هوية فوكوياما: ورقة توت العورة المعرّاة/ صبحي حديدي
ابتداءً من مقدّمة كتابه الجديد «الهوية: طلب الكرامة وسياسة السخط»، يذكّر فرنسيس فوكوياما قارئه بأنّ موجة الديمقراطية آخذة في الانحسار على صعيد عالمي: في سنة 1970، كانت هناك 35 ديمقراطية انتخابية؛ وازداد العدد خلال ثلاثة عقود حتى بلغ 120 نظاماً، خاصة خلال سنوات 1989 ـ 1991 مع تفكك المعسكر الاشتراكي؛ ولكن، ومنذ أواسط 2000، انكمش الاتجاه وانحسر، وباتت البلدان «التسلطية»، الأوتوريتارية وفق تعبيره، أكثر ثقة وتمكناً. النقطة الثانية، في هذه الخلاصة الاستهلالية التي سوف تحكم الكثير من فصول الكتاب اللاحقة، أنّ فوكوياما لا يرى مفاجأة في عجز «الديمقراطية الليبرالية» عن التجذّر في بلدان مثل أفغانستان والعراق، رغم التدخل العسكري الأمريكي المباشر؛ ويرى باعثاً على الخيبة، في المقابل، أن ترتدّ روسيا إلى التقاليد الأوتوريتارية، وأن تتعرض الديمقراطية للتهديد الجدّي في بعض بلدان أوروبا الشرقية ذاتها التي تحررت من السلطة الشيوعية (كما في هنغاريا، مثلاً).
من جانبه قد يرى قارئ، مثلي شخصياً، أنّ هذه النبرة الفجائعية الرثائية، والخالية من حسّ النقد التاريخي الذي يتوجب أن يتمتع به زاعم التتلمذ على الفيلسوف الألماني هيغل، عبر أحد أهمّ شرّاحه الروسي ــ الفرنسي ألكسندر كوجيف؛ لا تفلح في أداء وظيفة أخرى أبعد أثراً من ورقة توت، يُراد منها تغطية العورة المعرّاة. فمنذ أن نشر مقالته الشهيرة «نهاية التاريخ» في أواسط 1989، وأتبعها بكتابه «نهاية التاريخ وخاتم الإنسان» في سنة 1992؛ لم تكفّ الوقائع (ذاتها التي اعتاد ضربها أمثلة) عن إبطال أطروحته المركزية تلك، والتشديد على بقاء التاريخ، بل استفحال التهاباته: من حرب البلقان، وصولاً إلى سقوط البرجين في 9/11، وليس انتهاءً بـ«داعش» ودونالد ترامب وصعود القومية الأمريكية البيضاء…
بيد أن أطرف ألعاب الكتاب الجديد هو ما يتنبه إليه فوكوياما، الآن فقط وبعد مرور 30 سنة على أطروحته الإنهائية، إذا جاز التعبير: أنّ الناس أساءت فهم مفردة التاريخ، التي عنى بها المعنى الهيغلي ــ الماركسي للتطوّر والتحديث؛ وأنه لم يقصد بالمفردة الثانية، End، معنى النهاية بقدر الغاية والهدف! تفصيل ثالث أساء الناس فهمه، ويتنبه إليه فوكوياما اليوم فقط، فينبهنا: أنه لم يفترض نهاية النزعة القومية أو الدين، لأنه أصلاً عاب على الفلسفة الليبرالية عجزها عن ملاقاة حاجات البشر الروحية وطموحاتهم إلى الكرامة، وما تفرزه هذه من مظاهر غضب وسخط ونقمة… وهذا ما تتنطح إلى معالجته الفصول الـ14 والصفحات الـ197 في الكتاب الجديد (إذا جاز استبعاد 43 صفحة من المراجع والفهارس!).
قصارى القول، إذْ يمكن أن يطول الحديث في مقام آخر، أنّ الأقنوم الكبير الذي قسم السياسة العالمية إلى يسار ويمين، وكان ماركس أبرز من تلمّس الجذور الاقتصادية لهذا الانقسام؛ قد وصل إلى طريق مسدود، يكاد فوكوياما يطلق عليه صفة النهاية، لولا الحياء من إعادة إنتاج النهايات التي لم تنته البتة! فما الذي حلّ محلّ الأقنوم ذاك؟ الهوية، في البُعدين اللذين يشير إليهما عنوان الكتاب: مطلب الكرامة، وسياسة السخط. القياس الأوّل، عند فوكوياما، هو يقظة القوميات على اختلافها، سواء على يد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لجهة استعادة أمجاد روسيا القيصرية، أو نظيره الأمريكي دونالد ترامب في انبعاث فلسفات التفوّق الأبيض. وليست الانتفاضات العربية، وفي بلد مثل سوريا على سبيل المثال الأوّل، سوى مزيج من تفاعل الكرامة مع السخط، من دون استبعاد المكوّنات الإثنية والعشائرية والطائفية.
