مراجعات كتب

عطب الذات.. مذكرات برهان غليون عن ضياع الثورة السورية مراجعات متعددة للكتاب-


في الذكرى الثامنة للانتفاضة: برهان غليون راوياً حكاية أرتين السوري/ محمد تركي الربيعو

في سنوات ما قبل الانتفاضة السورية، كانت النكتة بالنسبة للسوريين بمثابة لغة بديلة رمزية، غالباً ما اعتمدوها للرد على واقعهم البائس، أو تكذيب خطاب السلطة. ومن بين النكت التي كثر تداولها، نكتة حول مجند أرمني في الجيش السوري. ففي أحد الأيام أراد ضابط امتحان ولائه العسكري، فسأله: أرتين تخيّل نفسك خط الجبهة، وهجم العدو الإسرائيلي واحتلها، ماذا تفعل؟ رد المجند: سيدي انسحب إلى القنيطرة وأقاوم، قال الضابط وماذا لو احتلوا المنطقة كلها؟ المجند: سأنسحب إلى دمشق. الضابط: وفي حال سقطت دمشق. المجند: انسحب إلى حمص. الضابط وماذا لو احتلوا حمص. وأرتين يرد بجوابه المعتاد.. وهكذا بقي الضابط يتلاعب بأعصاب أرتين حتى وصل الانسحاب إلى حلب.

يعود المفكر والسياسي السوري برهان غليون، في كتابه الجديد «عطب الذات»، ليذكّرنا بعبرة هذه الحادثة، فأرتين لم يعد مجنّداً وحسب، بل غدا الاسم المستعار للسوريين العاديين في علاقتهم بأطياف المعارضة السياسية السورية، التي بقيت مخلصة لقبائلها أو لثأرها الأيديولوجي مع الآخرين على حساب تكوين جسم سياسي موحّد، لتخسر لاحقاً كل شيء. يحاول غليون أن يروي لنا في الذكرى الثامنة للانتفاضة السورية مشاهد من يومياته فيها، بدءاً برواية تفاصيل دقيقة عن بعض الشخصيات الرئيسية في المعارضة، خطابهم وطرقهم في إدارة الحوار، أو بالأحرى أساليبهم في خلق عراك بالأيدي داخل الجلسات؛ مروراً بتحليل بدايات انطلاق الانتفاضة السورية، وأسباب أسلمتها لاحقاً، وغيرها من الأحداث التي عاصرها خلال سنوات الثورة. صحيح أن رائحة المرارة بقيت مطاردة لنا في مجمل محطاتها، بيد أنها لم تخل أحياناً من طرافة وحس فكاهة، بقي يمتاز بها هذا الرجل، كما ينقل المقربون عنه.

من باب دريب إلى السوربون

بعبور سريع لمقدمة الكتاب، يتبين لنا أن هموم غليون في عالم السياسة اليومي قد حكمت ربما طريقة سرده للانتفاضة السورية. فبدلاً من حديثنا عن انطلاق الاحتجاجات في الحريقة في دمشق ولاحقاً في شوارع درعا، نراه يعود لحكاية مرحلة الشباب وبداياته الأولى مع عالم السياسة.

في فترة الستينيات، كان طالباً؛ وكانت باحة دار المعلمين في دمشق تمثّل آنذاك مكاناً مثالياً للتجمع والنقاش حول الأفكار. في مساء أحد الأيام، دعاه أحد أصدقائه لحضور حلقة لأنصار الحزب الشيوعي، حيث سيكون الحديث عن مفهوم البروليتاريا عند ماركس. كان أحد الرفاق الشيوعيين يتحدث بأسلوب حماسي عن زمن البروليتاريا الموعود؛ يقاطعه أحد الشباب قائلاً «منذ سنوات ونحن نتحدث في البروليتاريا، ليتنا نقابل أحداً منهم ونتعرف عليه في الحقيقة» نظر مسؤول الحلقة باستغراب؛ ربما تفاجأ من السؤال؛ أو لكونه لم يرَ بروليتاريا سوى في كتب ماركس وبعض الروايات. كان الطالب غليون في هذه الأثناء يتابع مصدوماً هذا المشهد. ربما فكّر أن يدعوهم إلى حيّه «باب الدريب»، أحد الأحياء العمالية الأكثر فقراً في حمص، للقاء البروليتاريا؛ سيعدّل لاحقاً عن هذه الرغبة؛ إذ لا فائدة تُرجى من هذه الدعوة، فالمسألة ليست العثور على بروليتاري حقيقي، بل هي «محنة اليسار الشيوعي وأزمته في الوقت نفسه». قرر غليون، بعد هذه الحادثة، عدم رؤية زميله الشيوعي. كانت الأحزاب السورية تعتقد آنذاك أن الإيمان بأفكار الحزب هو السبيل لبناء الأوطان. كانت أيديولوجيتهم بمثابة أسوار تقولب أفكارنا، كما رآها غليون الفتي. «لم يكن أمامي وأمام شباب تلك الفترة سوى الهجرة من عالم السياسة السوري إلى عالم قوى المنظمات الفلسطينية الصاعدة في المشرق». بقيت العوالم هي ذاتها؛ صور ماركس ولينين معلقة على جدران مكاتب قادة قواعد المقاتلين الفلسطينين،التابعين للجبهة الديمقراطية في غور الأردن؛ هذه الصور ظلت بمثابة حاجز بين هؤلاء اليساريين «الطفوليين» وعالم الفلاحين الفقراء الذين عاشوا في المكان ذاته. ستتزامن خيبة غليون من اليسار، مع بدء تحضير الأسد لانقلابه على أصدقائه البعثيين؛ أُقفِلت كل الأبواب؛ قرّر الرحيل إلى فرنسا لاستكمال دراسته وأبحاثه في السوربون، بدل أن يمضيها في سجون الأسد.

كان الأسد يتحول من رئيس قاس وهمجي إلى أب وقائد؛ كانت شوارع المدن الرئيسية تشهد ظاهرة لم تعرفها في السابق عنوانها «تقديس الأسد»، وفق تعبير ليزا وادين في كتابها «السيطرة الغامضة»، صوره وتماثيله في كل الأرجاء. شوارع ومشافي ومكتبات عامة تحمل اسمه.

مع نهاية التسعينيات، شعر الأسد بدنو أجله، حاول تخفيف القبضة الأمنية؛ أتاح الفرصة لبعض الشخصيات الدينية والثقافية العودة للبلاد. كان قد أفرج قبلها بسنوات عن بعض معتقلي تدمر. إذ اعتقد أن هذه الإجراءات قد تخفّف من احتقان الشارع. كان ولده ما زال شاباً، متهوراً، لا يبالي أحياناً بأسلوب الأب في إدارة الأمور، والتعامل مع الحلفاء الإقليميين. وفي هذه الأجواء، ستُتاح لغليون العودة لمدينته، لم يعد شاباً صغيراً، بل بات، كما تُردِّد بعض الأخبار، استاذاً في جامعة السوربون الفرنسية، كثيرون ربما لم يسمعوا عنها؛ أو ربما عرفوها من خلال ربطها بهذا الشاب. مع كل عطلة صيفية، أخذ غليون يكرّر زيارته لسوريا. لم يكن مصدِّقاً أنه يسير في شوارع حمص مرة أخرى، كان العالم يتغير، وسوريا أيضاً. وكان الكثير قد قرأ له وتأثّر بكتبه حول الطائفية والديمقراطية، وبعض حواراته الأخرى التي أصدرها عن دار الفكر الواقعة في حي البرامكة في دمشق. أخذ يستعيد علاقاته ببعض رجال المعارضة وتنظيماتها. «سوريا بأكملها تتحول إلى ساحة عامة للنقاش والمداولة وبلورة الأفكار والمقترحات والمطالب والتعبير الحر والجريء والصافي عنها. لم تبق بلدة ولا حي من دون أن يتنادى مثقفوه لإنشاء منتدى ودعوة المثقفين لإحياء النقاش السياسي فيه. كانت تلك من دون شك لحظة ولادة السياسة بعد موتها الطويل في سوريا الجديدة».

رياض الترك وحسن عبد العظيم

سيُتاح لغليون في هذه الزيارات اللقاء برياض الترك. الذي كان، كما يدوّن في كتابه، صاحب شخصية مميزة؛ شجاعاً لا يخشى شيئاً، ولا يهاب المغامرة، يعيش جلّ وقته تحت الأرض، لكنه لا يخاف التحليق في الفضاءات الشاهقة، جاهزاً دائماً للعراك والسير على حافة الهاوية. رجل راديكالي في دمه، وعدو لا يُضاهى لنظام الأسد. بيد أن ما لفت نظره في المقابل أن «مانديلا سوريا» لم يكن يمتلك القدرة على التسامح والمصالحة التاريخية. «كان في الوقت نفسه، وفي العمق، رجلاً قاسياً لا يرحم مساعديه، ولا منافسيه أبداً، أوتوقراطي نموذجي، ووسواسي مسكون بالظنون، لا يطمئن لأحد، حتى نفسه». أما حسن عبد العظيم، الذي احتلّ منصب الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي، مكان الراحل جمال الأتاسي، فقد كان عكس سلفه تماماً. من ريف دمشق، مغموس بثقافة الأرض، رجل متأن بطيء الحركة، حيسوب، يكره المخاطرة، مهما كانت، ويفضل السير بمحاذاة الجدار، ويتجنب المعابر غير المطروقة والشعاب الصعبة، إصلاحي يكره العنف والمواجهة، يبحث عن الحلول الوسط و«تحت الوسط»، ويمارس التقية إلى هذا الحد أو ذاك، كي يضمن الاستمرار والعمل السياسي، في كل الظروف، ويبرع في تدوير الزوايا.

