سقوط الباغوز: رحلت «دولة داعش» وماذا بعد؟ -مقالات مختارة-
الباغوز: العالم يشهد على موت مولوده… فمن سيخلفه؟/ حازم الأمين
الباغوز، حصن “داعش” الأخير في شمال سوريا على وشك أن تسقط بيد القوات الكردية. لكن لنعد خطوة إلى الوراء ولنعاين المشهد من مسافة أبعد قليلاً من خطوط القتال، وسنكتشف أننا أمام أغرب خريطة نفوذ شهدتها الحروب في العقود الأخيرة. على بعد كيلومترات قليلة من الباغوز لجهة الغرب، تتمركز قوات النظام السوري وميليشيات شيعية وخبراء روس، وإلى الشمال والشمال الشرقي تمتد الحدود التركية – السورية، حيث يتحفز الأتراك للانقضاض على قوات قسد. وليس بعيداً من الباغوز أيضاً تتمركز قوات عراقية خلف الحدود السورية، وتتمدد إلى داخل سوريا مدعومة بميليشيات الحشد الشعبي الذي تديره إيران. ووسط خطوط الاشتباك هذه، ثمة نحو مئتي جندي أميركي يساعدون الأكراد براً في حربهم على “داعش”، فيما تتولى مقاتلات أميركية قصف ما تبقى من مواقع التنظيم من الجو.
خطوة أخرى إلى الوراء يصبح المشهد أكثر تعقيداً. تدخل على خطوط الاشتباك هذه، إسرائيل في جنوب سوريا، لا بل في وسطها أيضاً حيث تتولى مقاتلاتها استهداف المواقع الإيرانية، والأخيرة تتلقى الضربات بصمت وخبث، ذاك أن الغنائم تعد بتعويض الخسائر!
لكن وفي موازاة خريطة الاشتباك المعقدة هذه، ثمة خريطة تفاهمات لا تقل تعقيداً. تفاهم روسي – إسرائيلي في جنوب سوريا، في مقابل اشتباك متواصل بين تل أبيب (حليفة موسكو في الجنوب) وطهران (حليفتها في الوسط والشمال). وثمة تفاهم بين موسكو وأنقرة في ادلب واشتباك بالواسطة بينهما في الغرب والوسط عبر حلفاء العاصمتين. بين طهران وأنقرة تفاهم حول خصومة الأكراد، ترجم في الفترة الأخيرة اشتباكاً بين حزب العمال الكردستاني والجيش العراقي في جبل سنجار، ومن المرجح أن يمتد الاشتباك إلى سوريا، إنما بينهما حرب في ادلب وتوتر في عفرين. وأدوار أنقرة في سوريا تتقاطع مع مساعي تل أبيب للحد من نفوذ طهران في سوريا، وفي الوقت ذاته يخوض رجب طيب أردوغان انتخاباتٍ محلية في تركيا بلغة شعبوية أحد أعمدتها الصراع مع إسرائيل.
واشنطن ليست بعيدة من مشهد الرياء والمراوغة هذا. تدعم الأكراد القريبين من حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا، مع وعد للروس وللنظام في سوريا بانسحاب وشيك يترك الأكراد في العراء، وهي، أي واشنطن، تراوغ أنقرة وتباشر حصاراً على إيران، وتستثمر في هذا الحصار في الخليج، فيما تُرخي لبغداد حبل العلاقة بينها وبين طهران.
إنها الحرب على “داعش”، وهذا هو مشهدها. “داعش” تقيم في مئات قليلة من الأمتار في الباغوز، فيما جيوش العالم كله متأهبة ومنتظرة ما لا نعرفه! وربما كانت العودة إلى ولادة “داعش” مفيدة، وتقود إلى بعض الفهم، ذاك أن لا أحد بريء في هذه اللحظة. الدور الإيراني حاسم في هذه الولادة، والسقوط السهل لمدينة الموصل عام 2014، لا يمكن أحداً أن يُسقط عنه تواطؤ طهران، وسعيها في ذلك الوقت إلى تصوير خصومها المذهبيين وحوشاً. دور أنقرة لا يقل وضوحاً في هذه الولادة. الحدود السورية – التركية تشهد على تواطؤ أنقرة مع التنظيم وعلى رعايتها العبور إليه عبر أراضيها. النظام السوري مثّل “داعش” هدية كبرى له، وإطلاقه السجناء الإسلاميين منذ بداية الاحتجاجات ضده أيضاً قرينة ثابتة على أدواره على صعيد “نشر الجهاديين على جبهات القتال”. وما كشفته تحقيقات وكالة “رويترز” من وثائق تثبت إرسال موسكو “المجاهدين الروس” من جبال الشيشان إلى سوريا، يضع موسكو في صلب مشهد تلك الولادة. دول الخليج وقنوات التمويل والسقوط في وهم صناعة تنظيم يتولى قتال “الشيعة”، والغرب الذي أتاح لـ”مجاهديه” فرصة الخروج إلى بلاد الجهاد، كل هؤلاء هم آباء التنظيم وأمهاته.
اليوم لم يبق سوى أمتارٍ قليلة في الباغوز بيد التنظيم، لكن الجيوش متأهبة كلها، وعلى بعد كيلومترات قليلة من الموقع الأخير للتنظيم. كل هذا المشهد وما زالت مقولة “الحرب على داعش” تجد من يطمح إلى الاستثمار فيها. الأقنعة على وجوه الجيوش لم تعد تخبئ شيئاً. جيوش نظامية في مواجهة مقاتلين من العالم كله. بريطانيا نزعت الجنسية عن مواطنتها، ولا تريد أن تستعيدها. واشنطن التي هددت الدول المصدرة للمقاتلين بأنها ستطلقهم اذا ما لم تبادر حكومات بلدانهم إلى استعادتهم، رفضت بدورها استعادة مواطنة أميركية المولد والمنشأ. الأردن يريد من حكومتي بغداد ودمشق أن تحاكم الأردنيين من أبناء التنظيم كونهم ارتكبوا جرائمهم على أراضي العراق وسوريا وليس على أرضه. تونس صاحبة أكبر جالية في “دولة الخلافة” تتهرب من مواجهة حقيقة وجود جزء من “شعبها” في سوريا وفي العراق.
أمتار قليلة ويتم الإجهاز على هذا المسخ الذي أنجبه العالم كله. الجيوش المحتشدة على بعد كيلومترات قليلة من ذلك الحدث لم تحتشد لمعاينة ذلك الحدث الجلل. لكل منها حكايته مع الكارثة السورية. أنقرة تريد رأس الأكراد، ودمشق تريد رأس السنة السوريين، وواشنطن تريد رأس طهران، والأخيرة تريد خط مواجهة مع تل أبيب، والجميع يعتقد أن الأمتار القليلة المتبقية بيد التنظيم ستؤمن له مهمة استكمال حربه مع عدوه في سوريا.
وفي هذا الوقت، ثمة مخيم أقامته القوات الكردية، يقيم فيه حوالى 40 ألف طفل وامرأة، هم عائلات عناصر التنظيم، وليس بعيداً منه ثمة هلال هائل من المخيمات يقيم فيها أبناء المدن المدمرة يبلغ تعدادهم نحو عشرين مليوناً بين العراق وسوريا ولبنان والأردن وتركيا. والأرجح أن يطلب العالم من هؤلاء لاحقاً إنجاب النسخة المستقبلية من “داعش”، ذاك أن هزيمة التنظيم قبل أن تنجز الجيوش مهماتها، قد يتطلب مولوداً جديداً.
درج
حكايات عن أهل “داعش” وعن زوجاتٍ طفلات وآباء قتلة/ حازم الأمين
بدأت قصص المأساة التي خلفتها “دولة الخلافة” تلوح بصفتها أسراراً، كانت تقيم في أبنية تلك المدن التي انهزم التنظيم فيها. بين المخيمات والسجون ووجوه النسوة والأطفال، تختبئ القصة الفعلية التي حاول الجميع إخفاءها. “درج” سيتعقب هذه الحكايات عبر سلسلة من التحقيقات والقصص المكتوبة والمصورة من عدد من البلدان التي شهدت هذه الظاهرة.
عائلات تنظيم داعش بعد استسلامها في الباغوز السورية
بين اللبنانيات زوجات عناصر “داعش” الموجودات في المخيمات التي خصصتها “قوات سوريا الديموقراطية” لهن في شمال سوريا، فتاة تدعى آمنة ن. س، وهي من مواليد عام 2003، وفي الجدول الذي زودت به هذه القوات “درج” أشير إلى آمنة بصفتها متزوجة، واسم زوجها قاسم م. م، وهو لبناني أيضاً. آمنة اليوم في الـ١٦، و”قسد” أوقفتها عام 2018 في منطقة هجين، وفي خانة عدد الأطفال في الجدول نفسه، كُتِبت عبارة “لا يوجد”. هذه المعطيات الأولية تقول إننا أمام قصة طفلة تم تزويجها. وغير ذلك، يصعب توقعه. كيف وصلت طفلة في هذا العمر إلى دولة الخلافة، ومن تزوجها، ثم كيف غادرت الدولة قبل سقوطها، كل هذا سيكون جزءاً من حكايات بدأت تتسرب وقائعها بعد هدم “دولة الخلافة”.
في الجدول عينه اسم لبنانية أخرى. إنها آمال م. س، وهي متزوجة من محمد ب. ي، وهو لبناني أيضاً. وآمال من مواليد عام 1999، وخرجت مع النسوة أخيراً، من مخيم الباغوز مع ابنتيها، عائشة وماريا. عمر آمال اليوم ١٩ سنة، ولديها ابنتان. الأرجح أن آمال تزوجت وهي في الـ15 من عمرها، ونحن هنا أيضاً أمام زوجة طفلة. لا معلومات في الجدول عن مصير الزوج. وعلينا أيضاً أن نضم قصة آمال وطفلتيها إلى قصص ما بعد هدم الخلافة.
ومثلما ولد “داعش” في غفلة عن أهله في كل العالم، نحن اليوم أمام تراجيديا دحره، وغافلون عن حجم مأساة ما بعد دحره. الموت الموقت للتنظيم طرح علينا نحن أهله تحدياً جديداً. ثمة عائلات تشكلت في ظل الخلافة. نحن نتحدث عن آلاف الأطفال الذين ولدوا خارج الحدود القانونية والجغرافية لبلدان أهلهم. نور عادت إلى لبنان مع ابنيها اللبنانيين وابنها الثالث التونسي. وآمال أنجبت في الرقة وأولادها غير مسجلين في لبنان وكذلك زواجها الثاني من مغربي، بعدما قتل زوجها الأول!
في المخيمات التي خصصها “قسد” للنساء غير السوريات وغير العراقيات في شمال سوريا، 12 ألف امرأة وطفل من 46 جنسية! هذا العدد من المفترض أن يتضاعف في سوريا، ذاك أن آلافاً من هؤلاء ما زالوا خارج المخيمات. فـ”درج” أحصى مثلاً 10 حالات التحاق للبنانيات مع أزواجهن أو من دون أزواج بـ”داعش”، ولم يعثر في سجلات مخيمات “قسد” سوى على 3 منهن. والقول إن النساء السبع الأخريات قتلن غير دقيق، ذاك أن واحدة منهن على الأقل ما زالت تتواصل هاتفياً مع أهلها في لبنان، واسمها غير مدرج في لوائح “قسد”. وأرجع مسؤول في الوحدات ذلك إلى أن كثيرات لا يعترفن بجنسياتهن، وأخريات ما زلن ضائعات بين المخيمات والمناطق بعد سقوط الباغوز.
هؤلاء النسوة الضائعات في “دولة الخلافة” المهدومة يحملن معهن حكايات تفوق حكايات أزواجهن بما تنطوي عليه من دلالات. معظمهن زُوجن في سنٍ مبكرة، من فتيان في عمر صغير أيضاً. وغالبيتهن تزوجن مرة ثانية بعد موت الزوج في القتال. ولدى كثيرات منهن أولاد من أزواج جاءوا من بلاد بعيدة. فقيرات تزوجن على نحو غريب وسريع، وغادرن بعلم الأهل أو من دون علمهم، إلى تركيا ومنها إلى سوريا. ويمكن أن يقول المرء إن حكاية التنظيم تتكثف في حكايات نساء عناصره، أكثر مما يمكن العثور عليها في حكايات العناصر أنفسهم. فالمتسللات من بلدانهن إلى سوريا حملن معهن قصة بيئاتهن التي زوجتهن وأرسلتهن صغيرات إلى الرقة وإلى دير الزور، وهن إذ مات الزوج، وهو مجرد زوج ومجرد عنصر أو أمير في “داعش”، حُوِّلن إلى تجربة ديوان النسوة وتحولن إلى “معروضات سعيدات” في سوق الزواج من غرباء.
العراق أيضاً يشهد الظاهرة ذاتها، وثمة مخيمات هائلة تضم آلاف النسوة والأطفال غير العراقيين ينتظرون حسم مصائرهم. إذاً نحن أمام اختلالٍ هائل يحاول العالم كله، ممن يحمل هؤلاء النسوة والأطفال جنسيات دول منه، الهرب من مواجهته. ليست بريطانيا وحدها من أسقط عن شميمة جنسيتها، ما أن حانت ساعة مواجهة النفس. الأردن يسعى إلى تأجيل مشكلته مع جهادييه، ذاك أن مصدراً رسمياً في عمان قال لزميلتنا رنا صباغ الأسبوع الفائت: “من المناسب أن تسلّم قسد المقاتلين المعتقلين الذين ناهز عددهم 3000 من 50 جنسية بمن فيهم أردنيون لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، إلى العراق، ليحاكموا هناك”. وفي لبنان يتكتم الأهالي وتتكتم السلطات عن حجم الظاهرة، والجميع يشيح بنظره عن أبنائه المهزومين في “دولة الخلافة”، وبينما لا ترغب الأجهزة الأمنية باستعادة هؤلاء، يحار الأهل ببناتهم وأحفادهم الذين لا يعرفون وجوه آبائهم.
لكن الحكومات المقصرة حكماً في التعاطي مع هذا الملف، هي أيضاً أمام معضلات لم يسبق أن واجهتها. إنها قصة الولادات من زيجات عابرة للجنسيات وغير موثقة بعقود زواج ولا بهويات ثابتة للأزواج. وهذه في حال “داعش” غير نادرة، ذاك أن موت الزوج، وهو ما أصاب آلاف العائلات، كان يحيل الزوجة إلى ديوان النساء حيث “تعرض” هناك للزواج من أي راغب بالزواج من عناصر التنظيم.
نجم عن هذه الظاهرة اليوم آلاف الأطفال، وتبقى جنسيات هؤلاء ووثائقهم الأخرى عصية على القوانين الراهنة، ويمكن الحكومات التذرع بها لتأجيل التعامل مع هذا الملف الهائل. هذا طبعاً قبل أن نصل إلى مسألة المقاتلين الأسرى من غير العراقيين والسوريين، والذين يتجاوز عددهم في سجون “قوات سوريا الديموقراطية” الألف مقاتل، بحسب ما قاله لـ”درج” مسؤول العلاقات العامة قي “قسد” ريدور خليل. وهؤلاء يتم التواصل مع حكومات بلادهم، وما زال التجاوب متفاوتاً، علماً أن التعامل مع معضلة هؤلاء يبقى أسهل قانونياً، على رغم الخطورة التي تمثلها على بلادهم عودتهم إليها.
“داعش” مثل ثقباً في النظام الاجتماعي من الصعب رأبه. لدينا في دولته المهزومة اليوم ما لا يحصى من الأوضاع الناجمة عن جرائمه. هذه الأوضاع كُتب على الأكراد مواجهتها طالما أن أصحابها يشيحون النظر عنها ويهربون من مواجهتها. ثمة مثلاً عشرات الأطفال من أمهات أيزيديات اغتصبهن عناصر التنظيم بعد سبيهن. الأطفال من آباء قتلة وأمهات مسبيات. هذا الأمر وضع العشائر الأيزيدية أمام استحقاق استعادة بناتهن مع أبناءٍ من آباء قتلة ومغتصبين. كثيرات من الأيزديات عدن إلى سنجار، لكن كثيرات أيضاً متمسكات بأبنائهن الذين سيعتبرهم القانون العراقي لقطاء وبالتالي سيسجلهم كمسلمين، وهذا ما وضع الأهل الأيزيديين أمام حقيقة أحفاد من غير أهل الملة.
“داعش” ثقب لن يردم قريباً، وهزيمته فاتحة حكايات تكتمت المجتمعات والعائلات عنها طوال سنوات الخلافة. وها هي الدول والحكومات تنضم إلى قافلة المتكتمين.
درج
انتهاء داعش.. وعودة القاعدة/ رانيا مصطفى
أعلن مجلس سوريا الديمقراطية، الجناح السياسي لقوات سوريا الديمقراطية، السبت الماضي، القضاء على تنظيم داعش، في جيب الباغوز، معقله الأخير في الأراضي السورية؛ لكن فرحة تلك القوات بإعلان الانتصار جاءت منقوصة، حيث تواجه ارتباكا مزدوجا.
السبب الأول لهذا الارتباك يتعلق بمصيرها، بعد انتهاء المهمّة الموكلة إليها من قبل قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، أواخر 2015، وهي محاربة التنظيم المتطرف. والسبب الثاني أن هذه القوات عاجزة عن التصرف بأسرى التنظيم لديها، والبالغ عددهم 7000 مقاتل من داعش، من 54 دولة، عدا السوريين والعراقيين، وترفض دولهم استقبالهم وإعادة تأهيلهم.
لذلك، طالب مجلس سوريا الديمقراطية دول العالم بإنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة مسلحي داعش. هذا فضلا عن مخيّمات النازحين من مناطق التنظيم، التي كان يقطنها قرابة 100 ألف مواطن مدني، قبل انضمام 73 ألفا آخرين ممّن استسلموا مؤخرا منذ مطلع العام الحالي، بينهم الآلاف من الأطفال الذين تربوا على ذهنية داعش العدمية، ويحتاجون إلى إعادة تأهيل.
قوات التحالف لم تحتفل بنهاية التنظيم على الأرض كما ينبغي، لأنّها تعلم أن ذلك لا يعني نهايته، خاصة أنه لم يتم العثور على مؤسسه أبي بكر البغدادي.
كما يمتلك التنظيم قدرات تنظيمية وتكتيكية واستخباراتية ولوجستية، وكذلك حاضنة شعبية، خاصة في المناطق السنية بالعراق، في ظل الاستقطاب السني- الشيعي، الذي تتسبب فيه الصبغة الطائفية للجيش والأمن العراقيين، فضلا عن ميليشيات الحشد الشعبي الموازية التابعة لإيران، والبالغ عددها قرابة 100 ألف مقاتل شيعي، والتي ترفع أعلامها وشعاراتها الطائفية علنا، مستفزة أهالي المناطق السنية.
عاش في ظل تنظيم داعش المتطرف، منذ 2014، قرابة 8 ملايين شخص موزعين بين سوريا والعراق، بينهم 42 ألف إرهابي أجنبي ينتمون إلى 120 دولة، ونسبة الأطفال بينهم 11 بالمئة، وفق تقديرات الاتحاد الأوروبي.
تواجه دول التحالف تحديات كبرى، بشأن استمرار نشاط التنظيم، بوصفه جماعة منهزمة عسكريا، وقد تعود باسم جديد؛ فقد فرّت قيادات وعناصر منه، حيث لا يزال التنظيم يتحرك في مساحة كبيرة من البادية السورية مترامية الأطراف، والمتصلة بمحافظة الأنبار العراقية.
وأفادت تقديرات بقدوم ما لا يقل عن 1000 مقاتل من داعش وصلوا إلى الأنبار من سوريا، وبحوزتهم ما يوازي 200 مليون دولار من الدعم المالي، فضلا عن استمرار هجمات داعش في العراق بسيارات مفخخة. ومن المتوقع تكرار الأمر في سوريا، مع ملاحظة تنشيط بطيء لشبكات الخلايا النائمة. هذا، عدا عن إطلاق قوات سوريا الديمقراطية سراح المئات من مقاتلي التنظيم، نتيجة الضغوط الشديدة، بما عرف بـ”صفقة العشائر”، وقد اتجهوا إلى شرق سوريا، حيث يتواجد التنظيم في منطقة ممتدة من محطة تي2 النفطية في ريف البوكمال الجنوبي، إلى ريفي السخنة وتدمر غربا، وأطراف بلدتي القريتين ومهين، وصولا إلى ريف مدينة الضمير، وشرقا إلى حدود منطقة تلول الصفا في ريف السويداء الشرقي.
إن إنهاء داعش على الأرض، مع بقاء الآلاف من عناصره طلقاء ، وآلاف آخرين محتجزين في سجون التحالف بالعراق، وفي سجون قوات سوريا الديمقراطية بسوريا، والآلاف من عائلاتهم وأطفالهم في المخيمات، سيعني لكل هذه العناصر انتظار فرصة الإعلان عن تنظيم جهادي جديد.
بالفعل تتوالى تقارير عن تصاعد نشاط تنظيم حراس الدين في العراق، المبايع لتنظيم القاعدة، واستقطابه للهاربين من عناصر تنظيم داعش؛ بينما تنفّس تنظيم الحراس، في إدلب الصعداء، ومجّدوا صمود عناصر داعش في معاركهم الأخيرة، ورغم أن الأخير كان قد كفّر الحراس..
حراس الدين هم التنظيم الأكثر ترشيحا لوراثة داعش، لكن مع تغيير في التكتيك؛ فقد خبرت الجماعات الجهادية مخاطر امتلاك الأرض عليهم وعلى السكان؛ لذلك من العقلانية بالنسبة لهذه التنظيمات العودة إلى سياسة تنظيم القاعدة في العمل السري، والتفجيرات والعمليات الخاطفة. وتنظيم حراس الدين يشبه القاعدة الأم في عملها التنظيمي، وسرية انتشارها، والقدرة على العمل في الخفاء، ما سيسمح له بالانتشار في زمن تراجع التنظيمات المشابهة.
من الضروري تذكّر أن داعش نشأ من بقايا تنظيم القاعدة في العراق، وانتشر في ظلّ الفوضى الطائفية وعدم الاستقرار الذي سببه الاحتلال الأميركي، ثمّ دخول إيران بميليشياتها ودعمها حكومات تابعة لها؛ وقد توسع في سوريا في ظلّ الفراغ الأمني الذي أحدثه تحرير الفصائل الإسلامية للرقة ومحيطها، وانسحاب النظام من شرقي الفرات وتسليمه لمقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي.
لكن التنظيم نشأ وانتشر أيضا بتسهيلات مقصودة، أميركية وغربية، وتركية عبر فتح الحدود لحركة الجهاديين. وكان انتشار التنظيم حجّة لتدخل التحالف وعودة الولايات المتحدة إلى العراق، وللتدخل في سوريا، ولمنع انفلاته بما يمنع التحكم فيه، حيث تضم قيادات الصف الأول والثاني في التنظيم عناصر استخباراتية تتبع دولا عدة.
لكنّ سوريا والعراق ما زالا يشهدان حالة عدم استقرار تسمح للعناصر الجهادية بإعادة تشكيل نفسها؛ فالعراق يعاني من تحكم ميليشيات طائفية شيعية تابعة لإيران، ما سيبقي المظلومية السنية واحتمال ظهور التنظيمات الجهادية، وفي سوريا لا يزال التوافق على حل سياسي بعيد، مع تمسك روسيا بالنظام، وبقاء الميليشيات الإيرانية، ورغبة كل هؤلاء في فتح معارك بإدلب وبشرقي الفرات، لاستعادة السيطرة عليهما، ومع عدم التوصل إلى توافق حول المنطقة الأمنية على الحدود مع تركيا.
كلّ ذلك يشكّل تحديا للجميع، بما فيهم واشنطن، خاصة أن تنظيم حراس الدين يتحدث في أدبياته عن تصويب ناظريه نحو “العدوّ البعيد أولا”، بما ينذر بعودة نشاط تنظيم القاعدة، خاصة إن صحت التكهنات بصعود نجل أسامة بن لادن إلى قيادة القاعدة، ما سيعني إلهام جيل جديد من الجهاديين.
كاتبة سورية
العرب
خِلافة النفط والجباية/ قاسم البصري
خلال حصار قوات سوريا الديمقراطية بدعمٍ من قوّات التحالف الدولي لبلدة الباغوز بريف دير الزور الشرقي، آخر معاقل سيطرة تنظيم الدولة الآهلة بالسكان، سرت شائعاتٌ عن صفقاتٍ يعقدها التنظيم مع القوّات المُهاجمة، سُلّمت بموجبها كمياتٍ من ذهبٍ كان بحوزته، مقابل فتح ممرٍّ آمنٍ لعبور من أراد الخروج من مقاتليه وعائلاتهم من الجيب المحاصر. وقد نقل موقع باسنيوز الكردي عن مُقاتلين في وحدات الحماية أنباءً تفيد باستيلاء قوّات التحالف الدولي على 50 طنٍّ من الذهب كانت لدى التّنظيم، ونقلها إلى قاعدةٍ تابعةٍ للقوّات الأمريكيّة قرب بلدة عين العرب/كوباني، بعد أن تُركت حصّةٌ صغيرةٌ للوحدات.
الماكينة الإعلامية الرّوسيّة تلقّفت هذا النّبأ، وأعادت تداوله على نطاقٍ واسع، كما بادرت وكالة أنباء النظام سانا إلى فعل الأمر ذاته. الأكراد لم يُؤكّدوا ولم ينفوا بشكلٍ رسمي، بينما قالت إذاعة أمريكا الحرة VOA إنّ داعش قد يُخفي «جبلاً من الذهب» في منطقة سيطرته الأخيرة، وإنّها طرحت السؤال المُتعلّق بأطنان الذهب على مسؤولٍ في قيادة التحالف، لكنه لم يُقدّم إجاباتٍ واضحة، واكتفى بالقول إنّهم سيتحرّون دقّة هذه المعلومات.
سبق ذلك كله تقريرٌ نشره المرصد السوري لحقوق الإنسان، قال فيه إنّ إجماليّ ما يخفيه التنظيم في الباغوز هو 40 طنّاً من الذهب. كما أشار تقريرٌ نشرته جريدة المدن الإلكترونية إلى أنّ التحالف الدولي عقد اتفاق هدنةٍ وتسليم أسرى مع تنظيم الدولة، وكان بين بنود الاتفاق تسليم 6 أطنان من الذهب لقوّات التحالف. كل هذه الأنباء لم تُقابل بتأكيداتٍ رسمية من جانب قوات التّحالف أو شريكها المحلي قوات سوريا الديمقراطية، رغم أنّ كثرة تداولها بات بحاجة لإجابات واضحة.
نحاول في هذه الإحاطة الموسّعة شرح الخصوصيّة التي يتّسم بها اقتصاد داعش، وتمايزه عن غيره من التنظيمات الإرهابيّة والميليشيات وجماعات الإجرام؛ وكذلك الإضاءة على موارد تنظيم الدولة1 وقدراته المالية خلال السنوات الماضية، منطلقين من السؤال عمّا إذا كان من الممكن لخزينة التنظيم أن تحتوي ما شاع الحديث عنه من كميات كبيرة من الذهب؛ وإذا صحّ ذلك، فلِمَنْ تعود ملكيّتها في الأصل؟
طفرة داعش الاقتصادية
إنّ تنظيم الدولة الذي حُشر في آخر أيامه ضمن قرية صغيرة مُحاصرة على طرف البادية، كان قد فرض سيطرته على أجزاء واسعةٍ من العراق وسوريا منذ العام 2014، واتّسعت رقعة سيطرته حتى باتت مساحة المناطق التي أقام عليها «دولة الخلافة» تبلغ نحو 100 ألف كيلومتر مربع. وعلى الرغم من كون مساحات شاسعة من هذه المناطق تقع في البادية الممتدة على الحدود بين البلدين، إلا أنّها ثريّةٌ بمواردها، وسمحت للتنظيم بأن يكون أغنى التنظيمات الإرهابية على مرّ التاريخ، والتنظيم الجهاديّ الوحيد القادر على اتّباع منهجيّة التمويل الذاتي لأنشطته Autofinancement، خارجاً عن الأُطر التمويلية التقليدية للجماعات الجهادية؛ كتبرّعات المتعاطفين من أفراد وجماعات، أو تمويل الدول الخفيّ المرتبط بأجندات ومصالح.
لقد أحدث داعش نقلةً نوعيّةً في طبيعة المال الذي تستخدمه التنظيمات الجهادية في العالم، وإذا كان الحديث سابقاً يقتصر في معظمه على طرق وآليات تموّل هذه التنظيمات ومصادره المشبوهة، فإنه بعد تجربة داعش بات لزاماً الحديث عن اقتصادات التنظيمات الجهادية. إنّ سيطرة داعش على مساحات جغرافية واسعة مأهولة بمئات ألوف الناس، وإدارته الكاملة لشؤون حياتهم، وتحكّمه بالثروات الطبيعية، لم يكن وحده ما أحدث ما يمكن تسميته «طفرة داعش الاقتصادية» مُقارنةً بالمقدرات المالية للتنظيمات الإرهابية تاريخيّاً، بل أيضاً استغلاله للكثير من العوامل الأخرى، الأمر الذي مكّنه من تكوين ميزانيّةٍ سنويّة يُقدّرها مركز تحليل الإرهاب بـ2.5 مليار دولار في عام 2015، كما يُشير المركز إلى أنّ داعش كان يهيمن على أصول بقيمة 2043 مليار دولار عام 2014، ارتفعت لتصل إلى 2260 مليار دولار عام 2015 بفعل التّوسّع والسّيطرة الجغرافيّة؛ وتشمل هذه الأصول محطات الغاز والبترول والفوسفات والأراضي الزراعية والمواقع التراثية وقائمة طويلة من البنى التحتية والمشاريع المُنتجة، وإدارةُ هذه الأصول مُجتمعةً هي التي سمحت لداعش بأن يكون ذاتيّ التمويل، قبل أن يُنشئ رويداً رويداً أدوات تحصيلٍ للدّخل عبر سياساتٍ ماليّة متنوّعة. ولا نستخدم هنا كلمة سياسات لإضفاء صفة العلميّة على ما كان يقوم به داعش، بقدر ما أن هذا الاستخدام يهدف للتّدليل على سعي التنظيم لاتّباع أدوات ثابتة تعود بدخل ثابت ومنتظم، والسعي الحثيث لمراكمة هذه الأدوات بغية زيادة الدخل.
كيف اختلف داعش في جني الثروة عن باقي المنظمات الإرهابية
للتنظيمات الجهادية مصادر تمويل تقليدية، تشمل السطو على ممتلكات عامة وخاصة في الدول التي تنتشر فيها، وكانت غالب عمليات السطو تأخذ شكل الغارات دون احتلال الأرض، فهي تنظيمات غير مُستقرّة، وغالباً لم يكن بوسعها الاستقرار، تمارس عمليات قتلٍ ونهب، ثمّ تعود بأسلابها للتّخفّي، مُستهدفةً السلاح والمال في المقام الأول.
كما تشمل المصادر التقليدية الخطف وطلب الفدية، وكذلك التبرعات وتمويل غير مباشر من حكومات بلدان معينة لها؛ بغية زجّها في مواجهة حكومات بلدانٍ أخرى. ويحدث أن تضمّ هذه التنظيمات أثرياء يقدّمون المال، كما هو حال تنظيم القاعدة مع زعيمه السابق أسامة بن لادن، المولود لإحدى أثرى عائلات المملكة. ويضاف إلى ذلك شبكة العلاقات المالية التي تربط جماعات جهادية في مناطق متنوّعة، تدعم إحداها الأخرى، فضلاً عن الاتجار بالمخدرات وكلّ ما من شأنه توفير المال اللازم لاستمرار عملها.
وقد احتفظ داعش بهذه الأطر التقليدية للتموّل، غير أنّه طوّرها ولم يكتفِ بها. وإذا كان تنظيم القاعدة يعتمد على تمويل غير مباشر من دولٍ بعينها ومن المُتبرّعين في المقام الأول، فإنّ التبرعات لم تكن تشكّل إلا جزءاً يسيراً من المقدّرات المالية التي توفّرت لداعش، ويتمايز التنظيم عن غيره في هذا الباب أنّه طوّر لنفسه أساليب جديدة لحركة تنقّل الأموال القادمة من التبرعات.
داعش استفاد ممّن سبقوه
يُرجع وثائقيٌّ بثته قناة ARTE الفرنسية بداية تشكّل آليّات التّمويل الجديدة لداعش إلى مرحلةٍ سبقت تشكّل التنظيم وإعلانه لدولة الخلافة، إذ بدأ تنبّه التنظيمات الجهادية إلى ضرورة خلق الأموال من خلال نشاطاتٍ ذاتية، وعدم الاقتصار على الأموال التي تصلها بالطرق التقليدية بعد غزو العراق، لذا لم يكن حجم اعتماد «أبو مصعب الزرقاوي» على الدعم المالي من تنظيم القاعدة الأم وأشكال التبرعات الخارجية الأخرى يتجاوز حدود 20%، في حين كان يؤمّن 80% من المال عبر التمويل الذاتي، ومن داخل العراق، عبر الخطف وطلب الفدية والتهريب وبيع السلاح، وكذلك من التّبرعات الدّاخليّة التي قدّمها أشخاصٌ كانوا قريبين من بلاط صدام حسين، واستولوا على أموال كبيرة من عوائد النفط التي كانت تذهب حصراً إلى ديوان الرئاسة، وقدّم هؤلاء الأموال باسم دعم المقاومة. كما يذهب التقرير أبعد من ذلك، إذ يقول إنّ الزرقاوي هو أيضاً استفاد من الـ55 مليار دولار التي قُدّمت للعراق ضمن جهود إعادة الإعمار الدولية بعد العام 2004.
واصل تنظيم الدولة خطّ الزرقاوي في تخفيف الاعتماد على التمويل الخارجي، والاستعاضة عنه بخلق مصادر ذاتية أو محلية للتمويل؛ لذا لا تتخطّى نسبة التبرعات الخارجية من إجمالي الأموال التي كان يتحصّل عليها داعش عتبة 2% من ميزانيته السنويّة، أما الباقي فقد كان يأتي عبر أشكال مختلفة وواسعة من التمويل المحلي، وهنا تكمن قوّة داعش المالية قياساً بما سبقه من تنظيماتٍ جهادية.
داعش صديقٌ للتكنولوجيا في الترويج، عدوٌّ لها في حركة المال
لداعش كفاءةٌ ذائعة الصيت في القدرة على تطويع التكنولوجيا من أجل خدمة البروباغندا المروّجة لأنشطته واستقطاب المقاتلين ونشر أفكاره، غير أنّه أدرك صعوبة امتلاك الكفاءة نفسها على الصعيد المالي، فعزف، بفعل الاختيار، بشكلٍ شبه كاملٍ عن استخدام التكنولوجيا في تعاملاته المالية عبر الحدود، ولا يبدو أنّه استخدم العملات الرقمية Bitcoin أو الحسابات والحوالات المصرفية المباشرة، أو عبر استخدام طرفٍ ثالث، والغالب أنّ السبب يعود إلى أنّه بات من اليسير على أذرع الرقابة المالية والأمن السيبراني لخصوم التنظيم تعقّبها وكشف مصادرها. ولا ينفي هذا الابتعاد من قبل التنظيم عن النظام المالي الرسمي امتلاكه أدواتٍ متنوّعة تيسّر للنظام البنكي، بهدف نقل كميات صغيرة من الأموال السائلة التي يموّل عبرها هجماته الإرهابيّة عندما تقتضي الحاجة.
لقد حاول داعش، ما أمكن، اعتماد اقتصادٍ خفي أو مُستتر Economie souterraine، يعمل في الظل، ولا يدخل في عجلة الاقتصاد العالمي ولا يستخدم الطرق الإلكترونية التقليدية. ويمكن القول إنّه اقتصاد متميّز بالقطيعة الناجزة والمُدبّرة مع النظام المالي العالمي والحركة النظامية للمال في العالم؛ لذلك كان يعتمد نقل الأموال عبر الحدود بواسطة الأفراد بشكلٍ رئيسي، وتتمّ عمليات النقل هذه عبر حقائب سفر تدخل عبر الحدود إلى تركيا، بحسب ما نقلته صحيفة الشرق الأوسط عن نيوزويك، وكذلك عبر طرق تهريبٍ قديمة يعرفها بعض من شاركوا في تهريب النفط والأموال من العراق إلى الكويت وإيران إبّان العقوبات الغربية التي فُرضت على العراق عقب حرب الخليج الثانية.
ربّما يكون داعش قد امتلك خبراتٍ ومَقدراتٍ تقنيّة تسمح له باختراق الأنظمة المالية الضعيفة لدى بعض الدول، والتسلل عبر ثغرات مالية تُسهّل عملياته، غير أنّ التنظيم فضّل الثغرات الحدودية التي كان واضحاً أنّ دولاً معينة تتساهل فيها قصداً. محصلة ذلك أنّ النظام المالي الذي انتهجه داعش كان قديماً جدّاً ولا يشي بنيّة التنظيم الوصول إلى الأسواق الدولية الرسمية، غير أنّه منظّم، وهذا الأسلوب البدائي المُنظّم مكّنه من إحاطة عملياته وقوائمه وبياناته الماليّة بقدرٍ عالٍ من السّرّيّة، حتى بات يصعب رصد وتقدير عملياته المالية، فهي تتمّ خارج القنوات المعروفة، معتمدةً اقتصاد الظّل Economie d’ombre بكلّ أشكاله غير الرسمية والسوداء.
قنوات تحصيل المال
يمكن القول إنّ اقتصاد داعش ينقسم إلى شقّين؛ الأوّل والأبرز ذو طبيعةٍ ريعيّة غير مُنتجة، لا يختلف في شكله وجوهره عن كثيرٍ من اقتصادات دول المنطقة العربية، لا سيّما الدولتان اللتان امتدّت سطوته على أراضيهما في المشرق العربي، ويتحقّق فيه أكثر من نصف الدخل عبر استغلال الموارد الطبيعية؛ على رأسها النّفط والغاز والفوسفات والمحاصيل الزراعية. ونسبة عالية من هذا الرّيع خارجيٌ ناجمٌ عن بيع الثروات الطبيعيّة لجهاتٍ خارج حدود «دولة الخلافة»، ولا يساهم سوى عدد قليل من الناس في توليده. ولا يحتوي هذا الاقتصاد على دخلٍ إنتاجيٍّ عالٍ ناجمٍ عن صناعاتٍ تحويليّة، وقد بقيَ دخل الصناعات التحويليّة، على قلّته، مُهدداً على الدوام، حتّى أنّ ضربات التحالف الدولي خلال الشهور الستة الأولى من تشكّله حرمت التنظيم من جلّ هذه الصناعات التي كان يجريها على النفط في محطّات تكريرٍ بدائيّة، ما جعله مُضطراً لبيع النفط بشكله الخام.
أمّا الشقّ الثاني فيشمل أدواتٍ عديدة لتحقيق العائد، منها ما هو كلاسيكيٌّ بالنسبة للتنظيمات الجهاديّة، وأخرى مُسجّلة باسم التنظيم، ترتبط بتعريفه عن نفسه كدولة، وأهمّ هذه الأدوات هو نظام الضريبة النسبية الثابتة الذي فرضها التنظيم على محكوميه.
الموارد الطبيعيّة
النفط
رغم أنّ النفط كان العمود الفقري لاستقرار داعش المالي، تختلف التقديرات وتتنوّع إلى حدٍّ كبيرٍ ومتضارب فيما يتعلّق بعوائد داعش اليوميّة منه، فكثيرةٌ هي الجهات الحكومية ومراكز الدراسات والجهات الإحصائيّة التي أدلت بدلوها في هذا المضمار، وجميعها لم تكن تستند إلى بيانات ماليّة حقيقيّة، فالتنظيم بالغ التّكتّم، والجهات المُشترية حريصة على إبقاء عملياتها مع التنظيم سرّيّة.
كانت هذه التقديرات تستند إلى صور الأقمار الصناعية لأرتال الشاحنات الناقلة للنفط، والممتدة لكيلومتراتٍ عديدة، وأيضاً إلى حساب ما كان تحت يد التنظيم من نقاطٍ منتجة للنفط بين حقول وآبار، وطاقتها الإنتاجية، وما يبقى سليماً منها عقب استهدافها المتكرّر من التحالف الدّولي، الذي تضاربت التقارير بخصوصه هو الآخر عن حجم الدمار الذي لحق بالبنية التحتية للمنشآت النفطية في مناطق سيطرة التنظيم، لكنّ الثابت أنّ غارات التحالف، بخلاف غارات النظام السوري وروسيا، كانت تحرم التنظيم من عوائد النفط شيئاً فشيئاً، إلى أن استُعيدت النقاط النفطية من قبضة التنظيم في منتهى المطاف، بعد أن بلغ عددها 160 نقطة عام 2015، كما أنّ غارات التحالف تركّزت في فترة الشهور الخمس الأولى على محطات تكرير النفط البدائية للتنظيم، ما جعله مضطرّاً لتصدير النفط بشكله الخام.
وفي حين تقول التقديرات المُبالِغة إنّ داعش في ذروة إنتاجه النفطي عامي 2014 و2015 كان يتحصّل على 3 ملايين دولار يوميّاً، تُجمع كثير من التقارير على أنّ عوائد الناتج اليومي في تلك الفترة لم تكن أقلّ من 1.5 مليون دولار يوميّاً، وهذه الأرقام تشمل عوائد النفط الخام والمحروقات المُكرّرة بأشكالها المختلفة. فيما بعد، كانت تتغير التّقديرات بشكلٍ دائم تبعاً لتقلّبات أسعار النفط العالمي وتوفّر المُشترين (التنظيم يبيع النفط بأقل من أسعار منظّمة أوبك، حتّى أنّه باع البرميل الواحد بعشرة دولارات في بعض الأوقات)، وكذلك حسب طاقة الإنتاج المتغيّرة بشكلٍ مستمر؛ بفعل فقدان السيطرة والعمليّات الحربيّة والغارات الجوّيّة.
وكان التنظيم يُصدّر القسم الأعظم من النفط الخام إلى خارج حدود دولته عبر اتّجار الظل Trafic d’ombre والتهريب المنظّم الذي تديره الحكومات المشترية عبر الوسطاء، للنظام السوري وتركيا في المقام الأوّل، كما تشير تقارير إلى أنّه جرى تهريب كميات نفطيّة عبر كردستان العراق. ويقول كتاب مال الرعب الصادر2 عام 2016 إنّ النّظام السوري كان في فترةٍ من الفترات يشتري 90% من النفط الذي يحتاجه لتغذية مناطق سيطرته من تنظيم داعش؛ بطريقةٍ مباشرة أو من خلال وسطاء، وهذا ما دفع الاتحاد الأوروبي في آذار/مارس 2015 إلى فرض عقوباتٍ على رجل الأعمال السوري جورج حسواني، صاحب شركة هيسكو، بسبب عمله كوسيطٍ يشتري النفط للنظام من داعش. وفي هذا السياق، يُشير تقريرٌ لصحيفة الشرق الأوسط إلى أن عشرين شركة على الأقل كانت تتعامل مع تنظيم الدولة بدراية النظام السوري، وفق معلوماتٍ نُقلت عن خبراء أميركيين. إلى ذلك، يغمز الكتاب، الذي يعتبر مؤلّفاه أنّ العالم كلّه قد موّل داعش بطريقة أو بأخرى، إلى دور تركيا في تسهيل عبور النفط إلى أراضيها وشرائه من التنظيم عبر وسطاء.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ جميع الأطراف المُتحاربة في سوريا اشترت النفط من تنظيم الدولة، ولم تكن قادرةً على تأمين احتياجاتها واحتياجات الخاضعين لسلطانها من النفط دون داعش؛ إذ تظهر إحصائيّات تقريرٍ اقتصاديٍّ في صحيفة لو فيغارو لتوزّع السيطرة على النفط في سوريا عام 2015 أنّ 80% منه كان في قبضة داعش، مقابل 12% بأيدي وحدات حماية الشعب، و8% خاضع للنظام السوري.
بالنسبة لأطراف الصراع في سوريا لم يقتصر الأمر على الرضوخ لحتميّة التعامل مع التنظيم بشأن النفط، بل اعتبرت بعض القوى العسكريّة الأمر تجارةً ومورداً مهمّاً لها هي الأخرى، حيث يُشترى النفط من التنظيم ويُباعُ للأهالي، لتحقيق الربح، لا لتقديم الخدمات.
الفوسفات والغاز والملح
تبادل التنظيم والنظام السوري السيطرة على حقل الشاعر للغاز بريف حمص الشرقي، كما سيطر التنظيم أيضاً لفترةٍ قصيرةٍ على حقل الجبسة بريف الحسكة، وشكّل الغاز مصدراً ماليّاً مهمّاً للتنظيم عامي 2014 و2015 قبل أن يخرج هذا المورد من بين يديه. وتشير تقديرات مركز تحليل الإرهاب إلى أنّ عوائد داعش من الغاز عام 2015 وصلت 350 مليون دولار، كذلك شكل الفوسفات مورداً للتنظيم في الفترة ذاتها، وبلغت عائداته عام 2015 قرابة 250 مليون دولار، وأبرز مناجمه خنيفيس قرب تدمر، الذي سيطر عليه داعش عام 2013 وخسره لصالح النظام في أيّار/مايو 2017، وكان من الممكن للفوسفات أن يُعود بدخلٍ هائلٍ للتنظيم لولا صعوبة تصديره برّاً والحاجة إلى خبرات ومعدّات وتقنيّات معقّدة لتحويله.
البذار والمحاصيل الزراعية
حصر التنظيم في يده تجارة البذار والأسمدة، عن طريق ديوان الزراعة، ولم تكن تُقدّم هذه المواد على أساس دعم المزارع وتأمين مستلزمات الزراعة، بل كانت عملاً تجاريّاً بحتاً، وبأسعار مرتفعة، حيث بلغ سعر الطنّ الواحد من السّماد الزراعي 500 دولار أمريكي. كما كان داعش هو الجهة الوحيدة المُخوّلة بشراء القمح والمحاصيل الحيويّة من المزارعين، وفق آليّة شبيهة بالتي يمارسها النظام السوري بما يتعلّق بالقمح والشعير والقطن، وبأسعار يقوم هو بتحديدها. كما كان مكتب الزراعة يُحدّد نوع المحصول الواجب زراعته ومساحة ما يجب زراعته، فضلاً عن ذلك كان من الواجب على الفلاح دفع ضريبة ريٍّ تتراوح بين 1000 و1500 ليرة سورية عن الدونم الواحد وفقاً لنوع المحصول. تقول الإحصائيّات إنّ عوائد داعش من الزراعة تشكّل نسبة 10% من إجماليّ العائدات الداخلة إلى خزينته.
أدوات خلق العائد الكلاسيكيّة وأدوات داعش الخاصة
نهب البنوك
تضاربت بدايةً الأرقام المُتعلّقة بحجم الأموال التي سطا عليها داعش من البنوك العراقية التي وقعت تحت يده، والبالغ عددها 121 فرعاً مصرفياً عموميّاً وخاصاً، في كلٍّ من نينوى والأنبار وصلاح الدين، إبان سيطرته على هذه المدن عام 2014، غير أنّ تقريراً توثيقيّاً قدّمه للبنك المركزي العراقي المستشار وليد عيدي عبد النبي، أوضح أنّ المبلغ وصل إلى 856 مليار دينار عراقي، أي بحدود 720 مليون دولار أمريكي، بالإضافة إلى 101 مليون بالقطع الأمريكي. وهذه الأموال في معظمها ودائع وأرصدة حكومية، بينها أرصدة لوزارتي الداخلية والدفاع، فضلاً عن أرصدة المودعين من المسيحيّين والشبك والإيزيديّين.
الجباية
يعامل3 تنظيم الدولة نفسه على أنّه دولةٌ مكتملة الأركان، تفرض وتُحصّل الضرائب والمكوس والمخالفات، وتوظّف جباةً يُحصّلون الأموال، ما يخلق له موارد مالية، رغم أنّه لا يُقدّم خدماتٍ حقيقيّة لقاء هذه الأموال، فهي إن كانت ضرائب أو مستحقّات تؤُدّى لقاء خدماتٍ في مسمّاها، ولا تختلف نظريّاً عن تلك التي تتحصل عليها الحكومات المُعترف بسلطتها وسيادتها لقاء الخدمات التي تقدمها لمواطنيها، فإنها لا تعدو كونها إتاوةً في الجوهر، لأنّ التنظيم يأخذ ولا يعطي، ولا يمارس أعمال الصيانة للمرافق الخدمية أو يُعبّد الطرقات. رُبّما أبرز ما كان يحرص عليه هو النظافة.4
وكان التنظيم يفرض ضرائب على السلع وشاحنات نقل البضائع وجميع المواد المستوردة من زيوت وشحوم وقطع غيار للسيارات والأجهزة الالكترونية والأقمشة، كما يفرض ضرائب على حاصلات القمح والشعير وغيرها من المحاصيل الزراعية، وفق آليّات وأدوات متنوّعة سنأتي على تفصيلها5 وتبيان الدواوين المعنيّة بتحصيلها:
– الذراع الجبائيّة الأوّلى للتنظيم هي ديوان الاقتصاد أو «بيت مال المسلمين»، الذي يجمع الأموال عن طريق المكاتب التابعة له؛ مكتب الزكاة، مكتب الجزية، مكتب الصدقات، ومكتب الجباية. وفي الوقت الذي تتحصّل فيه مكاتب الزكاة والجباية على أقدار كبيرة من المال، يُعدّ مكتب الجزية شبه معدوم العوائد بالنسبة لخزينة التنظيم؛ بسبب فرار مُعظم من يتوجّب عليهم دفعها إلى خارج حدود «دولة الخلافة»، غير أنّ التنظيم لم يغلق المكتب؛ لما له من رمزية «تاريخية دينيّة» بالنسبة له. أمّا مكتب الصّدقات، فيخرج منه المال ولا يدخل. وبالنسبة لمكتب الجباية، فهو مسؤولٌ عن تحصيل عائدات الخدمات التي يوفرها التنظيم كالكهرباء والماء والهاتف والنظافة وغيرها.
وقد فرض التنظيم فواتير ثابتة على استهلاك الماء والكهرباء والمياه على كل مشترك، فيما يُشبه الضرائب النسبية الثابتة دون النظر إلى كمية الاستهلاك، وكانت الفواتير مُقدّرة بدرهمين فضيين من عملته، أي بواقع ألفي ليرة سوريّة للدورة الواحدة (مدّة الدورة شهران). وكان مُسيطراً على سدّ الفرات، أبرز محطّات توليد الكهرباء في سوريا، ولكن بفعل استهداف النظام لمحطات توليد الكهرباء من السد نتيجة خلافات على الحصص مع التنظيم، خرج جزءٌ من استطاعة التوليد عن الخدمة، ما دفع التنظيم لإعفاء سكان عددٍ من المناطق التي لا تصلها الكهرباء من هذه الفاتورة، بيد أنّه أيضاً حصر ترخيص المولدات الخاصة لتوليد الكهرباء (مولدات الأمبير) به، كما حدّد الأسعار وساعات التشغيل، وكان لا يستفيد فقط من نسبته التي يدفعها له أصحاب المولدات ومن رسوم الترخيص، بل من زكاة أصحابها على الأرباح وعوائده من بيعهم المحروقات، وهذا عاد بدوره بأرباح لخزينة التنظيم. كما كانت مؤسسات التنظيم هي المخوّلة الوحيدة ببيع صهاريج المياه للأهالي. يُضاف إلى هذه العوائد الثابتة ضريبةُ النظافة التي تُدفع هي الأخرى بمقدار ألفي ليرة كلّ شهرين.
أمّا مكتب الزكاة، فكان يحصّلها وفق نسب «شرعيّة» حدّدها التنظيم، ففرض على التجار والصناعيين وأصحاب المداخيل نسبة 2.5% عن كل مبلغ يساوي ثمن 100 غرام من الذهب، وأعفى مَن لا يُحقّق مرابح سنوية تعادل هذه النسبة. وبلغت نسبة الزكاة على الأراضي المروية 1.5%، أما نسبة الزكاة على الثروة الحيوانية بمختلف أنواعها فحُددت بـ2.5%. ويُقدّر كتاب تنظيم الدّول المُكنّى داعش عوائد التنظيم من زكاة الأراضي المرويّة وحدها بـ750 ألف دولار شهريّاً، ولا يتساهل التنظيم مُطلقاً في تحصيل الزكاة. وليس لدى التنظيم أيّ نفقات جبائيّة من إعفاءات وخصوم بالمعنى المُحاسبي العام للكلمة.
– أمّا الذراع الثانية فهي ديوان الحسبة، الذي يختص بتحصيل الأموال عبر فرض المخالفات الناتجة عن مراقبة الحياة العامة في مناطق سيطرة التنظيم، وإنزال العقوبات المالية بحقّ مخالفي القوانين؛ كمخالفات التدخين في مراحل التنظيم الأولى، ومخالفات المرور والتأخّر عن إغلاق المحال التجارية في أوقات الصلاة. لا بدّ من الإشارة إلى أنّ داعش تراجع عن كثير من المخالفات المالية التي كان يقبل بها مقابل التدخين وتأخّر أصحاب المحال عن الصلاة وعدم الالتزام باللباس الشرعي من جانب النساء، مُستعيضاً عنها بعقوبات جسدية أو فرض دورات شرعية وإغلاق قسري للمحال التجارية، فيما بقي الشّكل الأبرز للغرامات التجارية هي الأموال التي يدفعها أصحاب البسطات وعربات البيع المتنقّلة في حال لم يلتزموا بالأسواق والأماكن المخصصة لهم.
للزكاة والضرائب والمخالفات والإتاوات وعمليات الابتزاز ومختلف أشكال الجباية وزن عائدي ثقيل في حصيلة أعمال التنظيم، بلغ قرابة 800 مليون دولار عام 2015، إذا ما أُضيفت إليه باقي أشكال النّهب التي مارسها التنظيم بحق الناس، وهي مُوضّحة لاحقاً في الرسوم الإحصائية المُشفوعة بالأرقام التقديريّة لعائدات التنظيم، وهذا ما دفعنا لوسم داعش ماليّاً على أنّه تنظيم جباية.
وهناك أموال تأتي عبر رسوم أخرى تفرضها مختلف المكاتب والدواوين الأخرى التابعة لداعش، كلٌّ في اختصاصه، فالمحاكم مثلاً كانت تتقاضى رسوماً عن دعاوى التقاضي لديها، وعن تثبيت عقود البيع والشراء والاستئجار والزواج، كما كانت أيضاً تفرض غرامات على المُحالين إليها كشكلٍ من أشكال العقوبة.
بيع الخبز
سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على عددٍ من صوامع تخزين الحبوب في كلٍّ من سوريا والعراق، تحتوي على كمّيّات كبيرة من القمح، لعلّ أبرزها تلك الصوامع الموجودة في ريفي الرقة وحلب. ويشير تقرير لصحيفة العربي الجديد إلى أنّ ما كانت تحتويه صوامع «البوعاصي» و«عين عيسى» فقط كان يبلغ 600 ألف طن، فيما يُشير تقريرٌ إلى حصول التنظيم على كامل المواسم الزراعيّة في المحافظات التي سيطر عليها في العراق، والتي كانت مُخزّنة في الصوامع. هذه الكميات المُعتبرة من القمح سمحت للتنظيم بإنتاج الخبز دون كلفة كبيرة، ففي حين كانت تكلفة الربطة الواحدة 15 ليرة سوريّة، كان يبيعها التنظيم بـ150 ليرة. وتقول مجموعة شهادات لعاملين في قطّاع الخبز قُدّمت لمُعدّي كتاب تنظيم الدولة المُكنّى داعش إنّ بيع الخبز في عام 2014 كان يعود على تنظيم الدولة في سوريا بمبلغ 100 ألف دولار يوميّاً، ولا يبدو أنّ هذا الرقم قد انخفض في العام 2015، كما كانت تجارة الطحين ونقاط بيعه محصورة بيد التنظيم عن طريق مندوبين له.
السلاح المجّاني
غالباً ما يتطلب السلاح من الدول والتنظيمات والميليشيات بذل المال، غير أنّ الأمر مختلفٌ بالنسبة لداعش، فواحدةٌ من ثرواته الهامّة التي تحصّل عليها تتمثّل في كميات الأسلحة الكبيرة التي لم يدفع نظيرها مقابلاً مالياً. ولا ينفي هذا أنّ التنظيم كان يشتري السلاح، وتعدّ موضوعة تسلّحه والقنوات المُورّدة من الأمور الأمنيّة الحساسة التي يجب دراستها وتعقّبها بشكلٍ معمّق، غير أنّ التنظيم استطاع مراكمة السلاح المجّاني أكثر من أيّ جماعةٍ إرهابيّة عبر التاريخ، وهذه المراكمة للسلاح جاءت عبر ثلاث قنوات؛ الأولى هي النظام السوري، إذ يقول الرئيس السابق لفرع الأمن السياسي في اللاذقية نبيل الدندل وفي وثائقي ARTE إنّ النّظام السوري ترك لتنظيم الدولة كمّيّاتٍ كبيرة من السلاح قصداً في تدمر حين سيطر عليها التنظيم في أيّار/مايو 2015، موهماً الإعلام والنّاس أنّ داعش أخذ المنطقة عقب معارك ضارية.
القناة الثانية للتسلّح المجّاني كانت حصيلة صراعه مع أحرار الشام وجبهة النصرة في الرقة وغيرها، وسطوه على دباباتهم ومخازن أسلحتهم وذخائرهم، فضلاً عن الجهات التي انشقّت عن النصرة وبايعت التنظيم مع سلاحها. وفي السياق نفسه استولى التنظيم على مخازن أسلحة وعتاد كثيرة من الجيش الحر، وكثيرٌ من عمليّات الاستيلاء موثّقة في مقاطع نشرتها حسابات التنظيم ووكالة إعلامه، وبعض من هذه العمليات لم تشهد قتالاً كبيراً أو حقيقيّاً، أو لم تشهد قتالاً بشكلٍ مُطلق.
نُقلَ هذا السلاح إلى العراق واستُخدم في معارك السيطرة هناك، ليقع تحت يد التنظيم هناك كمّيّات مهولة من السلاح والمعدّات الحربيّة والذخائر والآليّات والكابلات الكهربائية التي خلّفها الجيش العراقي عقب انسحابه من ثلث الأراضي العراقية، وهذه هي القناة الثالثة.
جانبٌ آخر من الأموال التي تحصّل عليها التنظيم عن طريق السلاح، وإن كانت أقلّ حجماً، أتت من عمليّات مصادرة جميع أنواع الأسلحة الفرديّة التي كانت بحوزة الأهالي في مناطق سيطرته، باستثناء المُسدّسات.
عوائد سكّ العملة (السينيورياج)
لدى6 الإسلاميّين عموماً شغفٌ بالعودة للمعادن كأداة نقدٍ تداوليّ ومخزنٍ للقيمة؛ لعلّه ربّما الحنين لذلك التّراثٌ النّقديّ الإسلامي المُتمثّل بالدنانير الذهبيّة ودراهم الفضّة، وقد انقضى قرنٌ ونيّفٌ على زوالها. كما تدأب دراساتهم التشديدَ على ضرورة تغيير النظام النقدي العالمي المُعتمِد على تبادل العملات النقدية بشكلها الحاليّ، بوصفها عمليّات بيع ديون؛ لأنّها مُحرّك الرّبا الأوّل في العالم، وتُتيح لمُصدِريها التّحكّمَ برقاب الدول الفقيرة؛ عبر بيعها أوراق لا قيمة فعليّة لها، بينما تمنحهم هذه الشعوب بالمقابل خيراتها وثرواتها وسلعاً تحمل قيمتها في ذاتها. الدعوات الإسلاميّة قديمة وعديدة في هذا المضمار، لعلّ أبرزها دعوة حركة المرابطين في ماليزيا، واستجابة مهاتير محمّد وغيره لها. وبالفعل، يوجد اليوم دينار ذهبي إسلامي فيزيائي وآخر إلكتروني يتمّ تداولهما على نطاقٍ ضيّق في عددٍ من الدول ذات الأغلبيّة المُسلمة. ويذهب دعاة تغيير أدوات التبادل المالي من الإسلاميّين للاستشهاد بصحة نظريتهم صوب أعمال كلٍّ من روبرت موندل وموريس آليه الحائزَين على جائزة نوبل في الاقتصاد، اللذين دعَيا إلى ضرورة تغيير نظام النقد العالمي السائد اليوم.
دون الخوض بطبيعة النظام النقدي العالمي واتّفاقيّاته القديمة والجديدة وعدم عدالته وكيفية تغييره إن أمكن ذلك، يُغفل طارحو فكرة تبادل المعادن الثمينة من الإسلاميّين وسواهم، والعاملون بها كمخازن للقيمة كداعش، كون الأمر -لو افترضناه مفيداً على المدى القصير- يعاني من مشاكل عديدة، أبسطها نسبة المعروض من الذهب عالميّاً وكيفية إنتاجه وصعوبة حمله وتحاتّ المعادن بفعل تبادلها وانتقالها عبر الأيدي على المدى الطويل، وبالتالي فقدان قيمتها الموجودة فيها شيئاً فشيئاً، فضلاً عن مشاكل أُخرى لا متّسع هنا للخوض فيها.
في هذا الإطار، أعلن تنظيم الدولة عن إصدار عملته المعدنيّة الخاصة أواخر شهر آب/أغسطس عام 2015، عبر إصدارٍ مرئيٍّ صادرٍ عن مؤسسة الحياة التابعة له، حمل عنوان شروق الخلافة وعودة الدينار الذهبي، دون وعيٍ حقيقيٍّ مترشّحٍ عن دراساتٍ علميّة، ليكشف عن ثلاث وحداتٍ نقديّة؛ هي الدينار الذهبي والدرهم الفضي والفلس النحاسي، وبفئاتٍ مختلفة. وقد جرى إقرار هذه الخطوة على الرّغم من وجود خلافاتٍ داخل قيادات التنظيم حول صوابيّة هذا الأمر من عدمها، وقال بيانٌ موقّعٌ من ديوان بيت المال إنّ الهدف من هذا الإصدار النقدي هو «الابتعاد عن النظام المالي الطاغوتي الذي فُرض على المسلمين، وكان سبباً لاستعبادهم»، وكذلك «الانعتاق من النظام الاقتصادي العالمي الربوي الشيطاني».
ثمّ تلا ذلك اتّخاذ التنظيم مجموعةً من القرارات بغية فرض العملة الجديدة وإدخالها حيّز التّداول. وبرغم المخاوف التي أبداها الأهالي حيال القيمة الحقيقية للمعادن التي سُكّت منها العملة، إلا أنّهم شرعوا في تداولها، وأظهرت معاينة الدفعة الأولى منها تقيّدَ التنظيم بعيار وكمّيّة الذهب في الدينار، ثمّ ظهرت بعض الإشارات إلى تلاعب التنظيم بعيار الذهب في الدفعات اللاحقة. ومن واقع بدائيّة تقنيّات سكّ هذه العملة، فقد جرى تزويرها، وأُلقي القبض على مُزوّرين جرت معاقبتهم. هذه العوامل لم تمنع التّجار والمواطنين من تداول الدينار، وكان من اليسير بيعه واستبداله بهامش نقصٍ بسيط عن القيمة الإسمية له، لا يزيد عن دولارين إلى خمسة دولارات. وقد تعامل به صاغة الذهب أيضاً، حسب ما أفاد صائغ ذهب تحدّثنا إليه أثناء إعداد هذه الورقة، وأضاف أنّ تداول الدينار ما زال جارياً حتّى اليوم في مناطق خاضعة لقوّات سوريا الديمقراطية والنظام السوري في محافظة دير الزور، بل إنّ الروس يُقبلون على شرائه بأسعار تفوق أسعار السّوق. وكان تنظيم الدولة قد طرحه بدايةً بقيمة إسميّة عند 154 دولاراً ثم خفّضها إلى 132 دولاراً، أمّا القيمة الفعليّة للدينار في السوق فقد كانت تتأرجح عموماً بين 121 دولاراً و132 دولاراً7، ويبدو أنه من غير السهل حساب قيمة السينيورياج على الدينار الذهبي.