في عبارة أخرى، لم يعد التاريخ ينتهي بتأثير سقوط جدار برلين، وانتصار الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق، وانفتاح البوّابات أمام مجيء الإنسان خاتم البشر؛ بل هو اليوم آخذ في الاضطرام والاشتعال والاشتغال، بافتراض أنه عاد من «نهاية» 1989 غنيّ عن القول، على أصعدة الهوية: إثنية كانت أم عرقية، وجنسية أم دينية، ومحلية أم قومية… ولهذا فإنّ البريطانيين الذين صوّتوا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، ضحّوا بالمخاطر الاقتصادية المحتملة لصالح تأكيد الهوية القومية البريطانية. والنظام الشعبوي القومي في هنغاريا يجد ذاته أقرب إلى روسيا بوتين (طاوياً عقود ارتباطه بالاتحاد السوفييتي)، منه إلى ألمانيا الليبرالية. والناخبون من أصول عمالية محدودة الدخل انفكوا عن الأحزاب اليسارية، أو حتى اليمينية ذات البرامج الاقتصادية ـ الاجتماعية المتقدمة، وباتوا يصوّتون للأحزاب القومية والشعبوية.
كلّ هذا صحيح، بالطبع، ولا جديد فيه ضمن أطوار تاريخية محددة، ولكنّ فوكوياما يعيد توظيفه لأغراض تأكيد أطروحاته السابقة التي تكفلت هذه المؤشرات ذاتها بإبطال صحتها، هنا أيضاً. قبل خمس سنوات نشر صاحبنا كتابه الضخم (685 صفحة) الذي حمل عنوان «النظام السياسي والتفسخ السياسي: من الثورة الصناعية إلى عولمة الديمقراطية»؛ والذي كان يستكمل مجلداً سابقاً صدر سنة 2011 بعنوان «أصول النظام السياسي: من أزمنة ما قبل الإنسان إلى الثورة الفرنسية». العبارة المفتاحية لم تكن «نهاية التاريخ» أو «القرن الأمريكي الجديد» أو «فضيلة الثقة الليبرالية» أو «النظام البيولوجي للعلاقات الدولية» أو «عصر الانعزال»، ممّا عوّدنا عليه فوكوياما؛ بل الـ Repatrimonialization، أو إعادة فرض الأبوّة المالية، والتوريثية. أي، باختصار شديد: هيمنة المصالح الخاصة، للمتنفذين والأقوياء والأثرياء (ويصحّ القول أيضاً: الساسة الآباء)، على المصالح العامة للشعب والعموم والبسطاء (والأبناء، استطراداً). والمثال الكلاسيكي على هذه الحال ما شهدته الدولة الإسبانية منذ 1560، وبلغ ذروته مع فيليب الرابع؛ وأمّا المثال المعاصر فهو ما يشهده الكونغرس الأمريكي، بين حين وآخر، من سيطرة مجموعات الضغط.
ما لا يجوز إغفاله، في كلّ مناقشة لابتكارات الرجل المتعاقبة، خاصة تلك التي تندرج في خانة أوراق التوت؛ أنه كان أحد كبار منظّري اليمين الأمريكي المعاصر، وفي الحزب الجمهوري خصوصاً، ثمّ يمين «المحافظين الجدد» على نحو أخصّ. وهذا، في نهاية المطاف، أحد أبرز الموقّعين على نصّ سوف ينقلب إلى أيقونة: «مشروع القرن الأمريكي الجديد»، 1997، بتوقيع أمثال ديك تشيني، دونالد رمسفيلد، بول ولفوفيتز، جيب بوش، ريشارد بيرل، ريشارد أرميتاج، وزلماي خليلزاد. وذاك، للإيضاح، بيان لا يتردّد الكثيرون في القول إنه كان مسوّدة مهّدت لاجتياح العراق؛ الآن إذْ تمرّ الذكرى الـ16 لغزو البلد واحتلاله وتدميره ونهبه.
وفي ذروة احتدام التنافس على انتخابات الرئاسة الأمريكية بين المرشح الجمهوري جورج بوش الابن والمرشح الديمقراطي جون كيري، فاجأ فوكوياما أصدقاءه وحلفاءه ومعظم مراقبي المشهد السياسي والفكري الداخلي الأمريكي، حين كتب مقالة يعلن فيها صراحة أنّ صوته لن يذهب إلى بوش. وبمعزل عن القلّة القليلة التي كانت تعرف أسبابه الشخصية (ذات الصلة، على الأرجح، بأفول نجمه داخل الحزب الجمهوري عموماً، وفي أوساط إدارة بوش الأولى خصوصاً)؛ فإنّ العراق كان لبّ نزاعه مع المرشح الجمهوري، وكان ورقة توت تلك الحقبة من تطورات أفكاره.
والمرء يتذكر أنّ فوكوياما أتى على ذكر ترامب قبل 30 سنة، في كتابه «نهاية التاريخ»، كمثال على معجزات السوق التي تنقل رجل برامج التسلية إلى مصافّ كبار رجال الأعمال؛ غير متنبّه (كما يفعل اليوم!) إلى أنّ المعجزات ذاتها سوف تنقل الرجل إلى البيت الأبيض بعد ربع قرن، ومعه سوف تكرّس ما بات معروفاً من انشطارات عميقة في الجسد الرأسمالي الكوني، أوّلاً. هيهات، إذن، أن يعود خاتم البشر الفوكويامي إلى خشبة المسرح مجدداً، دون مزيد من أوراق التوت إياها: التي لا تحجب عورة معرّاة!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي