حديثُ الشفاه: لماذا نسمعـ”ـه” ولا نراه؟/ عمار المأمون
هناك حديث نبويّ ضعيف، لا يؤخذ به في التراث الإسلاميّ، نصّه: (إِذَا جَامَعَ أَحَدُكُمْ زَوْجَتَهُ أَوْ جَارِيَتَهُ فَلا يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْعَمَى)، لا يهمّنا من هذا الحديث صحّته ضمن التراث الديني، وثنائيّة التحريم والتحليل وعلوم الرجال والتجريح، بل ننظر له كمؤشّر ثقافيّ على اختفاء الفرج وتمثيلاته المرئيّة، بوصفه خطراً يُهدّد البصر، فحفرةُ الشهوة تهدّد العينَ، حفرةَ المعرفة والوعي.
لا نقصد الفَرْج هنا بمعنى الشقّ بين الفخذين كما في المعجم، ولا المهبل، الاسم الطبيّ الذي يصف القناة داخل الجسد، بل نتحدّث عن الـكسّ، الكلمة التي يقال إنها تركيّة أو فارسيّة تمّ تعريبها، ونقرؤها في الشعر العربيّ الذي يحضر ضمن الحكايات الشعبيّة والأخبار المتنوّعة، هذه الكلمة تعني الجزء الخارجيّ، المرئي، ذاك الذي تمتلئ الكتب بصفاته وأسمائه، كالزردان، والخرجام والنيزج.
“الكلمة” التي يقال إنها تركيّة أو فارسيّة تمّ تعريبها، ونقرؤها في الشعر العربيّ الذي يحضر ضمن الحكايات الشعبيّة والأخبار المتنوّعة، هذه الكلمة التي تعني الجزء الخارجيّ، المرئي، ذاك الذي تمتلئ الكتب بصفاته وأسمائه، كالزردان، والخرجام والنيزج.
تبنّت الحركات النسويّة علنيّة العضو الجنسي، لتحريره من سياقات الإهانة والسُباب المتداول في الحياة اليوميّة، ودعت للفخر بتكوينه وشكله الخارجيّ، والسعي لجعله مرئياًّ في تاريخ الفن، لا بوصفه سحرياً وقائماً على الإشارة والتلويح، بل واضحاً محدّقاً بالناظر، تتموّج شفاهه بأشكالها المختلفة
الظهور العلنيّ والواضح للـكسّ في الأشكال الفنيّة والثقافيّة شديد الندرة، حتى في تاريخ الفنّ الأوربيّ، هو مُخبّأ، مُغطّى، لا تتضح معالمه، ولا يمكن النظر إليه مباشرة، بعكس القضبان التي يُحتفى بها، وتتداول وتظهر علانيّة، والأهمّ، أن هناك بعض الأشكال التي نصفها بأنها “قضيبيّة”، لكن هل هناك أشكال “كسّـيّة”؟
إظهار الـكسّ خطير، ويخيف حتى الشيطان، كما في رسم لتشارلز إيرسن -1762-، المرافق لقصيدة لافونتين، شيطان جزيرة بوب فيغ، الذي يهرب فيها الشيطان حين يرى كسّ زوجة مزارع، ظاناً أنه جرح مشوّه، على النقيض، نقرأ في التراث الإسلاميّ في “الروض العاطر في نزهة الخاطر” المؤلَّف في القرن الخامس عشر ميلادي، أن رؤية الـكسّ في المنام فيها فَرَجٌ، وحلٌّ للمشكلات، ولا خوف أو رعب منها، والواضح أن المقاربة لغويّة لتفسير رؤية الـكسّ، بسبب التشابه بين كلمتي فَرْج وفَرَج، ذات الشيء نراه في تفسير ابن سيرين، العائد للقرن الثامن الميلادي، والذي لا يتحدّث عن خوف أو رعب لرؤية الـكسّ.
المثير للاهتمام، أن الـكسّ لا مرئيّ، لكنه مسموع، هو ذو صوت يتحدّث وينقل أخباراً، وهذا ما نراه في التقليد الذي عرفه تاريخ الأدب، حيث ينطق الـكسّ بوصفه صوتاً سريّاً وفضائحيّاً، يعلم ما لا يعلمه أحد، كما في رواية “الحليّ الخرقاء”-1784- لرائد التنوير دينيس ديدرو، التي يمتلك بطلها، السلطان التركي، خاتماً يمكّنه من الاستماع لـأكساس النساء من حوله، هذا الصوت مرتبط بالشفاه التي تكوّن الـكسّ وعلاقتها الرمزيّة مع الفم، كما في فيلم “الـكسّ الذي يتحدّث” -1975- الذي يخرج فيه الـكسّ إلى الفضاء العام، ويقوم بلقاءات صحفيّة للحديث عن مغامراته، ذات المقاربة نراها في مسرحية “مونولغات الـكسّ”- 1996، التي لا تتبنى الـكسّ كموضوع متخيّل وعجائبي تنطق شفاهه بما يثير الرجال، بل كمحرّك للكشف عن العنف والتمييز الذي تتعرّض له المرأة وعلاقتها مع ذاتها ومع العالم من حولها.
معضلة أصل العالم
لطالما كان القضيب الظاهر مرتبطاً بالإنتاج والنشاط والبطولة، هو مألوف الشكل ومتداوَل، وعلني في الأعمال الفنيّة “الراقيّة”، وصحيح أن التماثيل في الفاتيكان لا تحوي قضباناً، إذ تمّت تغطيتها أو كسرها، لكن غالبيّة قضبان التماثيل ما زالت موجودة في مختلف أنحاء العالم، منتصبة أو نائمة تتدلّى في المتاحف والشوارع، في حين أن الـكسّ وشفاهه محرّكات للجدل والرعب، وظهورها العلني بورنوغرافيّ وشبقي، كما أنه لا يتمّ تبنّيها كنموذج جمالي، فالـكسّ دوماً أسير الخفاء وأوراق الشجر وأيدي الربّات الخجولات، إلى أن ظهرت لوحة “أصل العالم” لغوستاف كوربيت عام 1886، التي أعادت النظر في أشكال تصوير الـأكساس المخبّأة، الحليقة، المُقلّمة.
المثير للاهتمام أن اللوحة التي يمتلكها الآن متحف أورسي في باريس، كانت ملك المُحلّل النفسي الشهير جاك لاكان وزوجته، والتي يُقال أنها كانت محرّكاً لبعض نظرياته حول التحديق، وكأن الـكسّ، غرض الرغبة، كان يحدّق بعين المحلّل النفسيّ، قبل أن ينتقل للمتحف، وهناك قامت فنانة الأداء ديبرا دي روبريتس عام 2014، بالجلوس أسفل اللوحة، وكشفت عن كسّـها لتظهر حُفرته/عينه، وكتبت” صحيح أن القدمين مفتوحتان-في اللوحة-، لكن الـكسّ ما زال مغلقاً، الرسام لا يكشف الحفرة، بمعنى آخر، العين، أنا لا أُظهر كسّي، لكني أكشف ما لا نراه في اللوحة، عين الـكسّ، الحفرة السوداء، العين المخبّأة، هذه الهوّة، الواقعة وراء اللحم، التي تحيل إلى اللانهاية، إلى أصل الأصل”
مازلت لوحة أصل العالم تثير الجدل حتى الآن، إذ يُعتبر تقليدُها واقعياً فعلاً مُشيناً، بل يمكن أن تتعرّض نسخها للرقابة والحذف، كما حصل مع الفرنسي فريدريك دوراند باسيس، الذي قاضى عام 2011 فيسبوك بعد أن أوقِف حسابه لأنه قام بمشاركة صورة اللوحة، وطالب في الدعوة بتعويض قدره 20 ألف يورو، وعام 2015 قام فيسبوك بتغيير سياساته حول العريّ، سامحاً بنشر الأعمال الفنية والأدائيّة التي توظّف الجسد العاري.
تبنّت الحركات النسويّة علنيّة الـكسّ، لتحريره من سياقات الإهانة والسُباب المتداول في الحياة اليوميّة، ودعت للفخر بتكوينه وشكله الخارجيّ، والسعي لجعله مرئياًّ في تاريخ الفن، لا بوصفه سحرياً وقائماً على الإشارة والتلويح، بل واضحاً محدّقاً بالناظر، تتموّج شفاهه بأشكالها المختلفة.
كما في عمل التجهيز الشهير “حفلة العشاء” 1974-1979 لجودي شيكاجو، التي نرى فيها ثلاث طاولات على شكل مثلث تحوي تسعاً وثلاثين طبقاً، عليها رسومات لـأكساس نساء شهيرات من التاريخ القديم والمعاصر، كعشتار وفيرجينيا وولف وإيميلي ديكنسون، وبالرغم من الانتقادات الكثيرة للعمل، إلا أنّ أشدّها، هو غياب الـأكساس السوداء، فهناك صحن لامرأة واحدة يحوي ثلاثة أوجه، لا شفاه فيها ولا شفرات.
هذا العجز عن تخيّل الـكسّ الأسود أو النظرة العجائبيّة له، يُحيلنا إلى تاريخ العبوديّة والاستعمار، وخصوصاً سارا بارتمان، التي تحوّلت شفاه كسّـها المتطاولة عن المعتاد إلى قرين عنصريّ عن الدونيّة والشهوة الجنسيّة اللامتناهيّة، فإلى جانب التوظيف الطبيّ لها، كانت أيضاً مَعْلَمَاً سياحياً، إذ كانت تُعرض في حديقة حيوان بشريّة في فرنسا، ويأتي الناس لمشاهدة تكوينها، والمثير للحنق، أن الصورة الاستعماريّة لبارتمان ذاتها ما زالت تستخدم حتى الآن في ويكيبيديا للإشارة إلى هذا الشكل التشريحيّ للـكسّ Elongated labia .
هل هو جميل؟
غياب تاريخ جماليّ للـكسّ، وهيمنة البورنوغرافيا الذكوريّة وصعود عمليات التجميل يتركنا أمام سؤال محيّر، ما هو الـكسّ الجميل؟
ما يثير الانتباه أن معايير عمليات التقليم التي تقلّل من طول الشفاه الداخليّة والخارجيّة للـكسّ، والتي تتطابق مع عمليات “التقليم” الرقميّة تهدف لإشباع المخيّلة الذكوريّة الشبقيّة، التي تسعى لجعل كل الـأكساس متشابهة، دون أي خصائص فرديّة، نظيفة، حليقة، بلاستيكيّة، قابلة للعلق والشرب والمجّ، فثقافة البورنو العلنيّة، وجماليات الشفاه وشعر العانة وتوزّعه، موضوعات تحضر في الثقافة الشعبيّة “الرسميّة”، كما في مسلسل bay watchو”الجنس والمدينة” وأغلب الصور المنتشرة حولنا التي تُظهر الحواف نظيفةً وخاليّةً من الشعر، في ترويج مباشر و غير مباشر للتخلّص من شعر العانة كليّاً، هذا التعميم لا يصلح في المنطقة العربيّة، إذ لا نعلم بدقّة أثر المنتجات الثقافيّة “الغربيّة” ولا حتى نسبة مشاهديها، لكن المعروف أن هناك أعراف سريّة، يجمّل الــكسّ إثرها، لأسباب تتعلّق بالنظافة أو ترغيب الزوج، وما نعلمه أن المنتجات المرتبطة بهذه الأعراف مرئيّة ومتداولة في الفضاء العام، كالإعلانات عن الشمع والشفرات الخاصّة بالمناطق الحسّاسة.
بالعودة للجماليّ، يتجاوز الموضوع شعر العانة، نحو تقليم الشفاه جراحياً، ليكون الـكسّ أشبه بشقّ في جسد لعبة، هذه العمليّة من الصعب الحكم عليها، كونها خياراً شخصيّاً، وفي ذات الوقت انصياعاً للتحديقة الذكوريّة التي تنشر أكساساً متخيّلة في كل مكان، وتهدّد مساحة غير مرئية من جسد المرأة، مساحة تُكشف في أوقات محدّدة، تُستخدم المرآة عادة للتحديق بها، فهناك دوماً وسيط بينها (الـكسّ) وبين العين، هذا الوسيط يُفعّل المخيّلة، ويُركّب شكلاً رمزيّاً يستمدّ خصائصه من خارج الانعكاس، فنقطة التحديق المثاليّة، لا تقع في المرآة بل ورائها، يكوّنها رمزياً تاريخٌ ذكوريّ من التقليم والإخفاء والتجميل، ما يجعل الانعكاس أشبه بصورة معطوبة، لابدّ من إصلاحها.
على النقيض، تتحرّك المشاريع الفنيّة بعكس هذه المعايير، إذ قامت المصوّرة الفوتوغرافيّة أركادي بروان في استمرار للتقليد الفنيّ النسويّ، بإنجاز مجموعة من الصور الفوتوغرافيّة للـأكساس في سبيل فتحها على العالم وجعلها مرئيّة، مهما كان شكلها، دون أي معايير مسبقة أو تقييمات جماليّة أو محاكمات أخلاقيّة، ذات الشيء نراه في “جدار الـأكساس العظيم” الذي أنجزه جيمي مكارثي، بصبِّ قوالب جصّيّة أنجزها بالتعاون مع 400 امرأة، لنرى أنفسنا أمام فسيفساء من الـأكساس المتنوّعة والمختلفة والتي تتجاوز الصورة التقليديّة المتشابهة التي نراها في البورنوغرافيا.
الفانتازم الذكوري والخجل النسويّ
الـأكساس النضرة، المفرطة في النصاعة، موجودة في المنتجات الثقافيّة حين تتناولها الحكايات الشعبيّة، والوصول إليها هاجس شبقي، نقرأ عنه في رواية مصطفى خليفة (رقصة القبور)، إذ نتتبع حياة مستشرق ألمانيّ قضى حياته في حلب في سوريا، باحثاً عن أكساس بنات آل الشيخ، تلك النظيفة جداً، الملساء جداً، لكن هذا السعي الذكوريّ العلنيّ وراء الصورة المتخيّلة، مترافق مع الموقف المعيب والمشين من لفظ كلمة كسّ علناً، حتى من قِبَل النساء، وهذا ما نتلمّسه في فيلم تحريك قصير بعنوان “شو بتسمّيه”، من إنتاج مشروع “استيقظت”، الذي لا نعرف فيه هويّة أحد، ولا الأسماء الكاملة للعاملين فيه، بل مجرّد أصوات، ترسّخ مفهوم الاختفاء والحفاظ على السريّة، بدون أي مبرّر، سوى ترديد الكلمات المواربة للفظة كسّ التي نسمعها لمرّة واحدة، لتتكرّر أمامنا التعابير التي بالأصل لا تثير تهديداً، سواء كانت نابعة عن خيار شخصيّ أو خوف مجتمعي، صحيح أن الفيلم يطرح تساؤلات عن علاقة المرأة مع كسّـها، وخوفها من نطق اسمه أو تسميته بصورة حميميّة، لكن لم لا نعلم شيء عن الفيلم سوى أنه يستند إلى مقابلات مع نساء سوريات؟ وكأننا أمام أصوات معلّقة في الهواء لا تنتمي للعالم ودون أي مواجهة معه.
رصيف 22