معذبون ومقطّعون: الجسد العربي موطنا للتخلف/ محمد سامي الكيال
تدور في العالم العربي، منذ عقود عديدة، معركة أيديولوجية حول توصيف الأوضاع العامة للشعوب العربية: هل من الصحيح وصفها بالشعوب المتخلفة، ونعت ثقافتها بالرجعية؟ أم أن هذا الحكم يستبطن استعلاء نخبويا، ونظرة معيارية، مستمدة من جذور استعمارية، يستحق حاملوها الوسم بالعنصرية؟ يبدو أن هذه المسألة تم حلّها أخيرا برفض مفهوم التقدم، الذي يوحّد اليوم أغلبية الفاعلين السياسيين في العالم العربي: معظم اليساريين والإسلاميين والليبراليين، بل وحتى الأنظمة الديكتاتورية وطغاتها، وجدوا في مبادئ «نقد المركزية الغربية» و«ما بعد الاستعمار»، و«التعددية الثقافية»، سندا لاستنكارهم المبدئي لأي نقد ثقافي واجتماعي داخلي. هكذا نجد طاغية مثل السيسي يرفض «أن يعلّمنا الغرب الإنسانية»، بما يذكّرنا ببلاغة أي أستاذ يساري معادٍ للهيمنة في جامعة كولومبيا الأمريكية مثلا. إلا أن الحس السليم يدفع كثيرين، ولو بشكل ضمني، للإقرار بوجود مشكلة كبرى في هذه المجتمعات. كيف يمكننا إذن أن نحدد المشكلة ونشخصها، بدون أن يكون لدينا مفهوم للتقدم والتخلف؟ وعلى أي أساس نستطيع إدانة ممارسات معينة، مثل شنق البشر بعد انتزاع اعترافاتهم بالتعذيب، أو ختان البنات، أو قتل المختلفين بالدين والفكر والشكل، والتمثيل بجثثهم في الشوارع، في حال عدم امتلاكنا تصورات معيارية للحقوق الإنسانية العامة؟ وهل الحس السليم الذي يجعلنا نشمئز من هذه الممارسات ونرفضها، هو أمر بديهي حقا، أم أنه مبنى اجتماعيا وسياسيا، عن طريق الاستعمار وعقيدة تفوق الغرب، ويمكننا، عند الخلاص منه، أن نبتر الأطراف ونجزّ الرؤوس بضمير مرتاح؟
بحثا عن الخلاص
واجه مفهوم «التقدم» منذ ولادته كثيرا من الانتقادات، لعل أهمها تقويض ادعاءات معتنقيه بأنهم يستندون إلى تصورات عقلانية متجاوزة للصيغ الدينية، لأن التقدم يجد جذوره في «عقيدة الخلاص» المسيحية، التي تتضمن سردا خطيا للتاريخ، من الخطيئة الأصلية، مرورا بالفداء المتجسد بآلام المسيح، وصولا للخلاص الأبدي، الذي لا يكون إلا بالإيمان برسالة يسوع وتضحيته. كثير من التقدميين ينشدون الخلاص بدورهم، ويرون أن المعاناة والتضحيات الاجتماعية، بما فيها المجازر الجماعية، ما هي إلا فصول ضرورية في ملحمة التقدم الكبرى. يضيف بعض نقّاد التقدم أن بول بوت، طاغية كمبوديا المرعب، كان قارئا نهما لروسو، أحد أهم فلاسفة التنوير.
النتيجة المنطقية لهذا أن تصوراتنا عن الحياة السعيدة، ومفهوم الحرية، بل حتى معايير الصحة والمرض، والتعامل مع الموت والحياة. كلها تمت صياغتها في العصر الحديث في الغرب، وعُممت بالاستعمار، أو تم إنتاجها بفعل السياسات الاستعمارية، وبالتالي فإن الخروج من الهيمنة الغربية سيعني نهاية معيارية هذه التصورات، وبروز مفاهيم جديدة. وعندها سندرك أن تفضيلنا للديمقراطية وحقوق الإنسان، بالضد من أنظمة «قمعية»، مثل الصين وإيران وسوريا ومصر، ما هو إلا وهم خبيث زرعه الاستعماريون في عقولنا. وهذا مذهب الممانعين التقليديين.
هنالك مذهب آخر، يرى أن الأنظمة المذكورة، حتى لو كانت إسلامية أو محافظة، ما هي إلا أنظمة حداثية، تتبع استراتيجيات الهيمنة والسيادة الحديثة، و«لاهوتها المعلمن»، وهي بالتالي انعكاس لسيطرة المنظورات الغربية، التي يجب تفكيكها، من خلال رد الاعتبار لعصر ذهبي ما، كان موجودا قبل خطيئتي الحداثة والاستعمار. أو من خلال ابتكار بدائل، لا أحد يُجهد نفسه بتوضيحها: في ما مضى كانوا يتحدثون عن «الهجنة» و«المنفى» و«الجماعة الأهلية»، واليوم يتحدثون عن «التفوق الأخلاقي للشريعة والحكم الإسلامي» أو «نزع الاستعمار» من الثقافة واللغة (امتناع الطلاب مثلا عن دراسة أرسطو وكانط وشكسبير في بعض الجامعات الغربية، باعتبارهم «رجالا بيضا ميتين»)، يبدو أنهم اكتشفوا خطيئة أصلية أخرى، ومفهوما جديدا للخلاص.
مهما بدت هذه الأفكار سخيفة للبعض، فهي شائعة بشدة، والأهم أنها لا تجانب الصواب تماما. من الصعب إنكار أن المفهوم التقليدي للتقدم له جذوره الدينية، كما أن كثيرا من مفاهيمنا السائدة مبنية ثقافيا واجتماعيا، بما في ذلك تصوراتنا عن الجسد الصحي والجمال والذكورة والأنوثة والحقوق والحريات. إلا أن هذا المنظور يغفل مستوى آخر للوجود الإنساني، لا يمكن للبناء الاجتماعي أن يتجاوزه، وهو مستوى الوجود المادي للجسد البشري.
الرغبة بوصفها «الحقيقة»
إذا كان كل قول وخطاب يُنتج ضمن بنية معرفية واجتماعية معينة، فهنالك مستوى سابق للقول والخطاب، سمّاه سبينوزا «الاستمرارية»، أي سعي كل ما هو موجود للبقاء والاستمرار. الجسد الإنساني، مثل كل ما في الطبيعة، يتحرك لضمان بقائه. والرغبة الإنسانية، ليست شرا أو نقصا أخلاقيا كما في المنظور المسيحي، بل هي دافع لاستمرار الحياة، ولهذا فإن إشباع الرغبة هو المبدأ الأخلاقي الأساسي، واستعمال العقل هو ما يؤمن تحقق الرغبة بشكل سليم، ومن هنا ينبع «الحق الطبيعي». أما الألم والمعاناة فهما لاأخلاقيان بالضرورة، ولا ينفعان في تطهير البشر أو جعلهم أسمى، كما يتصور بعض المتدينين والرومانسيين. إلا أن البشر لا يستطيعون فرادى تحقيق رغباتهم، ويعيشون في شقاء وصراع لا ينتهي في «حال الطبيعة»، لذلك عليهم الانتقال إلى «حال المدنية»، عن طريق تفويض جزء من حقهم الطبيعي للسلطة السياسية، باستثناء حريتهم الفكرية، فهي وحدها ما يضمن ملكتهم الأخلاقية، التي تؤمن بقاءهم. وعلى السياسة الأخلاقية والعقلانية النافعة أن تضمن في قانونها وممارساتها حقوق البشر الأساسية، المشتقة من الحق الطبيعي: حقهم بالحياة والتطور والرفاه والمتعة وتجنب المعاناة، وحرية ضميرهم ومعتقدهم وتعبيرهم. بذلك تكون الديمقراطية، بوصفها تنظيما لسيادة المجتمع، لا الملوك والارستقراطيين والكهنة، هي النظام الأمثل لحياة البشر. فلا حرية ممكنة خارج الاجتماع الإنساني وقوانينه، لأن حال الطبيعة هو حال الجبر والضرورة.