إعلان دمشق

يقف الأمريكيون على تخوم بغداد؛ وتغدو الأجواء في المدن السورية مشحونة؛ شباب من دوما، من دير الزور، القامشلي، ودرعا يتطوّعون للقتال في لجان الدفاع الشعبية العراقية. العالم بأجمعه مرعوب ويتحسس رأسه. في هذه الأثناء، كانت هناك محاولات لجمع المعارضة؛ ربما تكون الفترة الأنسب لفرض إصلاحات على النظام الذي بات على مرمى حجر من الدبابات الأمريكية؛ اجتمعت قوى معارضة من الداخل والخارج تحت مسمى «إعلان دمشق». من بين ما يرويه غليون في كتابه عن تلك الفترة حادثة طريفة جرت أثناء الإعداد لوثيقة الإعلان، وهي حادثة قد تعكس حالة المفارقة التي ما تزال تعيشها أوساط المعارضة إلى يومنا هذا. أرسل له رياض الترك النص الأخير للبيان المُزمع إصداره للإعلام.. دُهِش أثناء قراءته لإحدى الفقرات التي تشير إلى أن الإسلام ديانة الأغلبية من السوريين، وينبغي أن يحظَ باهتمام خاص. أخبر رياض بضرورة إلغائها، وضرورة تأكيد البيان على علمانية الدولة كبديل عن طائفية النظام، كما نصحه بأن «يستخدم العبارة التي استخدمها مؤسسو الدولة الأوائل التي تقول: «الدين لله والوطن للجميع»؛ في هذه الأثناء أخذ يتواصل مع صدر الدين البيانوني، كان في موقع المرشد لجماعة الإخوان المسلمين آنذاك؛ ليسأله عن موضوع الفقرة، وإن كانوا يصرون على ورودها في الإعلان؛ جاء رد البيانوني مفاجئاً: «أبداً. لسنا نحن الذين وضعناها ولا نطالب بوجودها ولا نتمسك بها». عاد لرياض لكن الأخير بموقفه الصلب كان قد حسم الأمر «لا نستطيع حذف الفقرة لأن الوقت قد تأخر؛ برهان: هذه ذريعة واهية. الخطأ ينبغي أن يُصحّح، ولا شيء يدعو للعجلة من أجل يوم إضافي. رياض: جورج صبرا هو الذي وضعها وهو مصر عليها»؛ برهان: إذن لن أوقع على البيان».

حجاب علماني في دمشق:

لاحقاً، سيزُجّ بقادة الإعلان في السجون؛ عادت ثقة النظام بنفسه بعد سنوات من الحصار؛ يزحف الريف السوري باتجاه العاصمة دمشق. قرى كاملة أخذت تخلو من أهلها في ظل الجفاف. في مقابل هذا المشهد؛ يشهد حي الشعلان، الذي كان يتردد عليه غليون أحياناً للقاء بعض الأصدقاء في أحد محاله، الذي حمل اسم ماركة معولمة، فتيات يرتدين أشكالاً جديدة من الحجاب؛ نكت هنا وهناك تقاوم الرواية الرسمية؛ حشود في الشوارع تتابع بشغف وتهريج وصراخ مباريات كأس العالم لعام 2008؛ بعد عقود من منع التظاهر وفض أي اجتماع صغير؛ شباب ورجال يتابعون بحسرة نتائج الانتخابات البرلمانية الديمقراطية في الكويت؛ أحدهم يصرخ في منزله: ديمقراطية في نظام ملكي! ونحن لماذا؟

في هذه الأثناء سيتحدث غليون في مؤتمر الفكر العربي المُنعقد في عام 2010 عن ثورة عربية «فالحديث عن إصلاح اقتصادي من دون إصلاح سياسي هو محاولة للتهرب من الموضوع، والالتفاف عليه، لأنه لا إصلاح اقتصادي من دون إصلاح سياسي، هو في الحقيقة موجهه ومحركه».

لأجاك الدور يا دكتور

لم يمض أسبوع على انتصار الثورة التونسية حتى اندلعت شرارة الثورة المصرية التي أكدت على اتجاه التاريخ هذا وعززته، وساهمت في تغيير موازين القوى واتجاهات الفكر والممارسة في الأقطار العربية الأخرى، وشجّعت على انطلاق ثوراتها السياسية. سقط مبارك؛ وجاء الدور على نظام الأسد، أسابيع، أشهر وننتهي ونعيش زمن الحرية؛ بدأت تتشكل تنسيقيات هنا وهناك؛ معتقلون يدخلون السجون ويخرجون بعد أيام؛ في هذه الأثناء، فشلت كل المحاولات لتشكيل جسم سياسي يعبر عن تطلعات الشباب. وأمام الفشل تلو الفشل، وزيادة حدة العنف، ستتوصل القوى إلى تشكيل المجلس الوطني في الخارج. يصف لنا غليون لحظة تأسيسه «كان المجلس زواجاً بالإكراه قبلنا به لتجنب خروج الأمور عن السيطرة، على أمل أن تساعد الإنجازات على تجاوز الخلافات وتعزيز وحدة المعارضة». في هذه الأثناء وجد ابن السوربون نفسه على رأس هذا المجلس. «ما له وما لعالم السياسة»، هذه العبارة التي كررها كثيرون في سياق تعليقهم على تعيينه. لم يكن سهلاً كما يذكر في كتابه «أن يجد أكاديمي ومثقف يعيش في الغربة منذ أكثر من أربعين عاماً، نفسه، بين ليلة وضحاها، في قلب الصراعات السياسية السورية والإقليمية والدولية، مدفوعاً لتنسيق أعمال واحدة من أكبر الثورات الشعبية».

عش الدبابير

كان المجلس يتكون من ثلاث قوى رئيسية: إعلان دمشق، وجماعة الإخوان المسلمين، ومجموعة العمل الوطني أو مجموعة الـ74 التي انقسمت هي نفسها إلى مجموعتين بعد أسابيع من ولادة المجلس على خلفية تمثيلها في القيادة. كان الإعلان، كما يصفه غليون، يعتبر نفسه القائد الفعلي للمجلس. كان مهووساً بمدة ولاية الرئيس التي يجب ألا تزيد عن شهر واحد، «ما يعني ببساطة عدم السماح بتكوين مركز قيادة حقيقي للمجلس، وتحويل الرئاسة إلى وظيفة رمزية خالية من المضمون، أي في الواقع إلغاؤها».

كانت القوة الثانية المؤثرة في المجلس جماعة الإخوان المسلمين. كانوا قد اعتادوا خلال العقود الطويلة الماضية من صراعاتهم السياسية على العمل المنفرد؛ كان يراقبهم وهم يمزجون بين عقائدية جامدة ومنهج براغماتي يجعل مسيرتهم تكتسي بشكل متزايد طابعاً انتهازياً. أما مجموعة العمل الوطني، التي دخلت المجلس الوطني باسم «كتلة الـ 74»، فقد وجد غليون أن سلوكها أقرب إلى سلوك «اللوبي» ومجموعة الضغط منها إلى دور الشريك في بناء إطار وطني جامع وممثل لمختلف التيارات الفكرية والسياسية المشاركة في الانتفاضة الشعبية الديمقراطية للمساهمة في الرد على تحديات تاريخية كبرى، تكاد لا ترى منها شيئاً. قائد هذا اللوبي، أحمد رمضان، لا يهتم سوى بالعلاقات العامة والاتصالات الدولية والسياسية، والدخول في مفاوضات ليس لأجل الحل، بل لتمرير الوقت ليس إلا.

في المقابل، لم يكن واقع الأحزاب الكردية أفضل حالاً من الأحزاب السورية الأخرى. شعر غليون، في أول لقاء بهم، بأن هذه الأحزاب تريد أن تحل القضية الكردية برمتها بخطوة واحدة. وفي محاولة لإصلاح البين، قادته الدروب إلى أربيل الكردية في 13 يناير/كانون الثاني 2012 على إثر دعوة مسعود بارزاني.

استُقبِل وفد المجلس بحفاوة بالغة؛ أكد بارزاني خلال الجلسة على أنه لا يمكن مقارنة وضع الكرد في سوريا بوضعهم في العراق، وأنه «لا يرى ما يمكن أن نقدمه (المجلس الوطني السوري) أكثر من ذلك». بعد شهرين سيقرأ غليون في صحيفة «الحياة» اللندنية مقابلة للرئيس بارزاني نفسه يقول فيها إن العرب لا يزالون ينكرون على الأكراد حقوقهم. وأنه قابل برهان غليون رئيس المجلس الوطني السوري في أربيل، ولم يعترف بالحقوق الكردية «إلا برؤوس شفاهه».

سرعان ما ستزداد خطورة حقل الألغام هذا بعد تعرضه كما يذكر لـ«الطعنة الأكبر» التي وُجِهت للمعارضة وللثورة من الجهة التي لم يكن أحد منا يتوقعها. «كان الشيخ السلفي عدنان العرعور، المُقيم في الرياض في المملكة السعودية، قد بدأ يستقطب قطاعاً واسعاً من الرأي العام الشعبي المؤيد للثورة، بتدخلاته المنتظمة على عدة قنوات فضائية، وبشكل خاص على قناة «وصال» التي تبثُ من الرياض. وبينما كانت المعارضة السياسية التقليدية تحرق الوقت في نقاشات داخل الغرف المغلقة للتوصل إلى اتفاق يفضي إلى توحيد الرؤية والجهد لدعم الانتفاضة، احتل الشيخ العرعور الفضائيات بخطاب ناري أظهره كما لو كان الخصم الرئيسي للأسد ونظامه، مستخدماً لغة عامية بسيطة وانتقادات لاذعة تخاطب الوعي الجماهيري أكثر بكثير من لغة السياسة النخبوية». لن تسمح هذه الظروف لغليون باستكمال عمله؛ في ظل إصرار كل الأطراف على النظر للمجلس وكأنه غنيمة حرب، وليس جسماً ممثلاً للانتفاضة.

عاد غليون وحيداً مرة ثانية؛ أخذ يدوّن في هذه الأثناء كل ما شهده في هذا المجلس. ربما الثأر، كما ظن البعض، ما دفع به لكتابة القسم الأول من كتابه؛ أو لعله ما عاد مبالياً بعالم السياسة؛ إلا أنه مع الاطلاع على القسم الآخر من هذا الكتاب، قد لا نبالغ إن قلنا إنه يبقى الأهم، والأكثر إشكالية وخلافاً مقارنة بفصول الاعتراف، أو تصفية الحسابات، التي تبقى أحد شيم السياسة. فقد حاول غليون في هذا القسم إعادة كتابة سردية الثورة السورية والمآلات التي شهدتها. بدءاً بأسلمة الثورة وتدخّل الدول العربية، مروراً بقراءته للمشهد الدولي مما استخلصه في اللقاءات التي جمعته بلافروف وجون كيري. كذلك لا ينسى في هذا السياق دور سجناء صيدنايا والإسلاميين والجهاديين في تحويل مسارات الثورة. كما ضم تحليلاً متوازناً حيال الدورين السعودي والقطري. إذ لا يخفي غليون الدور الكبير الذي لعبه السعوديون على صعيد نسج علاقات للمجلس مع القوى الدولية.

قد تكون لنا عودة إلى هذا القسم، لا سيما وأننا نرى أن سردية غليون، ورغم اتفاقنا مع بعض محطاتها؛ أهملت المرور في بعض التفاصيل التي كانت ستغني من سرديته. قد يكون معذوراً في نسيان بعض التفاصيل، فسردية الثورة اليوم أو يومياتها تحتاج إلى جهود جماعية وإلى إعادة تدوين. لم تخل بعض المحطات من تكرار، كما بدا لنا أن بعضها الآخر قد طبعها التحليل الآني (خاصة قراءته للموقف التركي)؛ إذ بدت لنا طازجة؛ مقارنة بذاكرة ونفَس الفصول الأولى التي بدا فيها غليون أكثر قرباً من أجواء تلك الفترة.

يختتم غليون كتابه بتوجيه نقد قاس للنخب السياسية السورية؛ «فهي نخبة من دون هوية ولا ذات. لا كفاءات واضحة، في الغالب، ولا مرجعيات مشتركة عامة، ولا وعي متسق ولا إرادة، إنما تمحور على الذات الفردية، وتطلّع للمغانم والمكاسب، وتأفف من الواجبات الاجتماعية، وبالتالي انقسام وتنافس وعداء متعدد الأشكال وكراهية متبادلة» ربما لذلك تاهت أو ضاعت الانتفاضة السورية كما حدث مع قادة جيش صديقنا أرتين الأرمني.

٭ كاتب من سوريا

القدس العربي

عطب الذات يفتتح مراجعات الثورة السورية/ أحمد أبازيد

صدر حديثاً عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر كتاب “عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل” للمفكر العربي والسياسي السوري وأستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون برهان غليون، ليوافق في تاريخ صدوره الذكرى الثامنة للثورة السورية التي انطلقت في 18 آذار 2011م وتحولت إلى الحدث الأهم في التاريخ السوري الحديث، إن لم تكن أهم حدث تاريخي يعرفه القرن الحادي والعشرون، والمختبر الأكبر والمفتوح لنظريات السياسة والاجتماع والتاريخ الإنساني.

وقبل أن يصدر الكتاب أثار عاصفة من النقاشات والردود والترقب في أوساط السوريين، خاصة في وسط المعارضة السياسية التي يؤرخ برهان غليون لواحدة من أهم مراحلها في هذا الكتاب، وهي مرحلة تشكيل المجلس الوطني حتى استقالة المؤلف من رئاسته بين عامي 2011-2012.

يجمع الكتاب بين البحث والتحليل كما يذكر المؤلف في مقدمة الكتاب، برهان الذي دعا قبل أشهر إلى ضرورة المراجعات وثقافة المسؤولية، بدأ بما دعا إليه في كتاب ضخم من 528 صفحة، ولكنها ليست مراجعة بمعنى نهاية الثورة أو هزيمتها النهائية، وإنما هي مقدمة لثورة ثانية: ثورة الوعي، ففي ضجيج الحرب: “ما كان من الممكن استعادة المبادرة الفكرية قبل أن يتاح للموتى أن يدفنوا موتاهم”، ليأتي هذا الكتاب كما يراه برهان غليون استعادة لمبادرة الأحياء من بين أسنان الموت واليأس وتزييف الوعي والرواية.

سيرة ذاتية من أجل الديمقراطية

يذكر برهان غليون أنه في عام 1968 حين أنهى دبلوم التربية في الجامعة، كان أمام خيارين إما البقاء في الداخل والانخراط مع المنظمات الفلسطينية وممارسة نشاط معارض للنظام بالضرورة وبالتالي قضاء عقود في المعتقل، وإما أن يسافر ليكمل دراسة الفلسفة في أوروبا والنشاط السياسي من الخارج وعدم تقديم تضحية مجانية للنظام، وهذا ما اختاره.

ستبدو مسيرة برهان غليون ونظرياته بعد هذا الموقف سلسلة لا تنتهي من الثنائيات التي سيحاول التوفيق فيما بينها أو الخروج من استقطاباتها ونفي تناقضاتها المدرسية

ستبدو مسيرة برهان غليون ونظرياته بعد هذا الموقف سلسلة لا تنتهي من الثنائيات التي سيحاول التوفيق فيما بينها أو الخروج من استقطاباتها ونفي تناقضاتها المدرسية، ولكنه يراها دائماً كثنائيات: الاعتقال والسفر، الداخل والخارج، الديمقراطية والاستبداد، الإسلاميون والعلمانيون، الدولة والدين، المعارضة والثورة، رياض الترك والإخوان المسلمون، إعلان دمشق وهيئة التنسيق.. الخ.

في الفصول الثلاثة الأولى يؤرخ برهان لسيرته السياسية ونشاطاته لأجل الديمقراطية ومعارضة نظام الأسد قبل الثورة السورية، منذ سفره إلى الخارج وبدء مشروعه الفكري ضد الاستبداد مع “بيان من أجل الديمقراطية” الذي وصف فيه النظم العربية بأنها احتلال داخلي، ثم في محطات كان أهمها تشكيل المنظمة العربية لحقوق الإنسان عام 1983م مع المنصف المرزوقي، ويروي قصة إعلان دمشق وفترة ربيع دمشق ونشاط المنتديات السياسية بعد وفاة حافظ الأسد حين تكررت زياراته إلى سوريا رغم التضييق المتزايد على المعارضين، سمح وضع برهان كأستاذ في السوربون بهامش كان واعياً به وأصرّ أن يستغله لأبعد حد لأجل النشاط وإلقاء المحاضرات في الداخل، حتى لو نظرت إليه شخصيات المعارضة التقليدية داخل سوريا من وقتها باعتباره ذلك المغترب الذي يأتي في زيارات محمياً بوضعه الأكاديمي وعلاقاته، بينما تعتبر نفسها أكثر نضالية ومظلومية وأحقية في تمثيل المعارضة، وهي النظرة التي ستؤثر لاحقاً في العلاقة بينهما ما بعد الثورة السورية في مرحلة تشكيل المجلس الوطني، لينتقل إلى تنبؤه بالربيع العربي قبل أسابيع من انتفاضة تونس، حين أصدر توقعاته عن عام 2011 في مقال عنوانه “عام القلاقل والاضطرابات والتحولات”.

المجلس الوطني وصراعات المعارضة

يبدأ بعدها الفصل الأهم في حياة ملايين السوريين وحياة برهان غليون نفسه، المرحلة التي “بلغت فيها الفاعلية التاريخية حدّها الأقصى” كما يصفها المؤلف، إنها الفاعلية التاريخية للأمة، ولكنها -أيضاً- الفاعلية السياسية لشخص برهان غليون الذي انخرط في العمل السياسي بشكل مباشر، بعد أن كان منخرطاً ومؤثراً عبر كتبه ونظرياته وندواته، التي أثرت في أفكار وخيارات جيل واسع من الشباب والمثقفين العرب، خاصة التيارات الديمقراطية والليبرالية المعارضة للنظم الاستبدادية العربية، ومن بينهم كاتب المقال نفسه، منذ كتابه “بيان من أجل الديمقراطية” مروراً بـ “المسألة الطائفية” و”المحنة العربية” و”اغتيال العقل” و”الدولة والدين” وصولاً إلى “عطب الذات” كخلاصة جمعت النظرية إلى التجربة المباشرة.

في هذا النصف الأول من كتابه يتكلم برهان غليون عن بداية الثورة السورية ثم يوثق بالتفصيل تجربة تشكيل المجلس الوطني وتحدياته وصراعاته الداخلية، يأخذنا برهان إلى كواليس المعارضة السياسية، ويتحدث بصراحة غير مسبوقة عن أشخاصها بأسمائهم، ويكسر للمرة الأولى أحد المحرّمات في أدبيات المعارضة السورية، في انتقاده الصريح لأحد الرموز التاريخيين للنضال الوطني السوري ضد نظام الأسد: “رياض الترك”.

الخلاف بين الرجلين بدأ منذ إعلان دمشق في قصة لا تنقصها الطرافة، حين أصر القيادي الشيوعي رياض الترك والمعارض “المسيحي” جورج صبرا على وضع مادة في الإعلان تنص على أن الإسلام دين الأكثرية ويجب احترامه، بينما قال الإخوان المسلمون إنهم لم يطلبوا وضع هذا البند ولا يعارضون حذفه، وهو ما اعترض عليه برهان غليون ورفض التوقيع على الإعلان بسبب هذا البند، ولكن هذا الخلاف تضاعف مع المجلس الوطني ليصل حد القطيعة:

برهان يؤكد احترامه للمسيرة النضالية الطويلة لـ ابن العم، فهو “صاحب شخصية فريدة تجمع بين التواضع والبساطة الشعبية والصلابة السياسية إلى حد التصلب. وكان رجل مبادئ، أفنى حياته في سبيل قضيته” ولكنه في الوقت نفسها “رجلا قاسيا لا يرحم مساعديه، ولا منافسيه أبدا، أوتوقراطي نموذجي، ووسواسي مسكون بالظنون، لا يطمئن لأحد، حتى نفسه”.

الخلاف بين الرجلين بدأ منذ إعلان دمشق في قصة لا تنقصها الطرافة، حين أصر القيادي الشيوعي رياض الترك والمعارض “المسيحي” جورج صبرا على وضع مادة في الإعلان تنص على أن الإسلام دين الأكثرية ويجب احترامه، بينما قال الإخوان المسلمون إنهم لم يطلبوا وضع هذا البند

ولكن برهان غليون مثقل بشكل شخصي بشعوره أنه وقع ضحية حرب ومؤامرة عليه في المجلس الوطني أدت إلى إفشال أهداف المجلس الوطني، ويرى أن هذه الحرب ضده كانت سبباً رئيساً في إخفاقات المعارضة السورية، وينطلق من تجربته هذه في تحليله للعقد الشخصية والأخلاقية لقوى المعارضة والثورة السورية والتي انشغلت بالصراع على زعامات وهمية بدلاً من العمل الجماعي المنجز.

تابو آخر من أدبيات المعارضة السياسية المحسوبة على السقف الثوري يكسره برهان غليون في حديثه عن زعيم هيئة التنسيق “حسن عبد العظيم”، الذي يرى أنه ليس عميلاً للنظام كما يصفه خصومه (خاصة إعلان دمشق) ولكنه معارض حقيقي ضمن سقفه وخياراته الخاصة، والتي ينتمي إليها قسم حقيقي من الناس لا يريدون الذهاب في معارضتهم نحو السقف الأعلى وخيارات التضحية، فلا يمكن أن نخير الناس إما أن يكونوا ثواراً جذريين أو عملاء.

رغم شعوره بالمرارة والمؤامرة في تجربته في المجلس الوطني، إلا أن برهان غليون أكد في مناسبات عديدة في الكتاب على أن المجلس الوطني كان تجربة وطنية خالصة في محاولة التمثيل السياسي للثورة السورية، وأن وطنية هذا المشروع واستقلاليته كانت السبب في إنهائه وتشكيل مشاريع سياسية مقدمة من الدول لاحقاً، في إشارة إلى تشكيل الائتلاف الوطني بعد ذلك.

الإسلاميون والعلمانيون

ينبش برهان غليون الجمر تحت الرماد في حديثه عن الإسلاميين والعلمانيين، ومقولة أسلمة الثورة هنا، أو دور النخبة هناك. منذ كتابه “بيان من أجل الديمقراطية” كان برهان غليون سابقاً في جرأته على نقد النخبة العلمانية العربية، واعتباره أنها نخبة منعزلة عن الشعب وتتحالف موضوعياً مع السلطة في تبنيها “أيديولوجيا جهل الشعب” وتحميله مسؤولية مشاكله، وكان هذا النقد للعلمانية العربية من ركائز مشروع برهان الفكري ومحاولته شقّ طريق بين الاستقطاب الإسلامي العلماني وتفكيك المقولات الجاهزة لدى الطرفين عن الآخر وعن الدولة والمجتمع، ولكن هذا النقد هنا يكتسب تأكيداً مضاعفاً من التجربة العملية الراهنة التي خاضها بعد الثورة.

لا تختلف حدة هجوم برهان غليون على الإسلاميين وفقدانهم للمشروع الوطني، ولكنه يحرص على التمييز فيما بين تيارات الإسلاميين واختلافاتها، في نقده لمقولة “أسلمة الثورة” التي يرى أنها أصبحت مدخلاً لشيطنة مظاهر التدين الشعبي وشيطنة الثورة السورية والشعب نفسه ما يخدم رواية الاستبداد، فلا بد من التمييز بين الإخوان المسلمين والسلفية المحلية والتيارات الجهادية والثقافة الإسلامية الشعبية، وفهم هذه التمايزات ومراحل انتشار الأدلجة ضرورة حتى يكون لنقد “الأسلمة” أو الإسلاميين جدواه.

لا تختلف حدة هجوم برهان غليون على الإسلاميين وفقدانهم للمشروع الوطني، ولكنه يحرص على التمييز فيما بين تيارات الإسلاميين واختلافاتها، في نقده لمقولة “أسلمة الثورة” التي يرى أنها أصبحت مدخلاً لشيطنة مظاهر التدين الشعبي

يتكلم برهان غليون بجرأة مريرة عن مراوغات الإخوان المسلمين، وتلاعب أحمد رمضان في المجلس الوطني، ويشبه عدنان العرعور بالأعور الدجال…الخ، ولكنه كمثقف اعتبر دائماً مهمة الثقافة الانخراط في الشعب والنضال معه، فهو يشير إلى هذا الفارق بين الإسلاميين والعلمانيين السوريين، رغم أن لدى الطرفين أمراضاً مشتركة عاينها وعانت منها الثورة السورية، إلا أن الإسلاميين انخرطوا مع المجتمع وبنوا مشروعهم من داخل ثقافتهم وجغرافيتهم، وكان لديهم قدرة على التضحية لأجل هذا المشروع، ولكن النخبة العلمانية –كما يراها- اكتفت بالتمايز عن الناس وكانت أقل قدرة على التضحية وأكثر استعلاء وإقصائية.

ويفرق برهان غليون بين هذه التيارات الإسلامية المحلية من جهة، وبين داعش والقاعدة من جهة أخرى، “لقد كانت حروب النصرة وداعش بالأساس ضد كتائب الجيش الحر وحققت مكاسبها الترابية على حسابها، وأكثر فأكثر يتبين اليوم مدى النفوذ الذي كانت تمارسه طهران ودمشق الأسد على المنظمات التي نعتت بالجهادية، والمتطرفة”، وهذا مهم في سياق حرب الرواية ونقد مقولات انحراف أو أسلمة الثورة من بوابة نشوء داعش والقاعدة، لأن هذه التنظيمات لم تنشأ من داخل الثورة، وإنما كانت تنظيمات وافدة من خارج مشروع الثورة ولأجل محاربة هذا المشروع بالذات، وهو ما جعلها أقرب إلى حلف الأسد وإيران مما هي إلى الثورة السورية.

فشل القيادة العسكرية الموحدة

ملف آخر من إخفاقات الثورة السورية يطرحه برهان غليون في الكتاب، وهو فشل تشكيل قيادة موحدة للعمل المسلحة في الثورة، ورغم أن برهان كان يفضل المسار السلمي ويرى عواقب المسار المسلح، إلا أنه لم يضع نفسه في مواجهة هذا المسار حين أصبح واقعاً قائماً، بقدر ما حاول التأثير فيه ومحاولة وضع القيادة العسكرية تحت قيادة سياسية موحدة تمثل الثورة، حسب قوله.

كان الانفصال ما بين المعارضة السياسية والفصائل المسلحة من أبرز مظاهر ضعف المعارضة السياسية وعدم الاعتداد الدولي بتأثيرها على الأرض، وقد غذى هذا الانقسام عدم تشكيل الفصائل أو الضباط المنشقين لقيادة موحدة تجمع شتات الكتائب المحلية التي حملت السلاح في وجه نظام الأسد، كان هناك انفصال موازٍ داخل العمل المسلح ما بين مجالس الضباط المنشقين وما بين القادة الميدانيين “المدنيين”، ثم انفصال وصراع ما بين الجهاديين والثوريين، وتنافس وصل حد الاقتتال ما بين الفصائل، أدى فقدان هذه القيادة والتنظيم الموحدة لاحقاً إلى قدرة الدول بشكل أكبر على خلق نفوذها داخل الفصائل، ثم إلى انتشار الأدلجة فيما بينها.

وينتقد برهان في الكتاب دور الضباط المنشقين ونزاعاتهم، التي كانت وجهاً آخر لنزاعات النخبة السياسية، ويتكلم بالأسماء عن العقيد رياض الأسعد والعميد مصطفى الشيخ وغيرهم

وينتقد برهان في الكتاب دور الضباط المنشقين ونزاعاتهم، التي كانت وجهاً آخر لنزاعات النخبة السياسية، ويتكلم بالأسماء عن العقيد رياض الأسعد والعميد مصطفى الشيخ وغيرهم، ومحاولاته المختلفة للوصول إلى تفاهمات مع رياض الأسعد دون جدوى، رغم أن العقيد الأسعد نفسه لم يكن قائداً بالمعنى الحقيقي للجيش الحر الذي استمرّ بطابعه المحلي والفصائلي وكان يشير إلى فكرة المقاومة الثورية ضد نظام الأسد، أكثر مما يحيل إلى مؤسسة عسكرية مركزية متماسكة.

لم تتمكن المعارضة السياسية –ولا النخبة المثقفة- في عهد برهان غليون ولا بعده من القيام بدورها في التأطير والتوجيه السياسي للعمل المسلح، ولعلّ ما كان مطلوباً منها حتى يمكنها ذلك هو الانخراط فيه –كما فعل الإخوان المسلمون أو الإسلاميون بالعموم- وليس طلب توجيهه من فوق أو عبر المال.

العامل الدولي في الثورة السورية

منذ اختلاف برهان غليون مع المعارضة التقليدية في إعلان دمشق تكررت محطات الاختلاف والصراع، وكان الموقف من التدخل الدولي أبرزها، يرى برهان أن التدخل الدولي كان خرافة سيطرت على تيارات المعارضة من إعلان دمشق ومجموعة العمل الوطني، وأنهم تخيلوا أن مجرد طلب التدخل سيدفع الدول للتدخل، وهو المثقف الذي كان لديه موقف واضح ضد التدخل الغربي في العراق وليبيا شعر بالتناقض لو طلب ذلك في بلده، ولذلك ذهب نحو خيار وسطي حين طلب “حماية المدنيين”.

ويخالف المزاج الشعبي السائد مرة أخرى في عدم تحميله العامل الخارجي مسؤولية هزيمة الثورة أو التآمر عليها، من الصحيح أن حلفاء الثورة لم يكونوا بالجدية نفسها لدى حلفاء النظام، و”لم يكن للثورة السورية حلفاء هذه حقيقة واضحة كالشمس، لكن ليس من الصحيح أيضا أن الجميع أراد خسارتنا أو هزيمتنا”، بينما كانت التدخل الإيراني والروسي هو الأكثر جدية في دعم نظام الأسد والسيطرة على سوريا بالمقابل.

ويخالف المزاج الشعبي السائد مرة أخرى في عدم تحميله العامل الخارجي مسؤولية هزيمة الثورة أو التآمر عليها، من الصحيح أن حلفاء الثورة لم يكونوا بالجدية نفسها لدى حلفاء النظام

يرى برهان أنه كان هناك تعاطف حقيقي مع قضية السوريين، ولكن كان العرب متخبطين وفاقدين للاستراتيجية أكثر من المعارضة السورية وانشغلوا بحروبهم الخاصة في سوريا بدلاً من معركة الثورة نفسها، أما الغرب (أمريكا وأوروبا) فهو لم يكن يتبنى خيار انتصار الثورة بقدر إصلاح سلوك النظام، وقد تخلى عن التزاماته الأخلاقية والقيمية تجاه منع المذبحة السورية، وهو ما ساهم في تراجع النموذج الليبرالي لصالح الشعبوية واليمين المتطرف والنموذج البوتيني في بلدانه، ولكنها ليست المؤامرة.. إنما عوامل داخلية وخارجية عديدة تضافرت للوصول إلى هذه النتيجة، ومن بينها أخطاء المعارضة ونزاعاتها الذاتية، والانقسامات المجتمعية العديدة، وفقدان القدرة على العمل الجماعي.

خاتمة: حرب الرواية وجدوى المراجعات

خارج الإطار الشخصي للمذكرات السياسية، فإن كتاب عطب الذات يضع نفسه في المقدمة كجزء من مشروع كبير يتمثل بثورة الوعي التي يعتبرها استمراراً لثورة السوريين ونضالهم، وإلى جانب ذلك يضعه ضمن حرب الرواية التي يخوضها السوريون مع الهدوء النسبي لحرب السلاح، وضرورة إثبات روايتهم حتى لا تقع في تزييف السلطات الأقوى، كما ينبغي تصنيف الكتاب ضمن مراجعات الثورة السورية وأداء المعارضة السياسية، والتي كان برهان أحد قياداتها وتحمّل مسؤولية تمثيلها في واحدة من أهم مراحلها.

هنا يأتي السؤال الذي تكرر قبل صدور الكتاب، والذي سيتكرر بعد قراءته، وهو أين أخطأ برهان غليون نفسه ؟

هنا يأتي السؤال الذي تكرر قبل صدور الكتاب، والذي سيتكرر بعد قراءته، وهو أين أخطأ برهان غليون نفسه ؟

السؤال الذي لم يتعرض له برهان في عرضه المسهب والطويل لأخطاء المعارضة السياسية وتحولات الثورة الشعبية وشرح انتكاساتها وهزائمها، بينما يرى أن مشروعه واستراتيجيته قد وقعت ضده مؤامرة من أطراف كثيرة، وكانت السبب في جزء كبير من هذه الانتكاسات.

هذا الجانب هو ما سيخالفه فيه منتقدوه وزملاؤه في المعارضة ويدفعهم لكتابة روايتهم هم للمجلس وفترة رئاسة برهان غليون وانتقاداتهم الموجهة إليه، إضافة إلى التشجيع على كتابة شهادات ومراجعات ومناقشات أخرى في مراحل وقضايا الثورة السورية، وهو ما سيغني بلا شك رواية الثورة السورية وأدبياتها السياسية، ويضيف للكتاب أهمية مضاعفة، في كونه افتتح باباً واسعاً للنقاش والردود وكتابة رواية الثورة السورية ومراجعاتها.

تلفزيون سوريا

برهان غليون ووقائع ثورة لم تكتمل(*)/ نواف القديمي

أحسب أنني قرأتُ قدراً جيداً من السير الذاتية والسياسية، لكني لم أقرأ سيرة بالجرأة التي دوّن بها الدكتور برهان غليون كتابه الجديد. كتّاب السيرة عادة ما يتجنبون الحديث النقدي المباشر والجريء عن الشخصيات والتجمعات السياسية، بل يميلون غالباً إلى استخدام لغة دبلوماسية غير مباشرة، والتلميح لا التصريح. لكن برهان غليون في شهادته هذه لم يفعل ذلك، بل تحدث عن السياسيين والناشطين والمثقفين وقادة الفصائل والمجموعات السياسية بكل جرأة، وكأنه يتحدثُ إلى صديقٍ خاص في لحظة تجلٍ تسقُط فيها كل الحُجُب.

بعد مرور سريع على المشهد السياسي في سوريا خلال الستينيات والسبعينيات وما أعقبها من أحداث دموية ومواجهات بدأت في 1979 وانتهت بمجزرة حماة العام 1982، ثم فترة هدوء نسبي امتدت حتى “موت الديكتاتور” – والعبارة لرياض الترك – العام 2000، وما تلاها من نشاطات ربيع دمشق، ثم إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي، وانقسامات الوسط السياسي في سوريا، وصولاً للحظة الربيع العربي وبدء الثورة والتي تمثل المادة الرئيسية لهذه الشهادة.

بدء الاحتجاجات، وبدء المواجهة الأمنية والقتل، وتوالي المواقف الدولية، وتصاعد المظاهرات، والنشاط المحموم – المليئ بالاستقطاب والمُحاصصة وعدم الثقة – لتكوين واجهة سياسية للثورة، فبدايات العسكرة والتسلّح والانشقاقات المتوالية من جيش النظام، ثم تكوّن الفصائل العسكرية تحت لافتة الجيش الحر وما أعقبها من نشوء الفصائل الإسلامية التي امتدت لأسلمة غالب النشاط الثوري المسلّح. إضافة لحديثٍ موسعٍ عن أدوار ومواقف كلاً من هيئة التنسق، ومجموعة إعلان دمشق، وجماعة الإخوان المسلمين، ومجموعة العمل الوطني، والأكراد ومطالبهم وطموحاتهم، وعشرات الأسماء لسياسيين وناشطين ومثقفين وعسكريين وقادة فصائل، كل ذلك تحدث عنه د.برهان غليون وطرح رأيه وشهادته في أدوارهم ومواقفهم بكل شفافية ووضوح.

كما احتوت الشهادة إطلالة على التاريخ السياسي الحديث لسوريا وطبيعة المجتمع وانقساماته الاجتماعية والسياسية والجهوية وعلاقة الريف بالمدينة، وتضمنت تحليلاً وافياً لمواقف كلاً من روسيا وإيران والغرب وتركيا والسعودية وقطر وتصوراتهم ل “سوريا كما يريدونها” وطبيعة أدوارهم وطموحاتهم فيها.

“عَطَب الذَّات: وقائع ثورة ثم تكتمل” ربما يكون أول شهادة موسعة وجريئة تتحدث عما جرى في الكواليس وفي العلن خلال أهم سنوات الثورة السورية بقلم أحد أهم الفاعلين فيها وأول رئيس للمجلس الوطني السوري. وهو ما سيُحفز كثيرين للرد والتعقيب وكتابة شهاداتهم عن تلك الوقائع والأحداث، الأمر الذي سيمنحنا – نحن القرّاء – روايات متعددة للحدث الواحد.

————

ثمة عشرات المواقف والقصص المدهشة والمهمة التي دوّنها د.برهان غليون في كتابه وتستحق أن تُروى، إما لما تضمنته من مفارقة أو لغرابتها وفرط وضوح أصحابها أو لانتهازيتهم، أذكر منها كنموذج هذين الموقفين:

……

يتحدث د.غليون في سياق حديثه عن توقيع بيان “إعلان دمشق للتحول الديموقراطي” الذي شارك في إعداده وصياغته المعارض السوري الشهير رياض الترك والذي كان هو وخالد بكداش يتزعمان أكبر فصيلين شيوعيين في سوريا:

“بعد مداولات طويلة، أرسل لي رياض الترك النص الأخير للبيان المزمع إصداره للإعلام عن ولادة التجمع الجديد. ودهشت لفقرة وردت فيه تقول إن الإسلام هو ديانة الأغلبية من السوريين وينبغي أن يحظى باهتمام خاص. قلت لرياض: هذه الفقرة غير ضرورية ومسيئة للبيان، إذا كان الإسلام دين الأغلبية فهو الدين المهيمن على الفضاء الثقافي والروحي، ولا داعي لتأكيد ما هو واقع، بالمقابل ما كان ينبغي عليكم أن تعيروه اهتماماً أكبر هو تطمين الجماعات الدينية الأخرى على موقعها لا العكس. لكنني طالبت بأن تُحذف الفقرة تماماً وإلا سأرفض التوقيع على البيان/ الإعلان (…) وفي انتظار جوابه، بعد المشاورات مع بقية الأطراف، اتصلت بصدر الدين البيانوني، وكان في موقع المرشد لجماعة الإخوان المسلمين، وسألته إذا كانوا مصرين فعلاً على هذه الفقرة التي تسيء للبيان والإعلان ومشروع العمل الديمقراطي المعارض معاً. قال: أبداً، لسنا نحن الذين وضعناها ولا نطالب بوجودها ولا نتمسك بها. نقلت ذلك إلى رياض، الذي أجابني أنهم لا يستطيعون حذف الفقرة لأن الوقت قد تأخر. قلت: هذه ذريعة واهية، الخطأ ينبغي أن يُصحَّح، ولا شيء يدعو للعجلة من أجل يوم إضافي. قال مباشرة: جورج صبرا هو الذي وضعها وهو مُصرٌّ عليها. فأعلمته بأنني أرفض التوقيع على بيان إعلان دمشق الذي كنتُ من أول الداعين له والضاغطين لإصداره”.

……

وبعد الثورة وتشكيل المجلس الوطني، حين كرر عليه في باريس صادق خرازي مستشار المرشد الإيراني بأن يلتقي بالإيرانيين ويزور طهران، أجاب الدكتور برهان:

“قلت: حسناً؛ قبل أن التقي بهم، أودّ أن تسألهم من طرفي: ما هي حدود تطلعاتهم في سورية، وماذا ينتظرون من السوريين بالضبط، وما الذي يتوقّعونه من المعارضة؟

وتتالت اللقاءات وذهب إلى طهران عدة مرات، وفي كل مرة يعود بكلام معسول لكن من دون أي جواب واضح. وعندما ألححت عليه لمعرفة ماذا يفكر بالضبط المرشد ومستشاروه كمخرج من الحرب السورية التي هم شركاء رئيسيون فيها، أجابني بأنهم لم يقدموا أفكاراً واضحة ولكنهم متحمسون للقائي في أية ظروف، وأنني إذا ذهبت إلى طهران سوف نتفاهم على كل شيء. قلت: سأدع ما يفكر فيه الإيرانيون وأطلب منك أن تحدثني أنت عن انطباعاتك عما يمكن أن يفكروا فيه، وعن رؤيتك أنت للوضع. قال: “ليكن هذا بيننا. الإيرانيون يريدون أن تكون سورية كاملة لهم أو معهم، فهم في حرب مع المملكة السعودية، وأنتم في نظرهم أقرب إليهم، أي إلى إيران، بل أنتم جزء من حضارتهم، ولا علاقة لكم ببدو جزيرة العرب. وهم مستعدون، كما قالوا لي، أن يقدموا لكم ضعف ما يقدمه لكم الخليجيون من أموال وتبرعات لقاء ذلك؛ إذا قدموا لكم مليارين فإيران تقدم أربعة”. لم أُدهش لكنني جمدت. فسألني: ما هي الرسالة التي تود أن أنقلها للإيرانيين من طرفك؟ قلت: قل لهم إن الشعب السوري ليس معروضاً للبيع، وهو جزء من العالم العربي ولا يمكن أن ينفصل عن حاضنته العربية، وليس هذا موضوع مساومة ولا مفاوضات. وكان ذلك إعلان بنهاية الحوار. وقد انقطع الاتصال بالفعل مع طهران، وعرفت بعد ذلك أنه لا حوار ممكناً مع طهران”.

(*) مدونة كتبها الباحث نواف القديمي في صفحته الفايسبوكية

(**)يقع الكتاب في ٥٢٨ صفحة، وستُقام فعالية حول الكتاب في مكتبة الشبكة العربية باسطنبول يوم السبت 16 مارس/آذار الساعة السادسة مساءً، يتحدث خلالها د.برهان غليون عن كتابه ويوقع نسخاً منه.

المدن

عطب الذات.. مذكرات برهان غليون عن ضياع الثورة السورية/ عبد القدوس الهاشمي

يناول الضابط السوريّ في مطار دمشق البروفيسور الواصل للتو من فرنسا ورقة كُتب عليها “يراجع 253”. لا يفهم أستاذ علم الاجتماع السياسي المراد من هذه الورقة، فيسأل “شو هاد؟” يصيح الضابط غاضبا “اعطها لأي سائق تاكسي وسيوصلك”.

يمضي الأستاذ إلى موقف سيارات الأجرة، ويناول سائقا الورقة، ودون أي جواب تنطلق سيارة الأجرة في شوارع دمشق، قاصدة فرغ المخابرات رقم 253، يتوقف السائق ويشير إلى المبنى، يُخرج الأستاذ النقود لينقد السائق حقّه، فيرفض السائق أن يأخذ شيئا ويتمتم “روح، الله يفرّج عنك”. كان السائق يعرف أنه يوصل الأستاذ إلى حتفه، ولم يرد أن يطعم أولاده لقمة فيها رائحة الموت.

كنت أصغي بانتباه وحماس كبيرين للدكتور برهان غليون وهو يحكي لي إحدى قصصه مع مضايقات الأمن السوري كلما زار سوريا قبل الثورة. وكانت فاتحة الحديث الذي قادنا إلى هذه القصة الشائقة طلبي منه أن يحدثني عن تجربته في رئاسة المجلس الوطني في أول سنوات الثورة السورية، فاجأني الأستاذ بقوله إنه انتهى من كتابة شهادته عن تلك الفترة، وأنه جاء لإسطنبول بحثا عن ناشر.

سيصدر بعد أيام كتاب برهان غليون بعنوان “عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل، سورية 2011-2012″، في 528 صفحة، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر. ويعرض فيه غليون بدايات الثورة السورية، وكيف تكون المجلس الوطني، والظروف التي أحاطت بقيامه وتفاصيل رئاسته، كأول رئيس للمجلس، ثم استقالته بعد ذلك، والأسباب التي أدت إلى الاستقالة.

يدخلنا برهان بكتابه هذا إلى المطبخ الثوري، ليرينا كيف كانت تصدر القرارات، ويكشف بصراحة بالغة ما كان يجري من مكائد وعداوات داخل الصف الثوري.

مذكرات

بنى برهان كتابه على قسمين رئيسين: القسم الأول يشبه المذكرات، حيث يسرد فيها مسيرته السياسية والأكاديمية، مرورا بتجربة ربيع دمشق (وهي فترة نشطت فيها المعارضة السورية عقب وفاة حافظ الأسد وتولي بشار السلطة)، التي يرى غليون أن ثورة مارس/آذار 2011 كانت امتدادا له، وانتهاء بقيام الثورة والسعي لإسقاط نظام الأسد وتجربة المجلس الوطني.

أما القسم الثاني فيخلع فيه غليون ربطة عنق السياسي، ويمسك بقلم الأستاذ، ليحلل ويشرح ما حصل للثورة السورية وتفاعل اللاعبين الخارجيين معها.

وسأسير بك في عرضي للكتاب سير المتعجّل الذي يريد أن يطلعك على لبّه دون أن يصرفك عن مطالعته.

بدا لي أن الأستاذ كان يكتب كتابه وهو يجزّ على أسنانه من الغيظ؛ فالمرارة والشعور بالخيبة هما الجو السائد في الجزء الأول من الكتاب.

وأنت متى قرأت الكتاب واطلعت على قصص الخلافات في المجلس الوطني الذي حمل الثوار لافتات تأييده في بدايته وحمّلوه آمالهم، لن يفوتك الشعور بالمرارة الحازّة؛ فقد صوّر برهان بشفافية عالية وصراحة مدهشة -ستكون لها عواقب عراكيّة عند صدور الكتاب- زعامات الثورة بمجموعة من قصار النظر، الذين يتقاتلون على كعكة الزعامة، ولمّا يخرجها الخبّاز.

لقد كان “عطب الذات” آفة الثورة السورية؛ التعطّش للمناصب، والنرجسية المفرطة، واللهث خلف المكاسب الذاتيّة والفئويّة، وغياب الإستراتيجية الجامعة والمشروع الوطني، وتقديم مصالح الأحزاب والجماعات على مصالح الثورة والشعب؛ ذلك هو عطب الذات الذي يحكي عنه برهان، مسميا الأشياء بأسمائها، ومشهّرا بكل من تمثّلت فيه تلكم الأعطاب، بالاسم والكنية.

وإن شئت تعبير الصحافة قلت: لقد فتح برهان النار على الجميع. لم ينشغل برهان بسردية التآمر الدولي على الثورة السورية، ولا قوة حلفاء النظام، وإنما كان يشير إلى الثوار أنفسهم. وإن شئت قلت إلى قاداتهم. إلى الإخوان المسلمين، وإلى جماعة إعلان دمشق، وإلى هيئة التنسيق، وإلى الضباط المنشقين، وإلى الفصائل المقاتلة، ولا أنسى العرعور الذي خصص له قسما مليئا. لقد استدار برهان في كتابه هذا ليواجه الثوّار، ويقول هزيمتنا منكم لا من عدونا.

منتقدون

بدأ المؤلف كتابه وأصوات منتقديه تطنّ في أذنه، فأخذ يقدم نفسه لقارئه بكشف نضاله في سنوات ربيع دمشق؛ فهو ليس مجرد “أستاذ سوربوني يحمل جوازا فرنسيا يقيه من الأذى”، لقد كان برهان مثقفا ملتزما تجاه وطنه وأهله بكل ما في هذا الوصف من مسؤولية.

لقد كان الأستاذ مناضلا بلسانه وقلمه، وأورد نفسه المخاطر، وفعل ما فعله المناضلون من رفاقه في ربيع دمشق ممن أودعوا السجون. فإن قلت لي كان معه جواز يحميه. قلت: إنما الشجاعة والنضال في التعرّض للمخاطر لا الوقوع فيها. فمتى تجاوزت كشف نضاله المسرود في الفصول الأولى فإنك لاقٍ قصة الثورة ومساعي برهان لتأسيس جبهة ناظمة تضم قوى الثورة وتمثلها.

انعقد المجلس الوطني تحت رئاسة برهان، ولكن انعقاده لم يعن أبدا وحدة بين أعضائه. فالإسلاميون -ممثلين في الإخوان- كانت عيوبهم تحول دون العمل المنتج معهم؛ فهم: عاجزون عن تجاوز محنتهم، وتغيب لديهم النظرة الوطنية، وينعدم إيمانهم بالعمل الجبهوي، كما أن ولاءهم لتركيا كان مزعجا، فقد أصروا على حضور ممثل تركي في أول جلسة انعقد فيها المجلس.

ولم يكن العلمانيون أحسن حالا -كما يقول غليون- فقد كانوا مصابين “بفوبيا” من الإسلاميين، كما كانوا متقاعسين ومتهرّبين من المسؤولية، ومنغمسين في الأقاويل الشخصية والمماحكات النظرية. “لم تكن النخبة العلمانية السورية أكثر ديموقراطية ولا أفضل تنظيما ولا أوسع مشاركة في الأعمال الميدانية ولا أوسع حضورا دوليا من منافسيها الإسلاميين، بالعكس، لقد كانت أكثر انغلاقا والأشد إقصائية وخصاما والأقوى غرورا، والأجبن سياسيا، والأبعد عن مخاطبة الجمهور، والتفاعل معه، والتفكير في مشاكله، ومشاركته همومه، والأقل حضورا دوليا”.

العسكريون

هذه كانت حال القوى السياسية كما يصفها غليون، أما القوى المسلحة فلم يفلح برهان في تطويعها وضمها تحت المجلس أبدا. ويرجع هذا لسببين رئيسيين: أولهما نظرة الازدراء لدى العسكريين تجاه السياسيين، فلم يكن لأي قائد عسكري أن يخضع لقيادة مدنيّة لغايات ديموقراطية بحتة، كيف وهم يرون أنفسهم أحق بالقيادة، كما تكشف تفاصيل الخلاف بين برهان غليون ورياض الأسعد.

وثانيهما، أن الجهات الداعمة لم تكن مضطرة إلى تقديم التمويل للمجلس الوطني ليعيد تقسيمه على الفصائل حسب ما يرى. فقد تمكن الداعمون من إيجاد قنوات مباشرة لدعم الفصائل المسلحة التي صارت تدين لهم بالولاء، وتضمن لهم نفوذا في الداخل السوري؛ وبهذا بقي المجلس الثوري بلا أنياب، وسط ثورة مسلحة.

في القسم الثاني أخذ برهان يقوّم ويحلل العوامل الخارجية والتفاعل الدولي مع الثورة السورية. ويتخذ من المسألة الشائكة التي قسمت صف الثوار الذي لم يكن متراصا أصلا، وهي دعوة التدخل الأجنبي، مدخلا للقسم الثاني.

وجد برهان نفسه محاصرا بين آلة القتل والدمار لدى النظام مصحوبة ببعض أصوات المعارضة التي تدعو للتدخل الخارجي، ومأزق الثقة والسيادة لدى مجلس وطني يطالب بتدخل قوات أجنبية لم تنمح ذكرى نماذجها القريبة الكارثية، لا سيما في العراق، زد على ذلك دعاية النظام القائمة على تشويه المعارضة ووصفها بالعمالة والتبعية للغرب.

وجد برهان مخرجه من هذا كلّه بالدعوة إلى “حماية المدنيين”، ووجد فيها حلا وسطا بين خيارين معقّدين، وآثر اعتماد هذا الشعار، فقد قدّر أنه لا وجود لأي علامات على استعداد غربي للتدخل، كما لم يسمح له حسه السياسي بأن يقدّم هديّة إلى النظام بتصديق حملته التشويهية للمعارضة، فآثر التوسّط بين هذين والرضا بشعار “حماية المدنيين”.

لقد بدا لي أن نظرة برهان للمواقف الخارجية نظرة واعية، ومحيطة بالتفاصيل، فهو حين يحكي عن موقف الأميركيين يصفه بدقة فيقول: لم تر الإدارة الأميركية في الثورة السورية سوى حرب شيعية سنيّة، وتنافس خليجيّ فارسيّ على النفوذ في المنطقة، ورأت أنه من المستحيل أن تنتج عنها ديموقراطية عربية، ومن ثمّ لم تكن للأميركيين أي مصلحة في التدخل.

أما الأوروبيون فقد كانوا يعانون من أمرين: أولهما غياب الطموح السياسي، والتركيز على الشؤون الإنسانية والاقتصادية. وثانيا ضعف الثقة بالنفس وانتظار مبادرات البيت الأبيض. أما الروس، فيرى البروفيسور أن تدخل روسيا في سوريا لم يكن لإستراتيجيات وتحقيق مصالح كانت تستطيع أن تضمنها لها المعارضة، وإنما كان لتسجيل موقف أمام الغرب والثأر لكبرياء موسكو التي طالما همّشها الغرب؛ وعليه فقد كان الروس يتصرفون على أساس انفعاليّ للحفاظ على كبريائهم، فلم يكن لينجح معهم الحديث العقلاني واستعراض مصالحهم التي يمكن أن توفرها لهم المعارضة.

وعي

ومع كل هذا الوضوح في تشخيص المواقف الغربية ودوافعها، كان يقرع ذهني سؤال: لماذا لم ينجح رئيس المجلس في تقديم أداء أفضل على المستوى الدولي للقضية مع وجود هذا الوعي السياسي؟ وكان يخيّل لي أن الجواب من أن وعي الأكاديمي مفارق لوعي السياسيّ؛ في أن الأخير قادر على الفعل وإن لم يتضح له الموقف كل الوضوح، والأول قد يكون أقوى في الفهم ولكن تقصّر به الموهبة في الفعل.

حين سئل ستيفن هوكينغ عن عدم كتابته سيرة حياته، أجاب بجواب طريف: “لا أريد أن أكتب سيرة حياتي حتى لا أصبح ملكيّة عامة”. لقد كتب البروفيسور المحترم طرفا من سيرته، وأصبحت ملكية عامة، وأنا أقدّم بهذا لمسألة قد حيّرتني في الكتاب؛ فالأستاذ على جرأته ونزاهته المعروفة قد خلت شهادته من أي مراجعة لرئيس المجلس الوطني السوري سابقا، فلا تجد في عرض الكتاب السمين، لفظة أخطأت أو ندمت أو تقديم تراجعات عن قرارات تبيّن له خطؤه فيها، مع صراحته وصرامته في ذكر أخطاء الآخرين، وهذا محيّر، ويقرب أن يكون أيضا عطبا في الذات.

الجزيرة

برهان غليون يقدم سيرة شخصية لـ”وقائع ثورة لم تكتمل”
في محاضرة نظمتها “الشبكة العربية للأبحاث والنشر”، فرع إسطنبول، على هامش صدور كتاب “عطب الذات: وقائع ثورة لم تكتمل.. سوريا 2011 – 2012” للدكتور برهان غليون، قدم الباحث أحمد أبازيد، والكاتب محمد الربيعو، بالإضافة لصاحب المذكرات عرضًا موجزًا لأبرز النقاط التي جرى تناولها في صفحات “عطب الذات”، معتبرين أنها مزجت بين “الهم الشخصي” والفكر التروتسكي عند غليون في تناوله لوقائع الثورة السورية.
“الهم الشخصي” والتروتسكية في “عطب الذات”
في البداية قدم أبازيد عرضًا للمذكرات التي أثارت موجًة من النقاش والجدل قبل صدورها ما يؤكد على أهميتها، فهو اعتبر أنها جاءت في سياق أجزاء متعددة تمزج بين السيرة الذاتية، والتأريخ لبدايات الثورة السورية، وصولًا لتأسيس المجلس الوطني السوري المعارض، ما يجعل منها سيرًة فكرية محورها الثورة السورية، والتنظير الفكري لما جرى، وكيف وصلت أحوال الثورة إلى هذه المرحلة.
أبازيد ركّز خلال مداخلته على تأثر غليون في القسم الثاني للمذكرات بكتابات ليون تروتسكي من ناحية التشابه بالعناوين التي كتبها خلال القرن المنصرم الزعيم الشيوعي مثل “الثورة المغدورة، الثورة المخدوعة” حين انتقد استيلاء جوزيف ستالين على السلطة في الاتحاد السوفييتي بعد وفاة فلاديمير لينين، فقد كان تروتسكي واعيًا للفصل بين حالتي الثوري والمؤرخ، ومن هنا فإن كتاب “عطب الذات” جمع بين الأصناف التي كتب حولها تروتسكي.
الكتاب، بحسب أبازيد، ينقسم إلى أقسام متفرعة، منها تأريخ غليون للمراحل الأولى من الثورة السورية، بالأخص في قسم المعارضة السياسية، وتأريخ السيرة الذاتية لغليون نفسه قبل أو بعد الثورة السورية حتى استقالته من المجلس الوطني السوري، فضلًا عن الحديث عن الثورة المضادة التي حصلت من داخل أو خارج الثورة السورية، وأدت إلى المآلات التي وصلت إليها في وقتنا الراهن.
من جانبه تحدث الربيعو في بداية مداخلته عن عنوان الكتاب عينه “عطب الذات”، مشيرًا إلى أن السوريين لديهم منذ أكثر من 60 عامًا سؤال واحد يدور حول الهزيمة، فهو على الرغم من التنويه إلى عدم هزيمة الثورة السورية، وإشارته إلى أننا نمر في واحدة من أسوأ مراحلها، أشار إلى أن السؤال الدائم حول الهزيمة محوره: هل هو العامل الداخلي أم الخارجي؟
وأضاف الربيعو أن غليون في كتاب “عطب الذات” أعطى الجواب حول المشكلة، والتي وصفها بأنها “عطب السوريين” أنفسهم، فالمشكلة لم تكن كما يذكرها غليون في المذكرات نتيجة “إخفاق أو غياب وعي سياسي”، إنما هي أيضًا نتيجة غياب تجربة ثقافية وسياسية عند السوريين وفقًا لما يرى الربيعو.
الربيعو في مداخلته نوه إلى بروز “الهم الشخصي” في مذكرات غليون من خلال طريقة عرضها، مشيرًا إلى أنه على الرغم من أن القسم الأول من المذكرات سيكون مثيرًا للجدل بسبب تطرق غليون لذكر العديد من الشخصيات السياسية، لكن القسم الثاني من الكتاب هو الذي يحمل إشكالية أكبر، وبالتحديد على مستوى سلبية الثورة نفسها، فالمذكرات رغم تقديمها سردية متماسكة حول الثورة، أغفلت بعض التفاصيل التي كان ممكنًا لو ذكرت أن تحمل تأويلًا لبعض الأحداث بطريقة مختلفة.
في مداخلته حول “عطب الذات” تحدث غليون في البداية عن أهمية المذكرات وطريقة كتابتها، دون أن يسهو عن الإشارة لنقائص لم تتضمنها المذكرات يدركها أكثر مما يدركها الآخرون، مشيرًا إلى أن كتابة المذكرات لم تأخذ منه جهدًا عقليًا ونظريًا فقط، بل أخذت كذلك جهدًا عصبيًا، فهو كتبها بـ”أعصابه” لأنها غير الكتب العلمية والفكرية التي عمل عليها سابقًا.
حدّد غليون خلال حديثه مجموعة من النقاط أراد الحديث عنها في المذكرات، لخصها في سياقات متعددة، حيث كتابة “عطب الذات” جاءت بمثابة “كشف حساب” للسوريين أولًا، وعلى المستوى الشخصي لغليون نفسه ثانيًا، لذلك كان لا بد من الحديث عن الأسباب التي أودت بتجربة المجلس الوطني السوري للفشل من منظوره الشخصي، كما أن الكتاب ليس تأريخًا للثورة السورية، لأن تأريخ الثورة كما يراه غليون موجود ضمن المبادرات والإبداعات والتضحيات التي قدمها السوريين للدفاع عن أنفسهم.
وشدد غليون على أن تأريخ الثورة السورية يحتاج وقتًا حتى يكتب، وهو في الوقت ذاته يحتاج تطويرًا لعلم التاريخ عند السوريين حتى يؤرخوا لملحمة كالملحمة التي حصلت في سوريا، كذلك فإن “عطب الذات” ليس عرضًا نهائيًا ولا شاملًا لتجربة المعارضة السورية التي كان غليون جزءًا منها، إنما هو كما يقول يعكس وجهة نظره الشخصية، ويقدم قراءة ذاتية للحدث من خلال تجربته الشخصية، تتضمن حدًا أدنى من التماسك.
ووجه غليون في سياق حديثه دعوة لجميع من شارك في الثورة السورية سواء على الصعيد المدني أو العسكري لتقديم قراءته الذاتية للحدث والواقع من وجهة نظره الشخصية، وعلى السوريين ممن يقرأوا هذه القراءات أن يحاكموا ما حصل من وجهة نظرهم الشخصية، ومن هنا فقد اعتبر غليون أن “عطب الذات” سيكون قد حقق الهدف المرتجى من كتابته في حال أثار نقاشًا وردود أفعال حول ما تتضمنه من سرد للوقائع، ويفتح طريقًا أمام أدبيات سياسية جديدة ليست موجودة في المنجز الفكري السوري.
يتضمن كتاب “عطب الذات” الصادر حديثًا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر شهادة موسعة من وجهة برهان غليون الذي ترأس المجلس الوطني السوري المعارض في بدايته، من خلال سرده من وجهة نظر شخصية لعشرات الوقائع والأحداث، والحديث بالاسم عن العديد من السياسيين والنشطاء والمثقفين والمجموعات السياسية.
فهو يرجع بالكتاب إلى الحياة السياسية السورية منذ ستينات وسبعينات القرن المنصرم بالحديث عن المواجهات المسلحة التي انتهت بمجزرة حماة عام 1982، ثم يتطرق للفترة التي تبعتها وصولًا لعام 2000 عندما أعلن عن وفاة رئيس النظام السوري حافظ الأسد حينها، وما لحقها من نشاط سياسي برز تحت مسمى “ربيع دمشق”، والإعلان عن تشكيل “إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي”، وما رافقها لانقسام ضمن الأوساط السياسية السورية.
كذلك فإن غليون يقدم في “عطب الذات” قراءة لمجمل الأحداث التي رافقت الثورة السورية، بدءًا من الاحتجاجات السلمية إلى مرحلة المواجهة الأمنية، فبدايات العسكرة وانشقاق الضباط والجنود عن النظام السوري، ونشوء الفصائل العسكرية تحت مسمى “الجيش السوري الحر”، وصولًا لمواقف هيئة التنسيق الوطنية، والإخوان المسلمين، وغيرهم من الكيانات السورية.
أبرز غليون في المذكرات شهادته في أدوار ومواقف الكيانات السورية من الحدث السوري، بالإضافة لإطلالته على التاريخ السياسي الحديث لسوريا، وطبيعة المجتمع والانقسامات الاجتماعية والسياسية وعلاقة الريف بالمدينة، بالإضافة لتقديمه تحليلًا وافيًا لمواقف الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في الشأن السوري، تضمنت تصوراتهم “لسوريا كما يريدونها”، وطبيعة أدوارهم وطموحاتهم فيها.
الترا صوت

لتحميل كل كتب برهان غليون السابقة في رابط واحد

كتب برهان غليون

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى