفسه لاعتقال آخر قد يكون نهاية لحياته من غير فائدة، أو قد يكون عرضة للاعتقال من بعض الفئات المتطرفة التي بدأت تختار عملية التصفية لمن يخالفها. وحتى إن وجد أحدنا له عملاً مع فئة مخلصة فسيكون عرضة للحاجة، لأن عمله سيكون تطوّعيّاً بلا مقابل، وإذا تقاضى مقابلاً فسيقال بأنه يغتني على حساب الثورة.
لهذا آثرت ممارسة دعمي للثورة من خلال ما هو متاح لي من بذل فكري، ومحاولة الدعم اللوجستي، بحسب قدرتي، للفئات التي أراها مخلصة وتسير في الاتجاه الصحيح.
سأبقى داعماً للثورة بكل ما أستطيع، وأثق بانتصارها، وأظنّ أن المجتمع الدولي بات يتحتم عليه صفع العصابة الحاكمة في سوريا، ليس محبّة بنا، إنما لرعاية مصالحه والحفاظ على ماء الوجه، وهذا في الحقيقة كلّه من رعاية الله الذي ينصر من ينصره وإن بدت لنا غمائم لانعرف مغزاها. غير أننا على ثقة بأن الحريّة قادمة، وأن النصر حليف المثابرين ولابدّ من نيله، ولو بعد حين.
تلفزيون سوريا
الربيع السوري يدخل عامه التاسع!/ عادل يازجي
خلال عامه الثامن، ضبضب الربيع السوري فوضاه ورحل عن السواد الأعظم من جغرافية الوطن، بعد أن لخبط مزاجها ديموغرافياً، وحطّ رِكابَه في أقصى الشمال المتأهب لمعركة أو اثنتين، واحدة في منبج وتمتد إلى شرق الفرات، والثانية في إمارة إدلب، وربما ثالثة في الشرق بمواقع عرض العضلات العسكرية الدولية!
التأهّب ضروري لدعم القدرة السابقة التأثير للقوة التي قد تحتاج إلى عزف قتالي منفرد محدود، كهجمة ترامب على مطار الشعيرات في نيسان (أبريل) 2017، ولتأكيد استعداد القوة نظرياً وعملياً احتمال كبير أن يغامر أردوغان بعزف قتالي منفرد على منبج والمكوّن الكردي شرقي الفرات، وأقلُّ احتمالاً منه عزفُ النظام السوري غير المنفرد على (إمارة) إدلب.
الآن، تُزج القدرة السياسية في المواجهات لضبط الوضع الميداني، وقد يُكتفى بها مرحلياً، والعمل جارٍ على استخدامها في إنعاش التوجه إلى فبركة حل سياسي على المنوال الآستاني المدعوم روسياً وإيرانياً، وإلى حدٍّ ما تركياً بشروط خاصة، وجولة لافروف الخليجية تدعم هذا التوجه، نظراً لمحورية موسكو ودول الخليج (حالياً) في تفكيك عُقد الاختلاف المركبة.
ثمانية أعوام من اقتتال ملتبس بمجرياته وأهدافه، ولعبة الأمم لم تستقر على خريطة للوطن لا جغرافياً ولا ديموغرافياً ولا سياسياً، فحدود سايكس بيكو تُحترم إعلامياً، وتُنتهك ميدانياً، والخريطة الديموغرافية تزداد تعقيداً في الوسط والشمال، لكن الأكثر تعقيداً هي الخريطة السياسية بخطوطها غير المستقيمة محلياً، والممتدة باعوجاجها عربياً وإقليمياً، وهذا التعقيد أفرزته الخريطة الأممية في مرحلة تفتت صيغ التحالف الدولي وسيطرة البراغماتية الابتزازية بالاقتصاد والسياسة بلا أيّ وازع أخلاقي. اقتتال الأطياف السورية فيما بينها جُرَّت إليه مرغمة، ما من طيف إلا وحاول النأي بنفسه وما استطاع، ولم يبخل الأشقاء والحلفاء والأصدقاء بالمال والسلاح على الأطياف المتقاتلة، أغدقوا بهما على المُدافِع والمُهاجِم، على المُعتدي والمُعتدَى عليه، على حاسي الرأس، والمعمم، والملثّم، وقبل الوصول إلى التهدئة (السياسية) يُطالَبُ الطن بِرَدِّ الجميل لأشقائه وجارتيه تركيا وإيران، وصديقاته الغيورات عليه واشنطن وموسكو ولندن وباريس، ولا تستثنى أفضال داعش والنصرة ميدانياً وسياسياً على كلّ الأطراف المحلّية والعربية والدولية فوق التراب السوري، فخدماتهما لا يُغَضُّ النظر عنها في مرحلة ردّ الجميل، الذي يثقل كاهل كل سوري موالياً كان أم معارضاً، وما من مانح كان مسامحاً كريماً، ولن يكون، وتأخُرُ إعادةِ الإعمار يدور في فلك سُلّمِ أولويات النظام بردّ الجميل، والمعارضات ترصد وتتململ وتترقب!
شآم الحلم الرومانسي القديم، حلم النهضة والتنوير واحترام الآخر مختلفاً كان أم مؤتلفاً، هذي الشآم رحلت، ويُشَك بعودتها في التفاوض أو المصالحات، وما من خط تفاوضي آستاني أو أممي يطمأنُّ إليه في احترام الآخر، كما تنصّ عليه القرارات الدولية، التي تطرحها منصة آستانة نظرياً، وتتجاهلها عملياً، والحلّ السياسي لن يهبط فجأة ببراشوت الثنائية القطبية، بل يجير إلى فلسفة خفض التصعيد التي ابتكرتها عبقرية موسكو بسياسة التفاوض الميداني، وليس التفاوض السياسي بأسلوبية مؤتمر جنيف الأممية!
يصعب التفاؤل بالوصول إلى حل تحترمه جميع الأطراف، ولو آلت إدلب إلى حضن النظام، وعادت دمشق وأنقرة إلى اتفاق أضنة بنصها القديم، أو بنصٍّ جديد معدل، يضمن عدم خسارة كل منهما أي ذرة من مكاسبه الميدانية تفاوضياً، هذا على افتراض أن تلك المعضلة مستقلة عن تأثيرات واشنطن وموسكو وطهران وتل أبيب، ومشكلة الأكراد المزمنة، فهذه فُرادى ومجتمعة مليئة بالأكمات المجهول ما وراءها، لذلك لم يبقَ أمام الحلف الثلاثي الضامن إلّا الدعوة للتفاوض ريثما تصفو الأجواء في حرب المصادرات، وسياسة كبح التمدد الإيراني بقيادة ماريشال الاقتصاد ترامب، الذي يعاني أصدقاؤه العرب من اختلال التوازن في سياسته عربياً وإقليمياً، وما من أفق مرئي لنجاح هكذا براغماتية لا يسيطر فيها على الفعل، ولا على رد الفعل، لذلك فملهاة التفاوض هي الأجدى لاستمرار الترقب، وإدخال شبح الحل السياسي، بالبدء من المربّع الأول، أي لجنة الدستور التي يحبذها الحلف الثلاثي مجتمعاً، وترفضها أركانه فرادى، وقد استقر الرأي الإقليمي والدولي على وضعها بعهدة المبعوث الأممي جير بيدرسون، وعندما يبدأ عملها سيكون لكل حادث حديث.
في قمة سوتشي، بتاريخ 14-2-2019، حدد الحلف الثلاثي موعداً بعد شهرين لجولة جديدة من محادثات آستانة (وليس جنيف) بين النظام وبعض معارضيه، أي بعد قراءة إجراءات ترامب المنتظرة فوق الأرض، وما قد تفصح عنه ميدانياً وسياسياً، وعلى ضوئها فآستانة كفيلة بخفض تصعيد جديد، في شمال الوطن بامتداداته الإقليمية والدولية.
سيناريوات المآل (ميدانياً) لا تتجاوز خفض التصعيد الذي لن يهمل تفاصيل الشمال في منبج وتوابعها، والمنطقة الآمنة المُقتطعة لأردوغان، وهوية إدلب المتنازع عليها بين دمشق وأنقرة، أمّا سيناريو المآل (سياسياً) فتمتد خرائطه إلى دول الإقليم كلها، العربية منها وغير العربية، والعُهدة بيد الثنائية القطبية، ولا أمل برؤية قريبة لدخان أبيض ينطلق من مدخنة البيت الأبيض، أو مدخنة الكرملين، ومدخنة آستانة قد يُعتمد دخانها على مضضٍ، ولو بالصمت والتجاهل.
بعد سنوات ثمانٍ من الاقتتال المرسومة خرائط نتائجه قبل أن يبدأ، يصعب أن تستقرّ المماحكات السياسية على احترام تلك الخرائط في طهران وأنقرة معاً، وإذا احترمها الطرفان فلن تُحترم عربياً، وربما دولياً، وقد تربك مناورات ترامب للتملّص من تعهداته الشرق أوسطية، وهذه يتصيدها ثعلب المرحلة لافروف، ويوظّفها لصالح الامتداد الروسي عربياً وإقليمياً، فالمصالح مركبة متداخلة. الترقب للمآل يميز بين «سورية تعود» و«سورية تنهض من كبوتها»، والعوْد الأحمد هو المطروح قيد التداول، على أن يحفظَ ماءَ الوجوه، ويخفف «إن لم يُنْهِ» الاحتقانَ في الشمال والشمال الشرقي، وفي كل الأحوال يصعب التفاؤل!
الحياة
الأزمة السورية مستمرة مع دخولها العام التاسع/ أليستر بيرت
ينتصب اليوم تمثال الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد في وسط مدينة درعا، وهي مهد الثورة السورية التي بدأت بالمظاهرات السلمية. خرج الناس إلى الشوارع مجدداً وهم يهتفون احتجاجاً على إعادة نصب التمثال، على غرار المظاهرات التي اندلعت قبل الحرب التي أودت بحياة قرابة 400 ألف شهيد ونزوح نصف سكان البلاد.
ربما يشعر من يشاهد هذه الصور المعدودة بأن الأوضاع عادت إلى مسارها الطبيعي، بعد استعادة النظام السوري السيطرة على البلاد بعد مضي ثماني سنوات على الصراع في سورية، فقد أصبحت هذه الصور رمزاً لمهد الثورة السورية قبل اندلاع الحرب.
لكن الواقع مختلف إلى حد كبير. فبعد أيام من نصب التمثال واختفاء الموالين للنظام خرج المحتجون إلى الشوارع مرة ثانية، ومنهم نفس المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع عام 2011 مطالبين بإطلاق سراح أبنائهم المعتقلين، وهم يهتفون هذه المرة “البلد دمرت وبدل الإعمار ننصب تذكاراً”.
إن الحرب لم تنته بالنسبة للسوريين الذين شهدوا الصراع الدامي الذي استمر ثماني سنوات، فالأزمة الإنسانية ما زالت مستمرة وحقوق الإنسان في تدهور مستمر.
تعرض عشرات الآلاف من المدنيين للاختفاء القسري والتعذيب والاعتقال التعسفي من قبل النظام، فضلاً عن أولئك الذين أصيبوا أو استشهدوا نتيجة للقصف المدفعي واستخدام الأسلحة الكيميائية. وما زالت الصور المعروفة بصور “قيصر” عالقة في أذهان الكثير من الناس والعائلات التي ما زالت تبحث عن أبنائها المفقودين بين صور الجثث التي تعرضت للتعذيب والتشويه أو في سجون النظام. أما بالنسبة للنازحين السوريين الذين عادوا إلى المناطق التي تخضع لسيطرة النظام فقد نكث النظام بالضمانات التي قدمها مسبقاً بعدم اعتقالهم أو إخضاعهم للتعذيب والاعتقال.
يواجه المدنيون في سورية اليوم نقصاً حاداً في المواد الأولية والخدمات الأساسية، إذ يعيش ثلثا السكان في فقر مدقع. ويقوم النظام بإعاقة وصول المساعدات الإنسانية في جميع المناطق
ورفض محاولات الأمم المتحدة إيصال المساعدات الإنسانية، مما يعيق وصول المساعدات إلى ملايين المدنيين ممن هم بحاجة ماسة لهذه المساعدات. أما في إدلب فهناك ثلاثة ملايين مدني يعيشون في خوف دائم من الهجمات العسكرية المتهورة والقصف الروسي وقصف النظام، كان آخرها الغارات الجوية التي استهدفت إدلب هذا الأسبوع وراح ضحيتها العديد من المدنيين الأبرياء.
الأوضاع في سورية لم تعد إلى طبيعتها كما يقال، كما أن القضايا الأساسية التي أدت إلى انتفاضة الشعب السوري في عام 2011 ما زالت عالقة، لا بل إن الوضع تفاقم للأسوأ.
أما نحن فلن نتخلى عن الشعب السوري الذي هو بأمسّ الحاجة لحل سياسي ينهي الصراع في البلاد، كما أننا لن نتخلى عن الشهداء الذين قضوا تحت تعذيب النظام، في تجاهل متعمد ومتكرر لجميع المواثيق والمعاهدات الدولية. ولن نتخلى أيضاً عن اللاجئين السوريين والدول المضيفة لهم، فهم بأمس الحاجة لدعمنا الكامل حتى يتمكن اللاجئون من العودة إلى الوطن.
إن المملكة المتحدة ترغب في إنهاء الصراع السوري في أسرع وقت ممكن، إلا أن السلام الدائم لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال عملية سياسية حقيقية موثوقة وليس من خلال تحقيق “انتصار” لنظام أجوف.
وفي حين أننا لن نشارك في الأكاذيب وافتراءات إعادة الإعمار التي يفبركها النظام في الوقت الذي ما زالت سورية تقبع فيه تحت نظام سياسي متصدع فاقد للمصداقية، إلا أننا سنواصل
دعمنا الإنساني المستمر داخل سورية وفي المنطقة والذي بلغ منذ عام 2012 حتى الآن مبلغ 2.81 مليون جنيه إسترليني. ونحن مستعدون لدعم إعادة الإعمار في حال تغيّرت الأوضاع في سورية. كما أننا سنستمر في دعم آليات المساءلة القانونية وجمع الأدلة ضد كل من شارك في ارتكاب أفظع انتهاكات حقوق الإنسان في سورية.
واليوم بعد مرور ثماني سنوات على الاحتجاجات الأولى في درعا فقد سحقت الحرب الأهلية الأمل بالتغيير الذي هتفت به تلك الاحتجاجات، لكن هناك واقعاً أصبح واضحاً للجميع اليوم، وهو أن سورية لن تعود إلى ما كانت عليه في الماضي، فنظام الأسد يجب أن يتغيّر.
وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا
العربي الجديد
كيف تكون لاجئاً وثائراً في آن معاً؟/ ياسمين مرعي
يدرك السوريون اليوم أنهم كبروا ثمانية أعوام كاملة، وأن اختلافهم ازداد وتعمق، أطفال خرجوا من منظومة طلائع البعث وآخرون غرقوا فيها، شبان موزعون بين الموت على الجبهات، كل الجبهات، الموت في السجون، أو الغربة على تدرج ألوان قسوتها! نظام ممعن في القتل، ومعارضة يمزقها الارتهان والولاءات والتخوين والعداوة.
كيف كبرنا ثمانية أعوام؟ كيف دفعتنا خياراتنا للأمام من دون القدرة على العودة؟ كيف تفجرت الثورة في داخلنا كتحول كيميائي؟ لا يمكننا العودة إلى ما قبل عبارة “الشعب يريد إسقاط النظام”، لا يمكننا أن نكون نفس الأشخاص بعد عبارة “شهيد تحت التعذيب” وبعد غزارة الهويات التي تتالى علينا ومنها اليوم هوية اللاجئين!
كيف تبقى دهشتنا بالعالم على القدر نفسه، ونحن نملك أحبة موزعين في الشتات حوله، نفاضل بين جمال مدينة وأخرى، صعوبة/سهولة لغة وأخرى، وحنيننا دائماً إلى أكثر أحياء سوريا عشوائية وإلى أبسط لهجاتها مما كنا نتدواله مع أهلنا وسكان أحيائنا؟
هذا اليوم يصلح فقط لإيقاظ بركان من وجوه غيبها حلمها بالحرية؛ أقرباء، أصدقاء، أحبة، أعداء سابقون، جيران، ناشطون تبادلنا معهم تحية أو اكتفينا بما سمعناه عنهم، ذاكرة من الوجوه والأصوات نظنها غابت ونظن أذهاننا سلتها وغفلت عنها، علينا أن نستسلم اليوم لشراسة استيقاظها بأدق ملامحها، لرعشة الخوف والحلم التي عرفناها قبل ثمانية أعوام من اليوم.
لقد “صنعنا ثورة”، وها نحن نلف العالم في محاولة لعرض ما صنعناه، لكن ما معنى أن نكون موزعين نتعلم عشرات اللغات ونبتعد كل يوم عن لغتنا، نتعلم قوانين بلدان العالم المتحضر حيث نلجأ، وبلدنا بلا قانون، نتمتع بما تتيحه دول اللجوء من حريات، وكل ما طلبناه في بلدنا كان الحرية! نكون مواطنين “عالميين” لأن العالم أغلق سفاراته وفتح بحاره في وجوهنا وجردنا من هويتنا.
من حق السوريين في ذكرى ثورتهم الثامنة أن يغضبوا، ويجاهروا بغضبهم. في برلين مثلاً، ننظر إلى أسماء ضحايا المحرقة منقوشة على مربعات معدنية ذهبية اللون موضوعة داخل الأرصفة، فيما صور ضحايا قيصر عالقة في رؤوس من نظر منا إليها، وصور بعضهم بكامل حيوتهم وألقهم عالقة في ذاكرة من لم يجرؤ من أهاليهم على البحث عن صورة فقيده بين الصور.
نحن نسعى للعدالة بكل ما أوتينا، نوثق أسماء شهدائنا، نتدرب على المهنية في نقل مواجعنا، نحشد لقضية نعلم أنها عادلة وعلينا إثبات عدالتها بطريقة ما، ليست عنفية ولا عاطفية ولا إقصائية ولا تطالب بتغيير النظام. نقبل تداول مصطلح “إعادة الإعمار” ونحن نعلم أنه ليس الحل، كيف يكون وبيوتنا التي نشأنا فيها لن تعود يوماً، أحياؤنا التي نحفظها ذهبت بكل تفاصيلها ووجوه ساكنيها، وكل ما بنينا عليه ذاكرتنا أحرق أو تم “تعفيشه”!
لا بد أن ثماني سنوات علمتنا أن الشعب السوري لم يكن يوماً “واحداً”، وأن تمايزنا الطائفي والسياسي لا يعني بالضرورة عداوة الآخر، وأن السؤال الواجب اليوم هو عما فرّق من اجتمعوا في 2011، وكيف يمكن البناء على اختلافنا، غضبنا، وحقنا الجلي بالحرية والكرامة، وفي أن ما حدث في 2011 كان وما زال ثورة، وأن مسؤولية رد التحولات عن الثورة واستعادة مسارها تقع في جزء منها على عاتقنا.
خلال الأيام الأخيرة، كانت لدينا الكثير من الحقائق لنفكر بها؛ المشاهد المربكة والمثيرة ربما للفوسفور يهطل على ريف حماه، لنتأكد أن النظام لن يتوانى عن القضاء على الثورة بالقضاء على آخر مدني في المناطق الخارجة عن سيطرته، ونحن هنا في منافينا نتابع مواقع التواصل بهوس توازيه حياة أقرب إلى الاستقرار، نتقلب في انقسامنا النفسي والفيزيائي، نتلمس حرجنا من التضامن الافتراضي، وثقل لاجدوى التضامن في شوارع وساحات المدن الغريبة التي توزعنا فيها حول العالم، ووقفنا أمام حقيقة سقوط العالم المتحضر بثقافته ومدنيته وتحرره وديمقراطيته أمام عيوننا المعلقة ببقايا مدننا وعوائلنا في موطننا الأصل!
صوت عمر الشغري المعتقل السابق على قناة CNN، يتحدث عن أدلة ارتكاب بشار الأسد للجرائم في سوريا، فيضع كل منا يده على قلبه وعلى ما في دواخل الناجين منا من الندوب. نتساءل إلى أين سينحدر العالم بعد، ولماذا تصمد أنظمة الفساد والترهيب في بلادنا؟ نتطلع إلى الجزائر والسودان بغبطة وغصة معاً، ونتساءل مراراً عن اليوم الذي سيسقط فيه الأسد إذا صدقنا أن سقوط الطغاة حقيقة تاريخية؟
صوت آمنة خولاني الواثق الهازئ في بروكسل، المتجاوز أقصى حدود “تمكين النساء” مما يشغل شطراً كبيراً من المجتمع الدولي، وهتافات أهالي درعا بحياة سوريا وسقوط الأسد فيما تمثال حافظ الأسد يجر إلى مسقط جديد.
لقد واجهت الثورة السورية أقسى المصائر التي قد تواجهها ثورة، عالم يبحث عن الأدلة من جهة، ويشارك في المقتلة بدوافع مختلفة وخلف أقنعة مختلفة من جهة أخرى، فيما نحن، أبناؤها، متآكلون ولاءات وعداوات وتخويناً ومزاودات وعجزاً. نكذب إن قلنا إن الشهداء والمعتقلين لا يغيبون عن أذهاننا، بلى يغيبون، والشتات السوري في دول الجوار السوري، التخوم الشرقية لأوروبا وقلبها، يدخلنا في دوامات اللاهوية، اللانتماء واللاهدف في بعض الأحيان، أو في دوامة إثبات الذات والابتعاد عن الثورة بقصدية أو من دونها في أحيان أخرى، لكن الحقيقة التي ننتهي إليها في أي دائرة مما سبق كنا، أن العالم الذي اختصرته الثورة لنا فضاق علينا بعدها، لا يمنحنا أوطاناً بديلة، وأن مصداقية الثورة حول العالم مرتبطة ليس فقط بما نضمره من انتماء معنوي للثورة، بل كذلك بما ننتويه، إن لم نقم به، من مراجعات لأدائنا الثوري ولاستعداداتنا لمعاودة التحرك بأدوات ومقاربات مختلفة.
هذا اليوم طازج جداً وقد يكون طويلاً جداً، لكن لا مكان فيه لرومانسيات ثورية، بل لمراجعات واثقة ومسؤولة، إن لم ترق لتليق بدماء الشهداء وعذابات المعتقلين والمهجرين، فلتلق بمرارة الاغتراب واللاوطن التي نعيشها وذلك أضعف الإيمان!
المدن
الشمال السوري في الذكرى الثامنة: الثورة تزهر من جديد
أحيا آلاف السوريين الذكرى السنوية الثامنة من الثورة السورية، بتظاهرات خرجت في مختلف مدن وبلدات الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام، في محافظتي إدلب وحلب.
ورصد “المرصد السوري لحقوق الإنسان” خروج المتظاهرين في 8 مدن وبلدات في محافظة إدلب، 7 مدن وبلدات في محافظة حلب، بتظاهرات تحمل رمزية كبيرة هذه السنة، وسط انتصارات هائلة حققها النظام السوري واستعاد بموجبها معظم المناطق التي كانت خارج سيطرته.
وطالب المتظاهرون بـ”الحرية وإسقاط النظام وإخراج المعتقلين من سجون النظام”، ونددوا بـ”الصمت الدولي عن مجازر روسيا والنظام في إدلب”، ورفع المتظاهرون في مدينة الباب لافتات كتب عليها “وكما الربيع في آذار.. تزهر الثورة من جديد”، وكتب على أخرى “سيرون بأن زيتوناً بأرض الشام لم يركع”.
وتأتي هذه التظاهرات على وقع خسائر مفجعة في الأرواح، والممتلكات، حيث قال “المرصد” إن الأزمة السورية تسببت بمقتل 370 ألف شخص، بينهم ما يزيد عن 112 ألف مدني.
ووثق المرصد مقتل 371222 شخصاً منذ اندلاع النزاع في 15 آذار/مارس 2011، بينهم أكثر من 112 ألف مدني، موضحاً أن بين القتلى المدنيين أكثر من 21 ألف طفل و13 ألف امرأة.
وكانت الحصيلة الأخيرة للمرصد في 13 أيلول/سبتمبر أفادت بمقتل أكثر من 360 ألف شخص.
في ما يتعلق بالقتلى غير المدنيين، أحصى “المرصد” في الحصيلة التي نشرتها وكالة “فرانس برس”، مقتل أكثر من 125 ألف عنصر من قوات النظام والمسلحين الموالين لها من جنسيات سورية وغير سورية، أكثر من نصفهم من الجنود السوريين، وبينهم 1677 عنصراً من حزب الله اللبناني الذي يقاتل بشكل علني في سوريا منذ العام 2013.
في المقابل، قتل 67 ألفاً على الأقل من مقاتلي الفصائل المعارضة والإسلامية وقوات سوريا الديموقراطية التى تشكل الوحدات الكردية أبرز مكوناتها. كما قتل نحو 66 ألفاً من مقاتلي تنظيم الدولة الاسلامية وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) إضافة الى مقاتلين أجانب من فصائل متشددة أخرى.
ويقول “المرصد” إن هذه الإحصائيات تشمل الذين تمكن من توثيق وفاتهم جراء القصف خلال المعارك، ولا تضم من توفوا جراء التعذيب في المعتقلات الحكومية أو المفقودين والمخطوفين لدى جهات عدة في سوريا.
وعدا عن الخسائر البشرية، أحدث النزاع منذ اندلاعه دماراً هائلاً في البنى التحتية، قدرت الأمم المتحدة كلفته بنحو 400 مليار دولار. كما تسبب بنزوح وتشريد أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها.
من جهة ثانية، وجه رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية عبدالرحمن مصطفى، كلمة إلى الشعب السوري بمناسبة الذكرة الثامنة للثورة، وقال: “نودعُ اليومَ عامَ ثورتِنا الثامنِ، وتَمرُّ نحوُ سبعِ سنواتٍ على صدورِ بيانِ جنيف، وأكثرُ من خمسِ سنواتٍ على بَدءِ جولاتِ المفاوضاتِ هناك… ونجدُ من واجبِنا أن نجمعَ السوريينَ من جديدٍ وأن نستفيدَ من طاقاتِهم في مواجهةِ مخططاتِ النظامِ وحلفائِه.. وقوى الظلام والتطرف والإرهاب”.
وأضاف “إننا ندركُ طبيعةَ المعركةِ.. وأنَّ الحلَ الوحيدَ هو الحلُ القائمُ على عمليةِ انتقالٍ سياسيةٍ بحسبِ القراراتِ الدولية. والنظامُ ما زالَ يُصرُّ على عدمِ الدخولِ في أي تفاوضٍ جادٍ وحقيقي، مستغلاً ضعفَ موقفِ المجتمعِ الدولي.. كلُ ما نحتاجُه هو الاستفادةُ من عواملِ قوتِنا … والعملُ على تجاوزِ الأخطاءِ وإصلاحِها.. نحن نؤمنُ بالسوريينَ وبقدراتِهم وبمستقبلِهِم وبحقوقِهِم”.
وتابع “إنّنا مُصرّونَ على تحقيقِ أهدافِ السوريينَ في وطنٍ موحدٍ مستقلٍ.. ونظامٍ حرٍ ديمقراطيٍ يحترمُ الإنسانَ وحريتَه وكرامتَه… ويُحققُ لكلِ المواطنينَ جميعَ الحقوقِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والثقافيةِ. لقد نجحنَا في إفشالِ مشاريعِ التقسيمِ بفضلِ الوعي الشعبي والسياسي وتضحيات أبناءنا في جشينا الوطني الحر الذي قاتل على كافة الجبهات، وواجه إرهابَ النظامِ والتنظيماتِ الإرهابيةِ في الوقتِ نفسِه. فصائلُ الجيشِ السوري الحرِ كانتْ أولَ من حاربَ التنظيماتِ المتطرفةِ وعلى رأسِها تنظيمُ داعشٍ الإرهابي، وهي مستمرةٌ في هذه المهمةِ بدعمٍ من الدول الصديقة والشقيقة وعلى رأسها تركيا”.
واشنطن وباريس وبرلين ولندن:سنحاسب مجرمي الحرب في سوريا
قالت حكومات الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة في بيان في الذكرى الثامنة للثورة السورية، إن قمع النظام للشعب السوري لم ينته بعد.
وتعهدت الحكومات الاربع بمساءلة المسؤولين عن جرائم الحرب في سوريا، مؤكدة ألا إعادة إعمار في سوريا دون عملية سياسية موثوقة وشاملة وحقيقية. ووصف البيان الوضع في سوريا بـ”أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية”.
وبعد ثماني سنوات من بدء الصراع السوري، يبقى 13 مليون سوري بحاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية. وقد بات أكثر من 11 مليون – أي نصف سكان سوريا قبل الحرب – نازحين وغير قادرين على العودة إلى ديارهم.
وقال البيان: “لن يتحقق السلام من خلال الحل العسكري الذي يأمل النظام السوري في التوصل إليه بدعم من روسيا وإيران. الحل السياسي المتفاوض عليه هو السبيل الوحيد لإنهاء العنف والصعوبات الاقتصادية وضمان تسوية دائمة للصراع”.
واستذكر البيان “الرجال والنساء الشجعان من مختلف أطياف المجتمع السوري المتنوع والذين تحركوا من أجل مستقبل أفضل لكافة السوريين. ونتذكر أيضا العدد الذي لا يحصى من المدنيين الذين فقدوا أرواحهم تحت التعذيب والتجويع وهجمات النظام وداعميه”.
وأكدت حكومات الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة دعمها للعملية التي تقودها الأمم المتحدة في جنيف وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 لتحقيق السلام والاستقرار في سوريا ولتعزيز المكاسب التي حققها تحرير الأراضي من داعش.
وتعهدت الحكومات الغربية بـ”متابعة المساءلة عن الجرائم المرتكبة في خلال الصراع السوري لتحقيق العدالة والمصالحة للشعب السوري”. وأضاف البيان “لن نفكر في تقديم أو دعم أي مساعدة لإعادة الإعمار إلى حين تبدأ عملية سياسية موثوقة وشاملة وحقيقية بشكل لا رجعة فيه”.
ودعا البيان روسيا وسوريا الى احترام حق اللاجئين السوريين في العودة إلى ديارهم بشكل طوعي وآمن وأن تكفا عن الادعاء بأن الظروف مناسبة لإعادة الإعمار وعودة الحياة إلى طبيعتها، وإلى المشاركة بجدية في المفاوضات القادرة وحدها على تحقيق السلام في سوريا.
ثورتنا السورية والربيع المثابر/ إيمان محمد
كيف عقدت الثورة اتفاقيّتها الخاصّة مع الرّبيع، ليكونا معاً بهذا الجمال؟
الثورة كمفهوم مرتبطة بالغليان، بالنار، بالانفجار من أجل التغيير، وهي مرتبطة في مفهومنا الشّعبي بأشياء كثيرة لا تمت لرقة الربيع وجماله بأية صلة، فكيف رأينا الجمال في العجلات المحترقة، ورأينا الدخان الأسود المتصاعد أكثر سحراً من غيمٍ خريفي ماطر! كيف استعذبنا الرّكض في الساحات هرباً من مطاردة سيّارات الأمن ومدرّعاته، أكثر بكثير مما كنا نستعذب التنزّه في الشوارع الهادئة على مهلٍ، وأمامنا الزهر وحسنه، والخضرة ونضرتها، والماء وعذوبته، كيف كان لصوت الرّصاص معنى للحياة وهو دلالة موت، بل كيف ارتبط موتٌ لأجل قضية محقّة، بالحياة إلى هذا الحد! ونحن الذين كانت تستهوينا الأنغام العذبة وزقزقة العصافير لنشعر أننا بخير؟!
لقد شعرنا أننا بخيرٍ أكثر، ونحن في حمى ثورة، بل في حمى الفكرة!
أعطت الثورة الرّبيع قيمة فوق قيمته، ووهبته معنى مختلفاً، جعل لقدومه ارتباطات كثيرة، بفيض ذكريات، بعبقٍ مختلف، والربيع أضفى على الثورة جمالاً، وجلالاً، خرجا من كآبة الخريف والشتاء، كما خرجت شعوب كثيرة في العالم من كآبة حكم مظلم، وحاكم ظالم، فكان الأخضر في الربيع دلالة تفتح وتغيير وسعادة وولادة جديدة، وكان الأخضر في علم الحرية له ذات الدلالة.
وارتبطت الثورة السورية أكثر ما ارتبطت بدرعا، من مهدها انطلقت، وأشعلها الأطفال هناك، ” اجاك الدور يا دكتور”، لم يكونوا يعرفون بعد معنى ” الديكتاتور”، وتحالفت معهم دماء الشهداء، فكانت تنتشر أكثر، غضباً، قهراً، رفضاً للظلم، وإلى مهدها عادت بعد سنوات ثمان، إلى درعا، لتملأ الأرض هتافاً للحرّيّة، من يصدّق أنها إليها تعود؟ وفي ساحاتها تتحرك الأقدام لتقوم بخفة، في دبكة لا تهزّ الأرض وحسب، بل تهز العروش والأصنام والتماثيل، وتقول كلمتها بعد أعوام من محاولة قتلها ” أنا هنا مازلت حيّة لم أمت، سيموتون وأبقى، وسأقف شامخة والتمثال سيقع، التمثال واقع لا محالة!”.
ثمانية أعوام، ومازلت أرى الثورة السورية الأهم بين ثورات الشّعوب، لها أحقّية الصمود أعواماً طويلة، ضاربة بفكرة الاستسلام عرض الحائط، بقيت واستمرت، رغم يُتمها، تابعت رغم محاولات تفكيكها، بقيت رغم الجهود المكثفة سياسياً وعسكرياً، اقتصادياَ واجتماعياً، نفسياً وفكرياً، من أجل نسفها واقتلاعها من جذورها.
كان هدفهم ألا تبقى منها باقية، ومع ذلك بقيت، وكان هدفهم أن يربّوا بها شعوب الأرض، وإذا بالسودان تنتفض، تتبعها الجزائر، كان همهم تكميم أصوات النّاس، وجعلهم يستسلمون للصمت والانكسار، لكن صرخاتهم كانت أعلى وأشد، آمالهم من الثورات أقوى، تحدّيهم لحكامهم المتشبثين ظلماً بكرسي الرئاسة صارخ وراسخ، يحمل الإيمان ذاته، والتكاتف الإنساني الشعبي ذاته مع ثورتنا السورية.
تأتي الذكرى الثامنة لاندلاع الثورة بثوبٍ جديد، لم يأتِ عامٌ على سوريا بعد الثورة يشبه نفسه، لا الأماكن ولا الأحداث ولا الأشخاص، حتى ذلك الأحمق المتشبث بكرسيه حتى اللحظة، لم يعد كما كان، ولا كرسيه عاد بذاك الثبات فقد تضعضعت أركانه، وبات حوله ممن يرغبون بسقوطه أكثر من الذين يساندونه بسلاحهم ورجالهم وعتادهم، وأما نحن، فمازلنا أسرى الجنون للفكرة، نحيا بها ونتابع على درب الكفاح، نحارب ضعفنا، وانقسامنا، وتغييبنا المتعمد، نصرخ بقوة لأجل لملمة شتاتنا المبعثر، لعل صراخنا يتأطر في صوتٍ واحد، وهدفٍ واحد، سوريا بدايته ومنتهاه.
ندرك أن عشقنا المجنون للثورة لا يكفي، ما لم يظهر، وينتشر، ويكون موضع تأثير وتغيير وفاعلية وقرار، وندرك أيضاً أن من الجنون الاستمرار بعثرات الماضي، ومن الجنون الرضا بجمود الحاضر، وبأنه يتوجب علينا جميعاً المبادرة، لحماية الفكرة والكفّ عن الاحتماء خلفها، لابد من إعادتها للواجهة، وتنقيتها من شوائبها، وصياغة الموقف تلو الموقف، والفعل تلو الفعل، لنعيدها سيرتها الأولى.
ولأننا لم نَثُر عبثاَ، ولم نحمّل ثورتنا وقود أرواحنا ودمائنا لأجل أن تموت الفكرة، بل من أجل حياتها، فلا خيار من المتابعة، ولا بديل عن الاستمرار، وإن تتابع علينا المشهد الأول، آذار تلو آذار، تلو آذار، فلكي نتجدد كوجه الأرض، بابتسامة يتيم وجد من يجبر كسره، وتفاؤل أمّ معتقل وجدت من يساعدها لتطالب بإخراجه، وهمّة ثائر عرف أن التراجع جريمة، فنهض رغم جراحه وتابع، ذاك جمالٌ يُشهد له، في ذاكرة التاريخ، وأرواح الأحرار، وفي زهر آذار وقطرات غيمه الماطر، تستمر الثورة، لتنتج ثورة أخرى، حتى تفتح الزّهر، وحتى مطلع الفجر.
تلفزيون سوريا
تمثال النظام وتماثيل المعارضة/ عبدالله أمين حلاق
قبل ثماني سنوات بالتمام والكمال، أحرق متظاهرو درعا تمثال الأسد الأب معلنين بداية نهاية الأبد السوري. قبل أيام قليلة أعاد الأسد الابن نصب تمثال أبيه في إحدى الساحات العامة في درعا في خطوة استفزازية لا تشير إلا إلى ان النظام يكمل اليوم ما فعله في الأمس بعد أن اقتلع عاطف نجيب أظافر اطفال حوران وأهان أهاليهم. لا غرابة في ذلك. النظام لن يتغير. هذا معطى ثابت كزرقة السماء واتجاه دوران الأرض.
رداً على هذه الخطوة، تظاهر عدد من أهالي درعا البلد ضد النظام، وهم يهتفون بواحد من أكثر الهتافات جذرية في السنوات الثماني الماضية: “عاشت سوريّا ويسقط بشار الأسد”. الانتحار، اليأس، الأمل، طبيعة المنطقة التي لا تمكن للنظام إدارتها كما مناطق أخرى بحكم التفاهمات “المرحلية”، كلها تفسيرات قد تكون مقنعة لفهم حالة كتلك التي شهدتها درعا قبل أيام. الفرادة ليست في التظاهرة بحد ذاتها، فهذه عرفتها سوريا آلاف المرات منذ بداية الثورة السورية. الفرادة هي في توقيتها، ذلك أن ما لحق بالبلاد والعباد، والكارثة والتفتت والخراب العميم والقاع الصفصف الذي يعيش فيه سوريون داخل البلاد، وغير ذلك مما ارتكبه الأسد وحلفاؤه بشكل رئيس، هو ما لم يفض إلى نتيجة ولم ينجح في إعادة الناس إلى حظيرة “مملكة الصمت”.
“عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد”.. هذا شعار يرفع اليوم في سوريا بعد كل ما حصل. شعار لا يشبه انتقادات فاتح جاموس لقناة “الدنيا” مؤخراً. هو ببساطة، ذلك الشعار التوراتي الذي يبدو آتياً من العصور السحيقة أو من تلك الأراضي التي كنا نشاهدها في أفلام العهد القديم. انبعث الشعار والهتاف مجدداً. حتى البعث كحزب لم يعد يستطيع احتكار المفردة “الإحيائية”.
في المقابل، تلقف معارضون سياسيون، حزبيون وغير حزبيين، ما جرى في درعا البلد، وبدأوا ببناء السرديات المستجدة أو هم استأنفوا كليشيهات “الثورة المستمرة” و”الثورة الدائمة” بما قد يجعل المرء يتوهم أن هؤلاء متمكنون من نصوص تروتسكي، ويحوزون نظرية وأدوات متماسكة في التفكير. بعد مجازر الكيماوي كان شعار “استمرار الثورة” يُطرح من جديد. بعد السكاكين والسواطير والرصاص الطائفي في البيضا وكرم الزيتون وقلب لوزة وغيرها، كان شعار “الوحدة الوطنية” يطرح على الملأ في فرادة سورية أخرى، وإن تكن مختلفة عن فرادة درعا اليوم.
عشرة متظاهرين في حلب.. الثورة مستمرة. “جبهة النصرة جزء من الثورة”، هذا خطأ فردي وسياسي من أخطاء الثورة. يكتب أحد “القادة الشبان” في أحد الاحزاب السياسية المعارضة ما يلي: “موقف الشعب الكردي بكافة أطيافه، أليس أغلبه مع حزب العمال الكردستاني وأجنحته ومع التقسيم الوهمي؟” فتنهال عليه اللايكات من رفاق حزبه الذي يرفعون شعار “الحزب الحديث”.
بالعودة إلى درعا، فإن الحلول السحرية واوهامها تضربان من جديد في صفوف جزء من معارضة لا يزال الغيب والسحر يفعلان فعلهما فيها، وإن ادعت علمانية ما. لا مكان للتفكير والبحث والتحليل والمراجعة لفهم المآلات الراهنة وما لحق بسوريا من تحولات تبدو أقرب إلى الجيولوجيا وانزياح القارات منها إلى التفسير السياسوي لوحده فقط. الرهان على ثورة بالشكل الذي عرفناه عام 2011 استناداً إلى ما حصل في درعا البلد قبل أيام يشير إلى استسهال ما بعده استسهال، وإلى أن ما جرى لم يكن درساً لخلق آليات جديدة في العمل السياسي وفي التفكير لالتقاط لحظة يمكن أن تأتي وتتيح ممكنات جديدة. الحديث عن هذه اللحظة ليس ضرباً من ضروب الوهم وقراءة الكف كما تفعل عرّافات الغجر وعرّافو المعارضة السورية، إنما هي رؤية تنطلق من أن سوريا القديمة قد انتهت ولن تعود (هذا أمر يبعث على الاحتفال بالمناسبة)، لكن سوريا الثورة كما عرفناها في البدايات لن تكون ممكنة أيضاً. هذا استعصاء، والاستعصاء قد يُكسر في لحظة ليتيح ممكنات جديدة ربما سيتم التعامل معها بنفس الطريقة والأدوات. قليل من الشجاعة في إعلان الهزيمة لا يضر. بالعكس، ربما كان الإنكار عائقاً أمام التقاط البدايات الممكنة.
ثمة صنم في سوريا، يبقى سحقه حجرياً وبيولوجياً شرطاً لازماً وغير كاف لسوريا جديدة بغض النظر عن الإمكانيات اليوم، وهذا استعصاء آخر. لكن ثمة أصناماً أخرى لدى المعارضة- المعارضات هي أصنام اللغة، أصنام العمل والتفكير، أصنام الالتفاف على المركّب الأهلي المنبعث من الرماد بزجليات الوحدة الوطنية. أصنام “الثورة السورية المستمرة”. الوطنية صنم آخر يشكل مهرباً لمن تضج نفسه بتناقضات الهوية الاولى، مناطقية او عشائرية او طائفية في تعاطيها ورفضها للآخرين. قتل الأب؟ تبديل الجلد إلى جلد آخر؟ ليس بالضرورة، وهو ليس الهدف. فقط قليل من الانسجام مع النفس واحترام الذات وعقول الآخرين والتعاطي مع المشهد المستجد كبداية واستمرار في آن معاً دون أوهام وخواتم خلاصية.
السودان يغلي، وبوتفليقة يؤجل الانتخابات وينصاع للشارع. ثمة مقدمات أخرى مختلفة عن لحظة البوعزيزي بالطبع، لكن ما كان لها أن تكون اليوم من دون تلك اللحظة. واستطراداً، ثمة احتمالات سوريا أخرى تبقى مرهونة بـ”الخارج” وهو ما قد يتيح موضوعياً إطلاق عجلة ما في الداخل والخارج السورييَن معاً من دون الوقوع في الحتميات، ومن دون ترقب النهايات السعيدة كما ترد في حكايا الجدّات قبل النوم. ثماني سنوات على الثورة السورية. يا لها من سوريا!
في ذكرى الثورة السورية/ حيّان جابر
سبقت الثورة السورية مرحلة مهمة، لا بد من العودة إليها من أجل تحليل طبيعة عمل المعارضة الداخلية في حينه، وطبيعة التفاعل الشعبي معها، بغرض تبيان تأثير ودور هذه المرحلة التي اتسمت بتقييدات أمنية هائلة، تحاصر جميع الأنشطة السياسية والاجتماعية والثقافية، ذات الطابع المعارض، أو المختلف، والمغاير لما يروجه النظام الحاكم. إذ يمكن وصف جميع المحاولات الاحتجاجية المعارضة في تلك المرحلة بالخلاقة، وإن كانت أهدافها المعلنة محدّدة، وسيلة للتحايل على قبضة النظام الأمنية؛ مثل النضال من أجل حقوق المرأة والطفل، وحقوق الأكراد السياسية والثقافية، حرية الإعلام والتعبير والعمل السياسي، معارضة الانفتاح الاقتصادي المتسارع في ظل حكم الأسد الابن، والتحذير من تبعاته الكارثية على المجتمع والاقتصاد السوريين، المطالبة برفع حالة الطوارئ، فصل السلطات، وقضايا تفصيلية يومية وقانونية وسياسية أساسية كانت بمثابة إعلانٍ عن رفض مجمل سياسات السلطة الحاكمة وتوجهاتها، وتحميلها كامل مسؤولية الانهيار الاقتصادي والثقافي والسياسي.
لكنها ظلت مطالب فئوية صغيرة ونخبوية عموما، على الرغم من أهميتها، بسبب قيود ووحشية النظام التي قطعت جميع سبل التواصل مع الشعب، عبر البيانات أو المحاضرات أو الإعلام، وهو ما حدّ من توسع رقعة الاحتجاجات أو الأنشطة المرافقة؛ التي كانت تشهد حضورا أمنيا كثيفا، يفوق أعداد المحتجين بأكثر من ثلاثة أضعاف، كما أدى إلى تذييل العرائض الاحتجاجية بالأسماء نفسها مهما كانت القضية؛ نسوية، كردية،…إلخ، حتى أصبحت أسماؤهم معلومةً ومحفوظةً لدى جميع الفروع الأمنية. وبالتالي، تطلبت معارضة النظام السوري، في تلك المرحلة، شجاعة كبيرة والجرأة على الإشهار، وعزيمة وإصرارا من أجل المعرفة والبحث العلمي في أسباب التخلف والدمار والاستبداد، وصبرا وتحمّلا لتجاوزات القوى الأمنية، وتدخلاتها السافرة في جميع تفاصيل الحياة اليومية، من العمل إلى السفر، وأحيانا حتى الزواج؛ طبعا إذا ما استثنينا الاعتقال والإهانة والضرب، وتبعات النبذ الاجتماعي نتيجة تخوف المجتمع من تحمل تبعات التعامل مع المعارضين، ونتيجة نجاح النظام في حرف وعي المجتمع، وتصوير المعارضين له عملاء للخارج، أو مهووسين بحب الظهور والاختلاف والاعتراض الأجوف والعبثي.
وعليه، اتسمت المعارضة، قبل الثورة، بالندّية والعلنية، على الرغم من محدودية أعدادها، لأنها كانت صرخات ترفض الاستسلام، وتسعى إلى بث بذور الخوف داخل قلب النظام، وتحاول الحفاظ على الأمل بغد مشرقٍ ومختلف، كان يراه بعضهم عبر التدخل الخارجي؛ وهم ممن اندفعوا سريعا بعد الثورة إلى استجدائه، واللهاث خلفه، وترويج حتميته، واستحالة التغيير من دونه، وإشاعة الأخبار التي يعتقدون أنها تمهد الطريق لحدوثه. كما لم يخل الوسط المعارض من بعض الدخلاء من أصحاب الأجندات الخاصة الذين يتربصون أي تغييرٍ في العلاقات الدولية، أو في داخل النظام، يؤهلهم لتبوّء مناصب حكومية هامشية، ونيل حصة مقبولة من مكتسباته المادية الفاسدة، وهم ممن رفض الثورة، ودافع عن النظام، داعيا إلى إصلاحاتٍ شكليةٍ فقط، لا تمس العصابة الحاكمة، وفي مقدمتها شخص الرئيس. وهناك من كان يؤمن بالتغيير الشعبي، ويحلم به، ويعمل من أجله، وهم من أوائل المنضمين للثورة، والمنخرطين في غالبية فعالياتها ونشاطاتها، وهم ممن حاولوا التعبير عن صوت الشارع، وتسييس مطالبه، لذا خاضوا الثورة بجميع تفاصيلها.
لا يعنينا الآن التعمق في توجهات المعولين على الخارج، أو الساعين إلى مشاركة الأسد في حكم سورية، نظراً إلى حجم الكتابات والتحليلات الكبيرة والكثيرة التي تناولت هذه الفئات تحديداً، بقدر ما يعنينا تناول المجموعة الأخيرة من المجموعات المعارضة التي اعتادت على مواجهة النظام من الثورة، لأنهم من المؤمنين بقدرات الحركة الشعبية وإمكاناتها على التغيير، وهو ما دفعهم إلى الانخراط في الثورة منذ يومها الأول، بكل جرأة وحماسة وإخلاص. إذ حاولوا قولبة الثورة السورية، وفق تفاصيل الثورتين التونسية والمصرية، وخصوصا الأخيرة، معتقدين أنهم بذلك يخطون درب الانتصار السوري، فقد اعتقدوا، في حينه، أن إسقاط رأسي النظامين، التونسي والمصري، هو انتصار الثورة، وبأن الثورة السورية يجب أن تحاكي هاتين التجربتين حتى تتمكن من إسقاط الأسد. فغابت عنهم مفاهيم الدولة العميقة، وتأثير التباينات الشكلية والجوهرية بين بنية النظام الأسدي والنظام المصري، أو بين الخبرات السياسية والنضالية الشعبية السورية شبه المعدومة، وبين نظيرتها المصرية التي تمكّنت على وقع انتفاضة 1977 من انتزاع بعض المكتسبات النضالية، وإن كانت محدودة، وهو ما كان ينعكس في العمل النقابي، وحركة الإضرابات العمالية والطلابية والمهنية الدورية شبه الأسبوعية، إن لم نقل شبه اليومية.
لقد خبرت المعارضة السورية، عبر نضالها الطويل من خلال مواجهة آلة القمع والاستبداد الأسدية، حجم تماسك بنى النظام الأمنية والاقتصادية والسياسية وتداخلها، حتى يكاد يصعب الفصل بين أي منها، وهي نتيجة قناعة النظام بقدرته على أسر المجتمع السوري، وتكبيله سنوات عديدة مقبلة، لذا كانت الثورة بمثابة الصدمة والصفعة التي وضعته أمام خيارين، لا ثالث لهما، إما البقاء كتلة واحدة عبر تجاوز الثورة وهزيمتها، أو السقوط المدوي والنهائي. وعليه، لم يتمكّن النظام السوري من التحايل على الحركة الثورية، عبر إحداث تغييراتٍ تلامس مطالب الشارع، ولا تمس جوهر بنيته الحاكمة، كما حدث في مصر إبّان تنحّي حسني مبارك، بل كان صداماً مباشراً ودموياً عنيفاً، ولا هوادة فيه، في ظل دعم المجتمع الدولي وصمته عن هذا النظام.
وعليه، كان من الخطأ ترويج إمكانية خرق بنية النظام سريعا، عبر تنحّي الأسد، أو إبعاده على وقع الاحتجاجات الثورية، كما حدث في مصر؛ بدلاً من تأسيس حركةٍ ثوريةٍ طويلة الأمد، ومتشعبة ومتعددة الأقطاب، مستفيدين من قوة الزخم الشعبي، ومن وعيه الذي اكتسبه عبر ممارسته الحالية، تقوم على تعرية النظام وتفكيكه، وتحليل بنيته وعلاقاته، وأسباب تماسكه وأسباب وحدة مصيره، وتعزّز انخراط الناشطين والمثقفين الجذريين وتفاعلهم مع الحركة الشعبية ومطالبها، من أجل تطويرها أو تأطيرها، كي تصبح عماد برنامج الثورة السياسي الذي يحرّكها وينظم عملها، ويحميها من الانتهازيين والمتسلقين. وهو ما فشلنا جميعا في تحقيقه حتى الآن، لكننا ما زلنا مطالبين بذلك، تقديراً واحتراماً لتضحيات جميع السوريين الأحرار، والتزاما بأهدافنا وتطلعاتنا العادلة والمحقّة، وإكراما للأرض السورية، وإخلاصا للمواظبين على الخط الثوري الوطني والإنساني في درعا وإدلب ودمشق والسويداء، وسائر المدن والبلدات السورية المحتلة من قوى داخلية وخارجية.
أكراد سوريا وثورتها بعد ثماني سنوات… الجفاء وسوء الفهم الكبير/ رستم محمود
لم يشهد تاريخ سوريا الحديث “لحظة اندماجية”، سياسياً واجتماعياً، للأكراد السوريين مع الكُل الوطني السوري، مثلما حدث في الـ 20 من مايو (أيار) عام 2011، ذلك اليوم الذي سُمي من قِبل ناشطي الثورة السورية بـ “جُمعة آزادي”، وهي كلمة كُردية تعني الحُرية، إذ هتفت مئات التظاهرات في جميع أنحاء البلاد بتلك العبارة، وبادلهم الأكراد السوريون بالخروج بتظاهرات في مُختلف المُدن ذات الأغلبية الكُردية.
“الشعب يُريد اسقاط النِظام”
وكان ذلك اليوم مفصلياً في تحديد خيار الأكراد السوريين من الاستقطاب الذي كان يُهمين على البلاد، إذ قررت الغالبية المُطلقة من الكُرد السوريين، سياسياً واجتماعياً، بأنهم في دفة الثورة السورية، وأنه ثمة فضاء عمومي سياسي واجتماعي وروحي يجمعهم مع باقي السوريين، وبالذات في الخيار الأكثر جذرية…. “الشعب يُريد اسقاط النِظام”.
مضت ثماني سنوات تقريباً على ذلك اليوم، تبدل خلالها الكثير من الملامح التي تربط الأكراد السوريين بالفضاء العام السوري، السياسي والاجتماعي بالذات، إذ تستشعر الأغلبية العُظمى من الأكراد السوريين راهناً بأن المسألة الكردية في سوريا، بالذات في ما يتعلق بحق الاعتراف الدستوري والشراكة الوطنية المتساوية مع العرب في كامل البِلاد، بدأ من التسمية الرسمية والنشيد الوطني، وحتى حق الاعتراف بحق الأكراد في إدارة مناطقهم، مروراً بحق اعتبار اللغة الكُردية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية في البِلاد، بأنها ليست قضية جوهرية بالنسبة لعموم الطيف السياسي السوري، المُعارض والموالي منه على حدٍ سواء.
“الخذلان”
كذلك فإن القواعد الاجتماعية الكُردية تستبطن احساساً عميقاً بـ “الخُذلان” من قِبل قوى المُعارضة السورية، متأت من مواقفها المُطابقة لموقف تُركيا من الأكراد السوريين، وليس من القوى السياسية الكُردية السورية.
ويستدل الأكراد إلى ما جرى ويجري في منطقة عفرين في مراكمتهم لذلك الشعور، إذ يشاهدون يومياً العشرات من الانتهاكات المُريعة التي تحدث بحق الأكراد في عفرين، وخصوصاً المدنيين المُستسلمين لسُلطة الأمر الواقع لفصائل المُعارضة السورية، التي تتلقى دعماً عسكرياً وسياسياً وإيديولوجياً من تركيا.
النظام أمر واقع
بين هذين الأمرين، فإن الأكراد السوريين صاروا بأغلبيتهم يعتقدون بأن النِظام السوري بات أمراً واقعاً، وأن مسألة اسقاطه استعصت على أقوى الدول الإقليمية والدولية، التي بدلت موقفها من مسألة اسقاطه، وحتى في ما يتعلق بالكثير من الشخصيات والقوى السورية المعارضة، التي أعادت ترتيب أوراقها وتآلفها مع النِظام السوري.
وبالتالي فإن الاعتقاد بأنه ليس على القوى السياسية الكُردية أن تكون صلبة في موقفها وتعاطيها مع النِظام السوري، بالدرجة نفسها التي تتعاطى وتتعامل بها مع قوى المُعارضة السورية، إذ إن القطيعة من أي من الطرفين تضر بالطرف الأضعف، أي الأكراد أنفسهم.
عوامل سياسية واجتماعية
كان ثمة جملة من العوامل السياسية والاجتماعية الموضوعية التي سبقت وترافقت مع السنة الأولى من الثورة السورية، أدت لأن يعيش الأكراد السوريون ذروة حالتهم الاندماجية مع الكل السوري أثناء الأشهر الأولى من الثورة، بالضبط مثلما كانت ثمة عوامل موضوعية أخرى خلقت الجفاء وسوء الفهم بين الأكراد وفضاء المنخرطين في الثورة السورية.
طوال عهد حكم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، كان الاستبداد السياسي الذي يُمارس على عموم المجتمع السوري، يُضاف إلى الكثير من القمع الثقافي والاقتصادي بالنسبة للأكراد، وفي تفصيل حرمان مئات الآلاف منهم من حق التمتع بالجنسية السورية، فإنه كان ثمة قهر شبه مطلق.
مناخات القمع
تراكمت مناخات القمع بحق الأكراد لعقود، إلى أن تفجرت في أحداث انتفاضة القامشلي الشهيرة في ربيع عام 2004، وكانت بمثابة استراتيجية مسبقة من قبل النظام السوري لكبح أي جموح كردي سوري، مرافق لحالة النهوض الكردي في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003، إذ كان النظام السوري يستشعر بأن الأكراد السوريين هم الجماعة السورية الوحيدة التي تملك تآلفاً داخلياً صلباً، وضمن مجتمعهم الداخلي ثمة العشرات من التنظيمات السياسية التي يستحال تفكيكها، ويحصلون على دعم ومؤازرة من نظرائهم الأكراد من خارج الحدود، خصوصاً من أكراد العراق.
قطيعة سياسية
اعتباراً من ذلك الوقت، حدثت قطيعة سياسية بين الطرفين، صار النظام السوري يعتبر الأكراد تحديه الداخلي الأكثر صعوبة، وطوال الأعوام 2004-2011 كان الأكراد السوريون جزءاً من الحياة السياسية السورية المعارضة، فقد ساهموا في تأسيس إعلان دمشق المعارض، وكانوا في قيادة المجلس الوطني السوري المعارض، وشارك الشبان بكثافة في التحركات المعارضة، ولا سيما في التظاهرات التي كانت تجري في مدينتي دمشق وحلب وبعض المدن والبلدات الكُردية.
في المقابل، فإن قوى المعارضة كانت تتبنى وتدرج لأول مرة المسألة الكردية ضمن أدبياتها وخطاباتها السياسية، بكثير من الإيجابية، بالضبط كما كان النظام السوري يزيد من ضغوطه الاقتصادية والسياسية على الأكراد السوريين.
كانت الثورة السورية في سنتها الأولى تتويجاً لذلك التآلف بين الأكراد السوريين وباقي التكوينات السورية، من موقع اعتبار النظام السوري المسبب الأساسي لأحوالهم وسوء الفهم العميق الذي يشكل علاقتهم مع باقي السوريين.
حالة الجفاء
في المقابل، واعتباراً من السنة الثانية من عمر النظام السوري، كان ثمة ثلاثة عوامل موضوعية أخلّت بذلك التآلف، إلى أن خلقت حالة الجفاء الراهنة للأكراد مع الطيف الاجتماعي والسياسي الأعم لقوى المعارضة السورية.
فقد نجحت استراتيجية النِظام السوري بعقد الصفقة المعروفة مع حزب العمال الكردستاني وجناحه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي، فهذا الطرف الكردي، وبفضل ما جرى تسلميه من مناطق وقطاعات من قبل النظام السوري، استطاع تهميش وقمع باقي القوى السياسية الكردية السورية، ولا سيما تلك التي كانت تناهض النظام السوري، من أحزاب المجلس الوطني الكردي السوري، التي يعود تأسيسها إلى خمسينات القرن المنصرم.
تبدل جوهري
ترافق ذلك التحول مع تبدل جوهري أصاب بنية المسألة السورية، إذ تغيرت من كونها مسألة داخلية بالغة الوضوح، تتعلق بموضوع حرية الشعب السوري وحقه في بناء نظامٍ ديمقراطي، إلى قضية إقليمية بالغة التعقيد، تداخلت فيها مصالح وتطلعات الدول الإقليمية، بالذات إيران وتركيا، مع الكثير من الشروخ التاريخية التي تربط مجتمعات المنطقة مع غيرها من المجتمعات خارج الحدود الكيانية لهذه الدول.
هكذا وجد الأكراد السوريون أنفسهم على تضاد تام مع كل القوى التي اختارت وقبلت بالاستراتيجية التركية تجاه سوريا، المعادية والمناهضة للحقوق الكردية في أية منطقة جغرافية من الإقليم، وبالتالي وجد الأكراد أنفسهم في الدفة المقابلة لدفة السواد الأعظم من قوى المعارضة السورية.
معاناة من تحول الثورة
وإلى ما سبق، فإن الأكراد السوريين عانوا بعمق من تحول الثورة من فعل سياسي سلمي مناهض لنظام قمعي إلى مجرد حرب أهلية، خصوصاً من قبل النظام السوري والفصائل الإسلامية المتطرفة، مغطاة بشيء من الخطابات المتضادة.
ووجد الأكراد السوريون أنفسهم في مواجهة نوعٍ من الغلبة السياسية الجديدة، وكان استيلاء تنظيمي غرباء الشام وجبهة النصرة على بلدة رأس العين في خريف عام 2012 مؤشراً أولياً على ذلك، ومر بالكثير من الأحداث المثيلة، إلى أن توج بما جرى في منطقة عفرين في ربيع عام 2018، إذ طوال عشرات المعارك كانت المواجهة بين وحدات حماية الشعب الكردية، وفصائل وتنظيمات تعتبر نفسها جزءاً من المعارضة السورية، ويُقدم لها الائتلاف السوري المعارض غطاء سياسياً، بتوجيه ورعاية تركيتين تامتين.
العقدة السورية
في شهر آب من العام 2013، وقّع الائتلاف السوري وثيقة تفاهم مع المجلس الوطني الكردي السوري، تحدد أهم ملامح علاقة الأكراد السوريين بالكل العام السوري، وتنص صراحة على حقوقهم العامة لهم في البلاد، وهي غير قابلة وخاضعة لتحولات الظروف السياسية التي قد تمر بها سوريا، راهناً ومُستقبلاً.
لكن يبدو أن بين تلك الاتفاقية وتنفيذها، الكثير من الظروف والمناخات والمعادلات المركبة والمعقدة، التي هي جزء من العقدة السورية الكلية.
المُزيّفون.. أنبياء فايسبوك والصورة الثوريّة/ عدنان نعوف
بعد سنوات من مراقبة الحَدَث السوري، ستكتشف سِمَات إضافية طبعتْ هذا الحدث، بينها قدرتهُ على إنتاج “ظواهر مدهشة” تجعلُكَ تتوهّم أنه المُحرّك لمخيّلة الأدباء والفنانين حول العالم، وأنه المَمرّ الإجباري الذي تَعبُرُ منه الشخصيات من الواقع إلى الخيال وبالعكس.
سيُخالجك هذا الشعور بالتأكيد إنْ تحقق شَرطان، أوّلهما: أن تكون مِمّن عايشوا “العمل الثوري” خارج سوريا (في تركيا أو دول اللجوء الأخرى). وثانيهما أن يقع بين يديك عمل فني أو أدبي ذو بُعد بوليسي كمسلسل “رأفت الهجان”، أو يتحدّث عن بلاد تعيش تحوّلات سياسيّة كالعراق في رواية “صخَب ونساء وكاتب مغمور”.
لا قواسم مشتركة بين هذين العملين سوى موضوع “الخداع”. فبينما بنى المسلسل الشهير أسطورة للعمل الجاسوسي وإتقان أساليب التماهي مع المحيط، فإن تلك الرواية قدّمتْ لنا شخصية “وليد” المخادع والدجال الذي يتفنّن في انتحال أكثر من صفة.
قد لا تسعفكَ الظروف لمعرفة “هجّان” سوري شكلاً أو فعلاً، لكنك بلا شكّ سترى وتسمع بنماذج تشبه “وليد”، ولن تقتصر أمثلتهُ الواقعيّة المحيطة بك على مجال الشعر والثقافة كما في الرواية، فالثورة أنتجت ْمنه نسخاً متنوعة في شتى المجالات.
وتتدّرج الأسباب والدوافع التي صنعت من هذه النسخ السوريّة مجموعة مُدّعين أو منتحلي صفات وأدوار، فهناك التكسّب والتعرّف على مَباهج الحياة المفقودة في سوريا الأسد، والحصول على تمويلات الداعمين، وصولاً إلى اختراق صفوف طرف لصالح آخر.
ناشطون وصحافيّون وقادة ورجال دين، افتُضح أمر بعضهم وعادوا إلى حقيقتهم، فيما استمرّ آخرون بتأدية أدوارهم في أكثر من موقع باستخدام تكتيكات متعدّدة.
هنا يَبرُز “محمد بايزيد” باعتباره المثال الأشهر، وهو وإنْ كان مُجرّد قمّة ظاهرة لجَبَل احتيال مُغطّى بمعظمه، فإن معاينة حالته (حين فبركَ محاولة اغتياله العام 2017 بزعم كونه مُستهدَفاً لإخراجه فيلماً يُدين نظام الأسد) تُساعد في فهم سلوك أقرانه المزيّفين في ميادين مختلفة، والذين اعتمدوا بالدرجة الأولى على سطوة السوشال ميديا، وإمكانيّة صناعة الوهم بسهولة تحت مظلّة “معارضة النظام”.
الأسوأ من كل ذلك هو مناخ التعاطي ثوريّاً مع حالات مشابهة من الإدّعاء والزيف، واعتبارها – ولو بشكل غير معلن – مُبرَّرة بدواعٍ أمنيّة، وبكونها تأتي في خدمة “القضية” (ما لم تكتمل عناصر الفضيحة فيها)! فعلى سبيل المثال عندما استقال “إسلام علوش” من مهامه كمتحدث باسم “جيش الإسلام” قبل نحو عامين، وأعلن عودته إلى اسمه الحقيقي “مجدي مصطفى نعمة”، لم يَخرُج أحد ليشُدّ طرف الخيط الذي كُشِف على أمل أن تَكرّ سُبحة الحقائق. كما لم يبحث الإعلام المعارض في مدى مصداقية شخص كان يمثّل واحدة من أعتى معاقل الثورة (الغوطة الشرقية) ويُطلِق تصريحاته من مكان ما في هذا العالم!؟ والأدهى أن نقاشاً لم يُطرح حول دَور “الأسلمة” بالإسم، و”التعليش” بالنَسَب، وتربية اللحية، ولبس البزة العسكرية، واستعمالها كـ “عدّة شغل” للتحدث باسم الثورة، وإسكات أي تساؤل عن نوايا وارتباطات المتنكّرين بها؟!
طبعاً وكما هو متوقّع ستأتي الإجابة من أطراف ثورية بأن “هؤلاء لا يمثلون الثورة”. وبِنَقلِ النقاش إلى ملعب “التمثيل” ومدى صحّته، نكون قد وصلنا إلى سِمَة وظاهرة أخرى ألا وهي “كهنة الثورة” الذين حوّلوها من حدَث ومرحلة إلى دِيْن.
ليس المقصود بهذا الوصف وجود هوية دينية معينة للثورة، بل شُيوع صِيغ تعامُل وأحكام تُحاكي ما يَسود أحياناً أيّ منظومة عقائدية. ولإدراك ذلك، ما عليك إلا أن تفضح ممارسات ثورية يُمنع عادةً الاقتراب منها أو التصوير، عندها سيَجري إقحامك في جَدَل لغوي وفكري لا يختلف عن الجدل حول “جنس الملائكة”، ليتم بعدها رسم صورة نقيّة لكائن روحاني اسمه “ثورة”، تمهيداً لِرَجم المُمارسة الخاطئة وتشريف الفكرة الصحيحة!
ومثلما يستشيط المتعصّبون من أتباع ديانة ما، إذا وَضعتَ دينهم في سياق تاريخي وفصَلْتَ بين المُجتمَعِي والسياسي والغيبي، فإنّ كهنة الثورة أيضاً -وإن تشتتوا وتناحروا- سيتفقون على اتهامك بـ”الرِدّة إلى حضن الأسد” والانضمام للثورة المضادة والاستعداد للتصالح مع النظام.
“حِراك شعبي سلمي، فثورة مسلّحة غير مُخترَقة، فكيانات فصائلية وأسلَمَة شبه كاملة، فمَظَاهر ثورية في بلدان اللجوء تخضع لمزاج وتوجهات المموّل (وإنْ حاول بعضها حلحلة القَيد قليلاً)”. هذا التسلسل ربما يُقرّ به معارضون من “أنبياء الفايسبوك والصورة” الذين جلسوا سابقاً أو يجلسون حالياً خلف شاشة كمبيوتر أو أمام كاميرا. لكنّه يظلّ بالنسبة إليهم إطاراً نظرياً لا يلغي إيمانهم بأنهم امتداد للصرخة الأولى للثورة! مع أن تلك الصرخة باتت بعيدة، وتشكّل خلفيّة صوتية للأجواء الثورية المفتعلة، وما بقيَ اليوم هو ظواهر تفسرّها طبيعة المرحلة وظروفها الشبيهة نسبيّاً بما عاشته مناطق نزاع أخرى، والتي أدت لظهور كائنات دراميّة تمتاز بالزّيف العابر للأزمنة والأمكنة.
“كي لا ننسى” هي العبارة النوستالجيّة التي تُستعاد مع طيّ عام جديد من عُمر الثورة السورية. لكن، وبمرور ثماني سنوات، فإنه لم يَعُد يكفي إحياء ذكرى الملامح النقيّة كمظاهرات حمص وصوت القاشوش وبطولات أبو الفرات، ولا التغنّي بالاحتجاجات الجديدة في درعا رفضاً لإعادة تمثال حافظ الأسد، واعتبارها امتداداً للزمن الجميل. ينبغي بَعدَ كلّ ما جرى أن يُضاء على وجوه غير مُشرِقة لا يشفع لها الجهل والعَماء (إن وُجِد)، ولا يبرّر لها صوت معركة سياسيّة أو عسكريّة أو قانونية أو أخلاقيّة “لا يعلو فوقها صوت”. فتلك الذريعة هي التي أطالت بقاء نظام الأسد بكل عفونته أمام إسرائيل، واليوم تستمرّ أسماء وجِهات عدّة بامتطاء القضية السورية بذريعة المواجهة مع العدو الأسدي، مع أنهم تقاعدوا فعلياً حتى عن إصدار البيانات المندّدة!
مِنَ المتعذّر والمستحيل استرجاع ما نهَبهُ “ثوّار” و”شيوخ” و”قادة” و”سياسيون” من مكاسب ماديّة باسم “الحرية والكرامة و..”. لكن ليس صعباً أن تُسترجَع الشعارات التي سرقوها، على الأقل، لِتُوضَعَ في مكانها الصحيح من التاريخ، ويَتمّ طيّ صفحة إقامة “المجالس” و”الإمارات” وصناعة الكيانات النفعيّة والشخصيات الوهميّة، وفتحُ صفحة ثوريّة جديدة تخاطب سوريّي الداخل والخارج من صميم واقعهم.
الثورة والعقاب!/ عبد الرحمن مطر
أبواب الجحيم مشرعة للسوريين، تطالهم ألسنة لهبٍ ما زالت تصْليهم منذ سنوات ثماني، لم يتوقف فيها القتل يومًا. جحيم تكالبت فيه حكومات العالم قاطبة، والأمم الصامتة الخاضعة لها، على السوريين لأنهم تمردوا على الاستبداد. ولأن الطغاة سادة الأرض بما حملت، أرادوا للثورة السورية أن تُخنق، وعملوا بجهدٍ وجد غير معهودين في المنطقة، من أجل أن تُطوى صفحات الربيع العربي، وأن تغلق الدروب والمسارب أمام تحقيق الغايات التي خرجت من أجلها الجموع إلى الشوارع.
لقد جربت القوى المناهضة للثورة السورية، منذ البدء، سياسات الحل الأمني ومن ثم استخدمت السلاح، بأنواعه الفتاكة المحرّمة، لتحول دون إسقاط الاستبداد، لكنها –على الرغم من المحن والهزائم- لم تستطع وأد الثورة السورية. ومع أن البلاد آلت في معظمها إلى خراب ويباب، فإن رياح الربيع هبت من جديد، لتمنح الثورة السورية ألقًا وأملًا جديدين، ينبعان من عمق المرارة والمعاناة.
ومع حلول الذكرى الثامنة لانتفاضة السوريين (15-18 آذار/ مارس 2011) يتعرض المدنيون، كما هي الحال منذ سنوات، لهجمات عسكرية جوية منظمة من قبل النظام الأسدي، في ريفي إدلب وحماة، منذ أيام، بدعم لوجستي مباشر من القوات الروسية وإيران، تُستخدم فيها أسلحة محرّمة دوليًا هي القنابل الفوسفورية والعنقودية، هذا من حيث العمليات العسكرية المباشرة التي لم تتوقف على الإطلاق، لكن ارتفاع مستوى الهجمات، من حيث شدة المواد المتفجرة المستخدمة، ومن حيث كثافتها وانتظامها كعمليات عسكرية واسعة وشاملة ضد المنطقة، يشير إلى أن روسيا وإيران قد قررتا المضي قدمًا في اختراق كل الاتفاقات التي تم التوصل إليها سابقًا عبر الطرف التركي، كضامن لوقف تصعيد العمليات العسكرية، في منطقة إدلب على وجه الخصوص.
يأتي ذلك في تطور لافت، بعد انتهاء الاجتماع التركي الروسي الأخير، بشأن تسيير الدوريات المشتركة، وهو الذي لم ترشح عنه معلومات تؤكد التوصل إلى حلول للمسائل الأمنية العالقة بينهما، في سياق أستانا وخاصة اتفاق سوتشي. كما أنه يأتي بعد أيام على استدعاء طهران لرأس النظام السوري. هذه المؤشرات تدل على عمق الإشكالات التي تحول دون التوصل إلى تفاهم نهائي بين أنقرة وموسكو، والسبب هو استمرار روسيا في محاولة فرض استراتيجيتها المتعلقة باستعادة السيطرة على جميع المناطق، وأن أستانا ليست سوى تكتيك لخدمة تلك الاستراتيجية.
مع مرور الوقت، ينفد صبر موسكو، التي تبدو في عجلة من أمرها، كما هي العادة، لقطف ثمار أي تطور سياسي وأمني في المنطقة يحقق مصالحها، خاصة أن هناك معلومات تتواتر اليوم، عن استخدام روسيا لنوع جديد مطوّر من القنابل الفوسفورية، يتمّ تجريبه في إدلب، كما جُرّبت من قبلُ أسلحة أخرى، منذ أيلول/ سبتمبر 2015، اعترف بها قادة عسكريون روس قبل نحو عامين، وأكدها وزير الدفاع الروسي شويغو، الاثنين الماضي، بالقول: “إن روسيا اختبرت 316 نموذجًا من الأسلحة الحديثة، في سورية”.
يتم ذلك في انتهاك لا لبس فيه للقوانين الدولية، والاتفاقات ذات الصلة، وهي اتفاقات توجب المحاسبة الدولية. لكن نظام الأسد لم يُحاسَب عن أي جريمة مماثلة، حتى اليوم، وهو يستند إلى دعم قوي في مجلس الأمن من قبل روسيا والصين، وإلى استخدام الولايات المتحدة أيضًا لهذا السلاح في سورية والعراق.
ووفقًا للمادة الثالثة من اتفاقية جنيف، يُحظر استخدام الأسلحة الحارقة ضد الأهداف المدنية، كما يحد البرتوكول الخاص بالفوسفور الأبيض من استخدام تلك الأنواع ضد الأهداف العسكرية المتاخمة لمواقع المدنيين.
في واقع الأمر، ثمة إحالات أخرى، فقد استخدمت واشنطن الفوسفور الأبيض والقنابل العنقودية، قبل أيام، ضد بقايا (داعش) المتحصنة في قرية الباغوز، على الحدود السورية – العراقية، كما أن الولايات المتحدة لم تجرّم -رسميًا- جرائم القوات الروسية التي تستهدف المدنيين، بدعاوى محاربة التطرف والإرهاب (جبهة النصرة مثالًا). ولم يتضمن حديث المبعوث الأميركي الخاص بشأن سورية جيمس جيفري، مؤخرًا، أي إشارة إلى الدور التخريبي العدواني والهدام الذي تقوم به روسيا، وتهدف من خلاله إلى تقويض أي تسوية سلمية ممكنة، ومن ضمن ذلك مسار جنيف التفاوضي، وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. ويبدو أن هناك ملامح مرحلة جديدة، بشأن الشمال السوري، بين تركيا وروسيا، تقف الولايات المتحدة منها موقف المتفرج المؤجج، في ظل عدم وضوح حقائق “الاستراتيجية السرية” للبيت الأبيض بشأن سورية.
ثمة ملمح آخر يمكننا الإشارة إليه، في صدد ذكرى انطلاقة الثورة السورية، وهو تزامنها هذه المرة مع انتفاضتين مهمتين في العالم العربي: السودان والجزائر، وهما بَلدان تربطهما علاقات وثيقة مع النظام الأسدي، ما يعني تجدد روح الربيع العربي، وأن التوعّد بأن ما يحدث في سورية يمكن أن يصيب أي شعبٍ يفكر في التمرد على مستبديه، لا يمكن أن يشكل رادعًا ضد إرادة الجماهير والشعوب التي تنتفض من عمق القهر، خاصة أن انتفاضة الشارع الجزائري أربكت نظام بوتفليقة، إلى درجة الإعلان عن وقف المضي بـ “العهدة الخامسة”.
وبانتظار تطورات ما يحدث في الجزائر، فإن ما يجري اليوم في شمال سورية يأخذ صبغة مواصلة إنزال العقاب الأشد بالثورة السورية، لأنها كسرت حاجز الصمت والخوف معًا. ولذلك فإن إحراق إدلب وريف حماة الشمالي بالفوسفور الأبيض، بمثل هذه الصورة، وهو تأكيد من النظام الفاشي الأسدي وحلفائه المجرمين في موسكو وطهران، على الاستمرار في الانتقام من السوريين، بأشد الأسلحة حرقًا وقتلًا وتدميرًا، بصورة لم نشهدها من قبل.
ومع التضحيات الكبيرة التي تتعاظم، في سورية، فإن خروج موجة جديدة من الربيع العربي يعني أن طوفان الشعوب لا يمكن وقفه، أو السيطرة عليه وإخماد جذوته، وأن الاستبداد سوف يسقط لا محالة!
كانت ضرورة.. وما زالت/ باسل العودات
طوت الثورة السورية ثمانية أعوام من الآلام، طغى فيها خيار النظام العسكري -بآلاته وأدواته- على كل خيار، مخلفًا مآسي وكوارث لا حصر لها، حيث ارتكب الجرائم والمجازر، وأشبع غريزة التدمير لديه ولدى أتباعه، وقتلَ نحو مليون من السوريين، وخلّفَ ضعفهم من الأيتام، وآلافًا مؤلّفة من الأرامل والمعتقلين والمنكوبين والمكلومين، ونشَر الفوضى “غير الخلاقة”، وشارك التنظيمات الإرهابية في جرائمها، وأثبت أن إرهاب الدولة أكبر من أي إرهاب، وأن خسّة الدكتاتور أدنى من أي خسّة.
ثماني سنوات هيمن خلالها الروسي، بما يشبه الاحتلال، على القرار العسكري والسياسي السوري، وانتشرت الميليشيات الإيرانية كالسرطان، وانتُهكت السيادة الوطنية، وعمّ الفساد والإجرام، وانهار الاقتصاد وتفككت المنظومات التعليمية والصحية والقضائية، وظهر انقسام السوريين إلى طوائف وعشائر وجماعات، ودُمّرت الروابط الاجتماعية بين الجميع.
ثماني سنوات، احتقر فيها النظام كلَّ المبادرات والاقتراحات المحلية والعربية والإقليمية والدولية وعطّلها، احتال وخاتل وناور، وزوّر الواقع والوقائع، ومارس احتيالًا سياسيًا غير أخلاقي، وفتح صندوق (باندورا) لتخرج كل الشرور المخبأة، وتُعمي الأبصار وتفني الديار.
ثماني سنوات طاحنة لم تنجح في تغيير أسلوب النظام وقناعاته، ولم تدفعه إلى إعادة حساباته، أو توقظه من غفلته الأبدية، أو تُقنعه بضرورة ترجيح كفة المنطق والعقل، على كفة جنون القوة ووهم العظمة والنرجسية، ولم يُدرك أنه بات يحكم أطلال دولة.
النظام السوري اليوم، هو نفسه النظام السوري في آذار 2011، وهو نفسه النظام السوري في آذار 1963، لم يتغير ولم يتبدّل، غيّر التكتيكات والأقنعة والوسائل والآليات، لكنّه ما يزال نظامًا دكتاتوريًا شموليًا أمنيًا قمعيًا طائفيًا تمييزيًا فاسدًا، لا يصلح للحكم والسياسة، ظل يتعامل مع سورية كسلعة أو سبيّة أو غنيمة حرب، كمزرعة له ولأزلامه، لا يعرف معنى الحرية والكرامة والأمانة والشرف، ولا يفقه معنى التشاركية والتعددية والديمقراطية والتداولية، ولن يعرف.
منذ ثماني سنوات، بل منذ 56 سنة، يعيش السوريون في دولة اللاقانون، ودولة الدساتير الفضيحة، تحت وطأة وإجرام الأجهزة الأمنية الطائفية المنفلتة، وتحت هيمنة المافيا العائلية التي نهبت ثروات الدولة، في حضن النظام الأكثر فسادًا وتآمرًا، صاحب أسوأ سجلات على مستوى العالم، أسوأ السيئين الذي لا يُقوّم اعوجاجه، تمامًا كذنب الكلب.
ليس ذنب الشعب السوري أنه ثار ضد نظام فاسد مجرم، وليس ذنبه أن النظام دمّر البلد ليقضي على ثورة هددت عرشه ومستقبله، وليس ذنبه أن النظام ارتضى بالهوان المطلق والتآمر المطلق.
كانت الثورة ضرورة، وحملت آمال السوريين وأحلامهم، وعلى الرغم من قسوة مآلات جولتها الأولى، ما زالت ضرورة، وما زالت هي الوسيلة الوحيدة لكنس 56 سنة من الهوان والفساد والعنف والطائفية، ولا بد من أن تشرق الشمس، مهما طال الظلام.
الحقوق التي التهمتها الحرب/ هوازن خداج
قتل يتلوه قتل، شتات وتهجير، دمار وحصار وجوع، فوضى دول وكيانات وأسلحة، استشراء كاسح للفساد، تجاوزات وانتهاكات بحق الدولة والشعب.. هذه الصور التي عششت في أذهان السوريين، طاوية البداية كأنها لم تكن سوى حلم وأمنية؛ فالمرحلة التي عاشها السوريون ما بين عامي 2011 و2019 من أهوال، بعد أن أُدخلوا قسرًا في مرجل الحرب والاقتتال بين الفصائل المتنوّعة، ما عاد ممكنًا اختزالها وتصنيفها بتواريخ محدّدة. وكان عام 2012 بدايةً لتعثّر المسارات والتوجّه نحو العسكرة والأسلمة، شكّلت حتى يومنا هذا مرحلة متكاملة من الفشل والانحدار، بعضه انعكاس للماضي ومتابعة له، وبعضه أسّسته مرحلة الدمار والتدمير.
خلال المخاض العسير، سقط الإجماع على الحراك بوصفه حراكًا شعبيًا، وتشتتت القوى التي نادت بسلمية الثورة ورفضت الانتقال للتسلّح، ولم يعد الأمر متعلقًا بصميم ما سعى له طيف واسع من السوريين، ورفعوه كشعارات ذات طبيعة قيمية، مثل المطالبة بالحرّيات والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وغيرها، بل تعلّق بتداعيات الأحداث وإدارتها. حيث إن التطييف الذي استخدمته السلطة للاحتفاظ بالهيمنة، استُكمل بمسارات العنف والفوضى التي اختلطت فيها القوات النظامية بالجماعات السياسية المسلّحة، ليصير للسلاح ثقله ووزنه في إدارة الحسابات، على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي. والميليشيات المذهبية التي تحوّلت إلى قوى إقليمية عابرة للحدود، استُكملت بميليشيات التطرّف والملل وتصفية الحسابات، وأُضيف إليها مشروع السلطة الإلهية و”نصرة الدين” الذي بزغ مع نجم الجهاديين، سواء تنظيم القاعدة أو ربيباته تنظيم “داعش وجبهة النصرة” وغيرهما، التي تهدف إلى تشكيل العالم عبر مزج المطلق بالنسبي، وربط السلطة الدنيوية بالدين، بطريقة لا يختلف فيها من يستند إلى الشريعة و”حاكمية الله” أو يجعل “الولي الفقيه” سمة الحاكم. بالحالتَين يتحول النسبي إلى مطلق، والحقيقة العابرة إلى حقيقة أبدية تقود فكرها، وتفتح نيران حربها ودمارها “المقدّس” لتُنجز تراجيديا متفجّرة متناثرة بنهايات مفتوحة.
حصاد السنوات الفائتة كان جحيميًا، فسورية بلدُ القتل تصدّرت نشرات الموت والعنف، أما القلق والأسف الدوليين فإنهما لم يقدّما سوى إسعافات أولية على شكل غارات تقتل الجميع من دون رحمة. فحماية المدنيين التي خُصّص لها 140 مادة في القانون الدولي الإنساني، لم تخرج يومًا من كونها حبرًا على ورق، فمجمل التقارير الدولية تذكر أن المدنيين كانوا الضحايا لكافة الحروب عبر التاريخ. والحرب السورية التي دخلت مجال انفعالات الدول في حربها على الإرهاب “الديني” ومعضلاته، غيّبت معطيات السلام وإمكاناته، وزادت من الرهانات الخاسرة على جنود وجيوش تحرق الأرض، وعلى أساطيل جوية وبحرية لدول تتصارع ثم تتصالح لتتقاسم المصالح، يجمعها على الأرض قتالُ السوريين، مع مبررات متغيّرة حسب الظرف والمعطيات، وفي بازارات التفاوض يجمعها هدف وقف القتال بين السوريين.
المتغيّرات التي شهدتها سورية كان أسوأ ما فيها إلقاء اللوم على الشعب، فهو المهدور دمه على قارعة المخاطر المختلفة، الأمنية والاقتصادية، وعلى عتبات الفشل بإيجاد حلولٍ، تصون الحياة وتعيد قيم الحرية والعدالة. الأمر الذي دفع الناس إلى تفضيل الاستقرار على الحرية والتغيير، بعد أن ابتلعهما العنف. لتستعيد فكرة الأمن والنظام حضورها وشرعيتها، في أذهان الخائفين من المدّ الجهادي وغيره من مشاريع التجزئة، التي أفرزت مزيدًا من التفاعلات السلبية أمنيًا وسياسيًا.
مع بداية السنة التاسعة؛ تعلو الأسئلة أكثر من الإجابات، فكلّ ما يُحاك لا يشكّل إجابة كافية ووافية لسؤال: ماذا بعد؟ ماذا بعد الاتفاق على إزالة آخر جزمة إيرانية؟ وماذا بعد (داعش) ونهايتها؟ وماذا عن مشاريع الدول الأخرى، كروسيا وتركيا وأميركا؟ والأهم من كل هذا: ماذا عن الحقوق المهدورة لشعب ضحّى كلّ هذه التضحيات؟ وكيف ستُعاد إليه حقوقه مع هذه الثياب الهشّة التي يحيكها المجتمع الدولي بماكينة التفاهمات الدولية والإقليمية.
خروج الجزمة الإيرانية الذي تحوّل إلى إجماع أميركي وروسي وعربي و”إسرائيلي”، على ضرورته، لا يلغي الفالق المذهبي والشرخ الذي أصاب البنية المجتمعية، وقد دُفعت أثمانه في سورية ولن ينتهي عندها. فالعنوان المذهبي سيبقى حاضرًا في المواجهات الجارية على مستوى المنطقة، والعدّة المذهبية، سواء في التعبئة أو في العناوين المقدّسة المعتمدة في هذه المواجهة، متوفرة لدى الطرفين، لتطرح مخاوف لا تقتصر على المجتمعات التي تتشظى بسبب الوجود الإيراني.
ونهاية (داعش) كحتمية لا جدل عليها، بعد أن فقدت عامل الجذب والاستقطاب، و”تبخّر” بعض فلول مقاتليها وبينهم زعيمها، وتحوّل بعضهم الآخر إلى بازار بين الإدارة الأميركية والبلدان الأوروبية، لن تلغي تبعات ما أسّسته من لحظة فارقة لدى شعوب المنطقة، فنهاية “دولة الخلافة” لن تنهي ما تمّ غرسه من فكر، لمن يصنّفون العالمَ ضمن ثنائية “المؤمن والكافر”. وستبقى مشاريع الدول هي المتحكّم في حروب قادمة أو في استنزاف مستقبل بلد وأجياله.
أما تلك الحقوق التي ابتلعتها الحرب ووحوشها، فقد علّقها المهتمون بأمر تحقيق السلم مؤخرًا، على حبر دستور قيد التفصيل. متجاهلين الخلل الحاصل الذي أَلّفه وسَوَّقه النظام، بتضييعه الفرق بين “الدولة والسلطة” الأولى، كناتج تاريخي للوعي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، لشعب فوق أرض يحدده الإطار الدستوري، والثانية ككيان عابر، يستمدّ شرعيته من الكيان التاريخي “الدولة”. فمن عاش على أرض سورية يدرك معنى ضياع الدولة تحت جلباب السلطة، وكيف تتحوّل السلطة من سلطة دستور وقانون، إلى سلطة أفراد ومستبدّين وطغاة لتكون سلطة فوق الدولة.
ما حدث في سورية، قبل تسع سنوات، من محاولة للتغلّب على جملة من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدّمتها إزاحة الاستبداد السياسي، والتأريخ لمرحلة جديدة، ابتلعته الحرب التي صنعت مشهدًا واحدًا للدمار بفصول متعددة وأياد مختلفة. وصار يحتاج إلى بحث آخر عن حلول لما تمّ تأسيسه من قيم الاستلاب والإلغاء والرعب، ومنهج آخر لاسترداد الحقوق من أمن وسلام، إلى حكم القانون والحقوق المدنية والسياسية والثقافية.
جيرون
الثورة السورية في عامها التاسع: صمود بوجه الخراب/ الثورة السورية في عامها التاسع
عبسي سميسم
قبل 8 سنوات أسقط المتظاهرون في ساحة 16 تشرين، في مدينة درعا السورية تمثال حافظ الأسد، على وقع الشعارات التي كانت تطالب بإسقاط النظام السوري. انتظر نظام بشار الأسد 8 سنوات كاملة، وتحديداً قبل أيام من دخول الثورة السورية عامها التاسع، ليعيد يوم الأحد الماضي نصب التمثال. خطوة النظام واضحة في أهدافها ودلالاتها. يريد القول إنه بات المسيطر على البلاد، بعدما تمكن بحسب اعتقاده وما يروّج له من “الانتصار” على الثورة. لكن خروج أهالي درعا مجدداً في احتجاجات رفضاً لنصب التمثال، والشعارات التي رفعت وبينها “تموت الشعوب ولا تقهر” و”كان زمان يا رفيق ولى زمن التصفيق”، كانت التعبير الأمثل عن أن رهانات الأسد، الذي تسلح بدعم من روسيا وإيران ومليشيات متعددة الهويات وبالمجازر لسحق شعبه، بأنه سيكون قادراً على إنهاء الثورة لا تزال خطأً. كذلك شكلت الاحتجاجات رسالة واضحة بأن سيطرته الميدانية لا تعني أنه سيكون قادراً على محو الثورة ومبادئها، ولا سيما بعدما صمدت على مدى ثمانية أعوام رغم حجم الخراب الواسع الذي دمر البلاد، وحصيلة القتلى الهائلة ورغم الخذلان العربي والدولي والتحولات والتحديات التي واجهتها.
ويدرك نظام الأسد أن السيطرة الميدانية لا تقترن بقدرة على الحكم، وخصوصاً أن قرار النظام بات مرهوناً لدى الروس والإيرانيين. فنظام بشار الأسد يواجه اليوم تحديين يزعزعان قدرته على حسم الصراع لصالحه؛ أولهما عودة المهجرين إلى البلاد، والثاني إعادة إعمار سورية بعد الحرب التي كبّدتها خسائر بمليارات الدولارات.
ومع دخول الثورة السورية عامها التاسع، تحوّلت البلاد إلى مناطق نفوذ إقليمي ودولي، مع تنافس مختلف أفرقاء الصراع على المستويات كافة، وهو ما يدفع القضية السورية برمتها إلى مزيد من التأزيم، والبلاد إلى حواف التقسيم والتشظي. نظرة على المشهد السوري اليوم، تبيّن حجم الخراب في المستويات كافة، الذي نال من البلاد بعد 8 سنوات من نزاع بدأه النظام الرافض لتطلعات السوريين بالحرية والكرامة، ومرت خلاله مسيرة الثورة بتحوّلات جذرية، من فترات كان نظام الأسد فيها على وشك السقوط، على الرغم من تدخّل إيران بشكل مباشر لصالحه واستعانته بمليشيات متعددة الجنسيات، إلا أن إرادات ومصالح الدول العظمى حالت دون سقوطه، وصولاً إلى التدخّل الروسي الذي كان عاملاً حاسماً في منعه من السقوط، وتمكينه لاحقاً من استعادة جزء كبير من المناطق التي خسرها على يد المعارضة.
واليوم باتت قوات النظام تسيطر على أكثر من 60 في المائة من مساحة سورية، تليها “قوات سورية الديمقراطية” التي تسيطر على نحو 30 في المائة من الأراضي، فيما تقتصر سيطرة فصائل الجيش الحر على نحو عشرة في المائة، تتوزع بين محافظة إدلب وشمال محافظتي حلب وحماة وأجزاء من محافظة اللاذقية.
لكن هذا التوسع للنظام وصموده، كانت نتيجته شلالات من الدماء، لا تزال تسيل في عموم البلاد، من دون أن يتمكّن من تسجيل نصر حاسم على الثورة يعيد تأهيله سياسياً، وخصوصاً مع وجود ملفي إعادة الإعمار، وعودة المهجرين، في الوقت الذي رهن فيه النظام قراره لدى الروس والإيرانيين، وبات واجهة متهالكة لا يملك الحد الأدنى من السيادة على البلاد، وينحصر دوره في تسهيل مهمة موسكو وطهران للتجذّر الاقتصادي والثقافي والعسكري وخلق حقائق يصعب تجاوزها في أي حل سياسي، لا يبدو أن المتصارعين على سورية معنيون بتعجيله.
عودة اللاجئين
يشكّل ملف عودة اللاجئين السوريين، أو النسبة الكبرى منهم إلى بلادهم، معضلة كبرى في القضية السورية والقضية الأصعب التي تقف في وجه النظام لتحقيق انتصار، وخصوصاً أن الجانب الروسي حاول أن يجعله من الأولويات السورية في محاولة واضحة من موسكو للتأكيد أن مفاتيح الحل السوري بيدها. كما سعت روسيا إلى إعادة تأهيل النظام من خلال هذا الملف، فبدء عودة أعداد كبيرة من اللاجئين من دول الجوار ودول الاتحاد الأوروبي يعني انتصار النظام وحلفائه في الصراع، ومن ثم سيكون أمامهم فرصة فرض شروط “المنتصر” في الحل السياسي. ولكن الموقف الروسي اصطدم بقوة برفض غربي صريح لعودة اللاجئين من دون تحقيق حل سياسي جادّ وفق قرارات الشرعية الدولية، بدءاً من بيان جنيف1 وانتهاءً بالقرار 2254، الذي حدد أطراً معيّنة للحل، يحاول النظام وحلفاؤه القفز فوقها، ولكن هذه المحاولات تواجه صعوبات جمّة.
وفشل الروس في إقناع الغرب ودول الجوار بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، التي لا تتوفر فيها أدنى درجات الحياة الكريمة، حيث الاقتصاد المترنح، والأجهزة الأمنية ومجموعات الشبيحة التي تعيث بالبلاد قتلاً واعتقالاً، فضلاً عن كون النظام غير معني أساساً بعودة أحد على الرغم من إدراكه أهمية هذا الملف لتسويق نفسه وإعادة تأهيله دولياً، إلا أنه يتعارض مع مخططاته في عمليات التغيير الديمغرافي التي أجراها في سورية.
وهجّر النظام نحو 10 ملايين سوري من بلادهم، فضلاً عن وجود ملايين النازحين داخل بلادهم، سعياً منه للوصول إلى مجتمع وصفه بشار الأسد بـ”المتجانس” الذي لا يشكّل قلقاً لنظامه، ويقبل ببقائه في السلطة إلى الأبد وتوريث السلطة لابنه. ولم يعد إلى سورية منذ سيطرة النظام على جنوب سورية ووسطها بدعم روسي خلال العام الماضي، إلا بضعة آلاف مضطرين من لبنان والأردن، تعرّض أغلبهم إلى انتهاكات من أجهزة النظام الأمنية، وكان الهدف منها ردع آخرين من العودة إلى بلادهم لأن النظام لا يريد أحداً، بل هو لا يملك الإمكانيات اللازمة لعودة لاجئين على نحو واسع.
كما لم يقم الجانب الروسي بدوره كضامن في المناطق التي وقّعت اتفاقات مصالحة مع النظام، إذ فتك الأخير بها قتلاً واعتقالاً وتضييقاً، ما دفع ملايين السوريين للتريّث في العودة، وربما التأسيس لحياة جديدة في المغتربات، لتخرج مسألة العودة إلى سورية من حساباتهم.
وتراجع ملف اللاجئين في سلّم الاهتمام في الآونة الأخيرة عقب الفشل الروسي الذريع في معالجته، إذ لم تتعامل موسكو مع الملف من جانب إنساني، بل من زاوية سياسية، وأرادت من خلاله التأكيد أن سورية باتت الحديقة الخلفية للكرملين تفعل بها ما تشاء وقتما تشاء، كما سعت لتحويل سورية إلى ورقة مساومة مع الغرب مع سلّة ملفات أخرى.
ويعيش اليوم نحو 4 ملايين سوري في تركيا، وأكثر من مليون في لبنان، ونحو مليون ونصف في الأردن، ونصف مليون في مصر، وأكثر من هذا العدد في السودان، ونحو 900 ألف في ألمانيا وحدها، وربما أكثر من ذلك في عموم دول الاتحاد الأوروبي السويد. وعلى الرغم من التضييق عليهم في بعض البلدان، إلا أن عموم اللاجئين يرفضون العودة من دون حل سياسي يضمن كرامتهم، وهو ما يبدو في المدى المنظور بعيد المنال تماماً، إذ يتعامل النظام مع السوريين داخل سورية وخارجها تعامل المنتصر الذي يريد العودة بالبلاد إلى ما قبل عام 2011.
الإعمار المتوقف
أما الملف الثاني الذي يعد عقدة رئيسية على طريق تأهيل النظام، فهو ملف إعادة الإعمار، الذي يحول دون انتصار الأسد وتمكينه بشكل نهائي. ولم تتمكن الدول الداعمة للنظام من فعل شيء يذكر حيال هذا الملف، وذلك بسبب عدم امتلاكها، ولا سيما روسيا وإيران، القدرة على تغطية نفقات هذا الملف الذي يمتلك الغرب مفاتيحه بالكامل، والذي لا يزال يضع شرط الحل السياسي وفق قرارات الأمم المتحدة شرطاً أمام أي تقدّم في هذا الملف، إذ ترفض الدول الأوروبية والولايات المتحدة إعطاء الشرعية للنظام من خلال هذا الملف، وإن كان بعضها بدأ يقبل بوجوده ضمن مرحلة انتقالية.
وركّزت النقاشات خلال مؤتمر بروكسل الأخير، الذي استُبعد من المشاركة فيه وفدا النظام السوري والمعارضة، حول كيفية مساعدة المدنيين من دون إضفاء الشرعية على نظام الأسد، وهو ما يعكس التداخل المتزايد بين الأهداف الإنسانية الأساسية، والطموحات السياسية للدول التي تعارض نظام بشار الأسد، وهي في الوقت نفسه الدول المانحة الإنسانية الرئيسية في سورية.
ويصرّ المانحون الرئيسيون، بما في ذلك الولايات المتحدة، والدول الأوروبية الرئيسية، على ضرورة ربط قنوات الدعم الإنساني بأهدافهم السياسية الطويلة الأجل. وفي حين أن هذه الدول تقرّ بأن بشار الأسد لن يتخلى عن السلطة قريباً، إلا أنها تأمل إجباره من خلال الالتزام بنظام عقوبات صارم، وعدم المشاركة في جهود إعادة الإعمار، وعدم الاعتراف بشرعيته السياسية، على القيام بإصلاحات سياسية جوهرية. وهذا يتطلب الامتناع عن أي خطوات سياسية أو اقتصادية قد تسهم في مساعدة نظام الأسد على ترسيخ موقفه الداخلي، وتجاهل مطالب الإصلاح في الوقت نفسه. ويرى أصحاب هذا الرأي أن أوروبا، والدول المانحة الأخرى، يجب ألا تتحوّل إلى مجرد بيدق في اللعبة الروسية – الإيرانية، وتكمل مهمتهما في إنقاذ الأسد وتثبيت حكمه، فبعدما كان دور روسيا وإيران عسكرياً وسياسياً هو مساعدة الأسد في الحفاظ على سلطته في وجه معارضيه، يكون دور أوروبا اليوم دفع تكاليف تثبيت هذا الحكم، عبر إعادة إعمار حرب الأسد على شعبه ومعارضيه، مع بقائه في السلطة، وتجاهل مطالب الإصلاح السياسي.
غير أن الدول الأوروبية ليست موحّدة في هذا الموقف من نظام الأسد. وثمة خلافات في ما بينها حول الطريقة المثلى للتعامل مع النظام. ومقابل الفريق الذي يرى وجوب تشديد الحصار والعقوبات على النظام لإجباره على القبول بإصلاحات سياسية، تطالب بعض البلدان مثل إيطاليا والنمسا والمجر، بضرورة تبنّي سياسات تساعد في عودة اللاجئين السوريين من أوروبا والعالم إلى بلادهم، عبر فتح حوار مع نظام الأسد.
معاناة متواصلة
حملت السنوات الثماني الماضية الكثير من المآسي والمعاناة للسوريين، وهي محنة ما زالت متواصلة، ولا تلوح في الأفق أي نهايات سعيدة لها. وأشارت المعطيات التي كشفها التقرير الأخير للشبكة السورية لحقوق الإنسان، إلى مقتل نحو 225 ألفاً من المدنيين، بينهم نحو 28500 طفل، ونحو 15500 امرأة، فيما يتحمّل حلف نظام الأسد – روسيا – إيران النسبة العظمى (92 في المائة) عن سقوط هؤلاء الضحايا. ولفتت الشبكة إلى أن هذا الحلف شنّ ما لا يقل عن 441 هجوماً بذخائر عنقودية و216 هجوماً كيميائياً، ما تسبّب بمقتل ما لا يقل عن 1461 شخصاً، مع استخدام تنظيم “داعش” للأسلحة الكيميائية 5 مرات.
وخلال هذه الفترة ألقى نظام الأسد أكثر من 77 ألف برميل متفجر. كما وقع 149 هجوماً بالأسلحة الحارقة، كان النظام مسؤولاً عن 19 منها، والقوات الروسية عن 125 هجوماً، وقوات التحالف الدولي عن 5 هجمات على أحياء سكنية في مدينة الرقة. كما قُتل 921 مدنياً بسبب الحصار الذي اتبعته قوات النظام ضد المناطق الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة. وتصدّر النظام ارتكاب التعذيب الذي يؤدي للموت في كثير من الأحيان، مع تسبّبه بمقتل قرابة 14 ألف شخص في سجونه.
وفي ما يخصّ الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، أكدت الشبكة أن النظام السوري والمليشيات الموالية له مسؤولة عن معظمها، إذ لا يزال نحو 128 ألفاً قيد الاعتقال أو الإخفاء القسري في سجونهم، فيما يوجد في سجون قوات سورية الديمقراطية (قسد) نحو 2700 شخص، ولا يزال مصير أكثر من 8 آلاف من المعتقلين لدى تنظيم “داعش” مجهولاً، مع استمرار “هيئة تحرير الشام” في احتجاز أكثر من 1700 شخص، ونحو 2700 في سجون الفصائل المعارضة المسلحة. وحمّل التقرير تنظيم “داعش” مسؤولية مقتل 32 شخصاً تحت التعذيب، و”تحرير الشام” مسؤولية تعذيب 21 شخصاً حتى الموت، وما لا يقل عن 38 على “قوات سورية الديمقراطية”، و43 على أيدي الفصائل المعارضة المسلحة. وقدّرت الشبكة الحقوقية تعرّض قرابة 14.2 مليون شخص للتشريد القسري، بينهم 8 ملايين داخل سورية، و6.2 ملايين لاجئ خارجها.
كذلك خلقت الحرب في سورية تحديات غير مسبوقة على صعيد الوضع الإنساني، ومنع إدخال المساعدات للمحتاجين اليها. وقال مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني: “قد يكون بالإمكان ربما تخيُّل منع إدخال المساعدات الإنسانية، بما يشمل ذلك من انتهاك أساسي لحقوق الإنسان، لكن من الصعب جداً تصوُّر قيام نظام بقصف متكرر للمنظمات الإنسانية وملاحقة العاملين فيها وقتلهم… لقد وصل التوحش إلى مستوى مخيف، وأصبحت مهمة إنقاذ وإغاثة المدنيين عملاً يودي بصاحبه إلى الموت”.
وسجل عام 2018 سقوط نحو عشرين ألف قتيل، وهي أدنى حصيلة منذ اندلاع الثورة السورية، فيما قُتل عام 2017 أكثر من 33 ألف شخص، بينما سجل عام 2014 أعلى حصيلة سنوية بمقتل أكثر من 76 ألف شخص، وحينها كانت الحرب في أوجها، وكانت فصائل المعارضة تسيطر على مناطق واسعة من البلاد، أبرزها الغوطة الشرقية قرب العاصمة والقسم الشرقي من مدينة حلب، ومساحات واسعة في محافظتي درعا وحمص. وشهد العام نفسه صعود تنظيم “داعش” وسيطرته على مساحات واسعة من البلاد.
شهادات سوريّة… ثماني سنوات من الدم والدمار/ عبد الله البشير
مضت على ثورة الشعب السوري ثمانية أعوام كاملة. وبالرغم من أنّ النظام ضرب الثورة وقتل الشعب واعتقله وعذبه وهجره، إلا أنّها ما زالت حيّة في نفوس أصحابها والمشاركين فيها، وفي ذاكرتهم
وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير أخير، مقتل 223.161 مدنياً سورياً على يد أطراف الصراع، من بينهم 28.486 طفلاً، و15.425 سيدة، منذ مارس/ آذار 2011، 92 في المائة منهم قتلوا على يد قوات الحلف السوري – الروسي.
التقرير الذي أصدرته الشبكة لمناسبة الذكرى الثامنة للثورة السورية، يشير إلى أنّ نسبة الضحايا من الأطفال والنساء مرتفعة جداً، كما يشير إلى تعمّد قوات الحلف السوري – الروسي استهداف المدنيين. يتابع أنّ النظام السوري نفذ ما لا يقل عن 441 هجوماً بذخائر عنقودية وقرابة 216 هجوماً كيميائياً، تسببت في مقتل ما لا يقل عن 1461 شخصاً. كذلك، قتل 921 مدنياً بسبب الحصار الذي اتبعته تلك القوات ضد المناطق الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة، كما تسبب النظام بمقتل نحو 14 ألف شخص في سجونه تحت التعذيب. يلفت التقرير إلى أنّ قوات النظام والمليشيات الموالية ما زالت تخفي نحو 128 ألف شخص في سجونها، بينما تخفي “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) 2700 شخص. ويبيّن أنّ تنظيم “داعش” ما زال يخفي أكثر من 8 آلاف من المعتقلين، و”هيئة تحرير الشام” أكثر من 1700، وفصائل المعارضة المسلحة نحو 2700.
وبحسب التقرير، فإنَّ موجات نزوح ضخمة شهدتها سورية، لا سيما عامي 2017 و2018، بفعل عمليات عسكرية شنَّتها أطراف النزاع أو نتيجة هدنات واتفاقيات فُرضت على المدن والبلدات المحاصرة تُخالف في مضمونها القانون الدولي الإنساني، مُشيراً إلى أنّ نحو 14.2 مليون شخص تعرَّضوا للتهجير القسري، من بينهم 8 ملايين شخص جرى تهجيرهم داخل سورية.
حلول طويلة الأمد
مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، يقول لـ”العربي الجديد”، عن الأعوام الأشد قسوة في الثورة السورية على السوريين: “أشدّها لناحية الخسائر البشرية هو عام 2012، الذي شهد أقسى الهجمات الوحشية من النظام السوري، وشهد أكبر أعداد من الضحايا. وفي أحد أشهر صيف 2012 سجلنا أكثر من ستة آلاف ضحية بسورية قتلوا على يد قوات النظام، بمعدل 200 مواطن سوري في اليوم. ويجب أن نذكر أنّه في عام 2012، لم يكن هناك تنظيم داعش أو غيره، بل إنّ قوات المعارضة كانت في طور التشكل، وهو ما يؤكد على وحشية النظام السوري، فهو لا يضيع فرصة لارتكاب هذه الجرائم. وبالنسبة لحصيلة المعتقلين، فقد كان من أكثر الأعوام قساوة، إذ كان النظام يسيطر على المدن والبلدات وفي إمكانه دخولها لاعتقال المئات، ولم يكن أحد قادراً على إيقافه عامي 2011 و2012”.
مع سؤاله عن إمكانية التدخل الدولي لوقف شلال الدم بحق السوريين، خصوصاً بعد الأعداد المهولة من الضحايا تحت التعذيب وضحايا القصف والغارات الجوية، يوضح عبد الغني: “لا نعتقد أنّ هناك حراكاً دولياً، وهو أمر مخزٍ للمجتمع الدولي ومجلس الأمن والأمم المتحدة والدول المتحضرة، ويفترض أن يكون هناك حراك دولي منذ عام 2011 وصولاً إلى اليوم. المطلوب من الدول حالياً، وإن تأخر الوقت، أن تعمل على الضغط الاقتصادي والسياسي، فتمنع التعامل مع هذا النظام وتمنع أموال إعادة الإعمار عنه، ليجري تضييق الخناق عليه، ويرضخ للحلّ السياسي، وهذا الأمر قد يؤدي إلى نتيجة لكنّه في حاجة إلى وقت طويل قد يستغرق سنوات، على حساب شلال الدماء المستمر، والقصف على إدلب، وعمليات الاعتقال التي ما زالت مستمرة، كما عمليات التعذيب”.
حول التوقعات للشمال السوري، والمرحلة الصعبة التي يمر بها من تصعيد من قبل قوات الحلف السوري – الروسي تستهدف بالدرجة الأولى المدنيين، يقول عبد الغني: “الشمال السوري حالياً يتعرض لأمرين؛ الأول هجمات قوات النظام بشكل أساسي على إدلب بمشاركة القوات الروسية التي تبدأ هجماتها عند تعرقل أيّ محادثات بينها وبين تركيا. وهو أسلوب الغدر نفسه الذي كان النظام يعتمده عند تعثر أيّ مفاوضات، فيذبح المدنيين وينفذ عمليات قصف بربرية ضد المناطق. أما الأمر الثاني فهو سيطرة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) على إدلب التي أضرت بالأهالي والمجتمع والمنظمات، فمعظم الدول أوقفت التمويل، وأوقفت العمليات الإغاثية على الأرض، ما زاد من وطأة الكارثة على النازحين ممن سينزحون مرة أخرى بسبب عمليات القصف”. يضيف: “ليست هناك حلول عاجلة، بل حلول على المدى الطويل، وتكمن بالتخلص من التنظيمات المتشددة التي جلبت الويلات إلى سورية ومجتمعها، وإعادة تشكيل مقاومة وطنية محلية، وبالتالي عودة المساعدات الأممية والدولية التي تعزز قوة المجتمع، كما ستكون هناك مجالس محلية منتخبة يتبع لها جهاز شرطة وقوى عسكرية، لتقديم نموذج جيد عن سورية، وهذا ما لا يريد النظام للثورة أن تصل إليه، فاستغلت التنظيمات المتشددة هذا الأمر لتثبت أنّها موجودة لتكتسب شيئاً من الشرعية، وعلى صعيد توقف الهجمات، نحن نعتقد أنّه إذا بذلت تركيا مزيداً من الجهود في هذا الاتجاه، ودفعت مزيداً من القوات ونقاط المراقبة، فقد يساهم ذلك بتخفيف القصف عن المدنيين، ويمنع النظام من الاجتياح البري للمناطق”.
سخرة الموت
من جهته، يتحدث الباحث السوري ساشا العلو، إلى “العربي الجديد”، عن تجربته الشخصية مع الاعتقال، والمراحل التي مرّ بها: “كنا نسمع عن سخرة الطعام في السجون، فهناك عمل للمعتقلين بتقديم الطعام لغيرهم بشكل دوري، لكن، كان هناك نوع آخر من السخرة هو سخرة الموت، إذ كان علينا أن ننقل جثث المقتولين تحت التعذيب إلى ساحة خارج السجن كلما مات أحدنا. كنا نضع الجثة على بطانية ونمسكها من الزوايا الأربع وننقلها إلى الساحة لتأتي سيارة وتنقل الجثث إلى مكان لا نعرفه. أسباب الموت كانت كثيرة، منها التعذيب، فبعض الأشخاص لا يحتملون الضرب الشديد، ومنهم من يموت مباشرة، وبعضهم يعيش لأيام يعاني من مضاعفات التعذيب الذي كان يجري باستخدام الكرسي الألماني (ينام الضحية على بطنه ويوضع كرسي في ظهره، قوائمه تحيط بجسد الضحية وعموداه العلويان تحت إبطيه، ليُشدّ إلى الخلف) فيصاب الضحية بتمزق الأحشاء الذي يتسبب بانتشار الفيروسات في جسده ويؤدي إلى وفاته بعد فترة”.
يتابع العلو: “أذكر أنّ فتى في الرابعة عشرة كان مصاباً بالسكري، وحصلت معه نوبة شديدة بعدما تعرض للتعذيب وكان من دون طعام، فأعطاه طبيب حقنة أنسولين ليموت على الفور بسبب التدني الشديد في نسبة السكر في دمه، فشتمنا الطبيب وأهاننا وقال: لماذا لم تخبرونا بأنّه بلا طعام… مع أنّه كان يعلم ذلك”. يضيف: “كانت الجثث تملأ حمامات السجن، إذ يتكدس بعضها فوق بعض، ونضعها هناك لعدم توافر مساحة في المهجع الذي لا يكفينا كي ننام حتى، وفي السجن كان هناك صراع حقيقي من أجل البقاء يمنع علاج المصابين بالصدمة خصوصاً من يدخلون حديثاً ويشاهدون هذا المنظر. يهذي هؤلاء ويتحدثون مع أنفسهم، فلا يبقى من علاج لهم غير تأمين مكان ينامون فيه مع عناية ليومين أو ثلاثة، وهو أمر نادر الحدوث، إذ كان السجانون يضربونهم أكثر من غيرهم لعدم استيعابهم الأوامر، ما كان يتسبب بوفاتهم في النهاية”.
“يا بابا شيلني”
ليس الاعتقال فقط والموت في السجون هو الألم الوحيد، فلعلّ ذلك ينتهي، لكنّ فقدان طفل صغير لطرف بسبب القصف جرح لا يندمل مع الأيام، خصوصاً في مجتمعات لا توفر التجهيزات البيئية والمجتمعية للأشخاص ذوي الإعاقة. الفتى عبد الباسط طعان، يتحدث إلى “العربي الجديد”، وهو الذي اشتهر بعبارة: “يا بابا شيلني… يا بابا شيلني” بعدما بترت ساقاه بقصف للنظام على بلدة الهبيط في ريف إدلب الجنوبي في فبراير/ شباط 2017: “أمنيتي وهدفي الحالي أن أنجح في الدراسة وأنتسب بعدها إلى كلية الطب البشري، فأكون طبيباً جراحاً ماهراً أساعد الأطفال، وأكون كالأطباء الذين ساعدوني، فأنا ممتن لهم. أريد أن أكون قدوة للمصابين في القصف في سورية الذين بُترت أطرافهم أو تسببت لهم القذائف بأذى جسدي، فأشجعهم على الاستمرار بالحياة وأبث فيهم الأمل”.
يوجه رسالة إلى الأطفال السوريين: “صحيح أنّكم نزحتم وقُصفتم ولاحقتكم القنابل والطائرات وأصابكم الخوف والرعب، لكن عليكم ألّا تفقدوا الأمل في الحياة، بل كونوا أقوى من إصابتكم وتغلبوا عليها كما كنت أنا أقوى من إصابتي”.
خريطة التهجير السوري في الداخل والخارج/ ريان محمد
جعلت سنوات الحرب، سورية، إحدى أبرز دول العالم في أعداد النازحين واللاجئين منذ عدة عقود، فأين توزع ملايين المهجّرين عن ديارهم في الداخل والخارج؟
منذ انطلاق الثورة السورية قبل ثماني سنوات، نزح ولجأ أكثر من 13 مليون مواطن، ما يعادل نحو 60 في المائة من عدد السكان، من بينهم 6.3 ملايين سوري لجأوا إلى أكثر من 45 دولة، فيما نزح نحو 7 ملايين سوري داخلياً، غالبيتهم في الشمال السوري، الخاضع لسيطرة فصائل إسلامية ومعارضة، إذ يعيش في محافظة إدلب وريف حلب الغربي وريف حماة الشمالي، حتى نهاية سنة 2018، بحسب منظمة “منسقو الاستجابة” أكثر من 4.7 ملايين شخص، من بينهم أكثر من مليون و674 ألف نازح ومهجر قسرياً، ونحو 17 ألف لاجئ فلسطيني وعراقي.
تشير المنظمة، في تقرير أخير، إلى أنّ سكان شمال سورية توزعوا على 386 نقطة في إدلب التي يقيم فيها أكثر من 3.8 ملايين شخص، و88 نقطة في حلب التي يقيم فيها أكثر من 75 ألف شخص، و39 نقطة في حماة وفيها أكثر من 149 ألف شخص”. وتتابع أنّ “مجموع الأشخاص الذين جرى إحصاؤهم جراء حملات النزوح والتهجير القسري خلال عام 2018، بلغ أكثر من 589 ألف شخص، منهم أكثر من 128 ألف مهجر قسراً من خارج الشمال السوري”.