قد يختلف المرء أو يتفق مع سبينوزا (فهو «رجل أبيض» في النهاية)، إلا أنه من الصعب إنكار أن البشر، في كل مكان وزمان، سعوا لتجنب الألم، الناتج عن الجوع والمرض والتعذيب، وحاولوا إشباع رغباتهم الجسدية والنفسية. حتى الطقوس الدينية القائمة على إيذاء الذات، والممارسات الجنسية المازوخية، تتعامل مع الألم بوصفه لذة ورغبة، يسعى إليهما الفرد بإرادته، ويكرههما إذا كانا مفروضين عليه بالقوة (وإلا سننجر للقول إن كثيرا من معذبي السجون العربية، والمغتصبين والمغتصبات فيها، يمكن أن يكونوا استمتعوا بمحنتهم). يمكن للجسد إذن أن يكون شاهدا على مدى تقدم أو تخلف الاجتماع الإنساني وأنظمته السياسية.
بؤس الجسد العربي
لم يخلّف «حال المدنية» العربي كثيرا مما يؤمن حقوق البشر الطبيعية، فنموذج الجسد المريض والمعذب والجائع والمكبوت، وأحيانا المقطّع والمحروق، كان في كثير من الأحيان هو القاعدة. وذلك ليس فقط بسبب ممارسات السلطة السياسة، بل أيضا بسبب الثقافة الاجتماعية وممارسات الجموع، رأينا ما حلّ بجسد الطفل العراقي حمودي المطيري، لا لذنب ارتكبه سوى أنه مختلف شكلا، أو ما تعانيه أجساد النساء بين جموع المتحرشين، و«دوائر الجحيم» التي يشكلونها. عرفنا أيضا ما حدث لكثير من المجتمعات العربية بعد عودتها لـ«حال الطبيعة»، عقب انهيار الدول والحروب الأهلية، التي لم تنتج إلا الأشلاء المتناثرة. من المعايير الأخرى للتقدم ألا يؤدي تعبير البشر السلمي عن آرائهم ومعتقداتهم، وممارساتهم السياسية، إلى نتائج تنطبع على أجسادهم، سجنا أو قتلا أو تعذيبا. ولهذا فعلى من يساوي بين معتقلات الصين الجماعية وبراميل الأسد ومشانق السيسي وجلّادي الجمهورية الإسلامية، وبين الأنظمة الديمقراطية، أن يكون مستعدا لتلقي هذه الأنماط من العقوبات، واعتبار ما تنتجه من ألم متساويا أخلاقيا مع منظومات تجرّمها وتمنعها. أما مساهمة بعض الدول الديمقراطية في القتل ودعم أنظمة متخلفة، فلا يمكن مواجهتها منطقيا إلا بالإصرار على الديمقراطية والتقدم، وليس نكرانهما من أساسهما، وإلا فإن الممانع ومعادي الهيمنة، في هذه الحالة، لا يفعل إلا نصرة غايات وسياسات الإمبرياليين الأشرار.
ليست الديمقراطية حلا لكل المشاكل بالتأكيد، وليست أنظمتها القائمة مثالية، فهي تفسح المجال لكثير من الانتهاكات والتجاوزات (التي تتم مواجهتها بالآليات الديمقراطية)، إلا أن الفرق بين التقدم والتخلف واضح بـ«الحس السليم»، وتستطيع الأجساد الجائعة والمعذبة والمريضة تمييزه بسهولة: لم يسع لاجئو أفغانستان للبقاء في الجمهورية الإسلامية، حيث يتم استغلالهم وتجنيدهم في معارك عبثية، بل يسعون يوميا للوصول إلى الغرب الفاسد. ليس بحثا فقط عن المال، بل رغبة بتجاوز استعبادهم. يمكننا استطرادا القول إن كل محاولات القطيعة و«فك الارتباط» مع المنظومة الرأسمالية، لم تنتج إلا الفقر والجوع، ومزيدا من التخلف، وكوريا الشمالية مثال واضح عن ذلك. الرأسمالية، بكل مظالمها، خفّضت نسبة الفقر المطلق حيثما حلّت، وطوّرت القوى المنتجة. والديمقراطية هي أكثر الآليات التي نعرفها تعقلا، لتحسين أوضاع البشر، وتمكينهم من النضال لأجل حقوقهم، داخل إطار الرأسمالية أو في ما يتجاوزها.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي