الحرب الأهلية الدائمة وضعف النموذج الطائفي/ محمد سامي الكيال
شهدت السنوات الماضية انبعاثاً لنماذج التحليل الاجتماعي القائمة على التصنيف الطائفي، بعد أن كانت لعقود طويلة تنتمي للخطاب «العامي»، وليس العالم أو النخبوي. ففي حين لم ينكر الخطاب الأخير وجود المسألة الطائفية، إلا أنه كان يحيلها دوماً إلى ما يتجاوزها: وعي زائف، تجسيد مشوه للصراع الطبقي، سياسات الدولة الحديثة أو فشلها، أو تدخل خارجي ينتج النزاع والفتن. هذا الأسلوب في التفكير لم يعد مقبولاً لدى كثيرين، ما أدى لإعادة الاعتبار للطائفة، بوصفها مقولة تحليلية، تؤمن فهماً أكثر تطابقاً مع الواقع، وتتجاوز «الخطاب الخشبي» للفكر اليساري والقومي والوطني.
لكن ما الذي تعنيه «الطائفة» بالضبط؟ هل هي معطى تجريبي يمكن قياسه على أرض الواقع، عن طريق قيامنا مثلاً بمسوحات ديموغرافية وجغرافية لمجموعات سكانية متطابقة طائفياً، وتحمل خصائص سياسية واجتماعية وثقافية متشابهة؟ أم هي بناء خطابي تصوغه قوى سياسية معينة، وبالتالي تكون الطائفة منتجاً للعملية السياسية نفسها؟ أو أن الموضوع، بكل بساطة، هو نوع من الحميّة الدينية التي تحرك البشر وتثيرهم، وما على الباحثين إلا أخذها بعين الاعتبار، بعد أن تعودوا، بسبب التقاليد البحثية العلمانية، على تجاهلها؟
أين تقع الطائفة؟
من ناحية تجريبية بحتة سيوقع من يتبنون النموذج الطائفي أنفسهم في مشاكل معرفية كبيرة، لإن إحالة الصراع الاجتماعي، أو الجانب الأكبر منه، إلى التناقض الطائفي، سيُسقط من الحسبان كثيراً من الانقسامات وأشكال التكتل الاجتماعي الأخرى. منها مثلاً الانقسامات المناطقية والجهوية، التي تلعب دوراً كبيراً في الدول المشرقية، التي توسم بالطائفية عادة، مثل سوريا والعراق، أو الدول الأكثر تجانساً مثل ليبيا وتونس (تناقض ساحل/داخل مثلاً). فضلاً عن تناقضات مترسخة تاريخياً، مثل ريف/مدينة، بدو/حضر، عاصمة/أقاليم. هذه الانقسامات ليست تصنيفات فرعية ضمن الطائفة، بل كثيراً ما تتناقض معها وتفككها. كل النداءات التي استهدفت إثارة الحمية الطائفية، الصادرة عن المنتفضين في المناطق السورية الريفية السنية، لم تكن ذات تأثير بالغ على جانب كبير من الفئة الوسطى المدينية، السنية أيضاً، ولم تمنعها حيناً من تأييد النظام، والسكوت عن جرائمه أحياناً أخرى.
يعجز النموذج الطائفي أيضاً عن استيعاب شبكات المصالح والمحسوبية العابرة للطوائف، التي تؤدي إلى تضامن بين فئات ذات امتياز، يمكن اعتباره أكثر صلابة من أي ارتباط طائفي، ونراه بوضوح في علاقات رجال الأعمال والعسكر وكبار موظفي الدولة وزعماء العشائر. ما ينتج علاقات زبائنية قد تتخذ الشكل الطائفي في بعض الأحيان، إلا أنها غالباً ما تتجاوزه. يغيب الصراع الطبقي أيضاً عن المنظور الطائفي، ورغم أن التحليل الطبقي لم يعد يحظى بشعبية كبيرة، إلا أن إهماله سيمنعنا من فهم ظواهر مهمة في النزاع الاجتماعي، مثل الصراع الذي شهدته المناطق الصناعية في حلب، والنهب الانتقامي الذي تعرضت له المعامل هناك.
الأهم من هذا أن متبني النموذج الطائفي لا يجهدون أنفسهم عادة في دراسة الممارسات والطقوس، التي تؤدي إلى تعرّف أبناء الطائفة على هويتهم، والامتداد الجغرافي والاجتماعي لهذه الممارسات، رغم ضرورة ذلك لأي مقاربة أنثروبولوجية أو سيسيولوجية، أياً كان توجه الباحث، سواء كان تجريبياً أو بنائياً أو ماركسياً. دعك من دراسة المؤسسات الطائفية، إن وجدت، سواء كانت تقليدية أو حداثية، وانعكاس ذلك على القوانين والمجال العام، حتى مقولات بحثية تقليدية لتفسير الجماعات، مثل زواج الأقارب من الطائفة نفسها والمنطقة نفسها، لم تشهد أي تحديث استقصائي، كي نعرف إن كانت هذه الممارسة مازالت مستمرة ومؤثرة كما في الماضي، ودورها الفعلي في بناء الطائفة. على الصعيد السياسي والمؤسساتي، لا يمكننا اعتبار سوريا مثلاً دولة طائفية، على خلاف لبنان والعراق، لأنه لا يوجد ترسيخ مقنن للطائفية السياسية، تدعمه قوى سياسية واضحة المعالم، وإجراءات مؤسسية معترف بها.
توجيه هذه الانتقادات للنموذج الطائفي لا يعني إنكار الطائفية، فهي من عوامل الصراع الاجتماعي بالتأكيد، ولكن لا توجد معطيات تدفعنا لاعتبارها العامل الوحيد أو الأهم. يمكننا هنا أن نقترح، على عجالة، النموذج العصبوي- الزبائني بديلاً عن النموذج الطائفي، فهو أكثر مرونة في استيعاب الجماعات المتذررة وغير المتكونة سياسياً، أو أيديولوجياً، ويمكنه أن يلحظ مصالحها الصغيرة والمتضاربة، وعلاقات تقاسم وتوزيع المكاسب شبه المافيوية، وإقطاعيات أمراء الحرب واقتصادياتها. ويمكن لهذا النموذج أيضاً أن ينضوي ضمن مفهوم أكثر علمية عن التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية المتراكبة، للدول موضوع الدراسة. ما يسمح بدراسة أنماط الإنتاج وتوزيع الموارد، إلى جانب العصبة ورعاتها وثقافتها.
أيديولوجيا الطائفة
إذا تركنا المستوى التجريبي، فسنجد أن المقاربة البنائية تقدم تفسيراً للطائفية، على مستوى السياسة والحيز العام، يدّعي تجاوز الجوهرانية، وتلافي مشاكل الطرح التجريبي، فالطائفة ليست معطى موجوداً بشكل سابق عن السياسة والأيديولوجيا، ووجودها ليس محايداً أو طبيعياً، بل هي بناء خطابي يبتكره فاعلون سياسيون، بغرض تأسيس المجموعات والهويات وتسييسها، وفرض الهيمنة. هذا التأسيس، في الشرط الحداثي، يجب أن يجد لنفسه موطناً في مؤسسات حديثة، مثل الإعلام والمدارس والأحزاب السياسية والجمعيات الثقافية، المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بجهاز الدولة. فالدولة الحديثة ليست بالضرورة غير طائفية، وهذا خطأ شائع يقع فيه عادة أنصار التحديث. لهذه الدولة أشكال كثيرة مناقضة للشكل الجمهوري والليبرالي، مثل الدولة الفاشية والديكتاتورية والهوياتية «المتعددة ثقافيا»، ونموذج الدولة الضارية، وأيضاً الطائفية.