تذكر المنظمة أنّ عدد المخيمات المنتشرة في الشمال السوري يبلغ 1039 مخيماً يقطنها أكثر من 778 ألف نازح ومهجر قسرياً. كذلك، يعيش أكثر من 64 ألف نازح في مخيم الركبان بعمق البادية على الحدود السورية الأردنية، في أوضاع مأساوية، بعدما وصل عدد قاطنيه إلى نحو 80 ألفاً عام 2017، ويتناقص العدد من جراء مغادرة قاطنيه عبر شبكات التهريب إلى الشمال السوري ومناطق شرق الفرات، هرباً من سوء الأوضاع الإنسانية.
كانت سنة 2018 قد شهدت موجات نزوح كبيرة لمئات آلاف السوريين بسبب العمليات العسكرية والتهجير القسري، إذ نزح أكثر من 200 ألف شخص من عفرين، هرباً من المعارك بين القوات التي تقودها تركيا والفصائل الكردية المسلحة التي تسيطر على المنطقة. وتفيد منظمة “منسقو الاستجابة”، في تقرير لها صدر في منتصف سنة 2018، بأنّ عمليات التهجير القسري في سورية خلال 2018 بدأت من تاريخ 14 مارس/ آذار حتى 31 يوليو/ تموز، وقد وصلت أعداد المُهَجَّرين قسرياً باتجاه الشمال السوري إلى 128 ألفاً و926 مُهَجَّراً. تبيّن أنّ أكبر عملية تهجير جرت في الفترة ما بين 14 مارس/ آذار و10 مايو/ أيار، وكانت في الغوطة الشرقية ومنطقة القلمون الشرقي ومخيم اليرموك، بالإضافة إلى أحياء جنوب دمشق؛ إذ بلغ عدد المُهَجَّرين منها إلى المناطق المُحَرَّرة في إدلب وحلب 83 ألفاً و214 مُهَجَّراً.
يشير التقرير إلى أنّ النظام وحلفاءه بعد تهجيرهم الأهالي من محيط دمشق وجَّهوا أنظارهم إلى وسط سورية، فقد جرى توثيق مغادرة 35 ألفاً و648 شخصاً من ريف حمص الشمالي إلى إدلب وحلب في الفترة بين 7 و18 مايو/ أيار، كما خرج 10 آلاف و64 مُهَجَّراً من درعا والقنيطرة من 15 إلى 31 يوليو/ تموز. وجرى تهجير أكثر من 250 ألف شخص كانوا يقطنون في نحو 400 بلدة في الريفين الشرقيين لحماة وإدلب، في ما عرف بمعارك شرق السكة، إذ سيطرت عليها القوات النظامية بداية العام الماضي.
المناطق التي تخضع لسيطرة النظام استقبلت أعداداً كبيرة من النازحين، وتفيد المعلومات بأنّ النسبة الكبرى من النازحين تمركزت في أربع محافظات رئيسة، هي دمشق واللاذقية وطرطوس والسويداء، وقد بلغ عدد مراكز الإيواء الجماعية نحو 3450 مركزاً، معظمها مدارس ومستودعات ومبان بلدية، وسكن عدد ملحوظ من النازحين في مبانٍ قيد الإنشاء، واستأجروا منازل في مناطق نزوحهم، في ظل وضع إنساني سيئ، نتيجة البطالة والفقر ونقص المساعدات الإنسانية.
وتعتبر دول جوار سورية من أكثر الدول استضافة للسوريين، وتتصدرها حالياً، تركيا بأكبر عدد من اللاجئين السوريين المسجلين، والذين يصل عددهم إلى 3.3 ملايين شخص، غالبيتهم العظمى تعيش في المناطق السكنية، فيما تستضيف المخيمات نحو 8 في المائة فقط منهم، بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. يحلّ لبنان في المرتبة الثانية، إذ يعيش فيه أكثر من مليون لاجئ سوري مسجل في أكثر من 2.100 مجمع وموقع على امتداد البلاد، في ظل ظروف معيشية سيئة. ويقدر أنّ نحو 70 في المائة منهم يعيشون تحت خط الفقر، في وقت لا توجد مخيمات رسمية للاجئين في لبنان، إذ تتقاسم العائلات اللاجئة أماكن السكن الصغيرة، ويعيشون في أماكن مكتظة، ومخيمات غير مجهزة بأبسط مقومات الحياة الأساسية. وتفيد معلومات متقاطعة بأنّ أعدادا من السوريين يقيمون في لبنان من دون تسجيل.
يأتي الأردن في المرتبة الثالثة، مع استقباله أكثر من 655 ألف سوري، يقيم نحو 80 في المائة منهم في المناطق السكنية، بينما هناك أكثر من 139 ألف سوري آخرين في مخيمي الزعتري والأزرق، في أوضاع إنسانية سيئة، ويقدر بأن يكون هناك 93 في المائة من اللاجئين تحت خط الفقر. العراق في المرتبة الرابعة مع استضافته نحو 246 ألف سوري. وفي شمال أفريقيا تتصدر مصر الدول المستضيفة للاجئين السوريين بـ126 ألف سوري على أراضيها.
وفي أوروبا تتصدر ألمانيا الدول المستضيفة، ويبلغ عدد السوريين فيها أكثر من نصف مليون، في وقت تستعد لاستقبال 6 آلاف سوري كلاجئين خلال عام 2019، بمعدل 500 لاجئ كلّ شهر، بموجب اتفاق بين برلين و أنقرة خلال عام 2016، وذلك من أصل نحو مليون لاجئ في أوروبا، منهم 110 آلاف في السويد و50 ألفاً في النمسا.
وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أصدرت تقريراً في شهر أغسطس/ آب الماضي قالت فيه إنّ 29 بلداً من أصل 45، تستقبل أكثر من ستة ملايين و600 ألف سوري، وعدا عن الدول التي ذكرت، فمن بين الدول الأخرى هولندا بأكثر من 74 ألفاً، والدنمارك بأكثر من 17 ألفاً، واليونان بنحو 13 ألفاً، وسويسرا 6702، وبلجيكا 3982، وإيطاليا 3836، ورومانيا 3101، وإسبانيا 2352، وأيرلندا 1729، ومالطا 1289، والبوسنة والهرسك 1630، وبولندا 1069، والأرجنتين 818، ولوكسمبورغ 663، وكرواتيا 530، وسلوفينيا 460، وبلغاريا 180، والمجر 51، وآيسلندا 197، وسلوفاكيا 43، وجمهورية التشيك 39، ولاتفيا 19.
كذلك، تشير تقارير إلى وجود نحو 100 ألف لاجئ سوري في أميركا الشمالية، منهم نحو 52 ألف سوري في كندا، ونحو 21 ألف سوري في الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى 8 آلاف سوري تستقبلهم على أساس برنامج “الحماية المؤقتة”، الذي يمنح مهاجرين يواجهون حروباً أو كوارث في بلادهم حق الإقامة والعمل لمدة محددة في أراضيها.
يشار إلى أنّ كثيراً من السوريين ما زالوا يحلمون باللجوء إلى إحدى دول أوروبا أو أميركا أو كندا أو أستراليا، من جراء عدم الاستقرار في بلادهم، حيث مازالت العديد من المناطق تشهد أعمالا عسكرية، بالتزامن مع تردي الأوضاع المعيشية وارتفاع معدلات الفقر.
الإعلام… رصاصةٌ أولى في صدر السوريين/ أمين العاصي
“كاذب، كاذب، كاذب… الإعلام السوري كاذب”، كان ذلك من أوائل شعارات الثورة السورية التي انطلقت منتصف آذار/مارس من عام 2011. يؤكّد الشعار عمق الهوّة بين السوريين والإعلام الذي كان من المفترض أن يكون صوت حالهم، ولكنه، ككلّ المؤسسات التي تتبع النظام، كان (ولا يزال) مسيّراً وبوقاً للسلطة، فقد السوريون ثقتهم فيه منذ عقود.
منذ الأيام الأولى للثورة، كان من الواضح أنّ النظام أعد عدّته، منذ أواخر عام 2010، حين بدأت الموجة الأولى للربيع العربي في تونس، لمواجهة أي حراك ثوري يدعو إلى تغيير عميق في بنية النظام السياسية والعسكرية والأمنية. وكان الإعلام من ضمن أهم الأسلحة التي استخدمها النظام لقتل الجوهر الأخلاقي للثورة السورية التي ظلت محافظة على سلميّتها لعدة شهود متلاحقة، وهو ما هدد النظام جدياً، ودفعه إلى شيطنة الثورة من خلال إعلامه في سورية ووسائل الإعلام المرتبطة به وبإيران، خصوصاً في لبنان.
لم يحِد إعلام النظام قيد أنملة عن رواية مكررة منذ بداية الثورة، مفادها أنّ الحراك الشعبي “مؤامرة كونية تحركها أصابع خارجية”، متجاوزاً في سبيل إقناع السوريين بروايته، خاصةً الموالين، كلّ الخطوط الحمراء. حيث خاض في مستنقعات تدليس وكذب وخداع لم يسبقها إليه إعلام في العالم من قبل. كان الإعلام الأداة الأولى قبل البندقية للنظام في تمزيق نسيج المجتمع السوري، حيث شطره من الوسط؛ شطر مع النظام يعني مع “الدولة”، وشطر آخر وصمه بأنه “مارق متمرد يستحق القتل والتهجير”، لأنّه طالب بحرية مفقودة وكرامة مغتصبة منذ عام 1970، أي منذ “استولى” حافظ الأسد على البلاد.
وصف إعلام النظام، الذي يدار من قبل الأجهزة الأمنية، المتظاهرين، بالمخرّبين، مبرراً لهذه الأجهزة الفتك بالمدنيين، في الشهور الأولى من الثورة، متناسياً تماماً المجازر التي كانت تُرتكب. بل ذهب أبعد من ذلك في التضليل الإعلامي المشوّه إلى حدّ أن قناة “الدنيا”، العنوان الأبرز في الدعاية السوداء، قالت إنّ السوريين خرجوا في مظاهرات شكر لله في حي الميدان الدمشقي على الأمطار التي هطلت في ربيع عام 2011، وهو ما كان ولا يزال مدعاة سخرية واسعة لدى السوريين.
لم ينتظر النظام طويلاً بعد انطلاق الثورة السورية قبل أن يؤسس ما يُسمّى بـ “الجيش الالكتروني” الذي تلقّى عناصره المقدّرون بالآلاف، تدريباً عالي المستوى في طهران، لمواجهة إعلام الثورة الذي استطاع، إلى حد بعيد، تعرية النظام وطرق فتكه بالشارع المعارض في البلاد. شرع هذا الجيش الذي خُصصت له ميزانية كبيرة، على الفور، في فبركة مقاطع فيديو وأنباء تسيء للثورة السورية، زاعماً أن الهدف من وراء المظاهرات إنشاء “إمارات سلفية” في عدة مناطق، منها محافظة درعا ومدينة تلكلخ في ريف حمص الغربي وبانياس على الساحل السوري ومناطق سورية أخرى، وهو ما مهّد الطريق لارتكاب مجازر لا تزال الذاكرة السورية تئن من هول فداحتها، حيث دشنت قوات النظام، قبل التنظيمات المتشددة، عمليات الذبح بالسواطير والسكاكين لأطفال ونساء ومدنيين عُزّل.
كما قام “الجيش الإلكتروني” بنشاط محموم على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، متخذاً منها منصات ضخ أنباء مفبركة وخطاب كراهية وتحريض على استمرار الفتك بالشارع السوري المعارض، تطوّر بعد ذلك إلى حدّ مطالبة النظام بقصف المناطق الخارجة عن السيطرة بأسلحة محرمة دولياً، وهو ما تحقق أولاً في غوطتي دمشق الشرقية والغربية منتصف عام 2013، حيث قتل الآلاف من المديين، وأغلبهم أطفال ونساء، خلال دقائق، وتالياً في العديد من المناطق السورية. كما كان لإعلام النظام الدور البارز في حرْف الثورة السورية عن مسارها، من خلال تسريب مقاطع تظهر الشبيحة (الفئة الأكثر ولاء للنظام) وهم يعذبون متظاهرين حتى القتل بطرق بشعة، مستخدمين شعارات طائفية من أجل استدعاء رد فعل غاضب وعنيف من الشارع السوري الثائر، وهو ما يجرّ الثورة إلى صراع مسلّح خطط له النظام بعناية من أجل سحق السوريين، وتبرير ذلك أمام الرأي العام العالمي، تحت قناع مواجهة “مجموعات إرهابية مسلحة”، الوصف الذي لا يزال يستخدمه إعلام النظام حتى اللحظة، للداعين إلى نقل البلاد من ضفة الاستبداد إلى ضفة العدالة والديمقراطية والمساواة بين كل مكونات المجتمع السوري.
وكان التلفزيون الرسمي، ولا يزال، المنبر الأهم الذي يعتمد عليه النظام في بث كل ما يثير الفرقة والشقاق بين السوريين (موالين ومعارضين)، حيث يتولى مفاصل هذه المؤسسة التي كان من المفترض أن تكون لكلّ السوريين، أناس اختارتهم الأجهزة الأمنية بعناية، ومن بينهم من مارس “التشبيح الإعلامي” إلى حده الأقصى، بل إنّ بعضهم يتباهى بأنه قتل متظاهرين في العاصمة دمشق في عام 2011. كما مارس النظام ضغطا كبيرًا على الصحافيين والعاملين في الحقل الإعلامي السوري، الذين لم يعلنوا الولاء المطلق له ولم يعملوا بمقتضى الإعلان، ما دفع أغلبهم إلى مغادرة بلادهم خشية الانتقام من قبل النظام، الذي قتل واعتقل المئات من الصحافيين والناشطين الإعلاميين خلال سنوات الثورة، حيث حارب النظام الكلمة واعتبرها عدوه الأول.
وبث التلفزيون السوري اعترافات أدلى بها معتقلون ومعتقلات تحت التهديد، كان الهدف منها إظهار ما يحدث في البلاد على أنه من تدبير جهات عربية وغربية. بل حاول هذا الجهاز الأكثر فتكاً إعلامياً في المجتمع السوري تشويه صورة المرأة السورية التي شاركت في الحراك الثوري.
وذهب عاملون في إعلام النظام إلى حد بث تقارير من فوق جثث القتلى في عدة مناطق سورية. ولعلّ ما فعلته المراسلة ميشلين عازر، العاملة في قناة “الدنيا”، في عام 2012، لا يزال ماثلاً بالأذهان، حيث تنقلت بين جثث الأطفال والنساء في مدينة داريا جنوب غربي العاصمة دمشق. كان مشهدًا صادماً لكل السوريين، تكرر كثيراً من قبل عاملين في الإعلام المرتبط بالنظام، حيث التقطوا صورًا وبثوا تقارير من فوق جثث المدنيين المكدسة الذين قتلتهم قوات النظام في العديد من المناطق السورية.
ومنع النظام الإعلام العربي والغربي من ممارسة أي نشاط خارج إرادته في عموم سورية. بل تعمّد قتل صحافيين أجانب جاؤوا إلى البلاد لتغطية الأحداث، أبرزهم الصحافية الأميركية ماري كولفين، التي كانت تعمل في صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية، وقتلها النظام في مدينة حمص وسط البلاد في عام 2012.
وشكّل النظام إعلاماً رديفاً له في لبنان، حيث موّل صحفاً وقنوات تلفزيونية، حاولت هي الأخرى تشويه الثورة. ولعل كذبة “جهاد النكاح” التي أطلقها إعلامي عربي معروف من خلال قناته التي ولدت بعد الثورة السورية بدعم من النظام وإيران، أبرز مثال على الخطاب القائم على التضليل الذي انتهجته هذه القناة وسواها من الإعلام المساند للنظام، من أجل ضرب الثورة السورية في مقتل.
العربي الجديد
دمشق قلقة من «انتصار» منقوص… واحتدام تنافس موسكو وطهران/ إبراهيم حميدي
«داعش» يلفظ أنفاسه الأخيرة وقصف إدلب عشية الذكرى الثامنة للاحتجاجات السورية
عشية الذكرى الثامنة لانطلاق الاحتجاجات السورية، تجد دمشق صعوبة في ترجمة «الانتصار العسكري» الذي تراكم خلال السنة الأخيرة ولم يصل إلى الاكتمال الجغرافي، إلى «انتصار سياسي»؛ ما يترك الباب مشرعاً حول مستقبل سوريا القلق وسط احتدام التنافس الروسي – الإيراني، وانخراط خمسة جيوش في البلاد.
خلال السنة الأخيرة، استعادت قوات الحكومة السيطرة على غوطة دمشق وجنوب سوريا والجنوب الغربي، لتصل إلى 60 في المائة مساحة الأراضي التابعة للحكومة. ولا يزال ثلث مساحة البلاد تحت سيطرة حلفاء واشنطن، و10 في المائة منها تحت سيطرة حلفاء أنقرة. (مساحة سوريا 185 ألف كيلومتر مربع)
سكتت أصوات النار ولم تعد تحلق الطائرات في أجواء العاصمة لقصف الغوطة، ولا تسقط قنابل على شوارعها، لكن المدينة تعاني من أزمة اقتصادية خانقة تزداد يوماً بعد يوم. ولم يكن الهدوء واستتباب الأمن كافيين لتشجيع دول عربية وغربية لإعادة فتح سفاراتها في دمشق، وتوقف مسيرة التطبيع العربي – الغربي وجهود إعادة دمشق إلى الجامعة العربية.
– أربع حروب
وكان الرئيس بشار الأسد قال في خطاب الشهر الماضي: «ما زلنا نخوض أربعة أنواع من الحروب» هي: الحرب العسكرية و«الحصار» الاقتصادي والحرب ضد الفساد، و«معركة دعائية» على وسائل التواصل الاجتماعي.
في الجنوب، حيث كان الأهالي ينتظرون عودة الخدمات والكهرباء، عادت المظاهرات إلى الظهور في درعا بعد نصب تمثال للرئيس حافظ الأسد بعدما نصب في حماة ودير الزور. ولا يزال التوتر مسيطراً على محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، المجاورة.
وإذ عادت إيران و«حزب الله» إلى الجنوب لتجنيد عناصر سورية في ميليشيات تابعة لها بعدما سحبت العناصر غير السورية بموجب تفاهمات أميركية – روسية. كما أن التنافس بين موسكو وطهران يحتدم على تجنيد الشباب في ضوء دعم الجيش الروسي لنسخ عدة من «الفيلق الخامس» الذي يضم مقاتلين كانوا معارضين. ويشمل التنافس تقديم ضمانات للشباب الذين وقّعوا «تسويات» وترتيب أمور الخدمة العسكرية.
لا يقتصر التنافس على الشباب، بل يشمل البعد الاقتصادي. وبعدما جمدت روسيا في بداية 2017 اتفاقيات اقتصادية بين دمشق وطهران تتعلق بالفوسفات والمشغل الثالث للهاتف النقال وميناء نفطي، عادت إيران لإعطاء زخم إضافي لهذه الاتفاق قبل أسبوعين، حيث بدا أن الكفة السورية تميل حالياً إلى الحضن الإيراني.
ويمتد التنافس الخفي إلى حدود نهر الفرات؛ إذ إن روسيا دعمت انتشار مقاتلين من «فيلقها الخامس» قرب النهر قرب ميليشيات سورية دربتها إيران في انتظار «اليوم التالي» للانسحاب الأميركي.
– تمديد الاقامة
كان مقرراً أن ينسحب الأميركيون في نهاية الشهر المقبل، لكن الرئيس دونالد ترمب وافق على تمديد إقامة قواته مع حلفاء أوروبيين لإمساك أوراق تفاوض مع روسيا وضبط نفوذ إيران وحماية الأكراد ومنع عودة «داعش» ما بعد هزيمته الجغرافية.
وتصادف الذكرى الثامنة للاحتجاجات مع قرب انتهاء التنظيم الذي كان يسيطر ذات يوم على نصف مساحة البلاد، أن «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية تخوض المعارك الأخيرة ضده في الباغوز. ويعقد المبعوث الأميركي للتحالف الدولي ضد «داعش» جيمس جيفري اليوم مؤتمراً صحافياً لتقديم موقف واشنطن من مرحلة ما بعد «داعش».
كان جيفري شارك في المؤتمر الدولي للمانحين في بروكسل، الذي شارك فيها مسؤولون من دول الجوار والمجتمع المدني؛ لتوفير الدعم المالي للاجئين والنازحين السوريين. وحددت الأمم المتحدة الاحتياجات المالية لسنة 2019 بنحو 5.5 مليار دولار (4.4 مليار يورو) لمساعدة نحو 5.6 مليون لاجئ سوري خارج بلدهم في تركيا، ولبنان، والأردن، وفي العراق، ومصر، في حين قدرت أنها تحتاج إلى 3.3 مليار دولار (2.9 مليار يورو) للنازحين داخل البلاد.
سياسياً، بقي الربط بين المساهمة في الإعمار والحل السياسي. وإلى بقاء ملف السلاح الكيماوي على المائدة الدولية، أعيد طرح ملف العقاب والمحاسبة.
ويسعى المبعوث الدولي الجديد غير بيدرسن إلى الاتفاق مع روسيا لتشكيل اللجنة الدستورية وقواعد عملها وإعادة طرح «السلال الأربع» التي تشمل الحكم، والدستور، والانتخابات، والأمن ومكافحة الإرهاب ضمن مهمته لتنفيذ القرار الدولي 2254. وأكد وزير الخارجية البلجيكي، ديدييه رايندرز، أمس «يجب أن يجلس النظام السوري حول طاولة المفاوضات في جنيف». وأضافت بلجيكا والكثير من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، وهي فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، والسويد، وهولندا، والدنمارك، شرطاً آخر، هو مكافحة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة في سوريا.
– مثلث الشمال
ولا يزال القلق مخيماً على مستقبل «مثلث الشمال» الذي يضم إدلب وأرياف حلب واللاذقية وحماة، حيث يعيش ثلاثة ملايين شخص. وتخضع مدينة إدلب، في شمال غربي سوريا، لسيطرة «هيئة تحرير الشام» التي شكّلها الفرع السابق لتنظيم «القاعدة» في سوريا، وتمثل آخر معقل مناهض للنظام. وتعرضت أول من أمس مدينة إدلب لأول قصف منذ سنة ولأعنف غارات منذ توصلت روسيا وتركيا إلى اتفاق خفض التصعيد في 17 سبتمبر (أيلول) الماضي بعد أيام من تسيير دوريات عسكرية تركية قرب 12 نقطة عسكرية في العمق السوري. وقال ديدييه رايندرز: «الحرب لم تنته في سوريا». وتحدث ممثل الأمم المتحدة في السياق نفسه محذراً من أن «شن هجوم عسكري ضخم على إدلب من شأنه أن يتسبب في كارثة إنسانية».
خلال السنة المقبلة الحصول على إجابات تتعلق بالأمور التالية: مستقبل مناطق شرق الفرات وقاعدة التنف الأميركية، المفاوضات بين دمشق والأكراد، المنطقة الأمنية شرق الفرات بين أميركا وتركيا، مستقبل إدلب والاتفاق الروسي – التركي، التطبيع العربي – الغربي مع دمشق، منعكسات العقوبات والأزمة الاقتصادية في مناطق الحكومة، الغارات الإسرائيلية على مواقع إيرانية، وجهود تل أبيب للحصول على اعتراف أميركي بسيادة إسرائيل على الجولان، إضافة إلى مآلات التنافس الروسي – الإيراني في مناطق الحكومة.
الشرق الأوسط
سوريا.. الخارطة العسكرية للمعارضة في الذكرى الثامنة للثورة/ عدنان الحسين
تتفق كافة أطياف الثورة السياسية والعسكرية والمدنية أن عام 2018 كان عاما مليئا بالعثرات في طريق الثورة السورية التي تكمل عامها الثامن بمخاض عسير، بعد أن فقدت مناطق إستراتيجية كبيرة في وسط البلاد وجنوبها، تحت واقع الضغط الروسي الإيراني العسكري والسياسي، رغم استحواذها على مناطق أخرى في معارك ضد قوات سوريا الديمقراطية.
وانحسرت مناطق سيطرة المعارضة في شمال سوريا -وتحديدا في محافظة إدلب وأجزاء من ريف حماة الشمالي وأرياف مدينة حلب الغربية والجنوبية والشمالية الشرقية- إلى ما نسبته نحو 10.3%، فيما استطاع النظام السوري بدعم من روسيا وإيران توسيع نفوذه بنسبة 60.3% من إجمالي سوريا مقارنة مع النسبة التي حققها عام 2017 (52.8%).
من جهتها استفادت “قوات سوريا الديمقراطية” -التي تعتبر وحدات حماية الشعب الكردية مكونها الرئيس- من الانهيار شبه الكامل لتنظيم الدولة الإسلامية، ووسعت نطاق سيطرتها رغم خسارتها مدينة عفرين، إذ بلغت نسبة سيطرتها نهاية عام 2018 حوالي 27.7%، مقارنة مع 25.4% نهاية عام 2017، وفق إحصائيات نشرها مركز جسور للدراسات والأبحاث.
سلسلة مصالحات
وتعتبر المصالحات التي نفذتها روسيا تحت ضغط ترسانتها العسكرية الجوية والبرية، من أبرز الأسباب التي أدت لانحسار نطاق سيطرة المعارضة وتجميع جناحها العسكري في الشمال السوري.
وخسرت المعارضة السورية في 13 مارس/آذار 2018 السيطرة على حي القدم قرب العاصمة دمشق، بعد أن عقدت فيها الفصائل المسلحة اتفاق مصالحة مع ممثلين عن مركز حميميم للمصالحة، وهو مركز أنشأته روسيا بهدف إخضاع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري.
وفي 21 من الشهر ذاته خضعت مدينة حرستا لسيطرة نظام الأسد وروسيا، وفي 23 منه خسرت المعارضة السيطرة على القطاع الأوسط في الغوطة الشرقية بشكل كامل، بعد اتفاق مصالحة عقدته حركة أحرار الشام وفيلق الرحمن مع مركز حميميم للمصالحة، يقضي بتسليم مدينة حرستا والقطاع الأوسط مقابل خروج آمن وتسوية.
خسارة دوما
بعد خسارة القطاع الأوسط ومدينة حرستا، صوبت القوات الروسية ونظام الأسد والمليشيات الإيرانية كافة قوتها على مدينة دوما التي كانت تحت سيطرة جيش الاسلام، فأجبر على توقيع اتفاقية مصالحة في 1 أبريل/نيسان 2018.
وفي 21 من الشهر ذاته انضم القلمون الشرقي إلى سيطرة النظام السوري، بعد أن وقعت فصائل المعارضة العاملة في المنطقة اتفاقا نهائيا مع مركز المصالحة في حميميم.
وبعد أن أنهت روسيا ونظام الأسد السيطرة الكلية على الغوطة الشرقية، والتي كانت أبرز مركز إستراتيجي للمعارضة السورية قرب العاصمة دمشق، توجهت في 1 مايو/أيار 2018 إلى ريف حمص لتخضعه لاتفاق مماثل.
سقوط المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بشكل سريع وخضوعها بشكل كامل لاتفاق المصالحة، مهد للنظام السوري وروسيا التوجه جنوبا نحو أحد أكبر معاقل الثورة السورية، لتبدأ سلسلة من عمليات المصالحة تحت الضغط العسكري والحصار.
فقد خسرت المعارضة في 22 حزيران/ يونيو 2018 السيطرة على قرى وبلدات داما والشياح وجدل في ريف درعا الشرقي، وفي 30 من الشهر ذاته انضمت مدن وقرى وبلدات في الريف الشرقي والغربي إلى سيطرة النظام السوري بعد توقيع بعض الوجهاء والفصائل فيها اتفاقا مع مركز حميميم للمصالحة.
وفي 2 يوليو/تموز 2018، انضم معظم الريف الشرقي في محافظة درعا لسيطرة النظام السوري، بعد توقيع فصيل شباب السنة -الذي يقوده أحمد العودة- اتفاق مصالحة منفردا مع روسيا يساهم في انتشار قوات حرس الحدود التابعة للنظام السوري بعمق كيلومترين على امتداد الشريط الحدودي مع الأردن، بما في ذلك الوصول إلى معبر نصيب.
بعد التوقيع المنفرد لفصيل شباب السنة خضعت مناطق درعا بشكل كامل لسيطرة روسيا ونظام الأسد بشكل متدرج في يوليو/تموز 2018، بعد موافقة وفد لجنة إدارة الأزمة الذي شكلته فصائل المعارضة السورية وبعض القوى المدنية في الجنوب لمفاوضة روسيا على اتفاق مصالحة شامل مع هذه الأخيرة.
وفي 30 يوليو/تموز 2018، انضمت كامل محافظة القنيطرة لسيطرة النظام السوري، بعد توقيع اتفاق مصالحة وفق بنود تماثل تلك التي تم توقيعها مع فصائل في درعا المجاورة. وأنهى هذا الاتفاق عملية عسكرية معقدة في منطقة تتسم بحساسية بالغة لقربها من إسرائيل.
كيانات جديدة
ومع أن المعارضة المسلحة حاولت توسيع نطاق نفوذها عبر عملية غصن الزيتون العسكرية التي نفذتها وسيطرت فيها على منطقة عفرين شمال غرب حلب في 18 مارس/آذار 2018، فإن ذلك لم يؤثر بشكل فعلي على نسبة سيطرتها الكلية، نظرا للخسائر الكبيرة التي تعرضت لها في مناطق أخرى على يد النظام السوري وحلفائه.
وطرحت الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها المعارضة عددا كبيرا من التساؤلات حول جدوى استمراريتها رغم محاولتها الانصهار في كيانات جديدة أبرزها الجيش الوطني الذي ما زال يبدو تنظيما ظاهريا، والجبهة الوطنية للتحرير وفصائل أخرى.
ويقول العميد أحمد الرحال -في حديث للجزيرة نت- في معرض حديثه عن مستقبل تلك الكيانات العسكرية، إن الحراك المسلح الحالي أو الجناح العسكري لا يمثل الثورة السورية والسوريين، ولا يعكس الأهداف التي طرحها الشعب السوري في ثورته.
فقد أصبح -في نظره- في يد خارجة عن إرادة السوريين، بعد إبعاد الضباط المنشقين عن قيادة العمليات العسكرية، وأصبح يخضع لدول إقليمية فاعلة في الملف السوري، والأمثلة كثيرة، كما أن عمليات المصالحة التي حدثت قد تمت برغبة من الدول الإقليمية التي باتت تتحكم بكل الكيانات العسكرية على الأرض.
الجيش الوطني
في المقابل، يرى الناطق باسم الجيش الوطني الرائد يوسف الحمود أن النتائج التي تمخض عنها تشكيل الجيش الوطني لا تلبي الطموح بشكل كامل، لكن كان لتشكيله أهمية كبيرة من خلال هيكلة الفصائل العسكرية المشتتة في الشمال، وبذلك خطى أولى الخطوات لاستقرار المنطقة، وتبعها بعدة خطوات كتشكيل الشرطة العسكرية والقضاء العسكري ودعم الشرطة الوطنية والقضاء المدني.
ويؤكد الحمود أن من أبرز أسباب انحسار الجيش الحر من مناطق كثيرة في سوريا غياب العمل المؤسسي، فعندما سيطر الجيش الحر على نحو 70% من مساحة سوريا في عام 2013 وبدأ بخسارتها بشكل متتالٍ لصالح تنظيم الدولة الإسلامية ونظام الأسد والوحدات الكردية، افتقد حينها للتنظيم والترابط العسكري وطرق الإمداد والحماية.
وساهمت العمليات العسكرية المعقدة التي حدثت في عام 2018 من مصالحات وعمليات عسكرية تارة ضد نظام الأسد وتارة أخرى ضد هيئة تحرير الشام، في إعلان تشكيل الجبهة الوطنية للتحرير، وهي تجمع لآلاف من مقاتلي المعارضة، وهدفها تنظيم العمل العسكري للفصائل في محافظة إدلب وريف حماة.
ويقول النقيب ناجي مصطفى الناطق باسم الجبهة الوطنية للتحرير -للجزيرة نت- إنه بعد التهجير القسري في المناطق المحررة وانتقال الفصائل العسكرية إلى الشمال وتهديدات النظام والروس والإيرانيين باجتياح مناطق الشمال (إدلب وأرياف حلب وحماة واللاذقية)، كان لا بد من أن تجتمع الفصائل وتتوحد في كيان واحد لمواجهة هذا الاستحقاق الخطير، فتم تشكيل الجبهة الوطنية للتحرير التي ضمت 15 فصيلا عسكريا.
ومع نهاية عام 2018 وبداية عام 2019، باتت المعارضة السورية تمتلك خيارات محدودة في وضع عسكري معقد على الأرض، فالفصائل العسكرية التي تشكلت بدعم من تركيا -كالجيش الوطني والجبهة الوطنية للتحرير- تعرضت لهجمات من هيئة تحرير الشام، التي تعتبر الملف الأبرز والمشكلة الكبرى التي تؤرق الدول الداعمة للمعارضة، مع استمرار التهديدات العسكرية الروسية باجتياح إدلب والشمال السوري بحجة محاربة الإرهاب.
المصدر : الجزيرة
الثورة السورية من منظور المطلق والنسبي/ منير الخطيب
تقوم الحياة العامة المعاصرة على تأسيس راسخ لثنائية: التعدد والتنوع والاختلاف في مجالات الحياة كافة من جهة، والوحدة في مجال الدولة من جهة ثانية. تنتمي الاختلافات الطائفية والإثنية والمذهبية والايديولوجية والسياسية إلى حيزات النسبي والجزئي والحصري، فيما تنتمي مفاهيم مثل: المجال الوطني، الدستور، الدولة، الأمة، المواطنة، إلى المجال العام أو الكلي الذي يتأسس بفعل إخضاع النسبيات إلى منطق وروح المطلق.
كذلك، يتولّد الاستبداد من جراء احتلال المجال العام من قبل إرادة خاصة، نسبية، جزئية، حصرية، لا تعترف بالتعدد والاختلاف والتنوع، أي تقوم بوضع نسبيّها في المشترك الاجتماعي العام، وتحاول فرضه تعسفياً وديموغجياً على أنه عام وكلي. وهنا من المناسب استحضار هذا النص للراحل إلياس مرقص: «المطلق والنسبي ليسا شيئين، انهما مفهومان وحدّان، المطلق مفهوم يحدُّ النسبي ومن ليس في روحه وفكره المطلق، يحوّل نسبيّه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد».
بهذا فرض حزب البعث إرادته الخاصة، التي غلفّت بدورها إرادة جزئية مذهبية أخرى، على المجال العام، مما أفضى إلى الإطاحة بالمفاهيم الكلية وأُسس الحياة العامة والفاعلية المجتمعية، وبالتالي أدى إلى سيطرة ثنائية، «مجتمع جماهيري/سلطة توتاليتارية».
كانت الثورة السورية في آذار (مارس) 2011 في احدى أهم مناحيها عبارة عن انفجار تاريخي كبير في مواجهة تلك الإرادة الخاصة الغاشمة التي احتلت المجال العام، والتي كان يُستدّل عليها بمصطلح «الدولة السلطانية المحدثة»، كما عبّرت إرادة الحرية، لدى الحراك الشبابي السلمي العارم عن نزوع صميمي لكسر احتكار المجال العام من قبل تلك الإرادة الاستبدادية.
لكن إرادة الحرية تلك، التي قدّم السوريون في سبيلها ما يكفي لإسقاط كل أنظمة الاستبداد في العالم، لم تستطع الوصول إلى تشكيل مجال وطني سوري، وذلك أساساً بسبب تراكب هذا الانفجار التاريخي الكبير وغير المسبوق، مع انفجار التأخر المجتمعي وانبعاث النسبيّات والهويّات الحصرية، التي توهمت على أنها هويّات عامة وكلية، فضاع الكلي والعام، وفشل السوريون في تقديم أنفسهم للعالم الخارجي كمواطنين عموميين، إذ قدّموا أنفسهم فصائل وميليشيات ومنصّات تنتمي إلى ثقافة وعلاقات القرون الوسطى، هذا بالطبع لا ينفي صحة ما قيل عن خذلان دولي لهم وانكفاء أميركي عن قضيتهم، وكذلك صحة ما قيل عن شراسة قهرية غير مسبوقة لدى النظام والإيرانيين والروس لكسر إرادة الحرية لديهم، لكن الأكثر صحة هو فشل السوريين في تشكيل مجال وطني سوري نتيجة غياب المطلق الأخلاقي وغياب العمومية في تصورات وأفكار تشكيلات طفت على السطح وعجزت عن مخاطبة العالم، مثل: المنصة والحزب الايديولوجي والفصيل المذهبي والميليشيا المذهبية، وجميعها كائنات مخرّبة لمفاهيم وأفكار تتصل بالمجال العام، وبوحدة الاختلاف، وبالهويّة كعلاقة مع الآخر المختلف، وبالتالي كانت كائنات فلكلورية، لم تعِ أهمية الارتباط الوثيق بين المسألتين الإنسانية والوطنية، وأهمية إنتاج الذات كونياً وإنسانياً.
لقد أصبح واجباً نقد «ثورات الربيع العربي» في ضوء النتائج والمآلات التي انتهت إليها، ومع انفجار الموجة الثانية من هذه الثورات في كل من الجزائر والسودان، ومن مداخل هذا النقد تصويب العلاقة بين مفهومي المطلق والنسبي بغية وضع الحدود على أوهام وخرافات الإرادات الجزئية، كإرادوية الإسلام السياسي وكإرادوية العروبة أو الكردية السياسيتين، وكإرادوية قوى «الممانعة»، فهذه إرادات مولدة للحروب ومحكومة بعدم القدرة على تشكيل حياة عامة ذات مضمون إنساني.
إن جعل المطلق مفهوماً يحدّ النسبي، ويقيم الحد على نزواته ورغباته، يجعلنا نقتنع عقلياً ومنطقياً أن الأديان الإبراهمية الكبرى الإسلام والمسيحية واليهودية، في طبيعتها العقيدية، هي أديان محلية غير كلية وتسييسها يؤدي إلى العصبية والعنف والتطرف، وإلى نشوء «دول» عنصرية عدوانية مثل «الدولة» المذهبية في إيران و«الدولة الإسرائيلية» والتنظيمات الإسلامية المتطرفة التي هي «دول» عنصرية عدوانية بالقوة.
وكذلك أن جعل المطلق حداً يحدّ النسبي، يدفعنا إلى رفع ألوية الكليات في مواجهة النسبيات، الحرية ضد الهوية، والنقد في معارضة النقد الثوري البنّاء، والمواطن الكلي حدُّ على مفهوم المواطن الصالح، والدولة في معارضة «الدولة» الدينية، والقانون في مواجهة تحديد مصادر التشريع له، والأمة كسيرورة تشكل حية دائمة و حاكمة على الملة كجثة قذفها جوف التاريخ إلينا، والكونية في مواجهة الخصوصيات الإقوامية.
مع مرور ثمانية أعوام على انفجار إرادة الحرية لدى السوريين، بات منطقيا وأخلاقيا ومعرفيا وضروريا، نقد ودحض المبادئ الإبستمية التي غذّت الإرادات الجزئية الخاصة، التي صادرت الروح العمومية للثورة، وغلفّت استكلابها الحصري بقداسة مستمدة من آيديولوجيات دينية وغير دينية، لم يعد يفوح منها إلا روائح الموت والخراب.
الحياة
تعليق واحد