أمّا بالنسبة للدرهم الفضي، فقد كانت قيمته الإسمية 1000 ليرة سوريّة، أمّا قيمته الفعليّة فتتأرجح بين 850 و900 ليرة، بمعدّل سينيورياج 100 إلى 150 ليرة تدخل في خزينة التنظيم. الأمر مختلف بالنسبة للفلس النحاسي، فقد كان النّاس يتجنّبون اقتناءه؛ نظراً لرداءة الخليط المعدني المصنوع منه. وفي الفلس ترتفع قيمة السينيورياج التي يجنيها التنظيم، حيث بالكاد له قيمة فعليّة في ذاته كمعدن، بينما القيمة الإسمية له 50 ليرة سوريّة. ولم تقتصر استفادة التنظيم من إصدار العملة الجديدة بالعائد على خزينة تنظيم الدولة من السينيورياج، والذي لا يمكن تقديره بدقّة؛ كون التنظيم لم يُفصح عن حجم الكتلة النقدية التي سكّها، لكنّه سمح للتنظيم أيضاً بالحصول على كمّيّات كبيرة من الدولار الأمريكي والعملتين السورية والعراقية، والتخلص من مخزون ذهبي صعب التّحريك.
التّبرعات
رغم عدم اعتماد داعش بشكلٍ كبير على أموال المتبرعين وحملات جمع التبرعات التي انتشرت في دول الخليج العربي، وعلى رأسها الكويت، لصالح فصائل عسكرية تقاتل في سوريا، ضمن ما كان يُعرف بحملات تمويل الجهاد الشامي، غير أنّ بعض المقاتلين الأجانب المُلتحقين بالتنظيم قدّموا «أعطياتٍ» له، وصلت في بعض الأحيان إلى منح المقاتل كامل ثروته. وإلى جانب ذلك هناك أموال كانت يتبرع بها متعاطفون مع التنظيم من مختلف أنحاء العالم، ففي فرنسا وحدها تمّ التّعرّف على 416 متبرعٍ قدّموا الأموال لداعش بين عامي 2016 و2017، بحسب ما كشفه وزير الاقتصاد الفرنسي السابق ميشيل سابان. وفي الخليج العربي رصد تقرير صادر عن الخارجية الأمريكيّة عدداً كبيراً من الشخصيات الثريّة التي قدّمت أموالاً لدعم الإرهاب في كلٍّ من العراق وسوريا دون أن يُسمّيها. وتختلف طرق تحويل الأموال إلى التنظيم، سواءً على شكل سيولة أو تحويلات بنكيّة لشركات وهميّة أو أطراف ثالثة، وكذلك عبر بطاقات الدفع المسبق Prépayée التي لا تتطلب من مشتريها تقديم أوراق تثبت هويّاتهم، وغالباً ما يستخدمها الأشخاص خلال سفرهم لتجنّب حمل أموال نقدية أو بطاقات ائتمانية تابعة لحساباتهم المصرفية، ما دفع الحكومات الأوروبية إلى التشدّد في إجراءات بيع هذه البطاقات، فضلاً عن طرق متعدّدة أُخرى.
الإتاوات على المستثمرين والاستثمار في شركات استثماريّة
فرض التنظيم إتاواتٍ لقاء السماح لبعض الشركات التجارية والصناعية بممارسة أعمالها أو مرور منتجاتها عبر مناطق سيطرته، ومن أبرز الأمثلة على ذلك فضيحة عملاق الإسمنت العالمي لافارج، التي تبيّن تورّطها بدفع مبالغ مالية للتنظيم عن طريق وسطاء، ولا يُعرف الرّقم الدّقيق الذي وصل لخزينة داعش من الشركة التي بلغ إجمالي الرشاوى التي قدّمتها لتنظيمات مُسلّحة في سوريا 13 مليون دولار.
داعش لا يبتزُّ الشركات التجارية فحسب، بل يستثمر فيها، إذ يشير الوثائقيّ الفرنسيّ مال الرعب إلى أنّ التنظيم يستثمر أموالاً تتراوح بين 250 إلى 500 مليون دولار في مؤسّسات عراقيّة قد لا يُعرف أصلاً أنها تعمل لصالحه.
تهريب وبيع الآثار
نشر تنظيم الدولة صوراً ومقاطع مصوّرة لعمليّات تحطيم وتفخيخ معالم أثريّة بالغة القيمة التاريخيّة والحضاريّة في كلٍّ من سوريا والعراق، تنفيذاً «للأمر الإلهي وأمر الرسول بطمس هذه المعالم وإزالتها»، غير أنّ التنظيم من خلف هذه الصور الإجرامية كان يُهرّب الآثار ويبيعها؛ إذ يجري نقلها إلى تركيا والأردن ومنها إلى دول أوروبيّة عديدة، عبر تجّارٍ معظمهم من ألمانيا وفرنسا واليونان، وبعضهم من الأردن ودول الخليج، بحسب ما نقلته العربي الجديد عن أحد الوسطاء العاملين بتهريب الآثار السوريّة في تركيا.
وتقول تقديراتٌ أمريكيّة إنّ التنظيم تحصّل بشكلٍ إجمالي على أكثر من 100 مليون دولار بفضل هذه التّجارة، وبلغت عوائد العام 2015 وحده أكثر من 30 مليون دولار، ثمّ تقلّصت نسبة العوائد بعد الإجراءات الصارمة التي لاحقت مهرّبي هذه الآثار، لتصبح فيما بعد تشكّل جانباً صغيراً من إجماليّ دخل التنظيم. وإلى جانب بيع الآثار وتهريبها استفاد التنظيم من عقود تأجير مواقع تراثيّة للتنقيب عن الآثار لعصابات سرقة، مقابل حصوله على نسبةٍ تتراوح بين 20 إلى 50 بالمئة من العائدات.
الفديات
من موارد التنظيم الفديات المالية، التي يحصل عليها مقابل تحرير الرهائن الأجانب الذين يقوم بخطفهم، إذ يُشير مؤشر الإرهاب السنوي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام إلى أنّها بلغت أكثر من 45 مليون دولار في عام 2014. وبالرغم من أنّ بعض الدول ترفض دفع فدية مقابل تحرير أحد مواطنيها الرهائن لدى التنظيم، كما حدث بخصوص الرهينة النرويجية، فإّن الغالبية منها ترضخ للتنظيم في النهاية وتدفع المال. وفي هذا السياق تنقل صحيفة لو فيغارو الفرنسية عن مدير المركز الفرنسي للبحث في قضايا الاستخبارات إيريك دينيسيه قوله إنّ فرنسا دفعت أموالاً لتحرير مواطنيها الرهائن في 95 بالمئة من الحالات.
سبي النساء ومأساة الإيزيديات
سجّلت منظّماتٌ حقوقيّة اختطاف داعش لـ4600 امرأة وطفلة إيزيديّة عام 2014، قام بعرضهنّ للبيع كـ«سبايا» في أسواقٍ منظّمة في مناطق عديدة، ولعلّ أبرز «الأسواق» ذلك الذي شهدته الموصل العراقيّة، وأصدر التنظيم قراراً حدّد به أسعار السبايا وفق أعمارهنّ كالآتي:
30 إلى 40 سنة: 75 ألف دينار عراقي (60 دولاراً أميركياً)
20 إلى 30 سنة 100 ألف دينار عراقي (85 دولاراً أميركياً)
10 إلى 20 سنة 150 ألف دينار عراقي (125 دولاراً أميركياً)
الطفلة دون 10 سنوات 200 ألف دينار عراقي (170 دولاراً أميركياً)
هذه الأسعار هي التي «وزّع» بها التنظيم المخطوفات على عناصره، إلا أنّه عاد و«باع» 1700 امرأة يزيديّة إلى ذويّهنّ عبر سماسرة بمبالغ مرتفعة، بلغت ألوف الدّولارات.
التعفيش «الشرعي»
كان داعش يطرح ما يقع تحت يده من أملاك الفارين عن مناطق سيطرته، أو من يعتبرهم مرتدين أو كفار، وكذلك بعض أثاث المؤسسات العامة الزائدة عن حاجته، للبيع بوصفها «غنائم». ويتمايز سوق التعفيش لدى داعش عن نظيره لدى النظام السوري في أنّ عوائده تُعدُّ «غنيمةً عامّةً» تؤوب بشكلٍ منظّم لخزينة التنظيم، أمّا «الغنيمة الفرديّة» فيتصرّف بها المقاتل على هواه. وتُعرض المنهوبات في أسواقٍ يديرها مدنيّون متعاقدون مع التّنظيم، وهي بالغة التشابه مع أسواق التعفيش التي يديرها الشبيحة من حيث طبيعة المعروضات، وقد لوحظَ ترفّع، إلى حد كبير، عن شرائها من جانب المحكومين من قبل التنظيم8. أمّا العوائد فلا يمكن تقديرها بدقّة، وهي مُدرجةٌ في الرسم الإحصائي تحت بند الجباية.
المشافي
بالإضافة إلى الضرائب التي كان يفرضها تنظيم الدولة على مُلّاك المشافي الخاصّة، تصل حدّ مشاركتهم الربح في بعض الأحيان، فقد قام بإدارة المشافي العموميّة في مختلف مناطق سيطرته، وافتتح مشافٍ ميدانيّة، كما أصدر قراراتٍ بتأميم عددٍ من المشافي الخاصة، إمّا لأنّ ملّاكها غادروا «أرض الخلافة« أو لصدور «أحكامٍ شرعيّة» اعتبرتهم كُفّاراً. ورغم ضعف الخدمات الطبيّة التي كان يُقدّمها التنظيم في مشافيه وقلّة كفاءة الكوادر الطبيّة، فقد أبقى داعش على المشافي صفة العمومية ونزع عنها المجانيّة، بل كانت الخدمات التي تقدمها مشافيه أكثر تكلفةً من المشافي الأهليّة الخاصّة، وتشكّل دخلاً مُعتبراً لخزينته. فعلى سبيل المثال كانت تبلغ تكلفة إجراء عملية توليد في مشافي داعش بمدينة الميادين شرق سوريا 50 ألف ليرة سوريّة، مقابل 36 ألف ليرة في المشافي الأهليّة الخاصة، ويجب على المرأة الانتظار إلى ثلاثة أيام في بعض الأحيان، فالأولويّة «للمجاهدات والأخوات».9
الإنترنت
انتهج تنظيم الدولة منذ البداية سياسةً صارمةً تقيّد الوصول إلى شبكة الانترنت، ما كان واضحاً منها أنّ هدفها رقابيٌّ في المقام الأول، غير أنّ ذلك لم يمنع التنظيم من استثمارها ماليّاً، لتكون دخلاً ثابتاً لخزينته، فقام بحصر فتح مقاهي الإنترنت الفضائي بمتعاقدين معه، وبموجب عقود بأجل 3 أشهر، لا تُجدّد في حالاتٍ كثيرة. كما حصر إعادة تعبئة الاشتراكات لأصحاب المقاهي بمكاتب تتبع له، ووفق أسعارٍ يُحددها هو، تزيد عن السعر الطبيعي المطروح من قبل الشركات الأصلية المزوّدة للخدمة من خارج سوريا.
داعش يبيع العباءة الإسلامية
فرض تنظيم الدولة لباساً «شرعيّاً» على جميع النساء في مناطق سيطرته، يتمثّل بعباءةٍ إسلاميّةٍ ذات مواصفاتٍ خاصة، ولمّا كثرت المشاكسات بين النساء ومحتسبات التنظيم حول شرعيّة عباءاتهنّ من عدمها صدر قرارٌ يحظر بيع العباءات الإسلامية على التجار، وحصرها بنقاط مبيعٍ تتبع للتنظيم،10 كانت تقاضى 6000 ليرة سورية ثمناً للعباءة الواحدة.
مساهمة أنواع الموارد المالية المختلفة لداعش في ميزانيته السنوية لعام 2015. المصدر: صحيفة لوفيغارو نقلاً عن مركز تحليل الإرهاب
مساهمة أنواع الموارد المالية المختلفة لداعش في ميزانيته السنوية لعام 2015. المصدر: صحيفة لوفيغارو نقلاً عن مركز تحليل الإرهاب
العوائد السنوية لتنظيم الدولة مقدرة بملايين الدولارات. المصدر: صحيفة لوفيغارو نقلاً عن مركز تحليل الإرهاب
العوائد السنوية لتنظيم الدولة مقدرة بملايين الدولارات. المصدر: صحيفة لوفيغارو نقلاً عن مركز تحليل الإرهاب
من الثابت أنّ تنظيم الدولة الذي تمّ إعلان النصر عليه عسكرياً كان جماعةً فاحشة الثراء، ومن الثابت أيضاً أنّ أيّ كميّات من الذهب أو ثروات وأموال أُخرى تُستعاد من التنظيم، هي محليّة المصدر، وهي ناجمة عن نهبٍ مُنظّم لأموال الشعبين العراقي والسوري؛ الخاصة والعامة، وبالتالي هي من حق هذين الشعبين، اللذين دفعا بفعل تنظيم الدّولة وغيره من ولاة القتل ضريبة عالية لم تقتصر على قتل الأرواح والآمال وتعميم فضاء واسع من العذابات، بل امتدّت لتشمل مُقدّراتهم ومُقدّرات الأجيال اللاحقة من أولادهم وأحفادهم.
1. لا بدّ من العرفان بالقيمة العلميّة التي تمّ الإفادة منها أثناء إعداد هذه الورقة من كتاب تنظيم الدولة المُكنّى داعش، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات لمجموعةٍ من الباحثين بإشراف الدكتور عزمي بشارة، وكذلك شكّل كتاب شبه دولة: القصة الكاملة لداعش، مرجعاً جرى الاطّلاع على ما ورد فيه، وهو من إعداد الدكتور عمار علي حسن. كما تمّ البناء على أرقام وردت في تحقيقٍ نشره الملحق الاقتصادي لجريدة لو فيغارو الفرنسيّة نقلها عن مركز تحليل الإرهاب Centre d’analyse du terrorisme، واستقينا أيضاً من وثائقيٍّ استقصائي بالفرنسيّة من انتاج ARTE بعنوان L’argent de la terreur، وكذلك من كتاب بالفرنسيّة بعنوان مال الرعب: تحقيق في الاتّجارات الممولة للإرهاب.
2. L’argent de la terreur – Enquête sur les trafics qui financent le terrorisme, Denis Boulard, et Fabien Piliu, La Tribune 2016.
3. في الشكلين البيانيين المُرفقين آخر النص، استخدمنا كلمة جباية رغم عدم دقتها العلميّة، بخلاف المصدر الذي أسماها ابتزازات، للدلالة على كل ما كان يجتبيه التنظيم من الناس دون وجه حق، وتدخل عمليات الابتزاز والسرقة والخطف وغيرها في هذا الباب، إلى جانب أشكال الجباية المعروفة وعوائد بيع الخدمات.
4. لقاءات أجراها الكاتب مع مواطنين عاشوا في ظلّ التنظيم قالوا إنّ المياه والكهرباء التي كانوا يدفعون فواتيرها بشكلٍ دوري، فضلاً عن ندرة وصولها، لم تكن تخضع لعمليات تنقية فعليّة، كما لم يقم التنظيم بأي أعمال صيانة تتعلّق بكابلات الكهرباء أو إنارة الشوارع. الأمر نفسه ينطبق على باقي الخدمات.
5. الجزء الثاني من كتاب تنظيم الدولة المُكنّى داعش الصادر عام 2018.
6. السينيورياج (Seigneuriage)، أو عوائد سكّ العملة، هو ما تجنيه السلطة النقدية المُصدرة للعملة من عوائد ناتجة عن الفرق بين القيمة الإسمية للوحدة النقدية والكلفة الفعليّة لها، ككلفة الورق والطباعة أو المعادن، وغالباً ما تكون قيمة السينيورياج أقل، بشيءٍ لا يذكر، من القيمة الاسميّة للعملة.
7. يمكن ملاحظة تضارب الأرقام في سعر الدينار الذهبي في الدراسات والكتب والتقارير الإعلاميّة العديدة، لذا اعتمدنا هنا على شهادات تجّار عاشوا في مناطق سيطرة التنظيم بريف ديرالزور وتعاملوا بعملته.
8. مقابلة أجراها الكاتب مع أحد تجّار الريف الشرقي بديرالزور عاش تحت حكم تنظيم الدولة بين عامي 2014 و2017.
9. مقابلة أجراها الكاتب مع أحد المدنيّين الذين عاشوا في ظلّ التنظيم بين عامي 2013 و2018.
10. مقابلة أجراها الكاتب مع امرأة من ريف ديرالزور عاشت في ظلّ التنظيم.
موقع الجمهورية
اليرموك والباغوز.. الرئيس والخليفة/ وضاح شرارة
قبل نحو أسبوعين من إخراج بقايا مقاتلي “داعش” المتحصنين في بلدة الباغوز السورية، وقتلهم، وزعت وكالة “فرانس برس”، في 20 آذار الجاري، صورة فوتوغرافية يُرى فيها أو عليها كتلة رخوة ومتصلة من قماش أسود تملأ ثلاثة أرباع الصورة. والربع الرابع الذي لا تخيم عليه الكتلة، ولا تكسوه بسوادها الفاحم، هو أرض متربة وغبراء تضيئها شمس يتوسط انحدارُها بعد ظهر النهار، على ما تشهد ظلال أشخاص مائلة إلى يمين الصورة. وهؤلاء يمشون في البقعة المضيئة أو يقفون فيها، وتفصل البقعة بين الكتلة المجتمعة في مقدم الصورة، وبين دائرة وراءها تقل إضاءتها عن إضاءة البقعة المتوسطة، إما لأن ترابها بنّي وداكن اللون وإما لأن شجرات (نخيل؟) قليلة، وتكاد تكون غير مرئية، حالت دون غلبة الغبار على التراب.
وتُخيَّل النظرة الأولى الى الصورة- وهي على صفحة الصحيفة الورقية غيرها على شاشة الانترنت الملونة والبائتة الفروق بسبب الضوء- طفحاً جوفياً أسودَ ومعتماً على جلد الأرض وعمرانها الإنسي. فتبدو الكتلة الليلية الهشة شطراً أو ثقلاً ألقت به الأرض، وأخرجته من بطنها الحالك والمستتر. ولا يحسب الناظر أو الرائي أنه هو من يبادر إلى النظر وإلى تمييز ما يرى، فيخال أن الكتلة في قلب الصورة الفوتوغرافية هي مصدر النظر أو، بالأحرى، هي الهاجمة على النظر والآمرة في استدارجه وتثبيته واستفهامه عما يراه.
ومن هذا الوجه، ثمة شبه وفرق قويان بين صورة نساء “داعش” في الباغوز وبين صورة أهل مخيم اليرموك (صورة التقطتها ووزعتها وكالة الأونروا في 31/1/2014) بضاحية دمشق المحتشدين في انتظار توزيع الإعاشة عليهم غداة حصار قاسٍ دام أشهراً. فكتلتا الأبنية المدمرة والطيفية على جهتي الطريق، واحتشاد الناس صفوف رؤوس ووجوه في مجرى الطريق الضارب أولها في أفق لا ترى منه إلا فتحة ضوء شتائي، تشبِّه موجة عاتية قذفها بحر أو محيط شرس. وعلى وجه آخر، يتصور الجمع المكتظ والعميق في صورة يوم الحشر وانتظار الحساب والدينونة على أبواب جحيم، ناره انتظارٌ مديد وشاخص إلى موضع معلق. وعلى وجه ثالث يكني الحشدين الانقاض عن خروج الناس في صورة فئران من جحور مهدمة. تسري في حشد أهل اليرموك حركة مائية هائمة على “وجهها”. وهذا المد هو ما يهجم على النظر، ويعلو به ويهبط، ويجنح ويغور في الوسط، ويرسم الوجوه والقيافة في مقدم الصورة ويُغرق المدَ في إغفال “الجماجم”، على قول جباة الأخرجة والأعشار، في مؤخرها.
ولا تبقى صورة الداعشيات وقتاً طويلاً على إغفالها، ولو اقتصر تصفحها على صيغتها الورقية. فبين المسدلات على رؤوسهن وأكتافهن وأجسادهن النقاب الكامل، على ما يسمى النقاب الخالي من “طاقة” العينيين أو “منورهما”، نساء يعترض نقابهن، على سوية أعلى الرأس المدبب، ضوء أو وميض يلوح، على قول ابن الفارض في مسرى “ليلى العامرية مساءً”، من هذا الموضع. وقد يرى الرائي في طاقات أحجبة الرؤوس زجاج نظارات، أو محاجر عيون كائنات فضائية، على خطى سبيلبيرغ، وأفلامه الفضائية وصبغتها بصباغها مخيلة جمهور عريض ومتجدد.
وإذا اهتدى الرائي بهذه الأضواء التي تشبه النجوم الغائرة في جوف سماء لا يدرك قاعها، وسعه الانتباه إلى أن صفحات الرؤوس (وليس الوجوه أولاً) التي يميزها ويخرجها من إغفال السواد المتصل لا تلبث أن تستوي على شاكلة وجوه. وهذه الوجوه لا تشخص إلى جهة واحدة، ولا إلى موضع واحد. وبعضها، من خلف ستر الحجاب، يخاطب بعضاً آخر، أو يعير أذنه مصدر كلام أو مخاطبة بالعينين أو التفاتة وجه أو حركة رأس أو بالنطق. فتميل الرأس على الرأس، ويشيح النظر عن النظر. وقد ترى يد، عارية أو في قفاز بلون الجلد، تمسك بأصابعها شيئاً، أو تقر شيئاً من لباس المرأة على موضعه، أو تستقر على كتف جارة أو على ذراعها.
ويُلمّ بأعلى رؤوس النسوة الجالسات والمقتعدات التراب ضوء شحيح، لا يدري الرائي إذا كان السبب في شحه منه هو، من ضعفه، أم من قماش الأثواب التي تلبسها المنقبات من أعلى الرأس الى أخمص القدمين. وينتشر الضوء في كتلة النسوة على أنحاء ومقادير متفاوتة. فاللواتي يمينهن (جهة اليمين) إلى مصدر الضوء الغارب، حظ أعلاهن من الضوء الأغبر يفوق حظ أوساطهن. ويحدس الناظر إلى كتلتهن بقعاً بين الجالسات، كأنها بحيرات حبر، يفوق سوادها الحالك سائر السواد المولود من خليط القماش والغبار.
وتشترك الصورتان الفوتوغرافيتان، الداعشية وصورة أهل مخيم اليرموك، في التمثيل على الانسلاخ من عالم سفلي وغائر، والحط في عالم آخر لا يبرأ من الحطام والاضطراب والانهيار. وينزل العالم هذا بجوار الضوء، وتخرجه الفروق الكثيرة والمرئية، الألوان والرسوم والمسافات والظلال، من الشبه المعمّي والأخرس أو تفارقانهما على مثال واحد. فالداعشيات أخرجهن معهن طوعاً عباءاتهن، ورغبن طوعاً في الإبقاء على كتلتهن وسوادهن وخفائهن. والأرجح أنهن، لو استطعن، لحلن دون ظهور الفروق بينهن، ولتحجرن، من غير أضعف فرق، على مجانستهن بعضهن البعض الآخر، وواحدتهن الأخريات. فكتلتهن الصماء، وهن أردنها على هذه الشاكلة، مرآة معدنية يحفرن فيها شبهاً لا يعتوره فرق أو ينبغي ألا يعتوره فرق. ويصدر هذا الشبه عن إرادتهن، وعن انقيادهن ربما أولاً لإرادة رجالهن، أو للرجال الذين هن نساؤهم ولسن غير نسائهم ووعاء رجولتهم.
وتبسط صورة أهل اليرموك على نحو فج ومباشر تسلط جبروت قاهر وفوقي على الجمع المقموع في قمقم ضيق او سراديب مدينة متصدعة ومحطمة، ويكاد اندلاع الناس (على مثال اندلاع النار) في شارع المدينة، وخَلَل أنقاضها المعلقة مكاناً وزمناً – فالقصف الآتي والمتوقع يطلع من الشرفات والجدران والباب المتداعي إلى يمين المشاهد- يكاد أن يعني إحياء المدينة والنفخ في رمادها، ووصلَ أجزاء جسمها المقطّع بعضها ببعض. وترسو على ضفة نهر الجماجم وفي مقدم الصورة، وجوه مفردة، وقسمات قوية العبارة تتخفف من إغفال قُسر عليه العدد قسراً وعنوة. فـ”طليعة” الموجة البشرية تعرب عن المعنى الفريد الذي تؤديه الوجوه القريبة وقد أتاح قربُها، وصدفةُ هذه القرب، جلاءها، وأخرجها من عتمة الشَبَه وتنكير الجمجمة والإحصاء (وهو ما لا تنفك الإعاشة منه).
وعلى هذا، يبعث أهل اليرموك المحاصرون في الصورة الفوتوغرافية حركة زمنية قوية. وتجتاز الحركة هذه – بين القاع البعيد وبين صدارة الوجوه، وبين بواطن الأرض وملاجئها، وبين سطحها الشاهد على إعصار العنف والتكتيل- مسافة تفصل تعسف القهر وقسره البشر على الكمون عن تجديدهم سعيهم في الأرض وعمرانها وضوئها ومقاومتهم دمارها. وتحرس الداعشيات حراسة مشددة الخباء الذي يعرِّفهن من داخل، فيصدرن عنه صدوراً ينفي عن سوادهن وشبهن الانقياد لأمر من خارج. فالقانون (“الشرع”) والفطرة في حالهن، واحد. والعدستان اللتان صورتا انتظار أهل مخيم اليرموك المحاصرين بنار “الرئيس” بشار الأسد توزيعَ الإعاشة، واجتماع الداعشيات اللواتي أخرجهن مقاتلو “الخليفة” أبوبكر البغدادي من ساحة حرب الباغوز- صورتا كذلك صنفين من اختبار الزمن والسلطة والنفس، معاصرين ومختلفين ومشتركين في بعض الأمور.
المدن
أفول “داعش” في سورية… بداية احتدام الصراع الداخلي والخارجي/ أمين العاصي
من راية مرفوعة فوق مساحات شاسعة من أراضي سورية والعراق، إلى أخرى مرمية على بُعد أمتار من نهر الفرات، هكذا سقطت “دولة الخلافة” التي أعلنها تنظيم “داعش”، بعد خمس سنوات زرع فيها الرعب في كل أنحاء العالم، وفرض قوانينه على “دولته”، التي لم يتبقَ منها شيء فعلياً، بعد إعلان “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) أمس السبت السيطرة على آخر الأراضي التي كانت خاضعة للتنظيم في سورية، بعد أكثر من عام على دحره من العراق.
وبعد ستة أشهر من الهجوم الواسع، تمكّنت “قسد” من السيطرة على آخر جيوب “داعش” في سورية، وتحديداً في بلدة الباغوز في ريف دير الزور الشرقي. لكن تحرير الأرض لا يعني إغلاق صفحة التنظيم بشكل تام، بل إن ذلك يُطلق مرحلة جديدة من التحديات تشمل مختلف أطراف الصراع في سورية، من دون وجود إجابات واضحة عن الكثير من التساؤلات المطروحة. ففقدان “داعش” كل الأراضي التي كانت تحت سيطرته، لا يعني انتهاء خطره، في ظل قدرته على تحريك خلايا نائمة في المناطق الخارجة عن سيطرته، واستمرار وجوده في البادية السورية المترامية الأطراف، إضافة إلى إمكان استلهام “ذئاب منفردة” خطاب التنظيم لشنّ هجمات في أي مكان في العالم، خصوصاً أنه كان قد استبق خسارته بدعوة عناصره في تسجيلات بثها في الأيام الأخيرة إلى “الثأر” من الأكراد في مناطق سيطرتهم وشنّ هجمات في الغرب ضد أعداء “الخلافة”.
ملف آخر سيكون حامياً في المرحلة المقبلة، هو مصير “قوات سورية الديمقراطية” التي تسيطر على نحو ربع مساحة سورية، بعدما نجح الأكراد في ترجمة انتصاراتهم الميدانية بإنشاء إدارة ذاتية بدعم أميركي. غير أن كل المكاسب التي حققوها، تبدو مهددة اليوم، مع مخاوف من شنّ تركيا هجوماً على “وحدات حماية الشعب” (الطرف الأقوى في قسد) المنتشرة قرب الحدود التركية، بالتوازي مع تشديد النظام السوري على استعادة السيطرة على كامل أراضي البلاد، وتخيير الأكراد بتسليم أراضيهم بالمفاوضات أو الحسم العسكري. وكان الأكراد قد خاضوا قبل فترة مفاوضات مباشرة مع النظام، لم تُفض إلى نتائج ملموسة.
وما يزيد من التهديدات على الأكراد، قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قواته من سورية، وربط ذلك بالقضاء النهائي على “داعش”، وبالتالي يبدو هذا السحب قريباً مع إعلان حسم المعركة ضد التنظيم. ويثير الانسحاب الأميركي خشية كردية من أن يكون ضوءاً أخضر لتركيا لشنّ هجوم ضدهم، خصوصاً في ظل عدم التوصل إلى تفاهم حول “المنطقة الآمنة” التي اقترحت واشنطن إقامتها على طول الحدود بين الطرفين. وفي ما بدت محاولة لاستمرار تلقي الدعم الأميركي، أكدت “قسد” أمس بعد الإعلان عن القضاء على وجود “داعش”، أنها “تجدد العهد على مواصلة الحرب وملاحقة فلول داعش حتى القضاء التام عليهم”، فهل يكون ذلك مقدمة لغطاء يسمح باستمرار وجود هذه القوات وانتشارها، أم أن الفترة المقبلة ستشهد تقلّبات كبيرة تعيد رسم المشهد السوري من جديد؟
ظهور “داعش”
مع فقدان “داعش” آخر معاقله في سورية، تُطرح أسئلة كثيرة عن رحلة صعود التنظيم، قبل سقوطه التام، وما خلّفه كل ذلك من نتائج كارثية في سورية على مختلف الصعد، مع خروج البلاد منهكة ومهددة بالتشظّي، وربما التلاشي.
بدأ التنظيم بالظهور في سورية أواخر عام 2012، في المناطق التي خرجت عن سيطرة قوات النظام في شمال غربي سورية، خصوصاً إدلب وريف اللاذقية وريف حلب، قبل أن يدخل الأحياء الشرقية من مدينة حلب، مزاحماً ومنافساً قوات الجيش السوري الحر، التي أدركت خطورة التنظيم في البداية، بسبب عمله تحت مظلة “جبهة النصرة” التي رفعت شعاراً مفاده أن “مشروعها يقتصر على مساعدة السوريين في إسقاط النظام”. وفي عام 2013، سيطرت “جبهة النصرة” وفصائل المعارضة على محافظة الرقة في شرقي البلاد، فنشر التنظيم حواجز له في عموم المحافظة؛ حواجز لم تكن تشكّل خطراً. وفي إبريل/نيسان 2013، اعتبر زعيم “داعش”، أبو بكر البغدادي، أن “جبهة النصرة هي امتداد لتنظيمه”، معلناً، من طرف واحد، دمج التنظيمين تحت مسمى واحد هو “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وتحت قيادته. لكن “جبهة النصرة” سارعت في اليوم التالي إلى رفض عرض الاندماج، لتفتح باب صراع مع التنظيم دفعت ثمنه سورية على مدى أعوام. وفي نهاية عام 2013، تعاظم دور التنظيم الذي اصطُلح على تسميته بـ “داعش” اختصاراً لاسمه، في مناطق المعارضة حتى كاد أن يلتهم فصائلها، مع استيلائه على مناطق عدة، مجبراً أهلها على مبايعة البغدادي. كما فرض عليهم الاحتكام إلى محاكمه الشرعية، والتعلّم في مدارسه، وارتكب جرائم قتل كثيرة بحق معارضيه ومنع رفع علم الثورة.
في يناير/ كانون الثاني من عام 2014، أعلنت فصائل المعارضة النفير العام والحرب على “داعش”، الذي سرعان ما تراجع عن شمال غربي سورية، بما فيها إدلب وريف حلب الغربي، وانهزم داخل مدينة حلب، ولكنه سيطر على الرقة بعد ارتكاب مجازر بحق “جبهة النصرة” وفصائل المعارضة. ورسّخ التنظيم وجوده في ريفي حلب الشمالي والشرقي، مهدداً مدينة عين العرب، ذات الغالبية الكردية، ووصل إلى مشارفها وكاد أن يدخلها لولا تدخل التحالف الدولي الذي دمّر طيرانه معظم أحياء المدينة ليحول دون سقوطها. واستكمل التنظيم في عام 2014 السيطرة على أغلب محافظة دير الزور الغنية بالبترول وريف الحسكة الجنوبي. وكان “التحالف الدولي ضد الإرهاب” الذي يضم أكثر من عشرين دولة، تأسس في عام 2014، بهدف محاربة “داعش” ووقف تقدمه في العراق وسورية، بعد سيطرة التنظيم على مساحات شاسعة في البلدين، وبات يشكّل خطراً داهماً على الإقليم برمته.
وفي مطلع عام 2015، هدد التنظيم مدينة الحسكة في أقصى شمال شرقي سورية بشكل جدي، قبل أن تتصدّى له الوحدات الكردية بمساعدة طيران التحالف الدولي. وفي العام نفسه أيضاً، توغّل التنظيم في البادية السورية، فسيطر في مايو/أيار 2015 على تدمر، وهي أهم مدن البادية وبلداتها، ثم زحف حتى وصل إلى تخوم مدينة حمص من الجهة الشرقية، مستكملاً السيطرة على أجزاء واسعة من ريف حمص الشرقي ومعظم ريف حماة الشرقي. كما ظهر التنظيم داخل العاصمة دمشق، تحديداً في الأحياء الجنوبية (الحجر الأسود، ومخيم اليرموك)، وفي منطقة القلمون الغربي شمال العاصمة دمشق، وفي ريف درعا الغربي. وبايعه “جيش خالد”، الذي كان يضم مجموعات متطرفة. وبات ما يزيد عن 80 ألف كيلومتر مربّع من مساحة سورية، تحت سيطرة “داعش”، فسيطر على طريق بري، يبدأ من حدود لبنان الشرقية وينتهي في الموصل شمال العراق.
انقلاب 2015
غير أن نهاية عام 2015 حملت أخباراً سيئة للتنظيم، وبدأ التدخّل الروسي المباشر في سورية تحت ذريعة القضاء على “داعش”، في وقت بدأ فيه التحالف الدولي مرحلة الهجوم على التنظيم لدحره في منطقة شرقي نهر الفرات. اعتمد التحالف في البداية على الوحدات الكردية لاسترجاع مدينة تل أبيض وريفها في ريف الرقة الشمالي في منتصف عام 2015، قبل الإعلان عن تأسيس “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) في نهاية العام نفسه. وساعد التحالف الدولي القوات الوليدة في حربها ضد التنظيم التي مرّت بعدد من المراحل. كما قدّم التحالف لهذه القوات التي ضمّت الوحدات الكردية وفصائل غير متجانسة شُكّلت على عجل، من العرب والتركمان، ومن السريان في الحسكة، دعماً عسكرياً وسياسياً كبيراً، مكّنها من تدشين حملة كبرى للقضاء على “داعش” في شرق سورية. وخاضت هذه القوات خلال عام 2016 الكثير من المواجهات مع التنظيم في ريفي الحسكة والرقة وفي ريف حلب، وسيطرت على مدينة منبج الاستراتيجية غربي نهر الفرات منتصف العام نفسه، وصولاً إلى بداية عام 2017، مع بدء الحملة على الرقة معقل التنظيم البارز في سورية.
في أكتوبر/تشرين الأول 2017، أعلنت “قسد” السيطرة على الرقة، بعد أشهر من المعارك والقصف الجوي الذي دمّر معظم أحياء المدينة وقتل آلاف المدنيين. كما ساعد التحالف الدولي “قسد” في طرد التنظيم من ريف الحسكة الجنوبي ومن ريف دير الزور الشرقي شمال نهر الفرات. وسيطرت هذه القوات بشكل شبه كامل على منطقة شرقي الفرات، التي تشكل أكثر من ربع مساحة سورية، وهي الأغنى بالبترول في البلاد، فضلاً عن كونها سلّة غذاء سورية. كما تراجع التنظيم في البادية السورية تحت ضربات الطيران الروسي عن تدمر في مارس/آذار 2016، ولكنه رجع لاستعادتها في العام نفسه، على أنه لم يصمد طويلاً فيها. وعقد التنظيم في سبتمبر/أيلول من عام 2017 صفقة مع حزب الله، خرج على أثرها من منطقة القلمون الغربي إلى الشرق السوري. ثم فقد التنظيم خلال عام 2018 معاقله البارزة في جنوب دمشق، بعد سنوات من سيطرته عليها، وخرج مسلحوه في مايو/أيار 2018 من مخيم اليرموك وحي الحجر الأسود، في صفقة غير معلنة مع النظام، إلى مناطق سيطرة التنظيم في البادية، بعد شهر من حملة عسكرية عنيفة كبّد “داعش” خلالها النظام خسائر فادحة في صفوف قواته، ولكنها انتهت بدمار كبير طاول الحيين، لا سيما اليرموك الذي كان بمثابة عاصمة للشتات الفلسطيني.
في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلنت قوات النظام والمليشيات المساندة لها، السيطرة بشكل كامل على منطقة تلول الصفا بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر من المعارك المتواصلة مع “داعش” في منطقة جغرافية وعرة، تكبّد خلالها النظام أكثر من 500 قتيل بينهم 50 ضابطاً، بالإضافة إلى عشرات القتلى من فصائل المصالحات والمليشيات الأخرى. وفي منتصف عام 2018، سيطر النظام بشكل كامل على منطقة حوض اليرموك في ريف درعا الغربي، القريبة من الشريط الحدودي مع الجولان المحتل، والحدود مع الأردن، والتي كانت خاضعة لفصيل “جيش خالد” التابع لتنظيم “داعش” بعد معارك لم تستمر طويلاً قُتل خلالها عدد كبير من مسلحي التنظيم. كما أعدم النظام وفصائل معارضة عقدت مصالحات معه، العشرات من “جيش خالد” وأفراد عائلاتهم، حاولوا الخروج نحو شرق حوض اليرموك.
أدّى وجود “داعش” في سورية إلى نتائج كارثية على المستويات كلها، فدُمّرت مدن وبلدات سورية كاملة، وقُتل وشُرّد عشرات الآلاف داخل سورية وخارجها، وحرم أجيالاً من التعليم، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية الهائلة، التي من الصعوبة بمكان الإحاطة بها. لقد حقق التنظيم مصالح الدول المتنافسة بل والمتصارعة في سورية، وأعطى النظام وحلفاءه الروس والإيرانيين ذريعة تشويه الثورة السورية، واتهامها بالتطرف للفتك بها. وهو ما حدث في الكثير من المناطق. كما منح موسكو وطهران ذريعة التدخل الذي يرقى إلى مستوى الاحتلال في سورية، وسمح للأميركيين بتحويل شرقي الفرات إلى منطقة نفوذ لهم تحت غطاء “قسد”، المتهمة اليوم بمحاولة تمزيق البلاد. استثمر جميع أطراف الصراع في تنظيم “داعش”، وكان من الواضح في بداية عام 2014 أن العالم تواطأ على “تسمين” هذا التنظيم، الذي استقطب المتطرفين من مختلف دول العالم، ومن ثم الانقضاض عليهم لتتحول سورية إلى مقبرة لهم. ولم يُدخل التحالف الدولي وحلفاء النظام في حساباتهم مصير مدنيين وقعوا فريسة لتنظيم كان يخطط ليغدو “دولة” واليوم تحوّل إلى مجرد خلايا في سورية والعراق، وقد كان ثمن مجيء واختفاء هذا التنظيم كارثة على البلدين وربما على مستقبلهما.
العربي الجديد
الأكراد و«داعش» ما بعد الباغوز/ خورشيد دلي
ثمة إجماع على أن سيطرة قوات سورية الديموقراطية (قسد) على الباغوز، آخر جيوب «داعش» في شرقي الفرات، لا تعني نهاية التنظيم، فالأخير ما زال يمتلك قدرات تنظيمية واستخبارية ولوجسيتية وحاضنة شعبية، وهو ما يعني انتقال عناصره إلى العمل السري في شكل خلايا نائمة، تقوم بعمليات اغتيال وتفجيرات كلما سنحت الفرصة، فضلاً عن إمكان ظهور التنظيم باسم جديد هنا أو هناك. هذا التحدي يتطلب الكثير من العمل الثقافي والأمني والاجتماعي ويفرض على «قسد»، لاسيما وحدات حماية الشعب الكردية، انتهاج استراتيجية جديدة في مرحلة ما بعد القضاء على دولة الخلافة، خاصة في ظل محاولات بعض الأطراف والجهات الإقليمية، لاسيما تركيا، إشعال فتنة بين الأكراد والعرب شرقي الفرات، بعد أن حارب الطرفان معاً «داعش» وألحقا شر الهزيمة به.
بعيداً من أولوية محاربة خلايا «داعش» النائمة شرقي الفرات، ثمة تحديات تطرح نفسها على «قسد»، في مقدمها تداعيات قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب قوات بلاده من سورية، إذ يتوقف على تنفيذ القرار أو عدمه، سقف التطلعات وطبيعة الشعارات، وبالتالي الخيارات التي رفعتها «قسد» طوال المرحلة الماضية. وعليه، فإن الجهد الأساسي لـ «قسد» ينصب على إمكان إبقاء هذه القوات أو حتى قسم منها، بل تأمين مشاركة أوروبية فاعلة في القوات التي ستخصص لإدارة المنطقة الآمنة التي دعا إليها ترامب، إن تمت إقامتها بالفعل.
التحدي الآخر، والذي لا يقل أهمية، هو كيفية التعامل مع تهديدات النظام السوري باستعادة السيطرة على شرقي الفرات بالقوة ما لم يتم تسليمها له بالتفاوض، والخطورة في هذا الجانب، أن هذه التهديدات قد تصبح واقعاً على الأرض، في ظل الضغوط الأميركية على «قسد» لعدم التحاور مع النظام من جهة، ومن جهة ثانية في ظل تصويب النظام وإيران وروسيا وحتى تركيا على الوجود الأميركي في هذه المنطقة الحساسة والحيوية، وهو ما قد يجعل من الأكراد ضحية للصراعات الدولية والإقليمية على الساحة السورية، وهنا يبدو الأكراد وكأنهم بين مجموعة من النيران الزاحفة، في وقت لا يجدون سوى الحليف الأميركي الذي يشتري كل شيء في سوق السياسة، ويبيعه في الوقت نفس إن اقتضت مصلحته.
التحدي الثالث الذي تواجهه «قسد» يتعلق بالجار التركي الذي يصر على تصنيف «قسد» ووحدات الحماية الشعب الكردية في خانة الإرهاب، بوصفها قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من جبال قنديل معقلاً له، ومع أن «قسد» تحدثت أكثر من مرة عن استعدادها للانفتاح على تركيا إلا أن الأخيرة ترفض، وتصر على التلويح بالخيار العسكري وأمام هذا الواقع لا تجد «قسد» أمامها سوى رفع شعار مواجهة تركيا في شمال سورية، لاسيما أن تجربة احتلال عفرين عمقت من حجم العداء بينهما، ودفعت بالأكراد إلى الاستعداد لخيار مواجهات أخرى في ظل التهديد التركي المستمر للقيام بعمليات عسكرية مماثلة في منبج وشرقي الفرات لطرد القوات الكردية منها.
هذه التحديات الماثلة أمام الكرد في مرحلة ما بعد الباغوز، تجعل من الخيار السياسي، على رغم صعوبته في ظل حجم الرفض للمطالب الكردية، عنوانا للمرحلة المقبلة، والصعوبة هنا، تكمن في كيفية التوفيق بين هذه المحاور من جهة، ومن جهة ثانية، في القدرة على اختراق حجم الرفض المحلي والإقليمي لمطالب الأكراد.. فهل ينجحون في السياسة هذه المرة؟
* كاتب سوري.
الحياة
الإرهاب ومكافحته من نيوزيلندا إلى باغوز/ بكر صدقي
قدمت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أردرن درساً للعالم في مكافحة الإرهاب، فلم تبحث عن جينات مسببة لآفة الإرهاب عند جماعة بشرية معينة، ولا أمطرت حواضن شعبية مفترضة له بالقنابل أو الصواريخ أو البراميل المتفجرة كما يفعل نجوم «الحرب على الإرهاب» كالولايات المتحدة وروسيا ونظام بشار وإسرائيل وغيرهم. ولا حتى نكلت بالقاتل الذي ارتكب مجزرة المسجدين في مدينة كرايست تشيرتش، بل ألقي القبض عليه وسيحاكم محاكمة عادلة يستحقها. كذلك تم تعديل قانون حمل السلاح بما يلبي الاحتياجات الأمنية لما بعد المجزرة لمواجهة احتمالات تكررها. هذا إضافة إلى الأداء المتحضر في إظهار روح التعاطف والتضامن مع الضحايا والجالية المسلمة التي ينتمون إليها، سواء من قبل الحكومة أو المجتمع المدني في نيوزيلندا.
بالمقابل، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها الميدانيون (قسد) بـ«تحرير» آخر جيوب الدولة الإسلامية (داعش) في بلدة باغوز بتكاليف بشرية باهظة لما يسمى بـ«الحاضنة الشعبية» للمنظمة الإرهابية المذكورة، في تكرار لما حدث قبل ذلك في الرقة وغيرها من مناطق «الدولة الإسلامية» التي استهدفتها قنابل التحالف الدولي ضد الإرهاب.
ولا يعفي اختلاف الظروف بين هجوم نيوزيلندا وباغوز «محاربي الإرهاب» من مسؤولياتهم الإنسانية إزاء الضحايا المدنيين، بل ربما يضيف إليها مسؤوليات سياسية تتعلق بمستقبل سكان المنطقة وصيغ التعايش بين الهويات المختلفة التي ينتمون إليها. فإذا كانت «العدالة الانتقالية» ممراً إجبارياً لمستقبل مختلف في سوريا، لماذا لا تكون كذلك أيضاً بالنسبة للمناطق الجزئية التي لها ظروفها الخاصة، كحال مناطق «الدولة الإسلامية» التي تم تقويضها، أو إدلب أو عفرين وغيرها من المناطق التي تخضع لأطر وظروف خاصة؟ بكلمات أخرى، إلى أي مدى يمكن الوثوق بصحة الاتهامات الموجهة إلى أفراد بأنهم كانوا مقاتلين لدى داعش أو متعاطفين معه لمجرد كونهم عرباً سنة في مناطق كان يحتلها تنظيم داعش؟ أو اعتبار كل كردي في عفرين منتمياً إلى وحدات حماية الشعب أو متعاطفاً معها؟ فبمثل هذه الذرائع تتم ارتكابات متبادلة في مناطق «محررة» من «الإرهابيين». أم أن هذه الأسئلة نافلة في «ظروف الحرب» التي تبيح كل القبائح؟
الواقع أن الفارق الأساسي بين الحدثين موضوع هذه المقالة، ليس كون الإرهاب «مسيحياً» أو أسترالياً (بالنظر إلى جنسية القاتل) أو «غربياً» في الحالة الأولى، و«إسلامياً» في الحالة الثانية، وليس أيضاً في هوية الضحايا، ولا في كون الأولى حادثة منفردة مقابل حالة الحرب في الثانية… بل هو في طريقة الاستجابة لتحدي الإرهاب في منطقتين مختلفتين. في الأولى تأخذ العدالة مجراها بإلقاء القبض على الإرهابي ومحاكمته، واتخاذ الإجراءات الأمنية وغير الأمنية المساعدة على تطويق الإرهاب وتهميشه. أما في الحالة الثانية فتنزع الصفة البشرية عمن يعتبر إرهابياً ثم يعامل بالإبادة والاستئصال حلاً وحيداً لآفة الإرهاب. وتشمل إجراءات الإبادة والاستئصال بيئات واسعة من السكان الموصوفين بحواضن اجتماعية للإرهاب. أو، في أحسن الأحوال، يتم التساهل مع «الخسائر الجانبية» في عمليات القصف بالقنابل حيثما تعلق الأمر بمجاميع من «الإرهابيين» يحتلون مناطق مأهولة بالسكان. هذه هي حال المناطق الخارجة عن سيطرة نظام دمشق الكيماوي، وقطاع غزة، ومناطق «الدولة الإسلامية» سابقاً، ومناطق سيطرة «وحدات حماية الشعب» سابقاً (عفرين).
الواقع أن شعار «الحرب على الإرهاب» الذي أطلقته الولايات المتحدة وتمكنت من تعميمه عالمياً، قد منح طيفاً واسعاً من حكومات الدول ذريعة لمحاربة كل من يعارضها بالكلمة أو السلاح. ففي نظر إسرائيل كل فلسطيني إرهابي، أو إرهابي محتمل في أحسن الأحوال، ولدى دوائر غربية فاعلة كل مسلم هو إرهابي محتمل، ولدى نظام بشار الكيماوي كل سوري لا يدين بالولاء للطغمة الحاكمة هو إرهابي، ولدى تركيا كل كردي هو إرهابي أو داعم له أو متعاطف معه، ولدى حكومة السيسي في مصر كل معارض هو إرهابي تعريفاً.
هذا الانفلاش لمفهوم الإرهاب هو أهم منبع لتوليد مزيد من الإرهابيين الحقيقيين ممن تضيق بهم سبل التعبير عن مظالمهم، فلا يجدون سبيلاً لتنفيسها سوى في عنف عدمي لا يستهدف أي تأثير سياسي بقدر ما يسعى نحو الثأر المحض. أما إذا «واتاه الحظ» ووجد ضالته «النضالية» في إطار تنظيمي وعقيدة إيديولوجية تسمو بمشاعر الثأر الضيقة في نفسه، فتحولها إلى قضية عامة، فسوف يتحول إلى مقاتل في سبيل «هدف سام» يبيح له الفظائع. هذه هي حال من انتموا إلى منظمة القاعدة أو «الدولة الإسلامية» من مختلف مناطق العالم وثقافاته.
لهذا السبب يدرك أركان «الحرب على الإرهاب» قبل غيرهم أن دولة داعش الإسلامية التي أعلن عن إنهائها لا بد أن تظهر في أشكال وأطر عمل جديدة لا يمكن القضاء عليها بالحرب الكلاسيكية كما جرت حين كان لتلك «الدولة» أرض محددة في العراق وسوريا. ما أسهل أن تظهر «الدولة» مجدداً في أي مدينة أوروبية على هيئة رجل يقود شاحنة يدهس بها المارة بلا تعيين، وهذه أبسط صور ظهور «الدولة» بالمقارنة مع ما تتيحه التكنولوجيا الحديثة من وسائل عنف لا يمكن حصرها.
كل المظلوميات التي لا تجد استجابات، لديها قابلية للتحول إلى إرهاب ما لم تعالج بوسائل سياسية. ولا شيء يمكن أن تعجز عنه السياسة إذا صفت النوايا. فهي فن إيجاد الحلول لمشكلات تبدو، للوهلة الأولى، غير قابلة للحل.
كاتب سوري
القدس العربي
حكاية “انتصار” قسد على داعش!/ مهند الكاطع
[انتصار قسد على داعش !!] ، الواقع طرح عنوانا بهذه الصيغة ضمن السياق الإعلامي الذي يتناول الأحداث السورية يمكن أن يكون مضللاً إلى حد بعيد وخطير أيضاً، فلو أننا قمنا بتحليل مضمون العنوان و رموزه في الصيغة المذكورة آنفاً، لوجدنا أنفسنا بأننا نكتب العنوان بطريقة مختلفة تماماً و هي: [ انتصار الإرهاب على الإرهاب!!] . هذه المسألة تحتاج للوقوف عندها منعاً لاختلاط المصطلحات، وكذلك في إطار محاولة فهم السياق الحقيقي لمفهوم الحرب والانتصار والأطراف المتصارعة في سوريا، خارج السياقات العاطفية، أو الاتهامات والقوالب الجاهزة، وبغض النظر عن المواقف المؤيدة أو المشككة بانتصار هذا الطرف أو ذاك، في حرب على أي حال تم افتعالها على الساحة السورية، بأجندة غير سورية قطعاً، وبدون مصلحة للسوريين في وجودها أو هوية الأطراف الذين افتعلوها.
قسد هي اختصار لـ (قوات سورية الديمقراطية) تلك التسمية التي أصرّ الأمريكان عند إعلانهم قيادة التحالف الدولي في الحرب على داعش، على فرضها على قوات الحماية الكردية YPG ، وذلك بعد أن ضمت إليهم توليفة من فصائل عربية (هامشية)، خاصة بعد أن تلطخت سمعة القوات الكردية بعدد كبير من المجازر والجرائم وفق تقارير هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية ومنظمات حقوقية أخرى.
قسد هي اختصار لـ (قوات سورية الديمقراطية) تلك التسمية التي أصرّ الأمريكان عند إعلانهم قيادة التحالف الدولي في الحرب على داعش، على فرضها على قوات الحماية الكردية YPG ، وذلك بعد أن ضمت إليهم توليفة من فصائل عربية (هامشية)
قوات قسد إذن هي صيغة أسمية معدلة لقوات YPG التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD التابع لتنظيم العمال الكردستاني الـ PKK المصنف على قوائم الإرهاب العالمي، وهو حزب تركي، لا يوجد ما يربطه بسوريا إلا العلاقة النفعية مع نظام الأسد، والمصطلح الأقرب لوصفهم في سوريا هو أنهم (جماعة وظيفية قتالية) فهي جماعة يضطلع أعضاؤها بدور قتالي فقط، لا يمكن تعريفها من خلال صفات إنسانية، بل من خلال وظيفتها فقط، فهي وسيلة لا غاية بالمحصلة.
يتألف عناصر قسد من مجموعات ارتزاقيّة، قسم تم استجلابه من خارج المجتمع السوري وبشكل خاص من عناصر التنظيم في تركيا، وقسم تم تجنيده من داخل المجتمع السوري وبشكل كبير العناصر العربية في مناطق الجزيرة، وهؤلاء غالباً من الطبقات المسحوقة اجتماعياً ومادياً. وتقوم هذه العناصر بالقتال من أجل المال بالدرجة الأولى، دون وجود أهداف أو قواسم مشتركة فيما بينها من حيث الانتماء القومي أو اللغوي أو العقائدي، فالدوافع الحقيقية وراء القتال ليست (الانتماء، حب الوطن)، بل دافع خارجي بسيط يتلخص (بالربح المادي) الذي يأخذ صورة أجر مادي عاجل ومباشر (راتب شهري)، أو آجل كالحصول على بعض الامتيازات النفعيّة أو قطاعات معينة لممارسة سلطة أمر واقع، والأهم أنها تدر عائداً مالياً كبيراً مقابل دورهم الأساسي بالنسبة للمشغلين.
عنصر قسد باختصار، هو عنصر قتالي متحرك، لا ينتمي ولا يدين بالولاء لأحد إلا (للراعي والممول) الذي يقوم بتمويله، وبالتالي هو مستعد لتغيير ولائه وفق الممول والراعي الجديد، حدث ذلك عدة مرات في الساحة السورية في تبديل الولاء من النظام إلى روسيا إلى أمريكا.
أما داعش فهو التنظيم الذي أعلن عن نفسه من العدم في أواسط سنة 2013، مطلقاً على نفسه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، تركيبته المعقدة والمبهمة، وهوية قياداته المثيرة للشكوك، جعلت منه تنظيماً هلامياً، فالحرب معلنة ضدّه من عشرات الدول، وفي نهاية كل حرب معلنة ضده، لا تجد تحت الركام سوى أشلاء الأطفال والمدنيين كما حدث في الرقة على سبيل المثال. في حين يذوب التنظيم الذي تم تضخيمه إعلامياً، وينسحب بسلاسة إلى منطقة أخرى في وضح النهار، لأن المخرج لم ينهِ بعد فصول المسرحية. لكن الأكيد بأن داعش كانوا يعملون أدواراً أكبر من الكومبارس، فقد كانوا يسيرون وفق خطط استراتيجية محددة ومرسومة لهم بعناية، وبدعم كبير من أطراف دولية ساهمت بتغلغل داعش وسيطرته السريعة على المدن والمناطق “السنيّة” حصراً في سوريا والعراق، والقضاء على جميع الفصائل المحلية الثورية، وارتكاب آلاف الجرائم المبرمجة بطرق و وسائل وتأويلات كان الهدف منها بالدرجة الأولى الإساءة للدين وتشويهه، ثم قام هذا التنظيم أخيراً بنهب وتدمير كل ما له علاقة بهوية وتاريخ المنطقة وتراثها وماضيها، والفصل الأخير في كل مرحلة كان الانسحاب من المنطقة، وتسليمها لقوات أخرى (قسد، البشمركة، الحشد) التي تلعب دور المحرر لهذه المناطق، وربما آخر المناطق كان الباغوز.
وفي نهاية كل حرب معلنة ضده، لا تجد تحت الركام سوى أشلاء الأطفال والمدنيين كما حدث في الرقة على سبيل المثال. في حين يذوب التنظيم الذي تم تضخيمه إعلامياً، وينسحب بسلاسة إلى منطقة أخرى في وضح النهار، لأن المخرج لم ينهِ بعد فصول المسرحية
هل تم تحرير الباغوز؟
على إيقاع عزف النشيد الوطني الأمريكي، ونشيد (أي رقيب) الذي يعتبر النشيد الوطني للأكراد، أعلنت قوات قسد التابعة للعمال الكردستاني، انتصارها على داعش في آخر معاقله بقرية الباغوز. الباغوز تلك القرية التي لا تتجاوز مساحتها النصف كيلو متر مربع، لكنها اكتسبت شهرة أكبر من شهرة فيينا في حصارها الشهير، لقد كانت هذه القرية البسيطة محط أنظار الإعلام بوصفها آخر معاقل داعش، لكن زمن معركة “التحرير” المزعومة، كان أطول مما تحتمله جغرافية وطبيعة المنطقة على أرض الواقع، المنطقة محاطة بالحدود العراقية ونهر الفرات، ولم تكن عملية السيطرة عليها بهذه الصعوبة، إلا أن إجراءات نقل المقاتلين الأجانب منها هم وعوائلهم ، وانتظار مناسبة النيروز، كان من الأسباب في تأخير ساعة النصر على داعش أو على الباغوز.
لقد سبق إعلان هذا النصر كما قلنا، عملية نقل المئات من عناصر داعش الأجانب وعائلاتهم بموجب اتفاقية مع قسد إلى خارج منطقة الباغوز، جرى التواصل مع العديد من الدول الأجنبية لإيجاد الطرق المناسبة لتسليم رعاياها من مقاتلين داعش، في الوقت الذي بقي أهالي الباغوز محتجزين ضمن قريتهم، ولم تشملهم على ما يبدو أي اتفاقيات للخروج آمنين من الباغوز، وتم التعامل معهم في الساعات الأخيرة التي سبقت إعلان النصر بوصفهم هم الذين يمثلون ما تبقى من داعش، فجرى إحداث محرقة كبيرة بحقهم باستخدام كافة أنواع الأسلحة، لتكون تلك المحرقة التي تم تسريب بعض صورها الفظيعة، والتي ظهرت فيها جثث محروقة ومشوهة للأطفال والنساء، هي النصر الذي تم تسويقه ضدّ داعش.
لم يبقَ لنيران المحرقة في الباغوز سوى جثث العوائل المحلية في المنطقة كما أظهرت بعض الصور
على الرغم من أن التشكيك المنطقي برواية النصر المعلن على داعش، في هذه البقعة الصغيرة المهملة من سوريا، والمصير الهلامي لهذا التنظيم الضخم الذي تم نقل عناصره وقادته مع عوائلهم إلى مناطق آمنة (كالعادة) وبرعاية الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث لم يبق لنيران المحرقة في الباغوز سوى جثث العوائل المحلية في المنطقة كما أظهرت بعض الصور، إلا أن مجرد طرح هذه التساؤلات وإشارات الاستفهام، سيندرج عند بعض أصحاب العقد القومية، بأنه تشكيك بنصر “قوات كردية” لأنها كردية. وبالتالي ستكون الاتهامات جاهزة ضمن أسطوانة مشروخة مكررة في الساحة الكردية منذ الحرب الأمريكية للعراق باتهام كل مخالف (بالشوفينية والبعثية)، يضاف إليها مؤخراً “الداعشية” طبعاً.
اللعب على وتر القومية الكردية!
على الرغم من أن قوات قسد، تطرح نفسها على أنها قوات (سوريّة وديمقراطيّة) وأنها معارضة لنظام الأسد، وكذلك مشروع العمال الكردستاني في سوريا يتم طرحه تحت شعارات عريضة متجاوزة القوميات مثل (الأمة الديمقراطية، الشعوب الديمقراطية)، إلا أنها استطاعت بنفس الوقت في الفترات الأخيرة اللعب على الوتر القومي الكردي، وإلهاب مشاعر الأكراد القومية، عبر استغلال رموز وإشارات كردية في خطابها، فمسألة إعلان النصر على داعش في يوم النيروز لم تكن عبثية، بل كانت رسالة قومية للأكراد، خاصة وأن النيروز يتخذه الأكراد عيداً قومياً لهم، وكذلك لم يغب عن بال المنظمين، التغاضي عن شعاراتهم المطروحة في إداراتهم الذاتية المعلنة، بأنهم متجاوزون للقوميات، فقاموا ببدء حفل إعلان النصر على داعش بعزف أنغام النشيد القومي الكردي (أي رقيب)، هذا كله سمح بشكل مباشر بالاستثمار في مشاعر القوميين الأكراد، بل وسمح بأن تتبدل حتى مواقف أشد المعارضين لقوات العمال الكردستاني، والذين طالما اتهموها بأنها صنيعة نظام الأسد وصنيعة إيران، وأنها سحقت حلم الأكراد. إن مباركة الانتصارات المعلنة بوصفها “مدعاة للكرد بالشعور بالفخر” كما يصف أحد المعارضين السابقين لقسد، يظهر إلى أي مدى يمكن أن يحقق التوسع العسكري لقوات قسد في شرق الفرات، نوعاً من الارتياح في صفوف القوميين الكرد على مختلف مشاربهم، بوصفه سيطرة في إطار تحقيق حلم كردي. وبالتالي لم نستغرب بأن تتحول مساحة الخلاف الذي كان سببه بحسب ما كان يتم الإعلان عنه: عدم الالتقاء بالقيم والمبادئ والأسس والمواقف حول المصالح القومية للأكراد، ليتحول اليوم إلى مجرد “خلاف سياسي” عابر. فلسان حال المشتغلين بالسياسة على أي حال: الغاية تبرر الوسيلة، وما يهمنا نحن كسوريين على أي حال التنبه كذلك إلى مصالحنا كسوريين وكيفية الحفاظ على وحدة أرضنا وشعبنا أمام الأطماع المحيطة بنا من كل جانب؟
استطاعت بنفس الوقت في الفترات الأخيرة اللعب على الوتر القومي الكردي، وإلهاب مشاعر الأكراد القومية، عبر استغلال رموز وإشارات كردية في خطابها، فمسألة إعلان النصر على داعش في يوم النيروز لم تكن عبثية
دعشنة المعارضة
هناك خطاب شبه عام ينتشر بين عموم الناشطين الأكراد، المثقف منهم والعامي، يتلخص هذا الخطاب بمحاولة احتكار حرب داعش، بوصف داعش (عدو للأكراد)، وبوصف الأكراد هي الصخرة التي تتحطم داعش عليها. لذلك نجد بأن الانتصار الذي أعلنه الجيش العراقي على داعش في العراق بعد دحره في آخر معاقله في الموصل، لم يرق للساسة الأكراد في شمال العراق، بل حاولوا الإشارة إلى دورهم المحوري في ذلك، وأنهم لولالهم لما كان هناك نصر على داعش. في سوريا يتكرر السيناريو، ليس فقط عبر الإشادة بدور الأكراد وإهمال جميع الضحايا من المكون العربي في هذه المعارك، بل وكذلك عبر إهمال المتضرر الحقيقي خلال السنوات الماضية من داعش في المناطق التي سيطرت عليها داعش. ومن دفع الثمن الأكبر من تهجير وقتل على يد داعش أو على يد القوات التي اتخذت من داعش شماعة للقيام بكل تلك الأعمال.
الأخطر من كل ذلك في الساحة السورية، هو أن العديد من الأكراد باتوا بمناسبة أو بدون مناسبة يتهجمون على المعارضة، متخذين من وجود عناصر المعارضة في عفرين مبرراً لذلك، وفي كل مناسبة يتم طرح موضوع عفرين، والتجاوزات في عفرين، ثم التعريج على احتلال تركي في عفرين، مع إهمال جميع قوى الاحتلال الأخرى في سوريا. كل ذلك طبعاً مع مباركة وجود قوات قسد في الرقة ودير الزور والحسكة، فهذه قوات تحرير وجرائمها بحق أهالي تلك المناطق هو من النمط المسكوت عنه ما دام يحقق الخارطة التي يتخيلها القوميون الأكراد في سوريا.
لقد بالغ بعض الناشطين الكرد إلى حد أنهم باتوا يتهمون المعارضة بالدعشنة، أو أن المعارضة تميل إلى “التماس الأعذار والشرعنة للتنظيمات التكفيرية والجهادية ويعتبرونها جزءا من الثورة”
لقد بالغ بعض الناشطين الكرد إلى حد أنهم باتوا يتهمون المعارضة بالدعشنة، أو أن المعارضة تميل إلى “التماس الأعذار والشرعنة للتنظيمات التكفيرية والجهادية ويعتبرونها جزءا من الثورة” كما يتهم أحد الكتاب الكرد، علماً أن هذه المزاعم غير صحيحة، وتعميمها بهذه الطريقة نوع من الشذور، فحتى لو أنها صدرت مثل هذه الميول أو الأفكار من شخص معارض في مرحلة معينة من مراحل الصراع (ومتأكد أنها بداية الثورة)، فهذا لا يعني أنها مواقف ثابتة أو أنها وصمة عار يتم رمي المعارضة كلها من خلال ذلك إلى الأبد. بنفس الوقت نجد هؤلاء الأشخاص أنفسهم، يعتبرون بأن النصر الذي حققته قوات قسد على داعش يشفع لقسد أو “لحزب الاتحاد الديمقراطي” ممارساته وغطرسته واستبداده، ولنا أن نتخيل كيف تعمي العصبيات للقوميات المتخيّلة أصحابها وتعمل فيهم عملها، بحيث إنهم يصلون لدرجة يجدون بأن بعض أشكال وممارسات الإرهاب والإجرام والاستبداد، يمكن أن يشفع له مزاعم محاربة إرهاب آخر، فالانتصار على داعش وحده كافٍ من وجهة نظر هؤلاء أن يشفع أو يجعلنا ننسى المجازر التي ارتكبتها عصابات العمال الكردستاني بحق المدنيين السوريين وقتل الآلاف منهم، وعلى هذا المبدأ فإن إعلانا مشابها للأسد على الانتصار على فلول داعش سيشفع لنظام الأسد ممارساته وجرائمه وقتله للسوريين!
ثمن للدماء الكردية أم العربية؟
في إطار الحديث عن نصر قسد على داعش، تجاهلت قوات قسد تماماً الوجود العربي الذي كانت تتغنى فيه ضمن صفوفها وأسماء آلاف الضحايا الذين تم تشييعهم تحت رايات قسد الصفراء، فالعلم الوحيد الذي تم رفعه كان العلم الأمريكي، والنشيد الذي تم عزفه كذلك كان الأمريكي إضافة إلى النشيد الكردي، كذلك الأكراد من خارج منظومة قسد، ممن باركوا واحتفوا بانتصار قسد، تجاهلوا تماماً حقيقة أن معظم ضحايا قسد في معاركها في منطقة دير الزور كانوا من المكون العربي، سواء أولئك الذين تم تجنيدهم قسراً أو طوعاً. لقد كان وجود العرب ضمن قوات قسد يشكل مدخلاً للطعن والتشكيك في كرديتها عند أولئك المؤيدين للمجلس الوطني الكردي والذين كانوا بشكل دائم يهاجمون وينتقدون قسد، نجدهم هم أنفسهم اليوم يتحدثون عن ضرورة الحصول على ثمن لدماء المقاتلين الأكراد والمقاتلات الكرديات التي أريقت في الدفاع عن سوريا والعالم في مواجهة داعش على حد زعمهم. وأن تلك الدماء، “ينبغي ألاّ تذهب هدراً، دون عوائد ومكاسب سياسيّة حقيقيّة، يضمنها العالم لهم، ويفرضها على نظام الأسد، أو أي نظام يأتي بعده في حكم سوريا”. الغريب أن هؤلاء الذين يتغنون اليوم بالدماء الكردية، هم أنفسهم الذين كانوا يتهمون حزب “الاتحاد الديمقراطي” بأنه أقحم الأكراد في معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بدفعهم للقتال في مناطق خارج مناطقهم، اليوم هؤلاء نفسهم، يرون بأن الدماء الكردية يجب أن تؤسس لمرحلة جديدة، تضمن حقوق الأكراد في الدستور وتطوير الإدارة الكرديّة. يتناسى طبعاً هؤلاء الباحثين عن محاصصات داخل سوريا، بأنَّ جماعة قسد التابعة للعمال الكردستاني نفسها، قامت بسفك دماء السوريين المدنيين الأبرياء من عرب وكرد في عشرات المجازر في الحسكة والرقة عفرين وتل أبيض ودير الزور، أضعاف مضاعفة لما تم سفكه من دماء داعش (هذا إذا صح أنهم قتلوا أحد من داعش)، كما أننا يجب أن لا ننسى بأنه قبل ظهور اختراع “داعش” وأي فصيل راديكالي تم دسه بالثورة، كانت عصابات العمال الكردستاني تقاتل عناصر الجيش الحر بدعم مباشر من النظام في حلب وريفها والحسكة وريفها أيضاً. في الوقت الذي لم ترتفع لهم بندقية بوجه النظام ولا حلفائه ما خلا بعض مسرحيات المواجهات مع عناصر الدفاع الوطني أو بعض مفارز النظام العابرة.
ولو كانت المحاصصات تقاس بالدماء التي أريقت في سبيل سوريا، لكانت دماء أهل حلب وحمص وغوطة دمشق وحوران والرقة ودير الزور كافية لأن تلجم أصحاب مشاريع المحاصصات القومية والإثنية في سوريا.
تلفزيون سوريا
لماذا استُقبل الانتصار العسكري على داعش بفتور؟/ عبد الرحمن الحاج
كان لحدث مثل إعلان “القضاء” عسكرياً على تنظيم داعش، بعد حرق مخيم الباغوز حيث تحصن آخر مقاتلي التنظيم في تلك البقعة الصغيرة من الأرض، أن يكون حدثاً وطنياً وعالمياً جديراً بالاحتفاء، فما عاناه السوريون وثورتهم من هذا التنظيم كفيل بأن يجعل مثل هذا الإعلان يوماً وطنياً، لكن ما حدث قوبل بفتور واضح من معظم السوريين.
الفتور هذا فسره متطرفو الأكراد (سواء كانوا من أنصار تنظيم PYD أم من خصومه) أنه ناتج عن حقد قومي عربي على الأكراد في أحسن الأحوال! فـ”تسخيف وتتفيه وتبخيس الانتصار الكردي على “داعش”، فيه ما فيه من الكراهية وروح الضغينة المبيّتة – المعلنة تجاه الكرد. ما يشي بأن تنظيم “داعش” لو انتصر على الكرد، لكانت فرحة أولئك الناقمين على الكرد، لا يسعها الكون. ربما ليس لأنهم يحبّون “داعش” وبايعوها، بل لأنّ كميّة الأحقاد التي تملأ قلوبهم تجعلهم يقولون في أنفسهم: “فلتكن لداعش، ولا تكون للأكراد”! هذه البعثيّة – الداعشيّة السافرة والفاضحة، حتى لو كانت نسبتها 1 بالمليون من أبناء الشعب السوري، لكن ما عادت تخطئها عين!” على حد تعبير كاتب كردي!
لقد صار “التشكيك في أي إنجاز كردي” هو “من طبائع الأمور والخصال المتأصّلة في التكوين النفسي والمعرفي والسياسي لدى بعض المعارضين السوريين”. والدليل على “ذلك أن التشكيك في الإنجاز العسكري الكردي السوري في دحر “داعش” سبقه طعن وتشكيك في “المقاومة” الكردية في كوباني. ولعلنا نذكر تلك الأسطوانة المشروخة؛ “لماذا الاهتمام الدولي بكوباني، وليس حلب ودمشق وحمص”، وكأنَّ كوباني لم تكن أرضاً سوريّة، كادت “داعش” ابتلاعها!؟”، هذه الأحقاد والضغائن والكراهية “تعبّر عن نفسها على مستوى النخب والعامّة. هذه الحالة، أقلّ ما يقال فيها أنها مظهر أو عرض من أعراض الحروب الأهليّة في أيّ مكان”، يتابع الكاتب “المعتدل” نفسه.
الفتور هذا فسره متطرفو الأكراد (سواء كانوا من أنصار تنظيم PYD أم من خصومه) أنه ناتج عن حقد قومي عربي على الأكراد في أحسن الأحوال!
ويذهب البعض لتفسيره على أنه ناتج عن سيطرة أفكار تنظيم داعش على “الأكثرية السنية العربية” بحسب تعبير شبه بيان لـ”تيار مواطنة” السياسي المتطرف، فـ”جمهور غير قليل من الأكثرية العربية السنية لأسباب باتت معروفة للجميع وعلى رأسها سردية المظلومية المعاصرة المتخيلة أو الحقيقية، بما في ذلك النتائج الكارثية المترتبة على هذه السردية في الموقف والممارسة والانحيازات القبلية”، وهذه المخيلة بالضبط هي “السياق التاريخي الموازي لظهور داعش – وقبلها القاعدة – وبشكل خاص ذلك السياق المتعلق بسردية المظلومية التي أشرنا إليها أعلاه سواء أكانت حقيقة أم وهماً، والتي يعيشها جمهور واسع من شعوب المنطقة العربية – الإسلامية” بحسب التيار المتطرف المشار إليه آنفاً.
بعيداً عن هذه التفسيرات المتوترة والتي تسود الآن أطرافاً بعينها والتي من المحتمل أنها نتاج خيبات الصراع في سوريا في السنوات الثمان، نحن فعلاً بحاجة لتفسير هذا الفتور في استقبال نبأ هزيمة داعش، فالحديث الناشئ عن انتشاء غريزة الانتقام والتشفي لا يمكن أن يساعد على تفسير هذا الحدث.
بداية لا ينبغي الشك في أن خبر داعش خبر مفرح للجميع خصوصاً أولئك الذين عانوا منها الأمرين، لكنه صار فينا ما يقال في المثل العامي: “يا فرحة ما تمت”، فثمة أمران يفسدان أو يمنعان هذه الفرحة من الحصول من أساسها:
أولهما أن دحر داعش قابله احتلال قسد الكردية لمساحات واسعة تقطنها أكثرية عرقية عربية، وبسيطرة قسد الكردية (يسيطر عليها الأكراد على حد تعبير المبعوث الأمريكي جيفري) تعود مرة أخرى سيرة احتلال أقلية (هذه المرة عرقية) للسلطة على الأكثرية عربية (أي الانتقال من سيطرة طائفية دينية إلى أخرى عرقية) وتهميش أبناء المنطقة، وهو أمر سبب توتراً عرقياً شرق الفرات لم يسبق له مثيل. إذ يعتقد السكان أنه لا يمكن للسكان قبول فكرة أن أقلية عرقية تريد قهر أكثرية بالاستناد إلى دعم أجنبي، ألا يشبه هذا احتلالاً داخلياً؟ وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار منابع النفط والثروات الطبيعية شرق الفرات التي يغلب عليها سكان عرف فإن أسباب الإحباط تتضاعف.
بداية لا ينبغي الشك في أن خبر داعش خبر مفرح للجميع خصوصاً أولئك الذين عانوا منها الأمرين، لكنه صار فينا ما يقال في المثل العامي: “يا فرحة ما تمت”
ثانيهما أن ممارسات PYD/YPG المتطرفة التي تسيطر على قسد لا تختلف عن ممارسة النظام الذي انتفضت سوريا ضده، فهي أقرب إلى داعش العابرة للحدود منها إلى أي حركة وطنية، ترهيب قسد وممارساته الترهيبية لا تسمح كثيراً بالشعور بالفارق إذا ما أخذنا ذلك بالسياق العام.
ثالثهما مجازر الباغوز التي استبيح فيها دم الأطفال والنساء بشكل يثير الاشمئزاز ويقتل الضمير، فقد قتل مئات الأطفال والنساء حرقاً، قتل الأطفال الأبرياء لمجرد أن أهاليهم من داعش، نزعت عنهم الإنسانية وعوملوا كمجرمين لا فرق بين رضيع وفتي، كان انتصارا يقوم على مسح القيمة الإنسانية للأطفال، كيف يمكن قبول انتصار وحشي مثل هذا دون أن يقارن الناس بأطفالهم.
لهذا السبب شكل احتفال النيروز في الرقة والباغوز وغيرهما ما يشبه احتفالا بانتصار أقلية عرقية على مواطنيها من عرقية ثانية، شاب الانتصار على داعش مشاعر إعلان الانتصار على عرب البادية. حسناً هذا كان مجرد محاولة لفهم ردود الفعل الباهتة للنبأ الجيد عن انتهاء سيطرة داعش على أي من الأراضي السورية، وهو يرينا كيف أزمة ما بعد داعش ولدت قبل إعلان نهاية داعش وأثرت فيه.
تلفزيون سوريا
هزيمة داعش… عسكرية فقط/ أحمد عيشة
في الثالث والعشرين من هذا الشهر، أعلنت الولايات المتحدة، وتبعتها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) انتهاءَ “خلافة” داعش، بعد القضاء على آخر ما تبقى لها من مواقع في شمال شرق سوريا، وبالتالي ستبدأ الولايات المتحدة سحب قواتها من سوريا، كلياً أو جزئياً، لكونها حققت المهمة التي أتت من أجلها تنفيذاً لقرار ترمب الذي أعلنه منذ أشهر. ومن شأن ذلك أن يُعاد النظر في التحالف مع قوات سوريا الديمقراطية ذات القيادة الكردية، الذي قام على أساس محاربة داعش، وهو التحالف الذي شبهه أحد المسؤولين الأميركيين، عند سؤاله عن الوقت الذي ستعترف فيه الولايات المتحدة بروج آفا، بالعلاقة مع صديقة أو عشيقة، بمعنى ليس تحالفاً دائماً، وإنما هو مرتبط بغاية وزمن محددين. (تقرير مجموعة الأزمات الدولية في 4 أيار 2017/ هامش رقم 46)
لا أحد يمكنه نكران وقوع الهزيمة العسكرية التي لحقت بداعش، سواء في سوريا أو في العراق من قبلها، فدمار المدينتين (الموصل والرقة) خير شاهد على حجم هذا “الانتصار”، الذي سيعيد لا محالة ظهور داعش، أو أي صيغة من التنظيمات الجهادية الإسلامية، لكن بصيغة أكثر تطرفاً وعنفاً.
ما لم ندركه جيداً، أو ما تغافلنا عنه، حين روّجنا لنظرة الغرب عن نشوء داعش وغيرها من التنظيمات الجهادية التكفيرية في المنطقة، هو أن تلك التنظيمات تكفيرية تعادي الغرب والأنظمة العلمانية، لسبب عَقدي، مع إهمال كامل ومقصود لدور العوامل الأخرى في نشوئها، وذلك في محاولة لتدمير صورة الإسلام والمسلمين، وإعادة تكوينها بما يتلاءم مع القيم الغربية المسيحية والمتفوقة قومياً التي أسس لها المحافظون الجدد في عهد بوش. هذا السلوك أسس لنشوء التطرف الجهادي، فكان نظيراً للتطرف الغربي، حيث تشارك الطرفان (بوش وابن لادن) في تقسيم العالم إلى فسطاطين.
على هذه الأرضية نشأت الدولة الإسلامية في العراق أولاً كظاهرة عراقية تماماً، وكانت محدودة بجغرافيته، كنتاج للظروف السياسية والاقتصادية التي حكمت العراق، بعد احتلاله من الولايات المتحدة عام 2003، فما قام به الحاكم العسكري بريمر، في موقف عدائي تجاه السنة العرب -تمثل بحل الجيش العراقي وحزب البعث وكأنهما من ممتلكات صدام حسين- خلقَ جيشاً من العاطلين عن العمل، ودفعهم إلى مزيد من التهميش والبؤس، ومما زاد الطينَ بلةً الدستورُ القائم على “المكونات” الذي كتبه مع شركائه، بما يحمله من حقد وتهميش على العرب السنة، وهم الشيعة التابعون لولي الفقيه، ومن جهة ثانية الأحزاب الكردية الذين يحمّلون العرب مسؤولية هدر حقوقهم والوقوف ضد قيام كردستان؛ فأنتج حكومة طائفية وعنصرية تجاه العرب السنة، وقد أسس ذلك بقوة لنشوء تلك التنظيمات، وما كانت ممارسات المالكي الطائفية البغيضة سوى الشرارة التي آذنت بولادة تلك التنظيمات، ومنها الدولة الإسلامية في العراق عام 2006 بزعامة أبو أيوب المصري.
لم يكن النظام في سوريا أقلّ طائفية من نظام العراق، فسياساته قائمة على التمييز الطائفي تجاه السنة، وموزعة بدرجات أقل تجاه البقية ممن لا يوالونه. ومع انطلاق الثورة في سوريا وانتزاع الجيش الحر مناطق من سيطرة النظام، وجدت الدولة الإسلامية فرصتها في دخول تلك المناطق، بحجة “نصرة أهل السنة” و”إقامة شرع الله”، مستغلة المناخ الإسلامي لدى غالبية المقاتلين، والتوتر الحاصل تجاه النظام لما يقوم به من بطش وقصف وتدمير، ناهيك عن الصدوع الطائفية القائمة التي تفاقمت حينذاك، فأعلنت عن نفسها موسعة جغرافية نشاطها لتشمل سوريا بعد العراق، وأطلقت على نفسها اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” عام 2013 بزعامة “أبو بكر البغدادي”، واختُزل اسمها بـ “داعش”.
بالطبع، في ظروف تسودها الفوضى والاضطرابات، يسهل على المخابرات -في كل دول العالم- النشاط والاستثمار بالقوى والتنظيمات المسلحة، ومنها داعش كما غيرها من التنظيمات والفصائل، لدرجة أن سوريا أصبحت ساحة لتصارع العديد من دول العالم ومخابراتها، لكن هذا لا يعني أن داعش هي صنيعة المخابرات الدولية، والمنطق يقول إن المخابرات استثمرت في داعش وفي غيرها، إذ ليس من المنطقي أن يُتّهم تنظيم أو دولة، إذا اخترقه جهاز مخابرات آخر، بأنه تابع له، وإلا؛ كانت بريطانيا عميلة للمخابرات السوفياتية (ك. ج. ب) أيام زمان، وإيران عميلة للمخابرات المركزية الأميركية (سي آي. إيه) وغيرها.
إن وقوف الغرب -على مدى عقود- إلى جانب الأنظمة الاستبدادية في العالم، وخاصة في منطقتنا العربية، جمهورياتها وملكياتها، ناهيك عن وقوفه ضد قضية الشعب الفلسطيني وهي القضية المركزية لدى العرب، ودعمه لإسرائيل في قتل وطرد الفلسطينين، وسلب الأراضي بالقوة، وسعيه الدائم لفرض نموذج من الإسلام كما يفهمه ويخدم مصالحه، إسلام “عصري” وبالقوة، والتهميش الكبير الذي يعاني منه المهاجرون في أوروبا، والسكوت عن جميع انتهاكات هذه الأنظمة المارقة، كل ذلك شكّل الأسباب الرئيسية في نشوء داعش.
إن المراقب لممارسات الأنظمة الطائفية في العراق، بعد الاحتلال والدعم الأميركي لها، سيكون أحمقَ، لا بل مغفلاً، إذا تفاجأ بظهور داعش، فالأمر غير الطبيعي هو ألا تظهر مثل تلك التنظيمات المتطرفة، بعد اجتماع كل العناصر المكونة. لقد كان ظهور داعش رداً طبيعياً تمامًا، لكنه بالاتجاه الخاطئ، رداً على عمليات سجن أبو غريب والفلوجة والأنبار وتكريت، وعلى طرد الأكاديميين وتسريح الضباط المهنيين، وغيرها من امتيازات الحقد والكره الشيعي الإيراني تجاه السنة العرب، وينطبق الأمر ذاته على سلوك النظام الطائفي في سوريا الذي حولها إلى مسالخ ومقاصل بشرية، ابتداء من الثمانينيات وليس انتهاء بسجن صيدنايا، حتى اليوم.
لربما هُزمت داعش، ويمكن لغيرها من التنظيمات المتطرفة أن تُهزم، فالقوة النارية المبيدة والتدمير الهائل كانا كافيين لهزم أي قوة عسكرية، وتدمير المدينتين (الرقة والموصل) كاف وشاهد، لكن مع استمرار الغرب في مساندة النظام التابع لولي الفقيه في العراق، ومحاولته إعادة تأهيل نظام الأسد الذي قتل حوالي مليون إنسان، وشرد قسراً حوالي عشرة ملايين، وبنى الأفران لحرق المعتقلين، ودعم نظام السيسي المسخ في مصر، ستكون كلها عوامل تعيد بعث داعش أو غيرها.
الخلاص من هذه التنظيمات المتطرفة لا يكون عسكرياً فقط، وهو ضروري وأوليّ، وإنما بالأساس من خلال رفع المظالم عن هذه الشعوب، والمتمثلة بالأنظمة الدكتاتورية التي يدعمها الغرب، وفسح الطريق أما شعوب المنطقة لتقرير مصيرها واختيار حكامها وشكل الحكم الذي ترتضيه، والعمل على تحقيق العدالة للمظلومين لا الانتقام الذي يؤسسون له، ومحاسبة المجرمين الكبار، وإذا لم يكن ذلك؛ فنحن على موعد آخر مع داعش أو أخواتها.
تلفزيون سوريا
أسئلة ما بعد هزيمة داعش في معقله الأخير/ حسين جلبي
على غير المتوقع، أعلنت “قوات سوريا الديمقراطية” عن هزيمة تنظيم داعش دون ضجيج. فقد أقامت تلك القوة المتعاونة مع التحالف الدولي لمحاربة داعش، حفلاً خطابياً هادئاً بعيداً عن ساحة المعركة الأخيرة في الباغوز، وذلك في مكانٍ مغلقٍ نظيف لا تظهر فيه آثار معارك. لم يظهر حزب الاتحاد الديمقراطي فرحه المعتاد ولا نبرة التحدي المعروفة عنه، مقارنةً مع ما كان يفعله خلال مهرجانات مماثلة؛ أقامها في مناسبات أقل أهميةً، كما لم يعقد الحزب حلقات الدبكة أو يأخذ الصور التذكارية الحاشدة، وغابت عن حفله هذه المرة صور زعيم حزب العمال الكُردستاني عبد الله أوجلان، إلا أن الفرقة الموسيقية عزفت النشيد القومي الكُردي؛ الذي بالكاد يلتفت إليه أنصار الحزب، الأمر الذي زاد من غرائبية المشهد.
وعلى عكس ما يقال، من أن: “للنصر ألف أب والهزيمة يتيمة”، فقد ظهر النصر المعلن على داعش باهتاً فاقداً للهوية، درجة كاد معها المنتصرون أن ينكروا هويتهم، وقد تجاهلوا بالفعل تسمية من تحقق النصر بدمائهم، كما أنهم قاموا بتوجيه التهنئة للجميع، حتى لمن هو غير معني بالقتال الذي يخوضونه. أبعد من ذلك، تعامل المهتمون بالوضع في سوريا مع نهاية داعش، الذي أذاق السكان في مناطق وجوده الويلات، وكأنه حدث عادي أو تحصيل حاصل، أو حلقة أخيرة معروفة التفاصيل، في مسلسل يعرض منذ مدة طويلة، وقد أصاب الملل فريق العرض ومشاهديه، فقرر الأول وضع نهاية له حتى لا ينصرف عنه من تبقي لمتابعته، في معركة توقفت عن إثارة الاهتمام منذ أمدٍ طويل، اللهم إلا لمن لا يزال يأمل في ظهور أقاربه المختطفين لدى التنظيم أحياءً.
لعل السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا، على خلفية الإعلان عن نهاية تنظيم داعش هو: أين يمكن لقوات سوريا الديمقراطية، وهي الجهة التي أعلنت النصر على التنظيم، أن تصرف نصرها الذي تقول بأنها حققته؟. الواقع هو أن إعلان “قسد” عن نهاية داعش، تضمن رسالة وجهتها إلى نظام الأسد، مفادها ضرورة محاورة “الإدارة الذاتية” المعلنة من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي والاعتراف بها، لكن هذه الدعوة عندما تأتي على خلفية هزيمة داعش، تبدو مفتقرة إلى المنطق، ذلك أننا إذا أخذنا بظاهر الأمور، نجد بأن نظام الأسد لم يكلف حزب الاتحاد الديمقراطي بمحاربة داعش، حتى يأتي الحزب اليوم ويطلب منه ثمناً لإنجاز المهمة، كما أن التنظيم ـ ودائماً حسب ظاهر الأمور ـ ليس جزءاً من منظومة النظام أو محسوباً عليه، حتى تكون هزيمته هزيمةً للنظام، تؤدي بالتالي إلى الحصول على تنازلات منه.
المطلوب إذاً من قوات سوريا الديمقراطية والحال كذلك، الذهاب إلى من كلفها بمحاربة داعش، والتضحية بأرواح آلاف الشبان الكُرد خلال سنوات، للحصول على تعويضات تعادل تلك الخسائر الفادحة، لكنها بالتأكيد لن تجد محاوراً، فقد تطوع القائمون على تلك القوات من تلقاء ذاتهم ـ كما أعلنوا ـ لمحاربة داعش، قائلين بأنهم إنما يفعلون ذلك نيابة عن العالم فحسب، وبما أن العالم لم ينبهم للقتال عنه، فيبقون لذلك وحدهم مع نصرهم اليتيم، في وضعٍ لا يسمح لهم وحدهم، بإحداث تغييرات على الأرض.
الواقع هو أن هزيمة تنظيم داعش لم تمنح حزب الاتحاد الديمقراطي أوراق قوة، بل جردته من أحد أهم أسباب الاستمرار، فالحزب الذي استخدمته قوات التحالف الدولي في محاربة داعش منذ معركة كوباني، واستثمر من جهته عملية استخدامه جيداً للتضخم والتوسع، خاصةً بعد أن وجدت فيه قوى محلية وإقليمية ودولية وسيلةً تعتمد عليها، يجد نفسه اليوم بعد الإعلان عن نهاية التنظيم شبه عاطل عن العمل، بعد أن أدارت له كل تلك القوى ظهرها، وتحاصره أكثر من أي وقت مضى أسئلة المشروعية، على خلفية المغامرة بمصير الكُرد والتضحية بأبنائهم، خاصةً بعد أن عجز عن نسج علاقات سياسية؛ تعادل منطقة النفوذ المسجلة باسمه وحجم الخدمات التي قدمها، بسبب وقوفه طوال الوقت على رمال أمريكية متحركة، كادت أن تبتلعه مؤخراً وتقذفه إلى حيث يتواجد النظام، وما قيام أوساطه بالترويج لفرار بقايا تنظيم داعش إلى إدلب، إلا محاولة يائسة للهروب إلى الأمام من الاستحقاق الذي يلاحقه، من خلال العمل على فتح جبهة جديدة ضد الفصائل المتواجدة هناك، وهي المهمة التي طالما تحمس لها وأرادها، لكن حسابات إقليمية ودولية حالت دون تحقيق رغبته تلك.
لقد تماهى حزب الاتحاد الديمقراطي طوال السنوات الماضية في أجندات قوة أُخرى، وقد حقق لها ما أرادته، لكنه قام بتسويق ذلك في أوساطه على أنها كانت أهدافه، وهاهي أجندات تلك القوى، وآخرها أمريكا تكاد تصبح في حكم المنجز في سوريا، الأمر الذي لا يبقي للحزب سوى بعض الشعارات، مثل تحرير عفرين، والتي يعجز في الواقع عن تحقيقها. وبما أن أي تحرك عسكري كبير في سوريا، بحجم خوض معركة في إدلب أو في عفرين أصبح خارج إرادة القوى المحلية، لذلك لا يبقى لقوات سوريا الديمقراطية سوى اجترار شعاراتها، مع الاستمرار في عزف النشيد القومي الكُردي، الذي لا تلجأ إليه إلا في الشدائد، علها تحافظ بذلك على نفسها من الانهيار، ولا ينفض من حولها من لا يزال مؤمناً بشعاراتها الغامضة، في الأمة الديمقراطية وأخوة الشعوب.
تلفزيون سوريا
عن الداعشيّة بوصفها سقوطاً للإسلام السياسي/ هوشنك أوسي
ما مِن عاقلٍ، يمتلك حسّاً إنسانيّاً أو ثقافيّاً أو التزاماً أخلاقيّاً تجاه العدالة والحريّة والديمقراطيّة، ولديه ميلٌ أو سعيٌ نحو خلق مجتمعات خالية من الإرهاب والتطرّف، سواء في سوريا أو في العالم أجمع، إلاّ ويكون سعيداً، كامل السعادة والغبطة والفخر، بدحر تنظيم “داعش” الإرهابي، حتى ولو كان ذلك الدحر على أيدي من نختلف معهم سياسيّاً. وإذا كان هناك ما يشفع لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي”، (وإذا؛ شرطيّة غير جازمة) ممارساته وغطرسته واستبداده، ومحاولة الحزب تحييد قطاعات واسعة من الشعب الكردي من المشاركة في الثورة على نظام الأسد، إذا كان هناك ما يشفع للحزب كل ذلك، فهو الانتصار العسكري على تنظيم “داعش” الإرهابي، في وقت أن الكثير ممن يحسبون أنفسهم على ثورة الحرية والكرامة، كانوا، بشكل أو بآخر، يميلون نحو التماس الأعذار والشرعنة للتنظيمات التكفيريّة والجهاديّة، وبل يعتبرونها جزءاً من الثورة، وأن (قتال) تلك التنظيمات نظام الأسد، يشفع لها كل الإرهاب الذي مارسته بحق السوريين والنشطاء المدنيين، والثوّار الحقيقيين على نظام الأسد! ومن المؤسف القول: إن البعض من هؤلاء، بلغ منسوب “البعثنة – الأخونة” لديهم إلى درجة أنهم كانوا يتعامون عن فظائع دولة “داعش – النصرة – أحرار الشام…” بحق الكرد السوريين، ليس حبّاً في هذه التنظيمات، بقدر ما كان كرهاً بالكرد!
في المقابل، يحقّ للكرد الشعور بالفخر والسعادة والاعتداد بالنفس على أنهم كانوا في طليعة وبل رأس حربة القضاء على “داعش” عسكريّاً. هذه السعادة، يجب ألاَّ تغيّبَ عن بالهم الأكلاف التي دفعوها من دماء أبنائهم وبناتهم من المقاتلين والمقاتلات. وأن تلك الدماء، ينبغي ألاّ تذهب هدراً، دون عوائد ومكاسب سياسيّة حقيقيّة، يضمنها العالم لهم، ويفرضها على نظام الأسد، أو أي نظام يأتي بعده في حكم سوريا. دماء الكرد التي أريقت في الدفاع عن سوريا والعالم في مواجهة “داعش” ينبغي ألاّ تكون مجرد موضوع مديح وتصريح أو تغريدة تصدر من ترامب أو بوتين، من طينة “الكرد مقاتلون شجعان”، بل ينبغي أن تؤسس تلك الدماء لمرحلة جديدة من تاريخ سوريا المعاصر الذي يكون فيه الكرد، إلى جانب كل مكوّنات الشعب السوري، شركاء أصلاء في إعادة بناء الدولة والمؤسسات، وضمان حقوق الكرد في الدستور، وتطوير الإدارة الكرديّة، وقبل كل ذلك، تحرير عفرين وكل المناطق السوريّة من نظام الأسد، وبقيّة الاحتلالات الأجنبيّة الأخرى. دماء الكرد، ينبغي ألاّ تصبَّ في طواحين مصالح الآخرين؛ محليين، إقليميين ودوليين. ومن المؤسف القول: إن التاريخ الكردي، يقول عكس هذه الأُمنية-الضرورة التي أطرحها هنا.
التشكيك في أي إنجاز كردي، صار من طبائع الأمور والخصال المتأصّلة في التكوين النفسي والمعرفي والسياسي لدى بعض المعارضين السوريين. ذلك أن التشكيك في الإنجاز العسكري الكردي السوري في دحر “داعش” سبقه طعن وتشكيك في المقاومة الكردية في كوباني. ولعلنا نذكر تلك الأسطوانة المشروخة؛ “لماذا الاهتمام الدولي بكوباني، وليس حلب ودمشق وحمص”، وكأنَّ كوباني لم تكن أرضاً سوريّة، كادت “داعش” ابتلاعها!؟ والكارثي في الحالة السورية، أن التشكيك وعدم الثقة والطعون متبادلة بين الأطراف الكردية – الكردية، من جهة، والأطراف الكردية والأطراف العربية في المعارضة السورية، من جهة أخرى. حالة مزرية ومقرفة مؤججة
للأحقاد والكراهية والضغائن هي السائدة بين السوريين، كرداً وعرباً، تعبّر عن نفسها على المستوى النخب والعامّة. هذه الحالة، أقلّ ما يقال فيها أنها مظهر أو عرض من أعراض الحروب الأهليّة في أيّ مكان. ولكن سوريا لم تشهد حرباً أهليّة بين الكرد والعرب، بالرغم من سعي أطراف إقليمية، ونظام الأسد إلى الدفع بالكرد والعرب باتجاه الانزلاق نحو مطحنة الحرب الأهليّة العمياء. وفَشلُ نظام الأسد أو إيران أو أنقرة بضرب الكرد بالعرب، أو العكس، يشي أن هناك أملا، يمكن التعويل عليه في السير نحو غد أفضل للكرد والعرب وباقي المكوّنات في سوريا.
كذلك المبالغة الكرديّة في مدح الانتصار العسكري والميداني الذي حققه مقاتلو ومقاتلات “قسد”، يشبه “نشوة النصر” التي تفسد النصر. فالهزيمة التي لحقت بالمقاتلين الكرد في عفرين، لا ولن تغطي عليها تحرير الباغوز. هذا الشكل الكردي من التعاطي المفرط الفارط، نوعٌ من هدر الكلام الذي لا طائل منه، في حين ينبغي أن يعبّر الانتصار عن نفسه بمكسب سياسي – دستوري، يضمن ويحصّن المكاسب التي حققها الكرد.
كذلك المبالغة في تسخيف وتتفيه وتبخيس الانتصار الكردي على “داعش”، فيه ما فيه من الكراهية وروح الضغينة المبيّتة – المعلنة تجاه الكرد. ما يشي بأن تنظيم “داعش” لو انتصر على الكرد، لكانت فرحة أولئك الناقمين على الكرد، لا يسعها الكون. ربما ليس لأنهم يحبّون “داعش” وبايعوها، بل لأنّ كميّة الأحقاد التي تملأ قلوبهم تجعلهم يقولون في أنفسهم: “فلتكن لداعش، ولا تكون للأكراد”! هذه البعثيّة – الداعشيّة السافرة والفاضحة، حتى لو كانت نسبتها 1 بالمليون من أبناء الشعب السوري، لكن ما عادت تخطئها عين! وربما تكون محنة هؤلاء أكبر وأكثر ألماً وحزناً، حين تضطر تركيا لفتح قنوات اتصال مع “حزب الاتحاد الديمقراطي” مجدداً، وهذا ما يمليه منطق المصلحة الذي لا يتعامل مع الخصوم السياسيين بذهنيّة العداوة والأحقاد الأبديّة. وأغلب الظنّ أن تركيا تسير في هذا الاتجاه، بخلاف ما نراه في الإعلام. وقتذاك، سيهاجم هؤلاء تركيا، ليس لأنها انفتحت على روسيا وإيران، أبرز داعمي نظام الأسد، وليس لأنها تريد الانفتاح على نظام الأسد أيضاً، بل لأن أنقرة تريد فتح قنوات اتصال بالكرد السوريين، ليس عبر كرتون “المجلس الوطني الكردي” – الائتلافي، المتضعضع والمتهالك، بل عبر قوة عسكريّة، جماهيريّة، اقتصاديّة ممسكة بالأرض، ولها تأثيرها في العلاقات الإقليمية! إذ ستنحو تركيا منحى أمريكا في التعامل مع “الإدارة الكرديّة” في سوريا، ولن يهمّ أنقرة حجم الانتهاكات التي اقترفتها وتقترفها سلطة “حزب الاتحاد الديمقراطي” بحق كرد سوريا، بقدر ما يهمّها كسب ودّ هذه القوة، وأن تأمن جانبها، أو أقلّه، تحيّدها.
دحر تنظيم “داعش” الإرهابي، لا يمكنني فهمه إلاّ باعتباره الخطوة الأولى في “مشوار الألف ميل” الذي ينبغي أن يسلكه العالم الإسلامي بشكل خاص، والعالم أجمع، ليس فقط على مستوى تجفيف منابع الإرهاب؛ فكريّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً وحسب، بل عبر تعزيز حركات التنوير والنقد والمراجعات لكتب التراث والنصوص الدينيّة، بالتوازي مع سدّ أبواب الذرائع أمام التطرّف والتكفير – التخوين، وإنعاش الديمقراطيّة والتنمية الاقتصاديّة ومكافحة الفساد. فسقوط “دولة الخلافة” التي ظنّ البعض بأنها “قادمة” أو “باقية وتتمدد” من المفترض أنها تكون الدرس الذي سبقه دروس تاريخيّة كثيرة، التي أكّدت ضرورة “فصل الدين عن الدولة” وأكدت “سقوط الإسلام السياسي: الشيعي والسنّي” من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وإذا أجرى الباحثون إحصاءات لعدد ضحايا التنظيمات الجهاديّة التكفيريّة على شاكلة “داعش” و”النصرة” و”القاعدة” وكل تفريخات الإسلام السياسي…، في العقدين الماضيين، ربما وصلوا إلى أرقام مهولة تزيد عن عدد القتلى في حروب الردّة، معطوفاً عليها حرب الجمل، صفين، النهروان…، التي شهدتها مرحلة “دولة الخلافة” الراشدة، ودولة الخلافة الأمويّة والعبّاسيّة! وعليه، النقطة الأكثر دمويّة وسواداً وبشاعة في التاريخي الإسلامي القديم والحديث هي دويلات تنظيمات وتفريخات “الإسلام السياسي” بشقّيه؛ الشيعي والسنّي. وبالتالي، سقوط الإسلام السياسي في تجربة “داعش”، وقبلها سقوط هذه التجربة في مصر (نظام حكم المرشد) وفي تونس، وما تعانيه التجربة الإسلامية في تركيا من مثالب وعلل وقصور على الصعيد الديمقراطي…، كل ذلك يفتح الأبواب أمام الاجتهاد، وتحرير الدين من السياسة.
الإسلام السياسي، منذ دولة “الخلافة الراشدة” وحتّى اللحظة، لم يقدّم أنموذجاً يحتذى ويقتدى به، ليكون نظام حكمٍ رشيد مرن منفتح على التنوّع والاختلاف، قوامه العدالة الاجتماعيّة والحريّات والمساواة في الحقوق والواجبات. بينما العلمانيّة في الغرب، أنتجت أنظمة منفتحة على التعددية والاختلاف وعلى الإسلام أيضاً، مع الإقرار والاعتراف بالقصور والمثالب التي تعانيها الديمقراطيّات الغربيّة. على العكس تماماً، كل نماذج الحكم الإسلامي، كانت قاسية وقمعيّة، ومشوبة بالفاشيّة الدينيّة أو الطائفيّة أو القوميّة، أو كل ذلك معاً!
نظام الحكم الإسلامي في إيران، يعتبر صفوة أنظمة الحكم الشيعيّة، منذ فترة خلافة علي بن ابي طالب، مروراً بالدولتين الفاطميّة والصفويّة، وبقية تنويعات الحكم والسلطة ذات الخلفيّة الشيعيّة في التاريخ الإسلامي، وصولاً للنظام الإيراني الحاكم في العراق. وغنيٌّ عن البيان؛ إلى أي درك من الحضيض والقمع ومصادرة الحريّات، أوصل نظام “حكم المرشد” الإيراني الدولة والمجتمع إليها؟
الحقّ أنه بعد إسقاط نظام “حكم المرشد” في مصر وتونس…، بدأت ترتفع موجة نقد الإسلام السياسي، ونقد الخطاب الديني السلفي – الأخواني، ونقد كتب التراث (كتب الأحاديث الصحاح)…، وازدادت الدعوات إلى حركة إصلاح وتنوير ديني في العالم الإسلامي. وبدأت بعض القنوات التلفزيونيّة، ومواقع التواصل الاجتماعي تخلق فرصة ومساحة واسعة أمام أصحاب الأفكار التجديديّة
والتنويريّة والقراءات المعاصرة للنصّ الديني، إلى درجة يتبادر إلى ذهني سؤال: لو كانت وسائل التواصل الاجتماعي، وقنوات التفلزة، متاحة لابن رشد وأمثاله من الفلاسفة، أو للمعتزلة والمتكلّمين الداعين إلى إعمال العقل بدلاً من النقل، هل كان يمكن أن تستفحل سلطة وسطوة تفسيرات أحمد بن حنبل والغزالي وابن تيمية…إلخ في الخطاب الديني الإسلامي، القديم منه والحديث؟!
أيّاً يكن من أمر، سقوط دولة “التكفير والإرهاب الدولي” هو مكسب للعالم أجمع. سقوط داعش، ولو عسكريّاً، هو سقوط لإحدى الأوراق التي كان يعتمد عليها نظام الأسد الابن وخَدَمِهِ وحَشَمِه في ترهيب العالم من الثورة السوريّة، وتقديم نفسه على أنه حامي حمى سوريا والدنيا من الإرهاب الجهادي – التفكيري الداعشي، وأن رحيل نظامه هو انتصار للإرهاب والتطرّف. سقوط تلك الورقة من يد الأسد، هو مكسب لكل السوريين. وبالتالي، كل من يبدي تململاً أو امتعاضاً من سقوط دولة “التكفير الديني” بنسختها الداعشيّة، لا شكّ في أن له مصلحة من استمرار هكذا دول وأنظمة. فـ”داعش” أبو معصب الزرقاوي، ومن بعده؛ أبو بكر البغدادي، هي الحليف الطبيعي والوليد الشرعي لـ”الداعشيّة الأسديّة” التي ما زالت باقية وتتمدد، مع الأسف الشديد، حتّى ضمن بعض الأوساط التي تزعم معارضتها نظام الأسد! ولو استخدم العالم عُشر الجهد الذي صرفه في مكافحة “داعش”، ضدَ نظام الأسد، لما بقي النظام، ولما ظهر تنظيم “داعش” أصلاً.
تلفزيون سوريا
تحولات “داعش”: من الصعود السريع إلى الانهيار التام
مثلما كان ظهور تنظيم “داعش” الإرهابي سريعاً ومفاجئاً في العراق وبعده سورية، جاءت الهزائم التي تلقاها هذا العام وأواخر العام الماضي، لتشهد على انهيار تام للتنظيم الذي استغل حالة الفوضى في البلدين الجارين، ليقوم على أنقاض تنظيم “القاعدة”.
فخلال فترة الفوضى التي تلت الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق في 2003، أُسس فصيل منشق عن تنظيم “القاعدة” هناك وغيّر اسمه في 2006 إلى تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق”، ليؤسس زعيمه أبو بكر البغدادي في أواخر عام 2011 بدعم من “القاعدة” مجموعات في سورية كانت نواة لتنظيم “جبهة النصرة” التي قادها أبو محمد الجولاني، مع قياديين آخرين من القاعدة، وعقب خلافات بين الطرفين أعلن الجولاني انشقاقه عن البغدادي، فيما بدأت الخلافات تظهر بين البغدادي وزعيم “القاعدة” أيمن الظواهري، فبات اسم التنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
في نهاية عام 2012، نشبت معارك عنيفة بين “جبهة النصرة” و”الجيش الحر” من جهة، و”داعش” من جهة ثانية في ريف ديرالزور والرقة وريف حلب، وامتدت إلى مناطق أخرى تمكن خلالها التنظيم من السيطرة على جميع معاقل “النصرة” و”الجيش السوري الحر” في شمال شرق سورية، ابتداءً من الرقة وصولاً إلى الباب وجرابلس في ريف حلب ومناطق أخرى في حمص وريف دمشق.
مع تنامي قوة التنظيم في سورية، بدأ بالتوسع على حساب المناطق التي تسيطر عليها المليشيات الكردية حيث وصل إلى مدينة عين العرب “كوباني”، ومناطق سيطرة المليشيات التابعة للنظام السوري.
وعام 2014، احتل التنظيم الموصل وتكريت في يونيو/ حزيران، واجتاح الحدود مع سورية.
ومن منبر مسجد النوري الكبير في الموصل، أعلن البغدادي قيام دولة “خلافة” في المناطق التي سيطر عليها التنظيم الذي غيّر اسمه لـ”الدولة الإسلامية”.
وفي العراق ذبح الآلاف من اليزيديين في سنجار وأجبر أكثر من سبعة آلاف امرأة وفتاة على الرقّ الجنسي. وهو ما حدث أيضاً في سورية، حيث ذبح التنظيم مئات من أفراد عشيرة الشعيطات، وقطع التنظيم رؤوس رهائن أجانب في مقاطع مصورة اتسمت بالعنف.
وفي سبتمبر/ أيلول من العام ذاته، شكلت الولايات المتحدة تحالفاً لمحاربة “داعش”، بدأ بتنفيذ ضربات جوية لوقف زحفه وساعد “وحدات حماية الشعب الكردية” السورية على إجباره على التقهقر من مدينة كوباني على الحدود مع تركيا.
غير أن امتداد التنظيم لم يقف عند سورية والعراق، ففي عام 2015 شنّ متشددون في باريس هجوماً على جريدة ساخرة ومتجر لبيع الأطعمة اليهودية، في بداية دامية لسلسلة من الهجمات التي أعلن التنظيم مسؤوليته عنها في أنحاء العالم. وقطع متشددون في ليبيا رؤوس مسيحيين وبايعوا “داعش”، وتلى ذلك مبايعات من جماعات في دول أخرى، لكنها بقيت مستقلة في تنفيذ العمليات. وفي مايو/ أيار سيطر “داعش” على الرمادي في العراق ومدينة تدمر الأثرية في سورية، لكن زحفه بدأ في التقلص بنهاية العام في الدولتين إثر الضربات الجوية.
ففي عام 2016، تمكن الجيش العراقي والمليشيات المحلية من استعادة السيطرة على الفلوجة في يونيو/ حزيران، التي كانت أول مدينة يسيطر عليها التنظيم في بداية انتصاراته. وفي أغسطس/ آب، تمكنت “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة التي تقودها “وحدات حماية الشعب الكردي”، من السيطرة على منبج في سورية. لكن تقدم المسلحين الكرد في مناطق محاذية للحدود أقلق تركيا، ما دفعها لشنّ هجوم داخل سورية ضد “وحدات حماية الشعب” وتنظيم “داعش”. واستمر العداء بين تركيا ووحدات حماية الشعب في تعقيد العمليات العسكرية ضد “داعش”.
في عام 2017، مني التنظيم بهزائم منكرة. فقد خسر سيطرته على الموصل بالعراق في يونيو/ حزيران، في عملية شنتها القوات العراقية بعد أشهر من القتال الشرس، وأعلنت بغداد إثر ذلك انتهاء دولة “الخلافة” التي أعلنها التنظيم. في العام ذاته في سورية وفي سبتمبر/ أيلول، توجهت قوات النظام بدعم روسي وإيراني نحو دير الزور، وسيطرت في نوفمبر/ تشرين الثاني على كامل مدينة دير الزور وريف دير الزور الجنوبي، وريف حماة الشرقي وريف حمص الشرقي الذي يضم مدناً بارزة مثل القريتين وتدمر، وفي ذلك الوقت فقد التنظيم جميع المناطق التي يسيطر عليها غرب الفرات، باستثناء بعض الجيوب. وفي أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته، تمكنت “قوات سورية الديمقراطية” من طرد “داعش” من الرقة.
في عام 2018، استعادت قوات النظام السوري السيطرة على جيوب لـ”داعش” في حوض اليرموك جنوبي دمشق وغرب درعا، وعلى الحدود مع هضبة الجولان المحتلة، وعلى جيوب في ريف السويداء جنوب شرق البلاد. في حين واصلت “قوات سورية الديمقراطية” في هذا العام تقدمها بمحاذاة الفرات، فيما سيطرت القوات العراقية على باقي المنطقة الحدودية. وتعهدت الولايات المتحدة بسحب قواتها.
وخلال الشهر الحالي، أعلنت “قوات سورية الديمقراطية” وحليفتها واشنطن هزيمة مسلحي التنظيم المتشدد، في آخر جيب على نهر الفرات في قرية الباغوز، وزوال “دولة الخلافة” المزعومة، باستثناء بقاء بعض الخلايا النائمة التي يصعب القضاء عليها كلياً.
العربي الجديد
كيف أنقذ الرُمّانُ أهالي الباغوز/ محمد الخلف
لم يتجاوز عويّد الثلاثين عاماً بعد. وعلى الرغم من نحوله الشديد، وخسارته نحو 15 كيلوغراماً من وزنه، وتفجر الشيب في رأسه في فترة وجيزة، إلا أنه كان يبتسم طوال الوقت. فهو أحد الناجين من حصار الباغوز ومعركتها.
يقول عويّد لـ”المدن”، إن ما شاهده خلال المدة التي أمضاها تحت الحصار، بوصفه أحد أبناء قرية الباغوز الأصليين، يفوق ما يمكن لأي فيلم هوليوودي أن يجسده. نجاة عويّد، كانت بفضل رمان المنطقة الشهير بـ”رمان السوسة”، الذي يعرفه محبو الرمان في سوريا كلها. فقد اقتصر طعامهم في أفضل الأحوال، على وجبة واحدة من “جريش” القمح المسلوق من دون أي إضافات أخرى لعدم توافرها، وعلى الرمان المتروك على الأشجار، منذ الموسم الماضي. تحايل سكان البلدة المُحاصرون على فرط الرمان وتجفيفه، لتغيير مذاقه، وايهام أنفسهم بأنهم يتذوقون طعماً آخر له.
ويضيف عويّد، أن أعداداً كبيرة من السكان الأصليين طُردوا من مساكنهم إلى الخيام، ليحتلها عناصر التنظيم وعائلاتهم النازحة إلى البلدة، بأعداد غفيرة، بعد تقهقر “داعش” تدريجياً.
ووفق الشاب الباغوزي، فإن المواد الغذائية كانت متوافرة في المراحل الأولى، لكنها كانت تباع بأسعار خيالية. سعر كيلو السكر مئة دولار، ونصف كيلو من دبس البندورة بـ170 دولاراً، وهو ما لم يكن يستطيع دفعه سوى عوائل التنظيم، الذين كان بامكانهم أيضاً تناول الخضار واللحوم، ولديهم أدوية ومسلتزمات طبية.
أهالي البلدة لجأوا إلى ما يمكن أن تقدمه الطبيعة، خصوصاً الرمان. فالمنطقة معروفة تاريخياً بزراعته، ويثمر فيها على نحو استثنائي. وتعتبر السوسة المجاورة للباغوز المورد الرئيسي للرمان في سوريا.
أما المساعدات التي كانت تقدمها “قسد” بين الفينة والأخرى، فيقول عنها عويّد: “كانت تدخل البلدة بين الفينة والأخرى شاحنة أو شاحنتين من المواد الغذائية، لكننا لا نستطيع الاقتراب منها، فهي موجهة لعناصر التنظيم وعائلاتهم”. والتنظيم كان يحتكر توزيعها على عائلاته.
أم رامي: مساكب الخضار!
أم رامي، معيلة أسرتها من السوسة، وقعت في الحصار أيضاً. ومع ذلك، فقد كانت لديها خطتها الخاصة للتأقلم مع هذا الظرف الاستثنائي، إذا أنشأت مزرعة صغيرة خاصة بها أمام منزلها، تزرعها بخضروات الموسم من البقدونس والبصل والجرجير، تقتات على بعضها، وتبيع جزءاً من منتجاتها لعائلات التنظيم، ثم تشتري ما يمكن شراؤه بتلك العائدات من بعض التجار الذين تتوافر ليهم بعض المواد الغذائية الأخرى، ومن الأهالي كانت تشتري القمح المُخزّن.
وتشرح أم رامي مشروعها ضاحكة: “كنت أبيع مثلاً مسكباً صغيراً بطول مترين وعرض متر واحد، مزروع بالبقدونس، بمبلغ 175 دولار، ثم اسقيه من جديد، لأعاود بيعه”. وهو مبلغ خيالي بالنسبة لأسعار المنتجات في تلك المنطقة، ففي الأحوال العادية لا يمكن لهذا المسكب أن يدر أكثر من ربع دولار في أفضل الأحوال.
أم رامي تشتري بهذا المبلغ قمحاً وتخزنه في بيتها، ولاحقاً، مع نفاذ القمح، بدأت بشراء الشعير. والشعير لا يستخدم في هذه المنطقة، المشهورة أيضا بإنتاج القمح، إلا كعلف للحيوانات. تقول إنها كانت: “تطحن الشعير على الرحى التقليدية، المصنوعة من حجر الصوان، ثم تخبزه على صاج، وتخبزه على تنور تقليدي، وتبيع الرغيف الواحد بـ8 آلاف ليرة سورية”. من هذه الأرباح الصغيرة والمتواضعة، لكن المستمرة، استطاعت أم رامي أن تؤمن قوت أولادها الصغار، واستمرت في عمليات البيع والشراء والمقايضة على احتياجاتها، تحت دوي القذائف وصفير القنابل والصواريخ، غير مكترثة سوى بتأمين القوت اليومي لـ”عيالها” كما تسميهم، فيما كان المتحاربون يسعون إلى أهداف أخرى.
الحاج محسن: مات ولدي
ونجا أيضاً من محنة الباغوز، الحاج محسن، وهو أيضاً أحد سكانها الأصليين، لكن ابنه حسين فقد حياته. إذ اضطروا للعيش في خيمة من القماش الرقيق، بعد طرد التنظيم لهم من منزلهم، فمرض الطفل مرضاً شديداً بسبب البرد القارس لشتاء تلك المنطقة. يقول الحاج محسن: “أصيب ولدي بحمى شديدة، ولانعدام الدواء كنت أعالجه بالكمادات الباردة وحسب. سهرت طوال الليلة أبدلها له، لكنه لم يتحسن. وازداد الوضع سوءاً عندما ضربتنا عاصفة مطرية شديدة، فحملت ولدي وتوجهت إلى ما يدعى بالنقطة الطبية لتنظيم داعش، حيث تتوافر الأدوية والعلاجات، رغم تحذيرهم المسبق لنا كمدنيين من مراجعتها، لكنه ولدي، وكان يموت بين ذراعيّ”.
يغمض الرجل عينيه قليلاً كأن مشهد الطفل الذي يحتضر يمر أمامه الآن، وكأنه لا يريد أن يراه لشدة الألم الذي يسببه له. يقول: “كان مدير النقطة الطبية الليث العراقي، واجابني بفظاظة عندما شرحت له سبب قدومي ووضع ولدي: ادوية الأطفال قليلة جداً وهي مخصصة لأبناء الأخوة فقط، أي أبناء عناصر التنظيم. سألته: وماذا نحن؟ اجابني بانهم سيعملون على إخراجنا قريباً وليس لهم شأن بنا”. توسلتُ إليه، قلت أن الطفل يحتضر وقد يموت قبل ان يتمكنوا من اخراجنا من هنا، لكن توسلاتي لم تُجدِ، ظننت أنني يمكن أن اشتري حياة ولدي بالمال، أخرجت كل ما أملك من نقود واعطيتها له، فأخذها ومزقها ثم ألقاها في وجهي وطلب مني بتحذير غاضب أن اغادر المكان فوراً. يتابع الحاج: “مات ولدي ذو الـ11 ربيعاً”.
الحاج محسن، غادر الباغوز لاحقاً مع موجات المدنيين الذين سمح لهم بالمغادرة، وهو ينتظر السماح له بالدخول إلى بلدته مجدداً ليواري طفله في قبر مناسب، بدلاً من تلك الحفرة الصغيرة التي دفنه فيها ووضع عليها علامة مميزة يستطيع الوصول إليها مهما حدث من قصف ودمار.
أما عن الطريقة التي كان يوفر بها قوته ومستلزماته اليومية، فيقول الحاج محسن إن الرمان كان هبة الأرض التي ساعدته وعائلته على البقاء. فأسعار المواد التي تستورد من خارج المنطقة، صارت خيالية إذا ما توافرت. وعلى سبيل المثال، بلغ سعر كيلو السكر نحو مئة دولار، وهو ثمن 3 كيلوغرامات من لحم الدجاج، الذي كان يتوافر القليل منه في البلدة الزراعية بطبيعة الحال، لكن أعداده تناقصت بشكل سريع بعد استهلاكه من قبل الأسر أو اضرارهم لبيعه لعناصر التنظيم أو مقايضته على مواد أرخص مثل الخبز، او حتى للحصول على بعض الادوية.
لماذا ظلوا في الباغوز؟
عند سؤالنا لعويّد عن سبب بقائه في الباغوز، رغم حصارها ورحى الحرب التي كانت تدور هناك، استغرب سؤالنا ذاك، وسأل بدوره: “وكيف اغادرها؟ أنا عندي أرض ورثتها من أجدادي، وبيت عمّرته بنفسي، ولدي جرّار زراعي اعمل عليه.. كيف اغادرها؟”. رغم الحرب؟، يقول: “إنها غمامة سوداء وستعبر، لكن ارضنا باقية، وقد أنقذت حياتي.. وسأعود إليها ما أن ينتهي تمشيطها من قبل القوى العسكرية، لأستأنف حياتي”.
سقوط الباغوز: رحلت «دولة داعش» وبقي خطرها/ كميل الطويل
تداعيات انهيار التنظيم المتطرف في آخر جيوبه في سوريا… والمخاوف من أن يرثه «القاعدة»
مع سقوط بلدة الباغوز، بريف دير الزور، انتهت فعلياً «الدولة» التي أعلن تنظيم «داعش» إقامتها في سوريا والعراق عام 2014. لكن مسؤولين غربيين وخبراء في شؤون الجماعات المتشددة يحذّرون من أن هذه الهزيمة لـ«داعش» في جيبه السوري الأخير لا تعني انتهاء خطره. فالمعركة ضد التنظيم ستستمر، كما هو متوقع، ولكن بتكتيك مختلف يقوم أساساً على مساعدة قوات محلية في عملياتها ضد خلايا «داعش» النائمة وشبكات دعمه والتي قدّر جنرال بريطاني بارز أنها تضم حالياً ما يصل إلى 20 ألف شخص في العراق وحده، بالإضافة إلى أعداد غير محددة بدقة تنفّذ داخل سوريا اغتيالات وتفجيرات، بما في ذلك ضمن مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» الكردية – العربية.
ويقول الميجور جنرال كريستوفر غيكا، وهو نائب قائد التحالف الدولي ضد «داعش» والذي يشرف على العمليات الجارية في العراق وسوريا، إن هذا التحالف الذي تقوده واشنطن ويضم 79 دولة سيواصل عملياته رغم انتهاء معركة الباغوز. ويقر غيكا، خلال لقاء مع مجموعة من الإعلاميين في وزارة الدفاع البريطانية، بأن «داعش» لم ينتهِ بعد. ويوضح رداً على سؤال لـ«الشرق الأوسط»: «سقوط الباغوز بالغ الأهمية، لأنه يعني انتهاء الخلافة (المزعومة) على الأرض. هذه الجماعة عندما بدأت في عام 2014 ميّزت نفسها إلى حد كبير بكونها تحكم منطقة جغرافية وبأنها خلافة (مزعومة) تمسك بالأرض. امتدت منطقة سيطرتها على أرض توازي مساحتها مساحة المملكة المتحدة. لكنها في أيامها الأخيرة تقلصت إلى مساحة لا تتجاوز بضعة ملاعب لكرة القدم». ويتابع: «انتهاء خلافة (داعش) على الأرض يعطي صورة عن المدى الذي بلغ فيه انهيار التنظيم منذ ظهوره. إنه يدل على أنه لم يعد قادراً على الإمساك بالأرض، ولم يعد سوى جزء صغير مما كان عليه في ما مضى. وهذا الأمر تم نتيجة النجاحات التي حققتها الحملة التي قامت بها القوات العراقية وقوات سوريا الديمقراطية (بدعم من التحالف الدولي)». لكن الجنرال غيكا يتابع محذراً: «من المهم أيضاً أن نفهم أن هذا لا يعني انتهاء الحملة، ولا يعني نهاية (داعش) الذي يستمر في تمثيل تهديد للعراق وسوريا والمنطقة والعالم، ولهذا فإن التحالف الدولي سيستمر في مواصلة عملياته هناك (أي في سوريا والعراق)».
ويتفق الكاتب المعروف بيتر بيرغن، المختص في شؤون الجماعات المتشددة ونائب رئيس الدراسات الدولية في معهد «نيو أميركا» في واشنطن، مع تقييم الجنرال غيكا، ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «انتهاء الخلافة (المزعومة) على الأرض يمثّل نكسة قوية لتنظيم (داعش). عندما سيطر (داعش) على أرض بحجم مساحة المملكة المتحدة وحكم مواطنين بحجم عدد سكان سويسرا، أقام ما يشبه الدولة وفرض ضرائب وخوّات على ملايين الناس المقيمين تحت سلطته. زعم (داعش) أنه أقام خلافة وألهم 40 ألف متطوع من حول العالم أن يسافروا إلى سوريا والعراق للالتحاق به، وفي مرحلة من المراحل كان هناك 1500 مقاتل أجنبي يلتحقون بـ(داعش) كل شهر. العدد الآن هو صفر. لا أحد يريد أن يلتحق بالفريق الخاسر».
ولكن هل يمكن الحديث فعلاً عن انتصار على «داعش» إذا ظل زعيمه أبو بكر البغدادي حراً طليقاً؟ الجنرال غيكا لا يعلّق كثيراً من الأهمية على مصير البغدادي، إذ يقول رداً على سؤال لـ«الشرق الأوسط»: «لا نعرف حقيقة أين هو البغدادي. لو عرفنا لقمنا بشيء ضده. قد يكون في العراق أو سوريا، ولكن قد يكون أيضاً خارج المنطقة. لا نعرف. هذه هي الحقيقة. لكنني أعتقد أنه رجل الأمس وليس اليوم. لا أعتقد أنه يتمتع بأهمية حالياً. مع اضطراره إلى الاختباء، بات البغدادي عنصراً في (داعش) مثله مثل غيره من العناصر، ومع كل يوم يمر أعتقد أنه يفقد مصداقيته أكثر فأكثر». ورغم غياب البغدادي، يلفت غيكا إلى أن «(داعش) ليس بلا قيادة الآن. ولهذا السبب أعتقد أنه حتى بعد القضاء على الخلافة (المزعومة) على الأرض سيبقى (داعش) خطيراً لأنه سيكون هناك قادة وأعضاء مستعدون لمواصلة السير على خطاه. هم (القادة الجدد) أقل خبرة، وأقل قدرة من كل النواحي عن القادة السابقين الذين إما قُتلوا وإما اعتُقلوا. التنظيم أصبح أكثر ضعفاً بلا شك لكنّ هناك مَن سيكون مستعداً لأخذ زمام القيادة، وقد رأينا هذا الأمر مراراً مع جماعات إرهابية أخرى».
وهنا أيضاً يقدّم بيتر بيرغن تقييماً مشابهاً، إذ يقول لـ«الشرق الأوسط»: «سيستمر (داعش) في العمل كخلافة افتراضية تواصل إلهام شن هجمات، لكنه سيكون أضعف بكثير (مما كان عليه سابقاً). المشكلة الحقيقية هي أن الظروف التي أنتجت (داعش) ما زالت موجودة. في الشرق الأوسط هناك (انقسامات) مذهبية في دول مثل سوريا واليمن، وهناك حكومات ضعيفة أو فاشلة في دول مثل ليبيا وأفغانستان، وهناك اقتصادات ضعيفة في معظم دول المنطقة. يمكننا أن نتوقع ظهور (ابن لداعش) في دول مثل ليبيا واليمن وأفغانستان وفي دول أخرى مسلمة لكنها ضعيفة. قد لا يكون ابن داعش (ناجحاً) كوالده، لكن ستكون هناك جماعة تخْلف (داعش)».
ولعل هذا الخوف من ظهور «داعش جديد» كان أحد الأسباب التي دفعت الرئيس دونالد ترمب إلى التراجع عن سحب كامل القوات الأميركية المنتشرة في سوريا في إطار الحملة ضد «داعش». ويقول غيكا في هذا الشأن خلال ندوته الصحافية: «لقد أقر (ترمب) بأن هناك تهديداً من (داعش) سيستمر حتى بعد انتهاء الخلافة (المزعومة) على الأرض. من المهم ألا نسمح بأن يصبح شمال شرقي سوريا منطقة آمنة لـ(داعش) تسمح له بشن حملة تهدد السكان في العراق وسوريا. وقرار (ترمب) إبقاء بعض القوات الأميركية في شمال شرقي سوريا سيسمح بمواصلة الحملة على (داعش)».
ويشير غيكا، في هذا الإطار، إلى أن خلايا تابعة لـ«داعش» تقوم حالياً بعمليات في مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية»، كاشفاً وقوع ما يصل إلى «16 عملية اغتيال في الرقة»، بالإضافة إلى سلسلة تفجيرات أخرى. أما بالنسبة إلى مسألة «الدواعش» المعتقلين لدى «سوريا الديمقراطية» وكذلك أفراد أسرهم، فيقول الجنرال البريطاني: «إننا (التحالف الدولي) نجمع أدلة ضد كل عناصر (داعش) المقاتلين الذين ارتكبوا فظاعات في ساحات القتال. وإذا تمكنّا في المستقبل من العثور على أدلة على تورط شخص ما في فظاعات فسنجمع هذه الأدلة ونقدمها للسلطات كي تتمكن من رفع قضية جنائية ضده. لكن هذا الأمر صعب حالياً، فالجيب (الأخير لداعش) مزدحم جداً. هناك مبانٍ وخيام وأشياء أخرى أبطأت العمليات (في الباغوز)، وقوات سوريا الديمقراطية أبطأت تقدمها (خلال الأسابيع الماضية) لتفادي سقوط ضحايا بشكل غير متعمد». ويشيد نائب قائد قوات «التحالف الدولي» بما تقوم به «قوات سوريا الديمقراطية» من حماية وخدمات لعشرات آلاف النازحين بما في ذلك أفراد أسر مقاتلين من «داعش» في مخيم الهول، شرق سوريا. ومخيم الهول واحد من ثلاثة مخيمات أقامتها «سوريا الديمقراطية» للنازحين، لكنه أكبرها وبات يؤوي حالياً أكثر من 60 ألف شخص بعدما كان مخصصاً في البدء لقرابة 20 ألفاً فقط. ويقر غيكا بأن أعداد النازحين من جيب «داعش» الأخير شكَّلت مفاجأة، في ظل خروج عدد غير مسبوق من المقاتلين والأسر من المنطقة المحاصرة في الأسابيع الماضية.
وكان تنظيم «داعش»، في أوجّ قوته، يضم عشرات آلاف المقاتلين، المحليين والأجانب (أنصاراً ومهاجرين) في منطقة نفوذه الأساسية في سوريا والعراق وكذلك ضمن فروعه المختلفة حول العالم. لكنه، بعد هزيمته في الباغوز وسقوط «دولته» المزعومة، بات هزيلاً في شكل واضح، خصوصاً إذا ما قورن بما كان عليه في السنوات الماضية عندما أدار «دولة» مترامية الأطراف تمتد على مساحة أكثر من 88 ألف كلم مربع وتضم أكثر من 8 ملايين شخص وتجني مليارات الدولارات.
ويقول غيكا، في إطار شرحه للقدرات المتبقية للتنظيم، «إن الجيب الأخير لـ(داعش) في حوض الفرات الأوسط كان يضم (حتى أيام مضت) بضع مئات المقاتلين بقوا هناك، متمسكين بما تبقى من دولتهم على الأرض. أما في داخل العراق، فتقديرنا أن العدد بين 10 آلاف و20 ألفاً، لكن هؤلاء ليسوا كلهم مقاتلين. الكثير منهم أعضاء في شبكات دعم. أما عدد الدواعش حول العالم فمن الصعب جداً وضع رقم محدد. ربما هناك نحو 10 أفرع تابعة لـ(داعش)، وكل فرع منها لديه عدد من العناصر يرتفع أو ينخفض حسب الأوضاع».
وعن موقع تنظيم «القاعدة» في المعادلة الحالية، يقول غيكا: «إن أنظار العالم مركّزة الآن على (داعش) لأسباب مختلفة، ولكنّ هذا لا يعني أن التطرف العنيف بأشكاله المختلفة، سواء القديمة أو الجديدة، يجب ألا يتم النظر إليه بوصفه تهديداً للأمن في العالم. علينا أن نتصدى لهذه القضية في المستقبل». ويتفق الكاتب بيرغن هنا أيضاً مع الجنرال غيكا في ضرورة الانتباه إلى تنظيم «القاعدة» مع انتهاء المعركة تقريباً ضد «داعش»، ويقول: «تنظيم (القاعدة) يستفيد (من انهيار داعش) في سوريا وكذلك في منطقة الحدود بين أفغانستان وباكستان وهم يحضّرون حمزة بن لادن، ابن أسامة، لقيادة الجيل المقبل من (القاعدة)».
سوريا: قوات «قسد» تدفن 300 جثة في حفرة جمعت مقاتلي «الدولة» والنساء وأطفال… وأنباء عن إعدام جرحى التنظيم
وائل عصام
أنطاكيا – دير الزور – «القدس العربي»: قال ناشطون وعناصر عربية من قوات سوريا الديمقراطية «قسد» لـ»القدس العربي»، إن قوات الأخيرة قامت بدفن نحو 300 جثة من عناصر تنظيم الدولة الإسلامية إضافة إلى مدنيين من ضحايا القصف في الباغوز معظمهم من النساء والأطفال، بشكل جماعي، في حفرة قرب تلّة «الجهفة «، وإنها منعت الصحافيين من الدخول عقب القصف مباشرة، لإخفاء ما وصفوها بـ»المجزرة « في الباغوز، فيما نجا تسعة أطفال نقلوا لمخيم الهول. وأكدت مصادر من المجلس العسكري أن قوات كردية خاصة أعدمت عدداً من مقاتلي التنظيم الجرحى بعد القصف.
إعلان النصر على تنظيم «الدولة» جاء بعد معارك ضارية بين الطرفين دامت لأشهر وتخللتها عدة توقفات (هدن)، خرجت خلالها أعداد كبيرة من عوائل ومقاتلي التنظيم، وبقيت أعداد أخرى رفضت الاستسلام وفضلت القتال حتى النهاية، وسببت الأرق لـ»التحالف الدولي» وقوات «قسد» التي أعلنت لأكثر من مرة أنها قاب قوسين أو أدنى من القضاء على تنظيم «الدولة» في الباغوز، لكن شراسة التنظيم في الأمتار القليلة التي بقيت تحت سيطرته الأسبوع الماضي، أدت الى رد التحالف القاسي بشن هجوم مروع.
في مساء الإثنين 18 آذار/ مارس الحالي طلبت قوات قسد وبإملاءات من ضباط من التحالف الدولي، استسلاماً كاملاً لكل من بقي في المخيم وخروجهم خلال 48 ساعة وإلا فسيكون مصيرهم الموت، الأوامر جاءت بعد اجتماع لقيادات من التحالف في حقل العمر النفطي، وبعد وصول عناصر من قوات البيشمركة قادمين من كردستان العراق.
وبالفعل تم التواصل مع قيادات التنظيم داخل المخيم (بواسطة الهواتف اللاسلكية)، وفي محادثة جرت بين قيادي كردي من قسد اسمه (دمهات) وقيادي في التنظيم اسمه (أبو الحسن)، طالب دمهات باستسلام مقاتلي التنظيم وأمهلهم 48 ساعة للخروج وإلا سيكون الرد مختلفاً هذه المرة (حسبما قال)، ليرد أبو الحسن عليه بجملة واحدة: «ستدخلون ولكن على أشلائنا، و(الدولة) باقية رغم أنوفكم»… الرد في المحادثة كان غير متوقع، وانتظرت قوات قسد ليلة كاملة، عسى ان يخرج أحد، ولكن لم يخرج أي شخص.
وفي عصر الثلاثاء 19 من الشهر الحالي تفاجأ عناصر قسد ومن كان معهم من عناصر التحالف بهجوم كبير للعشرات من مقاتلي التنظيم من داخل المخيم، وشاركت في الهجوم النساء اللواتي كن في صفوف التنظيم، لتدور اشتباكات عنيفة راح ضحيتها (30) عنصرا من قوات قسد إضافة لعشرات الجرحى، وكان من بين القتلى حسب شهادات عناصر من «قسد»، جنود من التحالف، وبالتزامن مع هذا الهجوم للتنظيم شنت خلاياه المنتشرة في أرياف ديرالزور هجمات عدة طالت نقاطا لقسد هناك. ويبدو أن الهجمات داخل المخيم وخارجه كان مخططا لها مسبقا بين العناصر الموجودين في المخيم وخارجه، لكن هجمات خلايا التنظيم خارج المخيم كانت محدودة ولم تؤدِ الغرض المطلوب منها.
رد التحالف لم يتأخر كثيراً، فشن أكثر من 30 غارة لطيران التحالف الدولي تناوبت على تنفيذها 6 طائرات، طالت مخيم الباغوز ليلة الثلاثاء 19 من آذار/مارس وأدت لـ»حراثة» المخيم بالكامل، وتم دفن من فيه.
ويروي الناشط الميداني البارز زين العابدين العكيدي، تفاصيل عملية القصف العنيفة التي أدت لمقتل المئات، ويقول «المخيم كان في الحقيقة عبارة عن سلسلة من الأنفاق التي كان عناصر التنظيم يتحصنون فيها، وتم حفر هذه الأنفاق خلال فترة الهدنة بين الطرفين في الشهرين الماضيين. حدة القصف أجبرت 115 شخصاً من بينهم حوالى 80 من مقاتلي داعش أغلبهم من المصابين على الاستسلام، ومن بينهم كذلك نساء وأطفال، توقف بعدها القصف لبرهة، أملاً باستسلام من تبقى، لكن حين لم يخرج أحد تابعت طائرات التحالف قصفها مجددا لمدة 3 ساعات متواصلة، وبحلول منتصف ليلة الثلاثاء 19 آذار الحالي هدأت نيران القصف وساد الصمت في المخيم، باختصار لم يعد هناك أحد على قيد الحياة».
في فجر الأربعاء 20 آذار/ مارس، دخلت وحدات خاصة تابعة لـ»قسد» غالبيتها من المكون الكردي ومعهم عدد قليل من العناصر العرب ترافقهم وحدة مقاتلة من عناصر التحالف الدولي إلى أرض المخيم لتمشيطه. وحسب شهادات حصلت عليها «القدس العربي» من بعض عناصر «قسد» من العرب، من الذين دخلوا إلى لمخيم، فإن ما حصل داخله كان عبارة عن مجزرة لمن تبقى هناك (من مقاتلين ونساء وأطفال وشيوخ) أدت لمقتل 315 شخصاً، غالبيتهم من المقاتلين إضافة إلى ضحايا مدنيين بينهم عدد كبير من النساء والأطفال ولم ينج أحد عدا 9 أطفال فقط أخرجهم عناصر التحالف، ومنعت عناصر «قسد» والتحالف الصحافة من الدخول في اليوم التالي للمجزرة.
ويتابع الناشط العكيدي حديثه الخاص لـ»القدس العربي» راوياً ما وقع في الساعات الأخيرة «في عصر يوم الأربعاء 20 آذار/ مارس قامت «قسد» بدفن جميع الجثث التي كانت داخل المخيم في مقبرة جماعية، حيث تم تكديس الجثث عبر جرافات (تركسات) وتجميعها داخل حفرة كبيرة ودفنها، ومكان الحفرة قرب تلة «الجهفة» وهي عبارة عن هضبه أشبه بجبل صغير داخل الباغوز كانت تطل على المخيم».
من تم دفنهم في ذلك القبر الجماعي كانوا عناصر من قوات تنظيم الدولة ونساء واطفالاً وشيوخاً، تعرضوا لحروق شديدة نتيجة القنابل التي ألقيت على المخيم، وغالبية الجثث بدون أية ملامح، وأثار القصف على أرضية المخيم حولته لأكوام من الرمال، وقد يكون التحالف قد تعمد استخدام أنواع من القنابل التي تتسبب بهدم الأنفاق، كون المخيم كان عبارة عن سلسلة أنفاق ضخمه تحت الأرض.
ويضيف العكيدي «في يومي الخميس والجمعة 21 و22 من آذار الحالي بدأت قسد عمليات تمشيط المنطقة المحيطة بالمخيم واشتبكت مع عدد من عناصر داعش الذين تمكنوا من النجاة من مجزرة الباغوز والذين تمكنوا من الهرب نحو أحد الكهوف الموجودة في تله الباغوز، وقد دامت الاشتباكات لساعات متأخرة من ليلة الجمعة 22 مارس، وفي الــ 23 من الشهر نفسه أعلنت «قسد» عن نهاية المعارك ضد التنظيم وانتهائه هناك، وهذا الأمر لا ينفي احتمالية بقاء عدد قليل من العناصر متخفين داخل الكهوف أو الأنفاق.
وللمفارقة وبعيد نصف ساعة من مؤتمر «النصر» الذي أعلنت «قسد» من خلاله عن انتهاء التنظيم، قامت خلايا التنظيم المنتشرة في أرياف ديرالزور بعمليات استهداف لعناصر من قسد أدت إلى مقتل 7 عناصر في بلدتي «ذيبان» و «جديد عكيدات».
ويحذر مراقبون من أن مرحلة قادمة تنتظر قسد في دير الزور وتحد جديد اسمه «خلايا التنظيم النائمة» هناك، بل ربما الأخطر هي «الحاضنة الشعبية النائمة» التي تعاطفت مع مجزرة الباغوز.
وكان الائتلاف السوري قد أدان استهداف المدنيين في منطقة الباغوز في ريف دير الزور، مطالبا بتوفير الحماية اللازمة للمدنيين وخاصة الأطفال والنساء، وتأمين احتياجاتهم والرعاية الطبية والإغاثية التي يحتاجونها. وفي بيان وصلت إلى «القدس العربي» نسخة منه، عبر الائتلاف عن قلقه الشديد حيال مصير المدنيين في منطقة الباغوز في ريف دير الزور، في ظل مخاوف حقيقية تجاه أوضاع النساء والأطفال على وجه الخصوص.
عضو الائتلاف السوري عبد المجيد بركات قال في حديث لـ»القدس العربي»: الصمت الإعلامي عن «مجزرة الباغوز» يرجع للتمويل الأمريكي للمؤسسات الإعلامية.
المعارض بركات اتهم «قسد» المدعومة من التحالف بارتكاب «مجازر غير مسبوقة « في بلدة الباغوز، مؤكداً أن الحصيلة الأولية لعدد القتلى فاقت الـ2000 قتيل خلال أقل من أسبوع.
وقال «إن التقارير والشرائط المصورة، تؤكد ارتكاب قوات سوريا الديمقراطية مجازر مروعة ضد المدنيين في بلدة الباغوز، في ظل صمت مطبق من وسائل الإعلام». وعزا بركات ذلك الصمت إلى التمويل الذي تتلقاه غالبية وسائل الإعلام التي تعمل في مناطق سيطرة «قسد» من قبل الولايات المتحدة التي تقود التحالف.
القدس العربي
انتحاريون وقناصة خاضوا آخر معارك تنظيم “الدولة” في شرق سوريا
الباغوز: بذل تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” كل ما بوسعه للحؤول دون انهيار ما تبقى من أرض “الخلافة” على ضفاف نهر الفرات، معتمداً في معركته الأخيرة على انتحاريين وقناصة وقاذفات صواريخ، لكن ذلك لم يحل دون استسلام مقاتليه.
ويروي مقاتلون من قوات سوريا الديمقراطية حاربوا التنظيم قبل دحره من بلدة الباغوز في شرق سوريا، تفاصيل الساعات الأخيرة من المعركة في هذه البلدة الصغيرة النائية التي لم يكن أحد قد سمع باسمها قبل أشهر عدة.
وأعلنت قوات سوريا الديمقراطية، تحالف فصائل كردية وعربية تدعمها واشنطن، السبت القضاء التام على “الخلافة”، التي أعلنها التنظيم في العام 2014، بعد تجريده من كافة المناطق التي كانت تحت سيطرته، دون أن يعني ذلك انتهاء الخطر الذي يشكله.
ويقول المقاتل حميد عبد العال أثناء وجوده على سطح مبنى رفعت عليه راية قوات سوريا الديمقراطية الصفراء، بينما يشير بيده إلى ساتر ترابي قريب من النهر: “دخلنا خلال الليل وكنا قرب هذا الساتر، حصل الهجوم علينا صباحاً وبدأ القناصة باستهدافنا”.
وخاض الطرفان اشتباكات استمرت لنحو أربع ساعات وفق عبد العال، قبل أن “يقدم ثمانية انتحاريين على تفجير أنفسهم قرب النهر بينما استسلم المتبقون” من هذه المجموعة لقوات سوريا الديمقراطية.
ويقاتل هذا الشاب المتحدر من مدينة الشدادي في محافظة الحسكة (شمال شرق) في صفوف قوات سوريا الديمقراطية منذ عام 2016. وخاض في صفوفها معارك على جبهات عدة ضد التنظيم أصيب خلالها ثلاث مرات.
ويشير إلى ندوب في خاصرته اليسرى ناجمة عن طلق ناري أصيب به خلال المعارك في مدينة الرقة (شمال)، التي شكلت المعقل الأبرز للتنظيم قبل طرده منها في تشرين الأول/ أكتوبر 2017. كما يدل على آثار إصابة في عنقه جراء انفجار لغم.
ندوب
وشهدت بلدة الباغوز المعارك الأخيرة ضد التنظيم الذي كان في عام 2014 يسيطر على أراضٍ شاسعة في سوريا والعراق المجاور تعادل مساحة بريطانيا، ضمت أكثر من سبعة ملايين شخص، بنى فيها مؤسساته وجبى الضرائب وأصدر عملته وفرض قوانينه المتشددة وطبّق عقوباته الوحشية. كما تبنّى في الفترة ذاتها تنفيذ اعتداءات دموية تسبب أحدها بمقتل 320 شخصاً في مدينة بغداد في تموز/ يوليو 2016 وآخر بمقتل 130 شخصاً في باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.
ومُني التنظيم خلال العامين الماضيين بخسائر متلاحقة على وقع هجمات شنتها أطراف عدة في سوريا والعراق بدعم رئيسي من التحالف الدولي بقيادة أمريكية. وتحصن التنظيم في الباغوز داخل أنفاق وخنادق حفرها تحت الأرض وفي كهوف صخرية، بحسب قوات سوريا الديمقراطية.
ويقول عمر (31 عاماً)، الذي يقاتل التنظيم في ريف دير الزور منذ تشرين الأول/ أكتوبر، أي بعد أسابيع من بدء الهجوم ضد الجيب الأخير: “يهاجم التنظيم بشكل متقطع، ويخرج الانتحاريون والانغماسيون من أنفاق”.
ويوضح المقاتل الطويل والهزيل البنية وهو أب لأربعة أطفال أن غالبية مقاتلي التنظيم الذين قاتلوا حتى النهاية هم “من الأجانب، من كازاخستان وفرنسا والسعودية والعراق”.
وشوهد العشرات من الرجال يقفون في صف منتظم أمام جرف صخري في الباغوز، قبل صعودهم إلى شاحنات عدة توقفت في المكان. وقال جياكر أمد متحدث كردي “إنهم مقاتلون دواعش خرجوا من الأنفاق وسلموا أنفسهم”، ولم يستبعد احتمال وجود المزيد “مختبئين داخل أنفاق”.
ويشير عمر إلى أن مجموعات منهم “كانت تختبئ (في كهوف) تحت الجبال وفي الأنفاق”.
“كالقطة والفأر”
يدرك هذا المقاتل الذي تنقل على غرار العديد من رفاقه على الجبهات من الرقة ثم منبج (شمال) وصولاً إلى ريف دير الزور الشرقي، أن عناصر التنظيم قاتلوا في أيامهم الأخيرة بعد استنزاف قدراتهم كافة.
ويشرح: “حين كانوا في أوجّ قوتهم، كانت المعارك أشرس. كانوا يستخدمون المفخخات والسلاح الثقيل والطائرات المسيّرة ويفخخون البيوت”.
وبدا المخيم، الذي يضم الكثير من الأنفاق والحفر وخيماً متداعية مصنوعة من ستائر أو بطانيات وقماش ملون، أشبه بحقل خردة مع انتشار هياكل سيارات وشاحنات صغيرة محترقة أو متوقفة ومتضررة جراء القصف وأوانٍ منزلية وعبوات مياه وأسطوانات غاز في كل مكان. كما شوهدت جثتا رجلين يرجح أنهما من مقاتلي التنظيم وكتاب باللغة الروسية مرمي على الأرض.
ويروي المقاتل هشام هارون بينما يمسك بيده جهاز اتصال لاسلكي ويعلق مسدساً على كتفه: “حتى اللحظات الأخيرة كانت لديهم صواريخ محمولة على الكتف، يطلقونها باتجاه سياراتنا من بعيد”.
ويوضح: “كانت لديهم قوة لكن ليس قوة داعش القديمة” مستعيداً كيف أن التنظيم “حين بدأنا قتاله كانت لديه حنكة قتالية وتكتيكات عسكرية”.
لكنهم باتوا “في النهاية مثل (توم وجيري) كالفأر الذي يُحشر في زاوية الغرفة ولا يجد أمامه أي مهرب من القطة” المتربصة به.
في لحظة «دفن» تنظيم «الدولة»: كي لا ننسى إنسانيتنا
يقدّم تقرير الصفحة الأولى من «القدس العربي» اليوم تفاصيل مرعبة تنفذها «قوات سوريا الديمقراطية» في الجيب الأخير الذي كان يسيطر عليه تنظيم «الدولة الإسلامية» في الباغوز شرقي سوريا، وينقل تأكيد ناشطين وعناصر عربية من «قسد» أنها قامت بدفن أكثر من 300 جثة معظمهم من النساء والأطفال بشكل جماعي في حفرة وأنها حظرت دخول الصحافيين لمنع العالم من رؤية حقيقة ما يحدث فعلا هناك.
يشير التقرير إلى أن طيران «التحالف الدولي» شن 30 غارة طالت مخيم الباغوز ليلة الثلاثاء 19 آذار/مارس مما جعل المكان «محرقة» «بحيث لم يعد هناك أحد على قيد الحياة»، و«غالبية الجثث اختفت ملامحها»، فيما قامت قوات كردية خاصة بإعدام العدد القليل الباقي من الجرحى ولم ينج إلا 9 أطفال تم نقلهم إلى مخيم الهول قرب الحسكة.
ساهم في هذا العنف الشديد بالتأكيد إصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الادعاء أنه أنهى تنظيم «الدولة»، (وهو ادعاء كرّره 16 مرة حتى الآن)، وعلى الأغلب أن ينجح «التحالف» والقوات الأرضية التي حاربت التنظيم في إخفاء معالم هذه المعركة الأخيرة بحيث تبدو «نظيفة» و«معقمة» على الطريقة الأمريكية التي مثالها الأعلى قيام موظّف ما بضغط زرّ على شاشة ما في مكان بعيد جداً (قد يكون كاليفورنيا أو هاواي) فينقصف موقع ما (قد يكون معسكراً أو مشفى أو مدرسة) وتتحول الوجوه والمعالم والقصص إلى معطى رقميّ لا علاقة له بالواقع الذي يجري في سوريا أو العراق أو اليمن.
غير أن الأسوأ من «تعقيم» القوات الأمريكية لأعمالها العسكرية ونتائجها الكارثية على المدنيين، هو التبريرات التي تقوم بها «قوات سوريا الديمقراطية»، ومن ذلك ما قاله «عضو إدارة الحزب الديمقراطي» الكردي السوري في كوباني (عين العرب) محمد حبيب الذي أوضح في اتصال هاتفي لـ«القدس العربي» معه قبل أيام حول الصور التي كشفت نساء وأطفالا يبكون على جثث أقاربهم في الباغوز إنه «لم يبق مدنيون في الباغوز» وأن «هؤلاء الأطفال والنساء قرب الجثث هم من عوائل داعش»، وهو ما يخرج الأطفال والنساء من تصنيف «المدنيين» لأنهم «من عوائل داعش».
إضافة إلى ذلك فقد قام ناشطون سوريون على وسائل التواصل الاجتماعي بترديد أقوال من قبيل إن لا إثباتات على أن القوات الأمريكية تستهدف المدنيين، أو أن الأطفال والنساء «لم يقتلوا قصدا» وأن المسؤولية تقع على «أفراد داعش الذين اتخذوا عائلاتهم رهينة»، وهو ما اعتبره ناشطون آخرون تبريرا لقتل الأطفال والنساء بدعوى محاربة تنظيم «الدولة».
القضاء على تنظيم «الدولة» هو أمر في صالح العالم بالتأكيد، وفي صالح السوريين والعراقيين بشكل خاص الذين عانوا من سطوته، فهذا التنظيم مسؤول عن مجازر وانتهاكات فظيعة لحقوق البشر، وبالتالي فإن الهدف من محاربته هو وقف تلك المجازر والانتهاكات وليس القيام بها تحت مبرّرات أخرى، وقيام من يحاربونه (سواء كان «التحالف الدولي» أو القوّات السائرة في ركابه) بانتهاكات لحقوق البشر يسقط دعاواهم السياسية المتغطّية بمصطلحات «الديمقراطية» وغيرها، ويضعف مزاعمهم في «محاربة الإرهاب»، فالإرهاب لا يحارب بالإرهاب والوحشيّة لا تواجه بالوحشيّة وإلا فقدت القيم الإنسانيّة معانيها وضاعت الخطوط بين «الإرهابيين» ومن يحاربهم.
القدس العربي
مقاتلو داعش الأجانب قنابل موقوتة في معاقل أكراد سوريا
وجود الآلاف من مقاتلي داعش الأجانب في مراكز اعتقال تابعة لقوات سوريا الديمقراطية يشكل عبئا ثقيلا على الأخيرة خاصة من الناحية الأمنية.
خطوة في مسار شائك
هزيمة داعش لا تعني نهاية خطر التنظيم الجهادي في ظل وجود الآلاف من عناصره الأجانب المعتقلين لدى قوات سوريا الديمقراطية وأي تهديد أو حرب جديدة في المنطقة قد يستغلها هؤلاء للفرار وإعادة تجميع صفوفهم.
دمشق- ينغص وجود الآلاف من المقاتلين الأجانب المعتقلين في شمال شرق سوريا احتفال قوات سوريا الديمقراطية بهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، في ظل مماطلة دولهم الأصلية في استعادتهم، وغياب حلول جادة لإنهاء المعضلة.
ويشكل وجود الآلاف من مقاتلي داعش الأجانب في مراكز اعتقال تابعة لقوات سوريا الديمقراطية عبئا ثقيلا على الأخيرة خاصة من الناحية الأمنية. وفشلت الدعوات الأميركية والسورية المتكررة في إجلاء الدول الأصلية لمواطنيها.
وحذرت قوات سوريا الديمقراطية الأحد، من أن هؤلاء المقاتلين الأجانب المعتقلين لديها يشكلون “خطرا”، مناشدة المجتمع الدولي التدخل لإعادتهم إلى بلدانهم.
وأشادت دول عدة في العالم بإعلان قوات سوريا الديمقراطية السبت تجريد التنظيم من مناطق سيطرته جغرافيا، بعد دحره من بلدة الباغوز، في وقت أعلن فيه قادة هذه القوات وشريكها التحالف الدولي بقيادة واشنطن، بدء مرحلة جديدة من الحرب ضد التنظيم، للقضاء على “خلاياه النائمة”.
وأعلن التنظيم المتطرف في عام 2014 إقامة “الخلافة الإسلامية” على مناطق واسعة سيطر عليها في سوريا والعراق المجاور، تعادل مساحة بريطانيا. وتمكن من جذب نحو أربعين ألف مقاتل إلى صفوفه، وفق تقديرات أميركية سابقة، بينهم العديد من الأجانب.
وقال رئيس مكتب العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية الكردية عبدالكريم عمر “قضينا على دولة داعش وهذا إنجاز كبير جداً، لكنه لا يعني أننا قضينا على داعش”.
وتحدّث عن “تحديات كبيرة” أبرزها أن “لدينا الآلاف من المقاتلين بالإضافة إلى أطفال ونساء من 54 دولة ما عدا السوريين والعراقيين، وهذا عبء كبير وخطر علينا وعلى كل المجتمع الدولي”.
وسيطرت قوات سوريا الديمقراطية السبت على آخر جيب للتنظيم داخل بلدة الباغوز، بعد ستة أشهر من هجوم واسع بدأته في ريف دير الزور الشرقي بدعم من التحالف. ودارت معارك عنيفة بين الطرفين منذ التاسع من فبراير، تخللها قصف مدفعي وغارات للتحالف.
على وقع تقدمها العسكري وعملياتها التي علقتها مرارا إفساحا للمجال أمام خروج المحاصرين، أحصت قوات سوريا الديمقراطية خروج أكثر من 66 ألف شخص من مناطق سيطرة التنظيم منذ مطلع العام، بينهم خمسة آلاف جهادي على الأقل تمّ اعتقالهم. كما تمكن آخرون من الفرار.
وبين الخارجين عدد كبير من أفراد عائلات مقاتلي التنظيم، كثيرون بينهم من الأجانب، ممن جرى نقلهم إلى ثلاث مخيمات للنازحين في شمال شرق سوريا، أبرزها مخيم الهول الذي يؤوي أكثر من 72 ألف شخص، بينهم 25 ألف طفل على الأقل في سن الدراسة، وفق لجنة الإنقاذ الدولية.
ويشكل ملف الجهاديين الأجانب وأفراد عائلاتهم عبئاً على الإدارة الذاتية الكردية، التي تطالب دولهم باستعادتهم لمحاكمتهم على أراضيها. إلا أن الحكومات الغربية خاصة تبدي تردداً إزاء استعادتهم جراء مخاوف أمنية وخشية ردّ فعل الرأي العام نتيجة الاعتداءات الدامية التي شهدتها وتبناها تنظيم الدولة الإسلامية، حتى أن بعض هذه الحكومات بادرت إلى تجريد رعاياها المعتقلين في سوريا من جنسياتهم.
وأبدت قلة من الدول بينها فرنسا اهتماماً باستعادة عدد من الأطفال. وبحسب منظمة إنقاذ الطفل “سايف ذي تشليدرن”، يوجد أكثر من 3500 طفل أجنبي من أكثر من ثلاثين دولة، في المخيّمات الثلاثة في شمال شرق سوريا. وحذر عبدالكريم عمر من وجود “الآلاف من الأطفال الذين تربّوا على ذهنية داعش” في مخيمات النازحين. وقال “إذا لم تتمّ إعادة تأهيلهم وبالتالي دمجهم في مجتمعاتهم الأصلية فهم جميعهم مشاريع إرهابيين”.
ورأى عمر أن “أي تهديد أو أي حرب جديدة ستكون فرصة” لمقاتلي التنظيم “للهروب من المعتقلات”، مضيفاً “يجب أن يكون هناك تنسيق بيننا وبين المجتمع الدولي لمواجهة هذا الخطر”. ويخشى الأكراد تهديدات تركيا المتواصلة بشنّ هجوم جديد ضد مقاتليهم الذين تعدهم “إرهابيين” وتخشى تواصلهم مع المتمردين الأكراد على أرضها.
ويهدئ الوجود الأميركي حتى الآن اندفاعة أنقرة ضد المقاتلين الأكراد، كما يحول دون شن دمشق هجوماً لاستعادة السيطرة على مناطقهم. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلن نهاية العام قراره سحب كامل قواته المقدرة بألفي جندي من سوريا، ما أثار مخاوف الأكراد، لكن واشنطن قررت إبقاء نحو 400 جندي، ما يوحي، حسب محللين، بأن انسحابها لن يتم قريبا.
وإلى جانب الجهاديين المعتقلين وأفراد عائلاتهم، يشكل وجود “الخلايا النائمة” في مناطق عدة وانتشار التنظيم في البادية السورية المترامية الأطراف تحديا رئيسيا بعد انتهاء “الخلافة” جغرافيا. وقال الأكراد السبت إنهم سيواصلون العمل مع التحالف الذي تقوده واشنطن لمواجهة هذا الخطر.
وأعلن القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم كوباني خلال مؤتمر صحافي في حقل العمر النفطي “بدء مرحلة جديدة” من المعركة ضد التنظيم للقضاء على “خلاياه النائمة”، مضيفاً “لم تنته الحملة بعد، يبقى.. داعش تهديداً كبيراً”. وأوضح أن ذلك سيتمّ “بتنسيق مع قوات التحالف”.
واستبق التنظيم خسارته بنشر تسجيلات في الأيام الأخيرة على حساباته في تطبيق تلغرام، دعا في إحداها عناصره إلى “الثأر” من الأكراد في مناطق سيطرتهم في شمال وشمال شرق سوريا. كما دعا أنصاره إلى شن هجمات في الغرب ضد أعداء “الخلافة”.
ماتت «داعش» عاشت «داعش»!/ عبد الرحمن الراشد
إعلانات الانتصار في كل مكان، وعلى كل لسان معني بالحرب على الإرهاب في سوريا. في رأيي، هذا انتصار مؤقت، ومسألة وقت حتى يظهر تنظيم «داعش» آخر. دولة «داعش» التي أُعلن القضاء عليها الأسبوع الماضي في سوريا، ولدت في 2011 بعد أن أعلن حينها عن نهاية «القاعدة»، التنظيم الإرهابي، وأنه تم تدميره نهائياً، بعد دحره في بغداد وغرب العراق.
عدد الذين تم اعتقالهم، حتى الأيام الماضية في سوريا، بلغ نحو ثلاثين ألفاً، يقال إنهم من منسوبي «داعش». ويقدر عدد الذين التحقوا بالتنظيم خلال سنوات الحرب السورية بأكثر من ستين ألفاً، وفق تقديرات بُنيت على عدد المعتقلين الذين خرجوا من مناطق مختلفة في سوريا بعد بدء هجمات قوات التحالف الدولي عليهم في الصيف الماضي.
«داعش»، مثل تنظيم «القاعدة»، فكرة والأفكار لا تموت بسهولة في بيئة منطقتنا الحالية، بيئة الفوضى والفراغ. فـ«القاعدة» ظهرت أولاً في أفغانستان بعد انهيار الحكم في أفغانستان واستيلاء «طالبان» عليه، بعد الفراغ بخروج القوات الأميركية في مطلع التسعينات. ومن هناك انتشرت أفكار التطرف المسلح عبر الحدود إلى دول المنطقة عبر الإعلام والمساجد والحواضن الأخرى. حتى ظهر بقوة في العراق، بعد انهيار نظام صدام حسين، وقيام نظام حكم ضعيف مؤقت في بغداد تحت الإدارة الأميركية. هزم أخيراً في العراق بعد مقتل الآلاف واعتبرت الأنبار مقبرته الأخيرة. ثم خرج تحت اسم وعلم جديد. وفي عام 2011 قامت الثورة في سوريا سلمية ومدنية، فوجدها أبو بكر البغدادي الذي أقام إمارة سماها «تنظيم دولة العراق الإسلامية» فرصة ليوسع خلافته عبر الحدود إلى سوريا. أسس وجوداً لـ«القاعدة» في سوريا، واختار أبو محمد الجولاني للمهمة، الذي ما لبث أن اختلف مع زعيمه وأسس لنفسه تنظيم «جبهة النصرة»، ويرتبط بـ«القاعدة». وفي عام 2016 قرر الجولاني أن يغيّر اسم التنظيم. ظهر في فيديو معلناً حل «جبهة النصرة» وتسميتها «جبهة فتح الشام»، لماذا؟ برر الجولاني حينها بأنه «من أجل دفع الذرائع التي يتذرع بها المجتمع الدولي، وعلى رأسه أميركا وروسيا في قصفهم وتشريدهم لعامة المسلمين في سوريا بحجة استهداف (جبهة النصرة)». الحقيقة، أنها كانت ضمن لعبة التحالفات مع تركيا وعدد من الفصائل السورية. وظهرت حركات إرهاب أخرى، مثل «حركة نور الدين الزنكي»، و«لواء الحق»، و«جيش السنة»، و«جبهة أنصار الدين». حتى «جبهة فتح الشام» غيّرت اسمها للمرة الثالثة إلى «هيئة تحرير الشام». وليست سوريا وحدها الأرض التي غزتها «القاعدة»، ففروع التنظيم موجودة في مناطق واسعة. هناك «القاعدة في شبه الجزيرة العربية»، و«القاعدة في شبه القارة الهندية»، و«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، و«تنظيم الشباب»، وكذلك جماعات نائمة في العراق وغيره.
وبالتالي، فإن إعلان الانتصار وتدمير دولة الخلافة الإرهابية حدث محصور في مكانه وزمانه، وسيبقى الإرهاب موجوداً كفكرة، من إنتاج التطرف. لذا؛ فإن محاربة التطرف أهم من محاربة الإرهاب الذي لا يزال يحصر فقط في إطار حمل السلاح. لكن تنظيمات مثل «الإخوان المسلمين» التي، وإن كان بين كوادرها وفروعها جماعات مسالمة وتختلف مع «القاعدة»، تبقى مدرسة كبيرة لإنجاب الأفكار الخطيرة. التطرف لا دين له ويقود إلى الإرهاب، كما رأينا في اليمين العنصري الذي تحول إلى القتل، مثلما فعل في جريمة المسجدين في نيوزيلندا. فالتطرف ملة واحدة يغذي بعضه.
الشرق الأوسط
احتمال عودة القاعدة إلى العراق/ هشام الهاشمي
مـع اتسـاع نطـاق الإرهاب وما ينطوي عليه من تهديدات، جغرافيـاً ونوعياً، لم يعـد يكفـي الحديـث عـن المسـببات. فالربـط الآلي بيـن الظاهـرة الإرهابيـة والفكـر المتشـدد (دينيـاً كان أو قوميـاً أو أيديولوجيـاً)، قـد يفـسر بعـض أنمـاط الظاهـرة فقط. أمـا “التفسير التآمـري”: (الإرهـاب مؤامـرة اسـتخباراتية مـن خـارج الحـدود)، فهـو بحسـب الاقتصادييـن، قـد اسـتنفد “منفعتـه الجديـة” سريعـاً. وينطبـق الأمـر نفسـه على “التفسير الأمنـي” بطبيعتـه الاختزاليـة: (الإرهـاب ظاهـرة إجراميـة وحسـب)، اذ لم يعـد صالحـاً وحـده كإطـار للتفسير.
الثابـت الوحيـد مـن تجربـة مـا يقـارب ربع قرن، هـو أن الإرهاب ظاهـرة مركبة تضـم جماعات وظواهـر غيـر متماثلة، وجميعهـا تحتاج نظـرة مركبة تأخـذ في اعتبارهـا الكثير من العوامل الممتـدة من الثقافة إلى المجتمع إلى الاقتصاد السـياسي، إلى المكـون النفـسي/ العقلي.
الجماعات والتنظيمات الراديكالية غالباً ما تتربص في البيئة الحاضنة الهشة، بخاصة إذا علمنا أن المجتمـع العراقي مجتمع تعـددي، فهـو يتألـف مـن جماعـات تغلـب هويتهـا الخاصـة عـلى الهويـة العامة، وتتصـف العلاقـات في ـما بينهـا بالـتراوح بـين التعايـش والنـزاع وعـدم الاتفاق حول الأسـس العامـة، ومما يرسـخ الانقسـامات بـين هذه الجماعـات ويـؤدي إلى النـزاع، وجود محاصصة في الحقوق السياسـية والاقتصاديـة والمدنيـة وفي المكانـة الاجتماعيـة. والمجتمعـات التعدديـة قـد تعـاني بـين فـترة وأخـرى مـن أزمـات داخليـة بسـبب تدخـلات مـن الخـارج، أو بسـبب تسـلط الأكثريـة أو إحـدى الأقليـات عـلى مراكـز النفـوذ والقـوة، مترافقـة مـع غيـاب الديموقراطيـة، وهـذا مـا حصـل مـع عام 2003 وحتى عام 2013 في المحافظات العراقية ذات غالبية العرب السنة.
تميـل الجماعات الراديكالية الجهادية الرئيسـة في العراق إلى التركز في مناطـق شمال غربي العراق وشمال شرقها، فالعشائر العربية السنية تتركز بشـكل أسـاسي في تلك المناطق من العراق، بينـما تتركز الأقليات الدينية والقومية بجوارها ضمن مناطق عرفت بالمناطق المتنازع عليها. هـذا التركز أسـهم في صناعة بيئة حاضنة للدفاع عن الهوية الثقـافية، فدعاية الدفاع الثقافي هي العملية التي يسـتطيع الفـرد العشائري حامل الفكر الراديكالي ان يقنع العشيرة او القرية عبرها انه حامي لحقوقها ولهويتها الثقافية أو الجماعيـة، غـير أن الدفاع الثقافي بالنسـبة للراديكالي يعتبر خطوة تكتيكية فيها الكثير من البرغماتية والتقية الدينية.
البيئة العشائرية وعودة الفكر الراديكالي الجهادي
نشأت معسكرات الجماعات السلفية الجهادية، باعتبارها رد فعل على تردي العلاقات بين قيادات حكومة المالكي والعشائر السنية في المنطقة الشمالية والغربية. في نهاية عام 2012، ظهرت منصات الاحتجاج التي عرفت بـ”الحراك السني الشعبي”، وضمت خليطاً من البعثيين والمتصوفة والأخوان والسلفية الجهادية والقيادات العشائرية، وبسبب احتدام الصراع بين المالكي ووزير المالية حينها رافع العيساوي على تعزيز السلطة والنفوذ، تداعى عدد من شيوخ العشائر وأئمة المساجد وعلماء الافتاء السني وقادة الأحزاب، في المناطق السنية، للإطاحة بطموح المالكي بولاية ثالثة.
النواة الصلبة من تنظيم القاعدة فرع العراق، استثمرت هذه البيئة الغاضبة على الحكومة وبدأت تنتشر في مدن ومخيمات الاعتصام، وتعقد مجالس لأخذ البيعة لـ”البغدادي”، فحققت هناك انتشاراً وتوسعاً سريعاً، بعدما انحسر نفوذها، عدا مناطق حوض الثرثار وجنوب نينوى ووادي حوران وجزيرة راوة. وبدأ التنظيم بعدد هو أقل من 1000 ارهابي في العراق كله، وبإمكانيات اقتصادية ضعيفة.
نشأ “داعش” في الحدود الغربية العراقية والشرقية السورية، بإهمال من بغداد ودمشق ومباركة بعض أبناء عشائر تلك المناطق الجغرافية، وكان البعد الاستراتيجي هو الدافع الكبير وراء ذلك.
البعد الاستراتيجي يجب أن يطغى في التعامل مع ملفات نشأة تنظيم “داعش” والقاعدة، فهو ضد بغداد ودمشق، ويزعم أنه مع السنة، لذا كان السكوت عليه وعدم انتقاده طيلة عام 2013 من غالبية السنة، وكانت بغداد لا تهتم للأساليب التي يعامل بها “داعش” أهالي تلك المناطق، بل كانت تعتقد أن ذلك شأن داخلي يخص الأهالي، وشره سيقع بالتأكيد على خصوم الحكم في العاصمة.
هزم “داعش” بداية في أهم معاقله، أي الموصل القديمة، لكن الأسباب التي صنعته والأفكار التي غرسها في عقول المؤمنين به وأنصاره في العراق وسوريا، من غير المؤكد أنها هزمت. وبعد عام على تحرير الموصل ظهرت فلول وخلايا لوجستية تتفاعل مع هذه الأفكار الهدمية، فكان لهذه الأفكار مكان خصب في أرياف المدن المحررة والمناطق المفتوحة، وظهر روح التطرّف بوضوح، في مناطق الجبال والتلال وصحراء البعاج والحضر جنوب نينوى، ورداً على هزيمتها لجأت فلول داعش إلى اغتيالات منظمة للمخاتير وشيوخ العشائر وقادة الحشد العشائري والمناطقي. واختيار الرموز هدفاً للتصفية، كان لأجل إرهاب الناس وردعهم عن التعاون مع القوات الحكومية وإجبارهم على دفع الأتاوات. خاضت هذه الفلول حرب الأذرع الطويلة التي تصل إلى أعدائها حيثما كانوا، بأساليب المقاتل الشبح. انه نموذج لعمليات إرهابية هدفها أن يفقد المواطن ثقته بالأمن، وأيضاً تحريك الرأي العام نحو فوضى قومية أو طائفية في المناطق المتنازع عليها والمختلطة دينياً.
عـلى المسـتوى الجغـرافي، يبـدو أن الـصراع مع “العدو القريـب” ارتفعت أولويته، مقارنـة بالصراع ضد “العدو البعيـد”، ويرتبط ذلك بطبيعـة الأوضـاع في الـشرق الأوسـط عمومـاً، ولا سيما سـوريا، مـا يجعل الصراع السـوري حاسـماً في تحديد اتجاهـات المجموعات الجهاديـة، إذ عـلى رغـم توقـع تركيـز المجموعـات الجهاديـة عـلى الداخـل، فـإن الطبيعـة الأيديولوجية لتلـك المجموعات لا تسـتبعد التحـول ضـد “العـدو البعيـد” في أي وقـت.
الهدف من ظهور “القاعدة” وفروعه
كان الهدف من إنشـاء “القاعـدة” هـو الإبقــاء عــلى فكــرة الجهــاد حيــة في أذهــان المتطــوعين العــرب في أفغانســتان، لا ســيما أن “القاعدة “اصـطلاحاً إنمـا هـي تسـمية تـنم عـن منظمة قتاليـة طلائعيـة ودائمـة، ولم يجهـر بتسمية “القاعدة” لأول مرة إلا في اجتماع عقده أسامة بن لادن قبل سنوات.
القاعدة “منظمة مهمــاتية”: يتسـم هذا النـوع من المنظمات بوجـود مهمـة تكــون في شـكل مجموعــة مــن الجهــود الواضــحة يســهل على جميع الأعضاء أن يسعوا إلى تحقيقها، إضافة إلى ضرورة أن تكون هذه الجهـود فريدة ومن الاختصاص الحصـري للمنظمة وذلـك عـلى نحو يسمح لإيـديولوجيتها أن تتطـور بشـكل طبيعي.
من القاعدة إلى “داعش”
ظهرت تنظيمات جهادية استمدت أفكارها من تنظيم قاعدة الجهاد الأم وربما تبنت نهجاً أكثر عدوانية. فما تركته حرب العراق، من تغلغل المد الجهادي، وما خلفته الثورات العربية وعدم مبالاة المجتمع الـدولي بظـروف الشعوب المستضعفة والتهافت لتحقيق مصالح دول، أدخل بعـض المنـاطق في حـسابات تـؤدي ثمنهـا مجتمعـات عربية وإسلامية، بخاصة بلاد الشام والعراق. فبعدما قتلت القـوات الأميركيـة في ـالعراق أبو مصعب الزرقاوي في حزيـران/ يونيـو عام ٢٠٠٦، تولى أبو حمزة المهاجر زعامة التنظيم وبعـد شـهر تقريبـاً مـن قيـادة هـذا الأخـير تـم الإعلان عن تشكيل “دولة العراق الإسـلامية” بزعامـة أبـو عمـر البغـدادي، لكـن القـوات الأميركيـة مـرة أخـرى نجحـت في استهداف البغدادي ومساعده أبو حمزة، فاختار التنظيم أبا بكر البغدادي المعروف حالياً بأبي بكر البغدادي الحسيني القريشي أو كما ينادونه أبو دعاء، وتطلق عليه القوات الأميركية “الشبح”، واسـمه الحقيقـي إبـراهيم البدري. وحري بالذكر أن الفترة الممتدة ما بين 2006 و2010، شهدت إضعاف التنظيم من طرف القوات الأميركية والعراقية بشكل كبير، بعدما شكلت قوات الصحوة العراقية من مقاتلي العشائر في المناطق السنية، وقتلـت ثـم اعتقلـت أكـثر مـن 34 من كبار القياديين، وبعد انسحاب القوات الأميركية من العراق، عام ٢٠١١، شن ما عـرف بدولـة العـراق الإسـلامية تفجيرات عنيفة في المدن العراقية بخاصة بغداد، حصدت آلاف الضحايا وسيولة أمنية عارمة. هذا ما جعل القيـادة الأميركيـة تعـرض مكافـأة مالية للقبض على أبي بكر البغدادي أو قتله، وكان رد فعل الطرف الآخـر إعـلان حملـة أطلـق عليهـا كـسر جـدران الـسجون العراقية شملت عشرات الهجمات وأدت للإفراج عن المئات من المعتقلين، بخاصة من سجن أبو غريب. وغني عن البيان أن ظهور الدولة الإسلامية في العراق والشام ليس أمراً اعتباطياً، فالتنظيم قبل إعلان الخلافـة مـر بمراحل عمل من خلالها على لملمة أوراقه واستيفاء كل ما يمكن إضفاء طابع مفهوم الدولة في المنطقة. وفي 29 حزيران 2014، أعلن الناطق الرسمي باسم تنظيم داعش “أبو محمد العدناني “عن قيام دولة الخلافـة، وأن هذه الأخيرة ممثلة بأهل الحل والعقد، فيها من الأعيان والقـادة والأمـراء ومجلـس الـشورى اختارت تنـصيب خليفـة المـسلمين ومبايعة أبو بكر البغدادي فقبل البيعة، وصـار بـذلك إمـاماً وخليفـة لفرع القاعدة في العراق وسورية وفروع أخرى. وأشار البيـان إلى اندماج بين تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، التابع لتنظـيم القاعـدة وجبهـة النـصرة الـسورية، إلا أن هـذه الأخـيرة رفـضت الاندماج على الفور. ما أدى إلى اندلاع معارك بين الطرفين بشكل متقطع، ويمكـن القـول إن تنظـيم “داعـش” خـرج عـن طاعة زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، إذ اعترض على سـلطته ورفـض الاسـتجابة لدعوتـه إلى التركيـز عـلى العـراق وترك سوريا لجبهة النصرة. وشمل البيان الدعوة إلى ضم المسلمين تحت راية واحدة، وتبني استراتيجية جديدة أكثر راديكالية على مستوى الجهاد.
جاءت سياسة أبي بكر البغدادي لتبلـور ملامـح فكريـة ترتكـز على عـدد مـن الأصول أهمها: العمل على تأسيس دولة الخلافة الإسلامية بالقوة المسلحة، والدعوة إلى التطبيق الفـوري للـشريعة الإسـلامية، وكـذلك عدم جواز العمل في الأجهزة الأمنية والحكومية في الدولة، ورفض التعليم الغربي وثقافته وتغيير نظام التعليم، كما ترتكز أهم مبادئ وأفكار الجماعة على إثبات الحاكمية لله وحده وتحريم الديموقراطية.
وهنا يتم المـزج بـين الطابع العقدي السلفي والطابع السياسي لسيد قطب.
التترس: وهو جواز قتل المسلم إذا تترس به الكافر، ويعتمد كأساس شرعي لتبرير بعض العمليـات العـسكرية أو الانتحارية التي تؤدي إلى قتل مسلمين، وهذا المبدأ تستند إليه تنظيمات راديكالية متشددة.
مذهب وجوب قتل غير المسلمين: وهو يعد امتداداً لعمق فتاوى عبر العصور كفتاوى ابن تيمية الحراني فتوى ماردين “ودستور الإرهاب والإرعاب، وللنهج الوهابي للشيخ محمد بن عبد الوهـاب… واعـتماد فكـر الإخـوان. وتنظيم “داعش “يستمد مقومات هذا المبدأ من الشيوخ المنظـرين للـسلفية الجهاديـة العـصرية مثـل أبو محمـد المقدسي وأبا قتادة الفلسطيني… ويرى أغلب العلماء أن هذا المذهب مبني على أخـذ مـذاهب الفقهـاء الـذين بنـوا اجتهاداتهم بحسب واقعهم. كما يفسر المنظور السطحي لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبويـة المتناولـة لمفهـوم الجهاد، معتقدات داعش أنهم الجماعة التي سيأتي على يدها التغيير والنجاة.
من “داعش” إلى القاعدة
انكـماش الأراضي التـي يسـيطر عليها “داعـش” يعني أن القاعـدة ستسـتعد لتصـدر المشـهد الجهـادي من جديـد، بعدما تراجعـت مكانتها بصـورة كبـيرة عقـب ظهـور تنظيم “داعش”، وهنـاك مؤشرات عـلى ذلك منها:
الانهيـار الوشـيك لـ”داعش” في سوريا بعد انهياره في العراق عقـب العمليات العسـكرية المكثفة ضده هنـاك، فضـلاً عن تراجع تمدد “داعش” في ولايات خراسان وغرب أفريقيا وشرق آسيا، بسـبب وجـود تنظيمات متطرفـة مناوئـة للتنظيـم هنـاك، بخاصـة تنظيم القاعـدة.
للقاعدة أتباع أكـثر عدداً وأقوى في القـارة الأفريقية. وحتـى التنظيـمات التي كانـت تتبع تنظيـم القاعدة، ونقلـت ولاءهـا إلى “داعـش” عقـب النجاحـات الميدانيـة التـي حققهـا في سـوريا والعـراق، وإعلانـه الخلافـة، مثـل تنظيـم بوكـو حـرام في نيجيريـا عـام 2015، ثـم تنظيـم القاعـدة في المغـرب العـربي وتنظيـم الشـباب في الصومـال، كانـت مبايعاتها شـكلية إذ لم يترتب عليهـا أي تعاون مباشر.
منهـج تنظيـم الدولـة كان مرصوداً داخـل الحالة الجهاديـة عموماً وداخل القاعـدة خصوصاً، وهـو مـا دلـت عليـه وثائق “أبوت أبـاد”، والتي أظهـر بعضها رأيـاً حازماً كنقاش داخـلي تجـاه “الدولـة الإسـلامية فى العـراق”، كـما في رسـالة عـزام الأميركي إلى أسـامة بن لادن والتـي لا يبـدو أنهـا كانـت مؤثـرة كما ينبغـي، أو تلك التـي قدمت وحـدة التنظيم، وإنجـازه في العـراق، عـلى دمـاء المسـلمين، كـما في رسـالة بـن لادن التـى يطلـب فيهـا من عطيـة اللـه الليبي، معالجة شـكوى جماعة أنصار الإسـلام مـن تعديات “الدولـة” بتطييب خواطرهـم وإن بمجـرد الـكلام! بـل أكـثر مـن ذلـك، فـإن القاعـدة قدمـت تنظـيراً شرعياً وسياسـياً وفكرياً، يبرر إقامة “الدولة الإسـلامية فى العراق”، وعلى لسـان الظواهري نفسـه بمـا يناقـض بعـض مـا يقوله الآن لجهة رفضه تمددها إلى الشـام.
قـد لا يكـون أمـام “داعـش” خيـار سـوى العـودة إلى وضعـه السـابق كشريـك صغـير لتنظيـم القاعـدة، أو حتـى انشـقاق بعـض عنـاصره وانضمامهـم للقاعـدة “القاعدة الأم”.
القاعـدة تمتلـك خـبرة أفضـل في كيفيـة التعامـل مع السـكان المحليـين، فعـلى رغـم تبنيه أفـكاراً متطرفـة، فإنهـ يتعامل بطريقـة لينـة عـلى عكـس تنظيـم “داعـش”.
فكر القاعدة يرتكز على فشل الدولة، وهشاشة المجتمعات، وهـو لا يعـيش ولا يترعـرع في ظـل أنظمـة معتدلـة سياسياً، وغير قمعية، أو دموية، حيث أن تنظيم “القاعدة “وأخواتها لا تتبلـور رسـالتها مـن خـلال خصـومة سياسـية، وهـي لا تريـد أن تكـون معارضة بالمفهوم التقليدي للكلمة، بل هـي تريـد أعـداء وكفـاراً، وأشرارا ً”تشـيطنهم “لتقـول إنـه لا خـلاص مـنهم إلا بقـتلهم والعمـل العسكري الذي ينال من قوتهم، وهي تنجح في منحاها العنفي المسلح حين تـتمكن من توظيـف الظـروف المعيشـية الصـعبة في أي بلـد لإقناع مجنديها بأن الحل لهذه الظروف، هو القضاء على تلك الحكومات التي تتحمل المسئولية عن هذه الظروف بتقنينها الفساد المالي، بخلاف داعش الذي يريد وضع نفسه بديلاً إجرائياً ونظاماً للحكم.
وفقاً لأوضاع كل من تنظيمي” داعش” و”القاعدة “في العراق، وأخذاً في الاعتبار تجربة التنافس بين “التنظيمين “في كل مـن سوريا والعراق، يمكن القول إن هناك احتمالاً ضعيفاً لمستقبل ما للعلاقة بين “داعش” والقاعدة. ويعتمـد ذلـك عـلى تنـامي نفـوذ “القاعدة “بشكل أكبر. فرص التعاون بين “داعش والقاعدة” في الحويجة وحمرين وخانقين وجزيرة سامراء وجزيرة الثرثار وجزيرة راوة وصحراء الانبار، ممكنة كما يمكن لـ”القاعدة “استغلال الانقسامات الحادة داخـل “داعش “وجذب عناصر إضافية إليه، وذلك من خلال التهدئة والاحتواء والقاعدة تجيد ذلك.
في الختـام، ليس من قبيل المبالغة القول إن الفترة المقبلة، سـتشـهد عـودة القاعـدة لتصـدر المشـهد الجهـادي، مقابل تراجـع تنظيـمات إرهابيـة محليـة عـن مبايعتهـا “داعـش”، وتعـود إلى رايـة القاعـدة مـرة أخرى، ولـن يكـون أمـام دول المنطقـة مـن سـبيل للتخلص من ظاهـرة التطـرف العنيف، إلا وقـف الصراعـات المسـلحة وشروع دول المنطقـة في برامـج للإصلاح.
درج
الأكراد يطالبون دول العالم بدعم إنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة مسلحي “داعش“
يفرضها الواجب الأخلاقي ومستعدون لنقاش الفكرة في شكل موسع
موسكو – سامر إلياس | منذ 18 ساعة في 26 مارس 2019 – اخر تحديث في 25 مارس 2019 / 20:07
بعد أيام على إعلان انهاء تنظيم “داعش” وتحرير آخر جيب له شرق الفرات، حضت الادارة الذاتية في شمال سورية وشرقها دول العالم على التعاون معها من أجل تأسيس محكمة دولية خاصة لمحاكمة إرهابيي “داعش” في مناطق سيطرتها المقدرة بنحو ثلث مساحة سورية. وأعرب مصدر كردي بارز عن أمله في ألا تعارض روسيا تأسيس هذه المحكمة التي تفرضها “الأوضاع على الأرض والواجب الأخلاقي”. وفي شحنة هي الثانية منذ الاعلان عن هزيمة “داعش” في بلدة الباغوز شمال سورية، ذكر “المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن قافلة للتحالف الدولي مكونة من 200 شاحنة محملة بمعدات عسكرية ولوجستية دخلت من إقليم كردستان العراق واتجهت إلى قاعدة خراب عشك في ريف عين العرب (كوباني) شمال سورية على الحدود مع تركيا.
وفي بيان حصلت “الحياة” على نسخة منه، دعت الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها “المجتمع الدولي لإنشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة ارهابيي داعش”، وعزت الإدارة دعوتها لانشاء المحكمة في مناطق سيطرتها إلى أن “الاختصاص في المحاكمة يعود لمحاكم مكان وقوع الفعل الجرمي ومن ثم لمكان القاء القبض على المجرم”، متعهدة أن “تتم المحاكمة في شكل عادل ووفق القوانين الدولية وبما يتوافق مع العهود والمواثيق المعنية بحقوق الانسان”. وزادت أنها تأمل في أن “تأخذ العدالة مجراها وتتم محاكمة هؤلاء المجرمين على ما ارتكبوه من فظائع بحق الانسانية وقاطني مناطقنا المحررة”. وحضت الادارة الذاتية المجتمع الدولي وعلى وجه الخصوص الدول التي لها مواطنون منتمون لتنظيم “داعش” وموقوفون في مناطقها على “التعاون وتقديم الدعم لأجل إنشاء هذه المحكمة بما يضمن التعاون والتنسيق في كافة الجوانب بما فيها القانونية واللوجستية”.
واشار البيان إلى أن المسؤولين في الإدارة الذاتية في شمال سورية وشرقها ناشدوا أكثر من مرة المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته تجاه عناصر التنظيم الإرهابي المعتقلين لدى الجهات الأمنية في الإدارة الذاتية الديموقراطية وبخاصة الدول التي تمتلك رعايا ضمن هؤلاء، وأعرب البيان عن أسف الادارة لعدم وجود أي استجابة أو مبادرة لتسليم عناصر “داعش” المحتجزين لدى “قسد”.
وأشارت الرئيس المشترك لـ “مجلس سورية الديمقراطية” (مسد) أمينة عمر إلى ان “هؤلاء الدواعش يشكلون مشكلة كبيرة وعبئاً كبيراً على عاتقنا”، موضحة في اتصال مع “الحياة” أن “مسد والإدارة الذاتية تفكران في كيفية حل هذه المشكلة وآليات تشكيل المحكمة ونناقش مع كثير من الأطراف والدول وسنناقش في شكل أوسع”.
وأكدت عمر أنه “يجب على دول التحالف التي حاربنا مع بعض ضد داعش وتحملنا مسؤولياتنا وحققنا انتصاراً تاريخياً يجب أن تتحمل النتائج ايضاً وذلك لإيجاد حل لهذه المشكلة”. وفي ما يخص أمكانية معارضة روسيا لتأسيس هذه المحكمة قالت عمر: “هذا وضع خاص ونعرف ان روسيا دائماً تستخدم الفيتو ولا تسمح بصدور اي قرار”، لافتة إلى أن “الوضع استثنائي
بالنسبة للدواعش الموجودين لدينا والدول المعنية التي ينتمي الدواعش لها”.
ومع إشارتها إلى عدم وجود أي وعود رسمية لاعادة إعمار ما دمرته الحرب ضد “داعش” شرق الفرات، حضت عمر دول العالم على دعم إعادة الإعمار المنطقة، محذرة من أنه في “في حال لم يكن هناك دعم من أجل إعادة الإعمار فإن داعش سينشط مرة أخرى ويجدد بناء نفسه”، لافتة إلى أن “الاستمرار في محاربة داعش وتفكيك خلاياه النائمة وترسيخ الاستقرار يصب في مجال إعادة الإعمار”.
وفي اتصال مع “الحياة” كشف مسؤول كردي بارز أن “مجموع ما تم تسليمه من عناصر “داعش” إلى بلدانهم لا يتجاوز 150 إرهابياً”، مشيراً إلى أن “عدد عناصر داعش لدى قسد يصل إلى أكثر من خمسة آلاف بينهم قياديون من الصف الأول”، وأعرب المسؤول الكردي عن اسفه لـ “رد فعل كثير من البلدان الذي لم يكن على القدر المطلوب على رغم التحديات الكبيرة والمناشدات المتواصلة منذ نيسان (أبريل) الماضي، موضحاً أنه “إذا استمرت ذات الوتيرة في تسليم أرهابيي داعش إلى بلدانهم الأصلية فتحتاج سنوات طويلة لإغلاق هذا الملف”، ورأى المسؤول الكردي أن “الواجب الأخلاقي يقضي بان نكون أكثر شفافية وأن نحاكم عناصر داعش على ما اقترفوه من جرائم بحق السوريين”. وعن حظوظ نجاح الدعوة لانشاء محكمة دولية خاصة لمحاكمة مجرمي “داعش”، قال المسؤول الكردي إن “79 دولة في التحالف الدولي ضد داعش ستدعم الفكرة”، معرباً عن أمله في عدم معارضة موسكو انشاء هذه المحكمة في مناطق الادارة الذاتية، وزاد إن المحكمة “مصلحة للجميع بما في ذلك النظام والروس والإيرانيون”.
إلى ذلك، قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي إن نحو أربعة وسبعين ألف شخص غالبيتهم من النساء والأطفال يعيشون في ظروف قاسية في مخيم الهول بريف الحسكة شمال شرقي سورية، وزادت اللجنة في بيان أن “الاحتياجات الإنسانية للقاطنين في المخيم هائلة في ظل تجاوز الطاقة الاستيعابية للمخيم، ودعت اللجنة إلى “التحلي بالشجاعة ومعاملة جميع القاطنين في المخيم بصورة انسانية تحترم كرامتهم ووفقاً للقانون الدولي وتجنب الحلول التي ستؤدي لإدامة المشكلة”.
وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان إن “شحنة جديدة مؤلفة من نحو 200 شاحنة دخلت متجهة إلى قاعدة خراب عشك في ريف عين العرب (كوباني) التابعة للتحالف الدولي”، وأوضح المرصد أنه بعد ساعات من دخول شحنة أولى دخلت شحنة ثانية مؤلفة من عدد مماثل، وأوضح المصدر أن الشحنة الأولى وزعت ليل أمس الأحد على قواعد التحالف في ريف محافظة الحسكة.
وفي موضوع متصل، قال موقع “فرات بوست” إن قوات التحالف الدولي نقلت عدداً من جنودها برفقة آليات عسكرية تحمل مدافع ثقيلة من محيط الجبهات سابقاً بريف دير الزور الشرقي الى قاعدة حقل العمر النفطي.
الحياة