من ذاكرة صفحات سورية: تصوّرات عربيّة لاتفاقيّة سايكس-پيكو/ فواز طرابلسي
الوحدة المقدّسة ورُهاب التقسيم
شاءت صدفة تاريخيّة أن تتزامن ثلاثة أحداث: ذكرى مئويّة اتفاقيّة سايكس-پيكو (١٩١٦) وذكرى مئويّة إعلان بلفور (١٩١٧) مع احتلال تنظيم داعش مدينة الموصل وتدفّق مسلّحيه عبر الحدود العراقيّة – السوريّة لاحتلال مواقع عديدة داخل سورية. حينها، أعلن أبو بكر البغدادي أنّ تنظيم داعش قد كسر حدود اتفاقيّة سايكس-پيكو ووحّد العراق والشام، ما استوجب الانتقال من الدولة إلى الخلافة.
تضافرت المناسبات الثلاث على إطلاق فيضٍ من الكتابات الاسترجاعيّة عن اتفاقيّة سايكس-پيكو مترافقةً مع توقّعاتٍ حول مصيرها ومصير المنطقة. دارت التوقّعات الكارثيّة مدار الأفدح: عادت «لعنة سايكس-پيكو»، كما يسمّيها وليد جنبلاط. في الوقت ذاته كانت «اللعنةُ» تعلن نهاية سايكس-پيكو… اللعنة. واللعنة عليها، على كلّ حال، لأنّ خريطة سايكس-پيكو هي «الخريطة التي خرّبت الشرق الأوسط».
لم يخطر في بال كثيرين أنّه إذا كان الموضوع خرق حدود فالحدود السوريّة – العراقيّة مثقوبةٌ مثل مصفاةٍ منذ الغزو الأميركيّ للعراق، حتى لا نذهب أبعد من ذلك. ولا خطر في بال كثيرين أنّ دولة أبو بكر البغدادي قد لا تعمّر، وأنّ داعش قد يُهزم ويجري إخراجه من المدن التي احتلّها على الأقلّ. بل ذهب بعض المعلّقين البراغماتيّين الأميركيّين في تصديقهم أنّ دولةً جديدةً قد وُلدت، بعد نهاية سايكس-پيكو، بحيث يفيد البحث في التعامل معها. منذ زمن ليس بالقريب، انتقلت اتفاقيّة العام ١٩١٦ إلى مستوى الاستعارة بل الأسطورة ذات المفاعيل العجائبيّة المستمرّة منذ قرن ونيّف.
كان يكفي لخبر، لحادثة، لذكرى، لإطلاق الوساوس بخرائط و«مشاريع» وخوافات عن مشاريعَ حاملة التقسيم والتفتيت وعظائم الأمور.
في تزويج وثيقتين
«مات سايكس-پيكو! تعيش إسرائيل!» صاح روبرت فيسك على الطريقة المَلكيّة البريطانيّة «مات الملك! عاش الملك!». مات في سنيه المائة، ومعه التقسيم القديم للشرق الأوسط. والبقاء لإسرائيل. لكنّنا مدعوون لانتظار التقسيم الجديد. ولمّا كانت توقّعات الصحافيّين، والمحلّلين الستراتيجيّين، عادةً ما لا تكون مشمولةً بالمساءلة أو المحاسبة، فنحن لا نزال ننتظر.
هذا المشروع المندغم أو المزدوج هو الذي يسمّيه الصحافيّ طلال سلمان «سايكس-پيكو الإسرائيلي»! وقد زُوّجتْ اتفاقيّة سايكس-پيكو، بما هي وثيقة تقسيم، بإعلان بلفور، بما هو وثيقة النكبة الفلسطينيّة وقيام دولة إسرائيل. وتكاثرت الاحتفالات بهذا القران. فإعلان بلفور إمّا أنّه أتى «في مجرى سايكس-پيكو» وإمّا أنّه استكمالٌ لسايكس-بيكو بما هو عمليّة التقسيم، فيصير فصل فلسطين عن سورية الكبرى تقسيماً وقرار تقسيم فلسطين العام ١٩٤٧ بين دولتين عربيّة ويهوديّة تقسيماً، وتأسيس دولة إسرائيل الذروة في تلك العمليّة، على اعتبارها وليدة التقسيم وأهمّ ما في التقسيم الإسرائيليّ أنّه حامل مشروع تقسيم التقسيم، أي خلق كياناتٍ دينيّة مذهبيّة عرقيّة على «شاكلة إسرائيل ومثالها»، حسب التعبير الدارج، غرضها تبرير وجود الدولة اليهوديّة، وتخضع لها.
ثمّ إنّ الذكرى التاريخيّة كانت مناسبةً لإعادة التذكير بأنّ رسالةً على ورق من ٦٧ كلمة مرقّنة على آلةٍ كاتبة هي المسؤولة الأولى عن نكبة فلسطين. لم تكذّب تيريزا ماي خبراً. أحيت رئيسة وزراء بريطانيا ذكرى قيام دولة إسرائيل بإعلانها أنّ إسرائيل «بلدٌ وُلِد من رسالة». وردّاً على مطالبةٍ من أوساط فلسطينيّةٍ وعربيّة وبريطانيّة بأنْ تعتذر بريطانيا رسميّاً عن تلك الرسالة، أجابت ماي بأنّ بريطانيا تفتخر بإعلان بلفور وإن تكن تعتقد أن بريطانيا لم تبذل ما يكفي من المساعي لتحقيق «الحقوق الدينيّة والمدنيّة» للفلسطينيّين، واسمهم الرسمي في الرسالة «الجماعات غير اليهوديّة».
اللافت في طلب الاعتذار الرسميّ البريطانيّ أنّه يطالب بالاعتذار عن رسالةٍ صدرت العام ١٩١٧. لم يطلب اعتذاراً من بريطانيا، ولو من قبيل الدعاية، عن احتلالها لفلسطين في العام ذاته، ولا عن دورها في تشجيع الهجرة اليهوديّة ومنع إنشاء مؤسّساتٍ تمثيليةٍ للفلسطينيّين وقمع ثوراتهم الشعبيّة، ولا خطر بالبال مطالبتها بالاعتذار عن تشجيع وتدريب وتسليح المليشيات الصهيونيّة المسلّحة ضدّ الفلسطينيّين، واتّخاذها قرار تقسيم فلسطين العام ١٩٤٧، وتواطؤها على تنفيد المليشيات الصهيونيّة «خطّة داليت» التهجيريّة، ثمّ الانسحاب وتسليم أبرز المواقع العسكريّة لجيش «الهاغانا» والتنظيمات العسكريّة الصهيونيّة الأخرى. لا، في عصر بعد الحداثة، وبعد الكولونياليّة، كان المطلب هو صدور اعتذار رسميّ بريطانيّ عن رسالة جيمس بلفور إلى اللورد روثتشايلد! وهو من مثل مادّة تصريح تيريزا ماي: اذا كانتْ رسالة قد بنَتْ أمّةً ودولة، يكون الاعتذار عن الرسالة معادلاً لإزالة الأمّة ودولتها! أو، على الأقلّ، نزع الاعتراف بها!
بلغ الاحتفال بتزويج سايكس-پيكو من بلفور أنّه خُلّدَ في «كوبليه» من غناء مارسيل خليفة:
«قسّمونا بيكو وشريكو / وخَلَقو الدولة الصهيونيّة».
تقاسيم على التقسيم
ترافقتْ زحمة الاستدعاءات لسايكس-پيكو مع صعود نغمة جنائزيّةٍ تقول بـ«تقسيم المقسّم»، مدفوعة بالادّعاء ذاته أنّ المرء يكشف سرّاً ويفضح تواطؤاً. رئيس مجلس النّواب اللبنانيّ، نبيه برّي، في لقاءٍ مع علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى الإيرانيّ، يعلّق على احتلال داعش للموصل بالإقرار الذي يعتبره بديهيّاً بتحصيل الحاصل واستشراف نتيجته الحتميّة: «ها هو سايكس-پيكو ينتهي بين العراق وسورية والتركيز الآن على إنهائه بين سورية ولبنان وسورية وفلسطين». أي أنّ إلغاء داعش للحدود بين العراق وسورية بات أمراً واقعاً والآتي أعظم: جاء دور الحلقتين اللبنانيّة والسورّية. (الأخبار، تشرين الأوّل / ١٤ أكتوبر ٢٠١٤) وهو غريب حقّاً أنْ يتخوّف أحد أكبر أصدقاء النّظام السوريّ بين السياسيّين اللبنانيّين من إزالة الحدود بين لبنان وسورية وفلسطين على اعتبارها مؤامرة للمشروع الأميركيّ – الإسرائيليّ لتقسيم المقسّم في المنطقة.
وقد يصل التقسيم إلى طور التمزيق، خصوصاً عندما تكون جثّة اتفاقيّة سايكس-پيكو على الطاولة قرباناً لعقد مصالحةٍ حَرجة. في إحدى مبادرات المصالحة المبكرة بين حزب الله والعسكر المصريّين، مطلع الانتفاضات العربيّة (صحافة ٢ / ٩ / ٢٠١١) زار حسن عزّ الدين، مسؤول العلاقات العربيّة في الحزب، القاهرةَ والتقى شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، واتّفقا على أنّ دور إسرائيل هو «تمزيق الأمّة». وخلال زيارة الوفد اللبنانيّ لمصر، التي استغرقتْ عشرة أيّام، سمعتْ القيادات المصريّة حديثاً مطوّلاً عن «محاولات استغلال الثغرات القائمة [في الأوضاع العربيّة] من قبَل الخارج الذي يسعى اليوم إلى سايكس پيكو جديدة».
الوله بالخرائط والوهم الخرائطيّ
الخريطة أداة استعماريّة بامتياز. إنّها إعلان الاستيلاء على الأرض بتسويرها من مستعمِرٍ آخر يروم الاستيلاء عليها. ليست الخرائط بجديدة في أدوار الفصل والتمييز، لكنْ في عصر الاستعمار لا يمكن فصل الخريطة عن وظيفتها العسكريّة، أي عن الاحتلال والقسر واستخدام القوّة والعنف. وليس من قبيل الصدفة أنّ معظم الشخصيّات المخابراتيّة البريطانيّة خرائطيّون: لورنس، سايكس، غرترود بل، نيوكومب، إلخ.
يبدأ العجب عندما تعطى الخريطة والخرائطيّ المفاعيل الإعجازيّة. كأن تقرأ مثلاً أنّ غرترود بِل «رسمتْ خريطة الشرق الأوسط» (الأخبار، ٢٢ أيلول / سبتمبر) أو أنّ مارك سايكس هو «االرجل الذي خلق الشرق الأوسط» حسب عنوان آخر سيرته.
والولَه بالخرائط وثيق الصَلة بالتفسير الجغرافيَ للتَاريخ: الإيحاء باللازمنيَة والطبيعيَة، أو التّأكيد على الأقلّ أنّ الزّمن يكرّر نفسه ما دامت عناصر الطبيعة ثابتة راسخة. وغالباً ما ترتبط حدود الخريطة بعنصرٍ جغرافيّ: مجرى مياه أو سلسلة جبال أو صحراء، على افتراض أنّ الحاجز الجغرافيّ أو الطبيعيّ يحجز فعلاً. وتنْبني على الحواجز الجغرافيّة ألوانٌ مختلفة من الموانع والحواجز والأهمّ ما يتشكّل من أنواع التمييز الثقافيّ والعنصريّ والتّراتب الحضاريّ تختصّ به جماعات أو شعوب دون أخرى. في التصوّرات الخرائطيّة في المشرق، مثلاّ، شكّلت الصحراء حاجزاّ طبيعيّاً يصهر داخله القحطَ والانغلاق، في مقابل الحريّة والانفتاح والانطلاق المنسوبة إلى البحر، كما في الفكر اليمينيّ الاستعلائيّ اللبنانيّ (انظر: طرابلسي، ١٩٩٩). وفي تخصيص العناصر والتضاريس الجغرافيّة بصفاتٍ بشريّة، يُنسب إلى الجبل مثلاً الإباء والشجاعة والتسامي، إلخ. مع العلم أنّ الصحراء المعنيّة شبكة من طرق مواصلات سمّيت «بحر» عند العرب تخترمها شبكاتٌ من الطرق والمسالك والممرّات ربطتْ بين شعوبه ومناطقه ودوَله عبر التاريخ ونظّمت إيقاع حياتها.
تسرّبت الخرائطيّة إلى الفكر العربيّ، بما فيه القوميّ واليساريّ، مع خريطة سايكس-پيكو حتى باتت الخرائطيّة الجيوسياسيّة والجيواستراتيجيّة عِلماً بذاتهما. القسم الأكبر من الجيواستراتيجيا يكاد أن يختزل بتوقّعاتٍ حول الخرائط: نهاية خرائط، رسم خرائط جديدة، أو عودة خرائط قديمة. هناك دوماً مَن يريد رسم خرائط جديدة للمنطقة. يعد تخصيص فاعلين كولونياليّين من فترة التكوين، بات الرسّام مجهولاً لكنّه جبّار القدرة. ذلك أنّ البناء على مجهول جزءٌ من قوّة «المشروع» الذي لا يحتاج إلى أدلّة. زبدة الفكر الجيواستراتيجي العربيّ، الذي تقرأه في عجالات الصحافة اليوميّة أو على التلفزة فضلاً عن وسائل الاتصال الاجتماعيّة، هو التساؤل عمّا ستكونه معالم الخريطة الجديدة. لكنّك تعرف أنّ مهما تكن الحدود والتقسيمات، فإن «إعادة رسم الخريطة» له معنى واحد هو إعادة تجزئة الخريطة على أساس أصغر المكوّنات البشريّة: العشيرة والدّين والطائفة والإثنيّة، إلخ.
وإنّه لمعبّر فعلاً أن يكون لإعادة رسم الخريطة مدلولٌ أوحد هو التمثيل بجسم الأمّة. فقد سُمّيت الخريطة «الجسم الجغرافيّ للأمّة» (Kaufman, 2015) بحيث تبدو كلّ إعادة نظر بالخريطة على أنّها تمثيلٌ في جسم الأمّة. لن نفصّل في هذا الموضوع الآن فسوف يمرّ علينا لماماً خلال الصفحات التالية.
قداسة الوحدة ورُهاب التقسيم
تكاد اتفاقيّة سايكس-پيكو، وملحقها البلفوري، تتلخّص بجملةٍ ناقصة: تجزئة المنطقة. والتجزئة مساسٌ بالوحدة المقدّسة، هي وحدة الأمّة، بمحمولها الدينيّ والقوميّ، وقد تعرّضت للانتهاك. وانتهاك الوحدة هو المعادل للفتنة. وما أدراك ما الفتنة!
في أصل كلّ خريطةٍ فكرةُ الفصل والتمييز بالخطّ. الخطّ يضع حدّاً للفوضى: الله فصَل السماء عن الأرض. ومنذ الأشكال الأولى للحياة البشريّة والجماعات تعيش داخل حَومةٍ أو دِيرة مرسومة ومميّزة الحدود في وجه الخارج. «حيثما يوجد مقدّس، توجد حَومة وحيثما توجد حومة توجد حياة»، يقول ريجيس دوبريه في نصٍّ لامع عن الحدود (Debray ,2010 : 36) على أنّ الحومة سابقة على المقدّس بحيث يمكن عكس الصيغة والقول: حيث ترتسم حَومة أو دِيرة يبدأ المقدّس. وحيث يوجد مقدّس، ينشأ التّحليل والتّحريم.
المحمول الدينيّ والقوميّ جوهريٌّ في موضوع الوحدة والانقسام. عندما يُستنزل التوحيد على الأرض، يصير الشرك والكفر هما المعادل للقبول بالتعدّد، أي أنّه انتهاك للوحدانيّة. ومثله حال الوحدة القوميّة. فكلّ تعدّدٍ، كلّ معارضةٍ، كلّ تراتبٍ اجتماعيّ، كلّ صراع، بل تحزب، انتهاك للوحدة أي تجزئة للأمةّ. ومَن تحزّب خان، كما في كتاب القذّافي الأخضر. وما دمنا في النطاق القوميّ، حيث الالتحام العضويّ بين الوحدة والقوّة العسكريّة، تكتسب الخيانة بُعداً وطنيّاً يعاقب بأقسى العقوبات وصولاّ للقتل. وحتى لو كان الضّعف معنويّاً، يبقى عرضةً لعقوبةٍ جزاء إدخاله الوهنَ إلى معنويّات الأمّة. القسمة والتجزئة مبعثٌ للفتنة. والفتنة نائمةٌ في صلب كلّ وحدة. من هنا التحذير الدائم من إيقاظها. ومثلها، فالخطيئة والذنب والمعصية تسكن في صميم المؤمن.
لجأ الصحافيّ سعد محيو إلى المقدّس لدراسته الخرائطيّة. عاد إلى الأصل الفقهيّ والفلسفيّ للتّوحيد عند الصوفيّين وقولهم «الحقيقة الحقيقة تكمن في الكلّ والوحدة. لا في التجزّؤ أو الفرديّة» («خرائط سايكس-پيكو ٢»، مجلة الآداب، ٢٣ / ٦ / ٢٠١٦). المَشرق مُستهدف، يقول محيو، يكفي أنّه «الحديقة الخلفيّة» لدول النّفط. ولا حاجة للّجوء إلى فكرة المؤامرة، يمكن الاستعاضة عنها بـ«المشروع». أمام أزمةٍ نفطيّة خطيرة، وفي غياب «المشروع الحداثيّ إيّاه»، «لن يكون صعباً على المخطِّطين والأميركيّين، ومعهم بعض العرب، العملُ على إعادة رسم الخرائط الاقتصاديّة والجغرافيّة في الهلال الخصيب وأبرزها إقامة الكونفدراليّات الجغرافيّة في المشرق بمشاركة إسرائيل». هذا قبل أن يعيد هؤلاء تركيبها إلى مكوّناتها القبَليّة والعشائريّة والطائفيّة. وإعادة رسم الخرائط عند محيو هو إذاً المعادل لانتهاك الوحدة المقدّسة. والبلد الأكثر تهديداً هو العراق، والكلام من وحي احتلال داعش الموصلَ ونحو ثلث البلاد. وأدلّة محيو على ذلك الاستشهاد بعددٍ من الآراء والمقترحات لكتّاب وصحافيّين إسرائيليّين وأميركيّين. حتى أنّ محيو يكتشف أنّ الأردن قد يكون مكلّفاً، وفق ذاك المشروع التفتيتيّ، بإدارة العشائر العربيّة «بعد انهيار القوميّة العربيّة العلمانيّة». هكذا، ليكون الحديث عن التفتيت دقيقاَ.
و«المشروع» ليس بجديد. قام مع برنارد لويس وتواصَلَ مع هنتنغتن والمحافظين الجدد، كما يُعْلمنا محيو، والمخطّط سابقٌ على ١١ أيلول / سبتمبر ٢٠٠١ ويتلخّص في فرض الديمقراطيّة على العالم العربيّ. هنا تبدأ التّداعيات. أزمة نفطٍ تستدعي إعادة رسم خرائط المنطقة وإقامة كونفدراليّات، و«مشروع» إقامة الكونفدراليّات يذهب بك إلى «مشروع» فرض الديمقراطيّة بالقوّة من الخارج. على أنّ ثمّة ما يجمعها جميعاً: انتهاك الوحدة المقدّسة. فإعادة رسم الخرائط هو باتّجاه التقسيم طبعاً، والكونفدراليّة تقسيم، والديمقراطيّة تعدّد، أي أنّها تقسيمٌ ما دامت تُجزّئ الوحدة.
ولا حاجة في كلّ هذه اللوحة النبوئيّة إلى أدلّة: الأمر معروفٌ وبديهيّ يفسّر نفسه بنفسه: المشروع مشروع وهو أميركيّ بمشاركة إسرائيليّة – والمشاركة الإسرائيليّة بديهيّة، فهذه ابنة التقسيم وأمّه ومُرضعته. أمّا المستحدَث فهو فرض الديمقراطيّة وقد وفد مع «الربيع العربيّ» وإن تكن مآلاته ونتائجه مرصودة أصلاً.
ما الجواب على هذا المشروع النفطيّ – الكونفدراليّ – الديمقراطيّ – الأميركيّ – الإسرائيليّ – التفتيتيّ؟ الجواب هو «قوميّة عربيّة جديدة» هي «نقيض المفهوم القديم» (على اعتبار أنّ هذا معروف) قوامها الديمقراطيّة الكاملة (وفهمنا كفاية في تميّزها عن تلك التي يسعى «المشروع» إلى فرضها علينا). وهذه الديمقراطيّة تحلّ بديلاً من الدكتاتوريّة المطلقة، وتُحِلّ سيادة القانون بدل المافيات العصبيّة الطائفيّة والعشائرية، وتحقّق المساواة بين حقوق الفرد وحقوق الأمّة، والقبول بالتعدديّة الوطنيّة والاعتراف بسيادة الدولة القُطريّة، وابتكار «حلول حضاريّة» لمسألة الأقلّيّات، كلّ الأقليّات.
وعلى الرّغم من كلّ هذا التضخّم القوميّ المنتفخ، لا يرمي النصّ مسألة الاتّحاد العربيّ أو الوحدة العربيّة ولو بوردة … صوفيّة! المشروع هو الجواب النّاجع على … «المشروع». ونبقى ننتظر صاحب المشروع الجديد ليشرح لنا كيف يمكن قهر «مشروعٍ» قائم على الكونفدراليّة والديمقراطيّة بمشروع قوميٍّ عربيٍّ حداثيٍّ جديدٍ يقوم على الديمقراطيّة والاعتراف بالكيانات القطريّة (وليدة التجزئة المرذولة، راسمة الخرائط) بل كيف يمكن للمشروع الحداثيّ الديمقراطيّ ذي الحلول الحضاريّة لمسألة الأقليّات لسعد محيو ألّا يتضمّن أشكالاً وصيَغاً من الحكم الذاتيّ والكونفدراليّة أو الفدراليّة أو حتى الحقّ في تقرير المصير؟!
هنا نلتقي أوّل مواضيعنا: الوحدة بما هي مقدّس، مضادّة للتعدّد. في التعبير السياسيّ يولد التماهي بين الوحدة والمركزيّة، أي الدولة المركزيّة، ولا حاجة إلى التّداعي لنصل إلى التماهي بين الدولة المركزيّة والسلطة المركزيّة الاستبداديّة، على اعتبار أنّ الوحدة تعادل القوّة. وكلّ صيغة تنتقص من الوحدة المركزيّة – الاستبداديّة توهن عزيمة الأمّة، وتسير حكماً نحو التقسيم أي الضعف أمام العدوّ.
المؤامرة … المعلنة!
قبل أن نغادر مفردة «مؤامرة» لأنّ الحصفاء من دارسي المؤامرات يتنازلون على المصطلح من قبيل التذاكي وادعاء الموضوعيّة وقد بات تهمةً لدى الأكاديميّين الغربيّين، ما اقتضى التهيّب من استخدامه تفادياً لاستنزال تهمة اللاعلميّ وإن يكن بديله – «المشروع» – يحمل كلّ صفات المؤامرة إلّا الاسم. المؤامرة هي لقاء طرفين أو أكثر لتدبير أمرٍ ما ضدّ طرفٍ آخر على غير علمه. بغضّ النظر عمّا اذا كان التدبير موثّقاً أو غير موثّقٍ. ما أكثر المؤامرات في التاريخ وفي السياسة. وما أكثرها في تاريخنا. بهذا المعنى ثمّة ضرورة حاسمة للتمييز بين «نظريّة المؤامرة» والمؤامرة، بين القدرة على رصد وتقدير خطط واستراتيجيّات لاعبين أساسيين، في منطقة ما أو خصوم أو أعداء، وبين نظرة للحياة على أنّها محكومة بقوى غاشمة خفيّة، حيث لا شيء متروك للصدفة، ولا شيء يبدو كما هو، وثمّة وشائج خفيّة دائمة بين الأحداث والأشياء. والكلّ ضمن نظامٍ مغلق إيمانيّ يأبى الدليل والبرهان.
يبدو أنّ الهوَس بالمؤامرات والمشاريع يجعلها من نوعين: توجد مؤامرة سرّية، و مؤامرة معلنة، أي مؤامرة هي نقيض المؤامرة التي تحاك تعريفاً في السرّ. هذه الأخيرة لا تجري في الخفاء بل هي صريحة جهاراً نهاراً ومع ذلك فهي مؤامرة. أمّا لماذا تبقى مؤامرة فهذا ما يبلغنا به ساطع نور الدين، رئيس تحرير جريدة «المدن» الإلكترونيّة، إذ يتّهم الفدراليّة الكرديّة في سورية بأنّها «مؤامرة معلنة» («فدراليّة سوريّة: المؤامرة المعلنة»، المدن، ١١ / ٣ / ٢٠١٦) وهي مؤامرة تقسيم طبعاً، إلّا أنّ الكاتب يستدرك قائلاّ «لعلّ الفدراليّة مخرجٌ عفويٌّ وفوريّ من المذابح، لكنّها ليست حائلاً دون التقسيم الذي يهدف كما يبدو إلى تخفيف العبء عن الأميركيّين والروس». تلقى هذه الجملة الملغّزة تفسيرها ببساطة في اعتبار أنّ العلنيّّة إنّما هي دعوة للفدراليّة لا تلبث أن تسهم في التقسيم، وحتى لو أنّ الفدراليّة الكرديّة عفويّة ومحاولة للخروج من المذابح، تبقى مساهمة في التقسيم (أي الفتنة) على اعتبار أنّ كلّ ما هو غير حكم مركزيّ (وبالتالي استبداديّ بالضرورة) يعادل التقسيم والتقسيم يخدم الأميركيّين والروس على حدٍّ سواء (وهنا الإدغام). وهذا لونٌ آخر جديد من المؤامرات، معلن وليس مدبّراً ويمكن فهم اعتباراته، وإن يكن يخدم قوىً خارجيّة، ومع ذلك فهو مؤامرة.
ويستمرّ الحديث عن الاتفاقيّة بما هي اتّفاقيّة بعد أن تنكشف. إلى الآن لا يزال يجري الحديث غالباً عن سايكس-پيكو، بعد أكثر من قرن، على أنّها اتفاقيّة سرّيّة. سننظر في الفصول اللاحقة في أمر السرّيّة هذا: على من كانت الاتّفاقيّة سرّية وإلى متى ظلّت سرّية عموماً. وللمناسبة، يجوز التساؤل إزاء هذا الحديث الواثق، القطعيّ، عن النّصّ العتيد، وخريطته، عمّا إذا كان أصحابه قد تجشّموا ولو عناء قراءة الاتّفاقيّة أصلاً. أم تراهم يعتقدون أنّها لا تزال… سرّيّة؟!
كشف المؤامرة بما هو نبوءة
النائب اللبناني ريمون إدّه، من أوائل المبشّرين بتقسيم المنطقة والأحرى إعادة تقسيمها. مطلع الحرب الأهليّة، صرّح عميد «حزب الكتلة الوطنيّة» لأحد أنصاره هاتفيّاً من منفاهُ الباريسيّ «التقسيم سيتمّ وإنّ الجنوب سيكون من نصيب إسرائيل، فيما جبل لبنان للمسيحيّين والمناطق الأخرى للأطراف الأخرى». ويروي في حديث إلى وكالة الأنباء الفرنسيّة أنّه ذهب إلى الولايات المتّحدة ليتعرّف «على وجه الدقّة على ما يجري هناك» فتأكّدتْ مخاوفه عن وجود مشاريع تقسيميّة.
طريفٌ أن نستشهد بريمون إدّه وهو من حيث المبدأ من أشدّ السياسيّين اللبنانيّين تمسّكاً باتّفاقيّة سايكس-پيكو، على الأقلّ بجانبها الذي قضى بفصل لبنان عن سائر سورية. نسَبَ العميد إدّه مشروع التقسيم إلى إسرائيل ولكنّه لم يستثْنِ الأميركيّين، إذ اكتشف أنّ أوساطاً في نيويورك لها مصلحة في القضاء على المكانة الماليّة لبيروت، «لكي تمتصّ جزءاً كبيراً من الدولارات التي ستتدفّق على المنطقة في صورة عوائد للبترول». نحن في السبعينيّات والإشارة هي إلى الفَورة النفطيّة العالميّة. ويمضي تفصيلاً في مشروع تقسيم لبنان: «طرابلس وشمال لبنان سينضمّان إلى سورية ليشكّلا جزءاً من الدولة العلويّة المستقبليّة». أمّا ما تبقّى من لبنان فسوف يشطّر إلى شطرين يفصل بينهما طريق بيروت – دمشق، جنوباً، دولة للمسلمين والدروز بالإضافة إلى الفلسطينيّين. وشمالاً دولة المسيحيّين. وينقسم البقاع بدوره بين لبنان وسورية. وتكون بيروت العاصمة الاتحاديّة للبنان أو تصبح مدينةً حرّة. وأفاد إدّه بأنّ سورية ذاتها سوف تقسّم إلى ثلاث دول: علويّة وسنّيّة ودرزيّة. غنيّ عن لفت النظر إلى أنّ هذا التوقّع سوف يتكرّر إلى ما لا نهاية مع بدء الأزمة الدمويّة السوريّة وبكلّ النبرات الحاسمة اليقينيّة.
يختم إدّه بتكرار التعويذة إيّاها التي يقوم عليها النظام اللبنانيّ: التعايش الطائفيّ مفتاح ظهور المعجزة الاقتصاديّة، فيكرّر تصميمه على التعايش بين المسلمين والمسيحيّين «ومن أجل أن تعود إلى بيروت تلك المكانة الماليّة التي وصلتْ إليها والتي يهمّ كلّ الدول العربيّة أن تحافظ عليها. كلّ ذلك لاعتقادي بأنّ وجود لبنان مسيحيٍّ صغير غير قادر على البقاء» («إدّه باقٍ على تشاؤمه… وفي باريس: تقسيم لبنان مقدّمة لتقسيم سورية والعراق ودول أخرى»، السفير، ٢٨ كانون الأوّل / ديسمير ١٩٧٥).
توفّي العميد إدّه قبل أن تتحقّق نبوءاته. بعد أربعة عقود ونيّف عل نبوءته، كم يلزم من الوقت لنعلن أنّ العميد ريمون إدّه أخطأ في توقّعاته؟ وربّما لنتساءل لماذا لم تَصدق نبوءته؟
ملاحظة ليستْ على الهامش: كلّ نظريّة مؤامرة تنطلق من واقع أو لا بدّ من أن تنطوي على عنصرٍ حقيقيٍّ، حدث، تطوّر، رواية، إلخ. لمّح العميد إدّه إلى موضوع حقيقيٍّ في نظريّته عن المؤامرة: الفورة النفطيّة مطلع السبعينيّات. إذاً، مؤامرة التّقسيم غرَضُها منع لبنان من أن يفيد منها. هنا التقسيم وسيلة. الغريب هو التماثل في العلاقة بين نفط / تقسيم عند إدّه ونفط / كونفدراليّة، المعادلة للتقسيم، عند سعد محيو.
مخاتلات المشاريع
الفكر الكاشف للمؤامرات فكرٌ يتحايل على مكْر، إذ لا مؤامرة جيّدة من دون مكر، على قولة صادق العظم في نصٍّ حاذق عن الاستشراق والمؤامرة. كاشف المشاريع هو الرآئي في ما وراء الظاهر، يستشرف مسقبلاً قيد الإعداد، ينسُل القطبةَ المخفيّة في نسيجٍ مُحكم، إلخ. ويزداد المكر مراوغةً عندما يستبطن أكثر من طبقة من المكر. حتى إنّ كاشف المؤامرات، عفواً «المشاريع»، لا تنطبق عليه قولة «جلّ من لا يخطئ» لأنّه يخطئ دوماً.
معلّم الصحافة العربيّة الأستاذ محمّد حسنين هيكل صاحب باع طويل في كشف مخاتلة «المشاريع». في مقابلة مع الأهرام (٢٥ / ٥ / ٢٠١٥) يبلغك أنّ ما تظنّه «ربيعاً عربيّاً» – أي حركات شعبيّة شملت ستّة بلدان عربيّة نادتْ بالحرّيّة والعدالة الاجتماعيّة والكرامة الإنسانيّة – إن هو إلّا «سايكس-پيكو جديد» لتقسيم المنطقة وتقاسم مواردها والمواقع. وقد اكتشف هيكل لا مشروعاً واحداً بل ثلاثة مشاريع ونصف المشروع سلّمها «الربيعُ العربيّ» مفاتيح المنطقة. «نصف المشروع إسرائيليّ» وغرَضه إجهاض القضيّة الفلسطينيّة. على فداحة ما يستتبعه يبقى «نصف مشروع».
المشروع الأوّل المتكامل هو مشروعٌ غربيّ – أميركيّ – أوروبيٌّ يروم إغراق المنطقة في صراعٍ سنّيّ – شيعيّ. ويتجلّى في التشجيع الأوروبيّ – الأميركيّ لتنظيمات «الإخوان المسلمين» وإحياء اقتراحات برنارد لويس باستبدال الصراع في المنطقة من صراع عربيٍّ – إسرائيليٍّ إلى صراعٍ عربيٍّ – فارسيّ. وأوّل ما سوف يجري تقسيمه لا العراق بل نفط العراق، مع أنّ هيكل لا يفيدنا بين مَن ومّن سوف تكون القسمة.
والمشروع الثّاني مشروعٌ عثمانيُّ – تركيّ. يصف هيكل تدخّل تركيّا في سورية بأنّه «مخيف، يصعب تقدير عواقبه». لكنّه يلاحظ أنّ تركيّا التي كانت ضحيّة سايكس بيكو «هي الآن أمام إغراء أن تكون شريكاً في الإرث الجديد بعدما كانت ضحيّته في السابق. مع ذلك، يرى كبير صحافيّي مصر أنّ المشروع العثمانيّ عاجز عن وراثة المشروع القوميّ العربيّ ومَلء الفراغ.
أمّا ثالث المشاريع فمشروعٌ إيرانيٌّ لكنّه محدودٌ في إطاره «لأسبابٍ عديدة تضعها الجغرافية بالمسافات ويضعها التاريخ بالثقافات إلى جانب أنّ هذا المشروع تحت الحصار، وعليه فإنّ استراتيّجيته الآن هي الدّفاع».
يمكن التأمّل مليّاً في دقّة وصواب النّبؤات جميعها مع التوقّف والاستمتاع بنوعٍ خاصٍّ بالحصار المضروب على المشروع الإيرانيّ وطابَعه الدفاعيّ المتجسّد في الحشد الشعبيّ في العراق، المليشيات الشيعيّة في سورية، ونفوذ حزب الله المتعاظم في لبنان حتى لا نذهب بعيداً فنصل إلى حوثيّي اليمن.
هي صيحةُ جاء الديب! وهو يجيء ولا يجيء كأنّه في مسرحيّةٍ رحبانيّةٍ. وقد يكون الذئب مختبئاً في جرود عرسال. يكفي أن تكتشف جريدة الأخبار اللبنانيّة وجود قوّاتٍ بريطانيّة تعمل مع الجيش اللبنانيّ، وتدرّبه على تقنيّات الاستطلاع على الحدود الشرقيّة، في إطار مساهمة بريطانيا المجازة رسميّاً في «الحرب الكونيّة على الإرهاب» على جبهة الحدود اللبنانيّة – السوريّة، حتى تصيح الجريدة «سايكس حيّ فينا» (١٩ / ٩ / ٢٠١٧) وقد ألقت القبض على السياسيّ البريطانيّ، صاحب المشروع الاستعماريّ ذي القرن، متسلّلاً إلى الجيش اللبنانيّ في حربه الحدوديّة على جبهة النّصرة وتنظيم داعش، تلك المعركة التي لم يهدأ بعدُ الاحتفال بتمجيد انتصاراتها المدوّية في عمليّة «فجر الجرود» (لا القرود) المعزّزة بالانتصارات الإلهيّة لحزب الله.
من جهته، يعلن حبيب فيّاض أحد إعلاميّي حزب الله اللبنانيّ (السفير، ٢٣ / ٤ / ٢٠١٦) أنّ ما تشهده المنطقة هو استمرارٌ لسايكس-پيكو مع اختلافٍ في الآليّات وحفاظٍ على الأهداف والمكتسبات «ثمّة حروبٌ إقليميّة راهنة تشهدها المنطقة من خلال عناصر وأدوات محليّة، خدمة لمصالح المستعمِرين، وهم بمنأى عن الانخراط الفعليّ فيها».
كتفي فيّاض بالتّجزئة كمشروع مستمرّ، فالحروب الإقليميّة الراهنة «يُراد منها في نهاية المطاف إعادة تفتيت المنطقة من خلال العودة بها إلى أصغر مكوّناتها الدينيّة والمذهبيّة والإثنيّة والقوميّة، وتالياً إعادة تشكيلها بما يضمن الإبقاء على ما أنتجه سايكس-پيكو من مكاسب وامتيازات». لا يفيدنا الكاتب طبعاً ما طبيعة المكاسب والامتيازات، ولا يشرح لنا لماذا الحاجة إلى كلّ هذا التفتيت إذا كانت اتفاقيّة سايكس-پيكو تملك ذلك المقدار من المكاسب والامتيازات.
أمّا إضافة فيّاض المميّزة إلى خصائص «المشروع» فتكمن في ما تجوز تسميته «وسواس التدبير». وكلمة السرّ هنا أنّ الستراتيجيّات التي يكشفها فيّاض أعلاه «مدروسة ومبرمَجة سلفاً». على اعتبار أنّه يجب أن تُعاب شعوبٌ ودول وحكومات وقيادات إن هي خطّطت لما تهدف إليه وصمّمتْ واختارت وسائل تحقيقه وتزوّدت بها. بل إنّ ما يستوجب الإدانة هو أن تضع دولة أو قوة ما عدّة خطَط احتماليّة، حسب الأحوال والظروف، لهذا الهدف أو ذاك من أهدافها الوطنيّة والقوميّة. هل يريد حبيب فيّاض إقناعنا بأنّ العفويّة والفوضى والاعتباط والغموض والـ«تقريباً» والـ«إن شاء الله» هي هي الفضائل والحسنات في التدبير الاستراتيجيّ، حتى لا نقول هي طبائع العرب الأصيلة؟
غريبٌ أمرهم الجيواستراتيجيّون من أبناء جلدتنا. ننتظر منهم أن يكشفوا لنا استراتيجيّات الخصوم والأعداء، «المدروسة والمبرمجة سلفاً» وأن يعدّوا لنا «خططاً مدروسة ومبرمَجة سلفاً» لمواجهتها، فإذا جلّ ما في جعبتهم هو إقناعنا بأنّ الخصوم والأعداء… يخطّطون! وأنّ خططهم «مدروسة ومبرمجة سلفاً».
عنزة ولو طارت!
ماذا لو أنّ «المشروع» المستمرّ منذ قرن، اصطدم بحدثِ زمنيّ محدّد شكّل تقطّعاً في استمراريّته؟
بمناسبة أزمة الكيميائيّ السوريّ، أصدر المؤتمر القوميّ العربيّ بياناً استباقياً ضدّ «التسعير الخطير والمحموم نحو التحضير لشنّ العدوان على الجمهوريّة العربيّة السوريّة» من قبَل «القوى التي تمارس عدوانها على الأمّة منذ توقيع اتفاق سايكس-پيكو وإعلان وعد بلفور، في مسلسلِ مستمرِّ، حتى يومنا هذا». وقد هاجم البيان الجامعة العربيّة على موقفها «الخيانيّ بتقديم غطاء عربيّ مكشوف وغير مبرّر للعدوان على سورية» (٣١ آب / أغسطس ٢٠١٣). لا بد من أنّ القارئ قد لاحظ هذه اللازمة «الجدليّة» في عِلم «كَشْف الغطاء»: «الغطاء» دائماً «مكشوف».
لم يحصل عدوان على سورية. ولم يُصدر المؤتمر القوميّ العربيّ بياناً يفسّر للجمهور والأنصار لماذا أحجمت القوى ذاتها، التي تمارس عدوانها على الأمّة منذ قرن ونيّف، عن شنّ عدوانها على الجمهوريّة العربيّة السوريّة في صيف العام ٢٠١٣. معروف أنّ وقف العدوان ارتبط بقرارِ اتّخذه حاكم سورية بتصفية ترسانته من السلاح الكيميائيّ. ألم يكن يفترض بالمؤتمر القوميّ العربيّ، والحالة هذه، أن يهنّئ الأمّة العربيّة بالقرار الحكيم، والمناورة الذكيّة، التي لجأتْ إليها القيادة السوريّة، لإحباط العدوان المستمرّ منذ قرن ولو في هذه الحلقة من حلقاته؟ أم أنّ فكرة «القوى التي تمارس عدوانها على الأمّة منذ توقيع اتّفاق سايكس-پيكو وإعلان وعد بلفور، في مسلسل مستمرّ، حتى يومنا هذا» لا يأتيها الاستثناء من قبل أو من دبر، فالأحرى غضّ النظر عن الاستثناء؟ أم تراه المؤتمر القوميّ العربيّ قد عارض تقديم الرئيس الأسد مثْل هذا التنازل لقوى العدوان فآثروا كبت نقدهم والتذمّر، ما دام النظام يخوض مواجهته الضارية ضدّ «القوى التي تمارس عدوانها على الأمّة منذ توقيع اتّفاق سايكس-پيكو وإعلان وعد بلفور، في مسلسلٍ مستمرّ، حتى يومنا هذا»؟
حركة حماس أدخلت المستجدّات في الخرائطيّة هي أيضاً. أبلغتْنا أنّ التحالف الجديد بين الولايات المتّحدة وإسرائيل وداعش «يهدف إلى رسم خريطة جديدة للمنطقة في عمليّة إعادة تقسيم استناداً إلى الانقسامات الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة، كما يجري في العراق». وأضافت أنّ غرض هذا التقسيم توجيه ضربةٍ إلى محور المقاومة في المنطقة خدمةً لإسرائيل مستفيداً من ظاهرة داعش، وفق تقسيم عملٍ مكشوف (طبعاً) حيث «دور داعش يتمثل في إنهاء سايكس-پيكو، بينما يأتي الدور الأميركيّ هذه المرّة عبر خلق سايكس-پيكو جديد». (السفير، ٦ / ١٠ / ٢٠١٤). ما دامت الحركة تسلّم بأنّ داعش سوف يتولّى إنهاء سايكس-پيكو، يجوز السؤال: أليس حريّاً بالإسلاميّين والقوميّين واليسارو – قوميّين الترحيب بتلك المهمّة التاريخيّة مادام التقسيم «شرّاً مطلقاً». والترحيب الواجب خصوصاً من البعثيّين وهم عندما تسلّموا الحكم في سورية والعراق رفعوا اليافطات على الحدود تعلن «البعث ثورة على الحدود» دع عنك شعارهم «لا حدود ولا يهود». وبقيت الحدود وبقي الشعار على الحدود واليهود على الحدود.
في تلك الأثناء، كانت طائرات سلاح الجوّ الأميركيّ تطير ومعها طائرات الحلفاء الغربيّين، قبل أن تنضمّ إليها الطائرات الحربيّة الروسيّة، فتقذف حممها على مواقع داعش في العراق وسورية! ومع ذلك، التحالف راسخ كالطّود بين إسرائيل وأميركا وداعش!
وهي عنزة ولو طارت!
«خطوط الدم»: دراسة حالة
رالف بيترز لا يدّعي أنّه صديقٌ للعرب. لكنّه أدلى بدلوه في الحوار الدائر حول مستقبل المنطقة وإعادة رسم خرائطها حيث يشكّل مقالُه دراسةً حالةٍ تستحقّ أن تُدرس، خصوصاً أنّ عدداً لا بأس به من مؤرّخين ومحلّلين عربٍ تلقّفوه بما هو لُقيا تكشف لنا الخريطة المنتظرة.
نشر العقيد المتقاعد رالف بيترز مقالاً في عدد حزيران / يونيو ٢٠٠٦ من «مجلّة القوّات المسلّحة» الأميركيّة Armed Forces Journal يدين الحدود «العبثيّة والمشوّهة» في الشرق الأوسط التي فرضها «أوروبيّون أنانيّون»، يقصد البريطانيّين والفرنسيّين (كأنّما الولايات المتّحدة لم يكن لها علاقة بالامر في مؤتمر باريس ١٩١٩ وما تلاه من ترتيبات). وهو إذ يبرّئ الإسلام من أي مسؤوليّة عن تلك الحدود القاتلة وعن الدماء التي سفكتْها، بما فيها دماء الأميركيّين، ينسب سفك الدماء وفشل دول المنطقة، إلى تحريم المسّ بحدودٍ غير قابلة للمسّ. المقصود بالدماء دماء الأميركيّين خصوصاّ لأنّ المقال مكتوبٌ تحت وطأة عدوان ١١ أيلول / سبتمبر ٢٠٠١ على مركز التجارة العالميّ بنيويورك والاحتلال الأميركيّ للعراق.
يتناول بيترز المنطقة بما هي الشرق الأوسط الكبير الذي يشمل باكستان وأفغانستان، وله آراء في كيفيّة إعادة تركيب هذين البلدين ومعهما إيران أيضاً. أمّا بالنسبة إلى المنطقة العربيّة فهذا ما لديه:
السعوديّة: «دولة غير طبيعيّة» تستحقّ أن تتجزّأ ثلاثاً:
١ توسيع حدود الأردن على حسابها شمالاً
٢ استعادة اليمن لعسير ونجران وجيزان جنوباً
٣ تخليص المملكة من المناطق الشيعيّة الشرقيّة النفطيّة
٤ إنشاء نوعٍ من «فاتيكان مسلمة» في مكّة والمدينة يحكمها بالتناوب حكّام مسلمون من كافّة أنحاء الأرض. فلا يبقى لآل سعود إلّا منطقة الرّياض ونجد.
العراق: كان الأحرى تقسيمه عند احتلاله إلى ثلاثة كيانات. في كلّ الأحوال، يقترح بيترز فصل كردستان عن سائر العراق لإنشاء «كردستان الكبرى» مع أكراد إيران وتركيّا (وسورية)، ولإنشاء دولة شيعيّة في جنوب العراق متواصلة مع إيران ولكن بعد تخليصها من أجزاء تُضمّ إلى بالوشستان وخوزستان. وإلى هذه الدولة الشيعيّة النفطيّة الموسّعة التي باتتْ تشمل خوزستان العربيّة والنفطيّة، والمسيطرة على الساحل الشماليّ للخليج، يمكن ضمّ إمارة أبوظبي (النفطيّة).
في الغرب تُحرَم سورية من منفذِ إلى البحر بعد ضمّ ساحلها إلى الساحل اللبنانيّ من أجل استعادة ما يسمّيه «فينيقيا».
تصوّرت روبِن رايت، الصحافيّة والكاتبة الأميركيّة، سيناريو بعنوان «تخيّل خريطة جديدة للشرق الأوسط» (نيويورك تايمز، ٢٨ أيلول / سبتمير ٢٠١٣) تستلهم فيه «حدود الدّم» لبيترز فتطوّرها وتفصّل فيها من أجل «تحويل ٥ بلدان إلى ١٤ بلداً». بموجب هذا التوزيع الجديد، تستقلّ كردستان السوريّة، وينقسم باقي سورية بين الغرب الذي يشمل المدن الرئيسة واللاذقيّة وصولاً إلى جبل الدروز، فيما يندمج الشرق السوري السنّيّ مع الوسط السنّيّ العراقيّ لتكوين «سنّستان»، تاركاً الجنوب العراقيّ لتشكيل «شيعستان»، أمّا الجزيرة العربيّة فيجري تقسيمها إلى منطقة شماليّة، ومنطقة غربيّة تضمّ الحجاز، وأخرى جنوبيّة متاخمة لليمن، وتترك نجد للأسرة السعوديّة لتسمّى «وهّابستان»، بعد أنْ تفصل عنها المنطقة الشرقيّة. أمّا اليمن فيعاد تقسيمه بين شمال وجنوب، ويطاول التقسيم الذي تقترحه الصحافيّة الأميركيّة ليبيا إلى ثلاثة أجزاء هي بنغازي وطرابلس وفزّان. ولا يبقى خارج التقسيم إلا لبنان وإسرائيل والأردن.
خريطة بيترز الجديدة للمنطقة مزيجٌ من خريطة عقاب للعربيّة السعوديّة لدور رعاياها في الهجوم على مركز التجارة الدوليّ بنيويورك العام ٢٠٠١، ومن استعارةٍ لخريطة برنارد لويس الداعية إلى إعادة تكوين المنطقة لكي تتطابق فيها خرائط الدول مع التكوينات الإثنيّة والدينيّة والمذهبيّة. ومن أبرز معالم تلك الخريطة، متعدّدة الصيَغ، توسعة حدود إسرائيل لتضمّ سيناء، وتقسيم العراق إلى ثلاث دول – كرديّة وسنّية وشيعيّة – وفصل عربستان عن إيران وأجزاء أخرى من هذه الأخيرة لتكوين دولة بلوشستان.
عرض برنارد لويس خريطته المقترحة للمنطقة منذ ستينيّات القرن الماضي. لاحقاً، صار لويس مستشاراً لدى جورج بوش الأب والابن لشؤون العراق والمنطقة. نصح بالاحتلال الأميركيّ للعراق. وله ما له من اجتهادات في تفسير تصرّفات السلطة الإيرانيّة. إذاً كانت المسألةُ مسألةَ آراء واقتراحات و… مشاريع. والسؤال، لماذا لم يأخذ الرّؤساء الأميركيّون الأشدّ عدوانيّة في العقود الأخيرة بخريطة شيخ الاستشراقيّين النيو-تقسيميّة؟ هل من جواب آخر غير الافتراض بأنّ تلك المقترحات لم تنعقد عليها أغلبيّة وازنةٌ من مراكز القوى تعتبر أنّها تقع في خانة القاعدة الذهبيّة المسمّاة «مصلحة الولايات المتّحدة الأميركيّة». ولا يبدو أنّ أيّ إدارةٍ أميركيّة إلى الآن لا تخدم المصلحة الوطنيّة العليا الأميركيّة (ويبدو أنّ كلّ الإدارات الأميركيّة المتعاقبة حتى الآن لا تخدم إلّا المصلحة الوطنيّة العليا). ومهما يكن، لم تقسّم أميركا العراق بعد غزوتها الأولى أو الثانية، فخيّبت آمال الليبراليّين والممانعين معاً بالإضافة إلى أصحاب النظريّة التي تقول بالعلاقة الحتميّة بين التقسيم والسيطرة على النّفط.
المصلحة الوطنيّة العليا الأميركيّة، وحساب المصالح عموماً، كما تحدّدها الطبقة الحاكمة وإدارتها في حقبةٍ معيّنة من ولايتها، هو ما يجري إغفاله باستمرار في رصد «المشاريع» أو رسم الخرائط أو إعادة رسمها. هل كان الضابط المتقاعد يجهل أنّ العربيّة السعوديّة هي إحدى ركيزتين لأميركا في المنطقة (مع إسرائيل) بل هي الدجاجة التي تبيض ذهباً لاقتصاد بلاده، تبدأ بكونها أكبر زبون لمبيعات السلاح ولا تنتهي فوائد استتباعها مع الإيداعات والاستثمارات الترليونيّة في سندات الخزينة وفي فروع شتّى من الاقتصاد؟ أم أنّه، بدافع من غرور السيطرة العسكريّة (لأكبر قوّة عسكريّة في العالم – إلى الآن!) وشهوة اللعب بمصائر الشعوب، ولو بخطوطٍ مرسومة على ورق، ظنّ أنّه بتقطيعه أوصال العربيّة السعوديّة ينتقم لضحايا عدوان الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، فإذا هو، على الورق أيضاً، يقتل الدجاجة التي تبيض ذهباً لبلاده!
حظيتْ بعض مقترحات بيترز الخرائطيّة بتأييد ليبراليّين عرب، ذوي قراءاتٍ هويّاتيّة للمنطقة، اكتشفوا بعد العام ٢٠٠٣ أنّ العراق أكبر ممّا يجب، فوجَب تحجيمه. ولم يختلف معهم كثيراً أنصار التفسير المشاريعيّ الذين لخّصوا احتلال أميركا للعراق بهدفٍ أوحد: تقسيمه. وذلك في انعكاسٍ بات مألوفاً عندنا للقاعدة الاستعماريّة العتيقة منذ الإمبراطوريّة الرومانيّة: «قَسِّمْ لتُسيطر!» Divide and Rule التي انقلبت عندنا فصارت «سيطِرْ لتقسّم» وقد باتت السيطرة هي الوسيلة والتقسيم هو الهدف.
يزيد من العبقريّة الإستراتيجيّة في خريطة بيترز أنّه لا يكتفي بذبح الدجاجة التي تبيض ذهباً لأميركا بل يقدّم أيضاً هديّة تاريخيّة لا تقدّر لأبرز أعدائها وأعداء العربيّة السعودية – الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة. يهَبها بيترز شريطاً سكّانيّاً في جنوب العراق النفطيّ ذي الأكثريّة الشيعيّة، يتواصل مع إيران ومناطق النّفط فيها، بحيث تهيمن الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة الموسّعة على أكبر كتلةٍ شيعيّة عربيّة – إيرانيّة على الضفّة الشماليّة للخليج، معزّزة بالموارد النفطيّة والقوّة العسكريّة إلى الكثافة السكّانيّة، وتهيمن على الخليج وعلى جنوبه والعربيّة السعوديّة، خصوصاً بعدما قرّر الضابط بيترز ضمّ أبو ظبي النفطيّة إليها!
للتّذكير فقط: هذه هي المنطقة التي تهدَّدَها صدّام حسين عندما احتلّ الكويت، وهي المنطقة التي خاضت الولايات المتّحدة وحلفاؤها الغربيّون حرب الخليج الأولى لصدّ ذلك الخطر عنها.
أصدقاء ينتقدون…
يدور في هذا الصّدد حوارٌ متعاكس طريف مع الآخر الغربيّ. الليبراليّ صاحب عقدة النّقص من الكولونياليّة، يؤكّد لك أنّ الاتفاقيّة خربت بيتك. ولا تزال.
فإنّ كثرةً من المعلّقين على المناسبة، جهةَ الغرب، يمارسون النقد أو تحميل النّفس الذنب على نفس منوال سايكس-پيكو «الخريطة التي خرّبت الشرق الأوسط». مع أنّ البعض بات يشكّك في تلك المقولة.
ستيفن هايدمان، أكاديميٌّ أميركيّ شارك في مؤتمر «مئة عام على سايكس-پيكو: نظامٌ جديدٌ للشّرق الأوسط»، في «بيت المستقبل»، مصنع أفكار حزب الكتائب، لصاحبه أمين الجميّل. في مداخلته، عرض هايدمان جملة خرائط معدّة لتقسيم المنطقة (السفير، ٢٨ / ٥ / ٢٠١٦). المفارقة في أمر بعض الخبراء الأميركيّين في شؤون الشرق الأوسط، من أصدقاء العرب، أنّهم يعطوننا من كيسنا ما يعتقدون أنّنا نحبّ أنّ نسمع، بدل أن يزيدونا علماً عن الستراتيجيّات والسياسات الأميركيّة.
أمّا نقد اتفاقيّة سايكس فعادةً ما يتوزّع في اتّجاهين بحسب المرايا المتعاكسة بين الحداثويّة والبعد حداثويّة / والبعد استعماريّة. اتّجاه النّقد الأوّل هو لوم بريطانيا وفرنسا لأنّهما فرَضتا على المنطقة الأفكار والمصالح وأساليب الإدارة الأوروبيّة التي تفتقر إلى الرّسوخ المحلّيّ والشرعيّة المحلّيّة. وعادةً ما يعني ذلك أنّهما فرضتا عليها ترسيمة «الأمّة في دولة». ويلتحق بهذا النقد إهمال تلك الترسيمة لمسألة الأقليّات من وحي انتعاش المسألة الكرديّة في سورية بعد العام ٢٠١١.
أمّا الاتجاه الآخر فيوجّه النّقد للقوى الغربيّة لأنّها لم تترك وراءها «أمماً في دول» وإنّما تكتّلات قبائل وجماعات دينيّة ضُمّ بعضها إلى بعضٍ على يد الإدارة الفرنسيّة أو الوجود العسكريّ البريطانيّ.
سنقف في سياق هذا الكتاب أمام هذه المسألة بوجهَيها. تكفي الإشارة هنا إلى إغفال هذا الوجه وذاك لحقيقة أنّ بريطانيا أو فرنسا لم تعتبر نفسها معنيّةً بتقديم أفضل كيان ونظامٍ سياسيّ ليخدم «السكّان المحليّين» قدر ما كانت معنيّة بأفضل كيان ونظام يخدم مصالحها في السيطرة على البشر والاستيلاء على الموارد.
… ومحليّون يؤيّدون
في ردٍّ على تحميل الاتفاقيّة، ومعها «الغرب»، المسؤوليّة عن التخريب المستمرّ للمنطقة على مرّ قرن، تولّدتْ نزعةٌ تنقيحيّة تردّ على اتّهام الاتفاقيّة بالتقسيم بمديح حدودها التقسيميّة أو باعتبارها أهوَن الشرور.
يدعو الصحافيّ رستم محمود إلى التفكّر في سؤال: ماذا لو لم يتدخّل الغرب في المنطقة من خلال الاتفاقيّة؟ فيجيب «هل كان ليحدث غير حروب أهليّة مدمّرة، بين قوى اجتماعيّة قويّة ومحافِظة ومستقرّة موالية للإمبراطوريّة العثمانيّة وأخرى ثوريّة وقوميّة منتفضة عليها؟». في رؤية محمود الكارثيّة، يتحوّل الماضي، عشيّة الحرب العالميّة الأولى، إلى صورةٍ طبق الأصل عن الحاضر، حيث تسود المدنَ الكبرى الحروبُ الأهليّة ويدمّر القرويّون المدينيّين وينهبونهم، فلا يبقى غير دولتين متدخّلتين في المنطقة تركيّا وإيران. لكنّ محمود يستدرك بأنّ هذا التنبّؤ يثبت أنّه لو لم يقع سايكس-پيكو لما كان حصل غير ما هو حاصل الآن. والخلاصة «إنّ تحويل هذا الخارج إلى فاعلٍ مطلق ليس سوى أداةٍ لنفي المسؤوليّة عن الذّات، وقبل نفي المسؤوليّة نفي فظاعة االأفعال». ليس المهمّ الدخول في افتراض مساراتٍ بديلة عن التي يجزم بها محمود، ليس فقط لأنّ سؤال «ماذا لو؟» ينقل البحث إلى مستوى الضرب بالرمل، ولكن أيضاً لأنّ ما يورده من نقدٍ على أنّ موضوع تحميل المسؤوليّة للآخرين أو للذّات يسقط على الخلاصة من خارج السياق والمحاججة التي يقوم عليها المقال. («أحوالنا الراهنة كبديل من سايكس-پيكو» الحياة، ٣٠ / ٥ / ٢٠١٦).
في مجاراةٍ لمحاججة رستم محمود، لا يستغرب حسن الشامي تمسّك «العقلاء» بسايكس-پيكو قياساً إلى ما يجري من حروب راهنة. («سايكس-پيكو كخطيئة وخشبة خلاص»، الحياة، ٢٢ / ١٠ / ٢٠١٦) المحاججة التي تقول بدور الاتفاقيّة الخلاصيّ كمثل المحاججة التي تقول بدورها في تخريب المنطقة. لكنّ حسن الشامي، مثله مثل رستم محمود، لا يفيدنا كثيراً في جدوى تمسّك «العقلاء» بالاتفاقيّة طالما أنّها لم تمنع اندلاع «الحروب الراهنة».
الصحافيّ حازم الأمين هو أحد «العقلاء» المتمسّكين بسايكس-پيكو. فهو شيعيّ، كما يعرّف نفسه، وابن قرية جنوبيّة متاخمة للحدود الفلسطينيّة والسوريّة. ولولا الحدودُ التي رسمتْها الاتفاقيّة مع الجارَين الفلسطينيّ أو السوري، لكان حازم إمّا لاجئاً وإمّا من رعايا «دولة البعث الأبويّة»، أي لتحوّل إلى ابن أقليّة صغرى في البلدين الجارين. في حين أنّ الشيعة «أقليّة كبرى» في لبنان القائم على «ائتلاف الأقليّات». فلا عجب أن يتمسِّك الأمين، ابن الأقليّة الكبرى، بالكيان اللبنانيّ مع مواصلته السعي إلى تحسين شروط الشراكة الشيعيّة فيه، حسب تعبيره أيضاً وأيضاً (الحياة، ٧ / ١ / ٢٠١٦) للعلم، إنّ الأمين، في معظم كتاباته، ينعى على الشيعة، على الأقلّ بحدود ما هم ممثَّلون بواسطة حزب الله وحركة أمل، أنّهم لم يكتفوا بـ«تحسين شروط الشراكة» أكثر من اللزوم في «ائتلاف الأقليّات» بل توصّلوا أيضاً إلى السيطرة عليه سيطرةً محكمة!
كاتب واستاذ جامعي