إلا أن الوظيفة الأيديولوجية، التي يمكن أن تكون الطائفية أحد منتجاتها، ليست حكراً على الدول والمجتمعات الحديثة، فلكل مجتمع مستواه الأيديولوجي البنيوي المرتبط ببقية مستوياته الاقتصادية والسياسية، وبالتالي فإن البناء الخطابي للطائفة، ليس مقتصراً على العصر الحديث. في الحضارات الإسلامية في العصر الوسيط، لعب التأسيس الفقهي للشريعة، في مسائل مثل تحديد مفهوم «أهل الذمة»، وتقنين إجراءات استخلاص الأتاوات الاقتصادية، مثل الخراج والجزية والعُشر، دوراً أساسياً في بناء مفهوم «الملّة» الإسلامي. واستطاعت الإجراءات العثمانية، في مطلع العصور الحديثة، تقنين النظام المللي (تنوع الملل، وأحوالها الشخصية والدينية، تحت سيطرة ملة الإسلام)، بشكل مازالت بعض انعكاساته قائمة حتى اليوم، فضلاً عن هذا لعب الصراع الإمبراطوري على النفوذ، وما رافقه من إجراءات الشحن المذهبي، وتأسيس العقائد الحربية الطائفية، فضلاً عن المجازر الجماعية والتطهير العرقي، دوراً مهماً في تأسيس خطابات متماسكة للملل والطوائف، وإضفاء مسحة قوية من إرث المظالم التاريخية عليها. قد يختلف التأسيس الحديث للطوائف عن نظيره في العصور الأقدم، من حيث الشكل والمضمون، ولكن في كلتا الحالتين نحن أمام وقائع «مبنية»، وليس معطيات حاضرة بشكل يسبق السياسة والأيديولوجيا.
إلا أن بعض أنصار المنظور البنائي يقعون في خطأ الاستهانة بما هو مبني اجتماعياً، والاعتقاد بسهولة تغييره. لا يوجد ما هو مبنى من عدم، أو تبعاً لإرادة حرة لفاعل سياسي ما. الأيديولوجيا والخطاب ليسا منفصلين عن تفاعل المستويات الاجتماعية المتعددة، سياساً واقتصادياً وثقافياً. ولا يعملان بدون وجود مادة خام فكرية، يمكن بالاعتماد عليها إعادة إنتاج المنظورات الهوياتية والثقافية.
في معنى «لا للطائفية»
وأخيراً يمكننا أن ننتقل من المستوى الوصفي والتحليلي للمستوى المعياري. فنلاحظ أن البناء الأيديولوجي للطائفة يقوم على أساس منظور عضوي غير تعاقدي للاجتماع الإنساني، فالطائفة هي انتماء بالولادة لا يمكن الخلاص منه (تماماً كالعرق والجنس)، وهذا يذكرنا بالمنظورات العضوية الرومانسية لبناء القومية، التي ساهمت في تأسيس الأيديولوجيات الشوفينية والنازية، فالأمة، حسب هذا المنظور، تسبق الدولة وسياساتها. وقد تأثر قوميو الماضي، مثل زكي الأرسوزي وميشيل عفلق، بهذه الأفكار، وبنوا القومية العربية على أساسها، فاعتبروا أن الدولة هي من أدوات تحقق الأمة، التي لا يرتبط وجودها، العابر للعصور التاريخية، بوجود الدولة. وأكدوا أن الجماعة عموماً قبل الفرد، فما بالك بوجود «رسالة خالدة»، مفروضة على الأفراد سلفاً بحكم انتمائهم للأمة. نجد شبيهاً لهذه المبادئ أيضاً في التنظيرات المعاصرة للأنظمة غير الليبرالية (بوتين وأوربان وأردوغان)، وفي النعوت التي يطلقها ناشطو سياسات الهوية على من يتصرفون، أو يعبّرون بشكل مخالف لما يفترض أن تمليه عليهم هويتهم، مثل «كاره لذاته». رغم أن هؤلاء الناشطين يُصنّفون بوصفهم «ليبراليين» عادة.
يمكننا رفض المنظورات العضوية، الطائفية والهوياتية والقومية، لأنها تحدّ من إمكانية الفرد في الاختيار والانشقاق والدفاع عن مصالحه الشخصية، وهي قيم ضرورية لأي تأسيس للحرية السياسية والحقوق الفردية. المنظورات الديمقراطية الليبرالية، القائمة على أسس تعاقدية، على المستوى الوطني والسياسي والنقابي، هي أفضل بناء اجتماعي نعرفه لتحقيق ازدهار الكائن الإنساني، وهو ازدهار يُقاس بشكل مادي، وبمعيارية «الحق الطبيعي»، أي بقاء واستمرار الجسد الإنساني، وهو مستوى سابق لأي بناء أو خطاب.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي