“لوموند”: الاقتصاد السوري بعد الحرب.. بأسماء جديدة/ حسن مراد
على مدار أربعة أيام، نشرت صحيفة Le Monde الفرنسية تحقيقات عنوانها “سوريا، السنة صفر”. بدا واضحاً من العنوان العريض والمقدمة المشتركة أن التحقيقات الأربعة انطلقت من فرضية أن “الحرب السورية” وصلت إلى خواتيمها. وعليه، سعى الصحافيون إلى تشخيص الحال التي آل إليها النظام ومعارضوه، لاستشراف مستقبل سوريا حينما تضع الحرب أوزارها بصورة نهائية، وهذا المقصود بالـ”سنة صفر”، أي الستاتيكو الجديد الذي سيسود في البلاد.
واقع “الشبيحة”
حمل التحقيق الأول عنوان “في سوريا ما بعد الحرب، ما زال الجيش في محور اللعبة”
فاعتبر كلٌ من لور ستيفان وبنجمان بارت، أن التحدي العسكري الأبرز الذي ينتظر النظام السوري، ليس إحكام سيطرته على كامل الجغرافيا السورية، بل ضمان ولاء العناصر المسلحة من عسكريين وميليشيات. فالميليشيات، أو ما يعرف بالشبيحة، شكلت رادفاً عسكرياً للنظام خلال السنوات الماضية من دون أن تترتب عليه أي أعباء مالية، فتمويلها أتى من مصادر خاصة.
واقع عسكري أدى إلى تنامي سلطة الميليشيات في مناطق تمركزها، ومراكمة أفرادها وقادتها للثروات. لكن مع اقتراب الأمور من خواتيمها، تتساءل هذه المجموعات عما سيحل بها، فنفض غبار الحرب يتناقض مع مصالح أفراد وقادة هذه الميليشيات، حتى أن السلطات السورية اضطرت في السنوات الأخيرة إلى التدخل مراراً للجم تجاوزاتها.
المعضلة التي تواجه النظام، تتلخص في إدراكه للخدمات التي وفرتها له تلك الميليشيات، لا سيما اضطلاعها “بالأعمال القذرة”. إلا أن الصحافيَين الفرنسيَين تساءلا عما إذا كان بإمكان النظام السوري “إشباعها” في فترة ما بعد الحرب، لأن استمرار كل ميليشيا بمراكمة المكاسب المادية في مناطق تواجدها يتناقض مع سعي النظام لفرض سلطته كما كانت الحال قبل العام 2011.
بدوره لم يبتعد التحقيق الثاني عن الخطوط العريضة التي تناولها التحقيق الأول. من خلال التطرق لأنشطة رجل الأعمال سامر فوز الملقب بـ”رامي مخلوف الجديد”. سعى بنجمان بارت إلى استشراف مدى قدرة النظام على إحكام سيطرته الاقتصادية على البلاد، في تحقيق حمل عنوان “سوريا: سامر فوز، رجل الأعمال الذي ابتسمت له الحرب”.
سامر فوز وأخوته
بخلاف المجال العسكري، قدرة النظام على التحكم بخيوط اللعبة الاقتصادية تبدو أسهل. فسطوع نجم سامر فوز وأقرانه بعد العام 2011، مرده أسباب عديدة، أبرزها العقوبات الدولية التي حظرت التعامل مع ممولي النظام وجمدت أصولهم المالية، ما سمح لفوز بدخول الحلبة عبر عدد من الأعمال، أبرزها عقود شراء القمح. وقد صرح فوز في وقت سابق لصحيفة وول ستريت جورنال: “طوال أربع سنوات، عملت من دون منافسين”. وتساءل بارت، هل فوز وأمثاله مجرد واجهة للنظام يتلطى خلفها أركانه؟
في هذا السياق اعتبر ربيع ناصر، مدير أحد مراكز الأبحاث الإقتصادية، أن النظام لديه رجال أعمال، مثلما لديه أجهزة أمنية، يتقاسم وإياهم الأرباح مقابل خدمات وتسهيلات يوفرها لهم. وإعتبر بارت في تحقيقه أن الإتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، ليسوا أغبياء حين تركوا سامر فوز طليقاً، ربما بغرض الإبقاء على بعض قنوات الاتصال بالنظام. لكن مع إدراج إسمه في لائحة العقوبات الأوروبية، في كانون الثاني الماضي، انتهت “ملحمة سامر فوز” التي سرعان ما ستحل مكانها شخصية أخرى لتؤدي الدور نفسه.
إذاً، إعادة رسم المشهد الإقتصادي السوري بعد الحرب لن تكون بالأسماء ذاتها. فلكل زمان “رجال أعماله”، إلا أن القاسم المشترك بين هذه الحقبات هو تحكُّم النظام في إدارة المشهد الإقتصادي وتوزيع الأدوار.
المعارضون السوريون
أن يتمكن النظام، إذاً، من حسم الحرب لصالحه تمهيداً لإعادة ترتيب بيته الداخلي، يفترض بالضرورة إنحسار تأثير معارضيه الذين ثاروا عليه، وهذا ما تضمنه كلٌ من التحقيقين الثالث والرابع بعنواني “غازي عينتاب، غسق الحرب الأهلية السورية”
و”بعد الحرب، كلمة المنفيين المستحيلة”.
والغرض منهما هو الإشارة إلى حال المعارضين السوريين خارج البلاد، لناحية تشتتهم وانتفاء سبل المواجهة مع النظام. وفيما تناول التحقيق الثالث المسألة من ناحية عملانية، طغى الجانب العاطفي على التحقيق الرابع.
يقول بنجمان بارت أنه، في وقت سابق، امتد نشاط السوريين المتواجدين في غازي عينتاب حتى جنوب حمص، عسكرياً وإغاثياً واجتماعياً. لكن بعد سقوط حلب، خفت وهج هذه المدينة “التركية” كقاعدة خلفية للمتمردين، بحسب بارت: توقفت المشاريع الممولة من حكومات غربية والإتحاد الأوروبي ومنظمات غير حكومية، كما بادرت الأمم المتحدة إلى نقل مكاتبها من غازي عينتاب إلى بيروت، القريبة من دمشق. واقع دفع السوريين للالتفات إلى حياتهم الخاصة كالدراسة الجامعية أو العمل، فلم يعد هناك وجود للثورة بحسب أحد الناشطين، ما يفرض عليهم التأقلم مع واقعهم الجديد لسنوات مقبلة، بعيداً من الشعارات التي لا توفر القوت اليومي.
المنفيون شريحة مهزومة
بدورها، رصدت سيسيل هانيون، حال المنفيين السوريين، شريحة تعتبر نفسها مهزومة. هؤلاء ثاروا على النظام لإستعادة حرية التعبير، لكنهم يعتبرون أنفسهم مهزومين، لأن النظام نجح في مصادرة حقهم هذا من جديد، أكان خوفاً منهم على عائلاتهم التي ما زالت داخل سوريا، أو رغبةً في العودة إلى بلادهم يوماً ما. فتراهم يتفادون إجراء المكالمات الهاتفية مع أهاليهم حتى لا يواجهوا خطر السجن، يستبدلون كلمة الثورة بالتمرد الشعبي أو الإنتفاضة، يخشون التواصل اليومي في ما بينهم، إضافةً طبعاً إلى توخي الحذر في مواقع التواصل الإجتماعي. بإختصار، نجح النظام في جعل المنفيين يفرضون على أنفسهم رقابة ذاتية.
من ناحيتها، تساءلت الطالبة الجامعية، نعيمة، إذا كان من المجدي الاستمرار في رفع الصوت عالياً، فالإعلام غطى الصراع في سوريا بصورة وافرة، فما الفائدة م تكرار هذا الخطاب؟ وتضيف نعيمة أن أي لقاء يجمع سوريين يتحول إلى عبء نفسي عليهم، إذ يشعرون بعقدة ذنب تجاه من خسر حياته لهذه القضية، وكأن من يعيش في المنفى لا يملك شرعية الحديث عن الثورة لمجرد بقائه على قيد الحياة. ما زاد “الطين بلة” مظاهرات درعا، التي خرجت في آذار الجاري، ودلت، وفقاً لنعيمة، على منطقين مختلفين: منطق المنفي مقابل منطق البقاء، أو ربما لأنه لم يبقَ لهم شيء يخسرونه.
تحديات الحاضر والمستقبل التي تنتظرهم، كتعلم لغة جديدة وإيجاد عمل، لا تقل أهمية عن معضلة أخرى ما زالوا عاجزين عن حلها: أي معنى سيعطونه لماضيهم؟ يتساءل أحد المنفيين من مخيم اليرموك.
المدن