على طريق نقد «نقد الاستبداد»/ وسام سعادة
«الشرعية» هي الحالة التي ينبثق فيها النظام السياسي من سلام اجتماعي قائم ولو بالحد الأدنى. نظرياً، لا يمكن ان تختزل الشرعية في الأصناف المُدَستَرة منها. عملياً، مع انتشار الدساتير ودورها المركزي في صقل الحداثات السياسية عبر العالم في القرنين الماضيين، صار الحديث عن «شرعية» نائية بنفسها عن الدساتير أمراً نافراً ومستهجناً، لا سيما بعد أن خفت بريق «الشرعيات الثورية»، أو سعت الأخيرة لترجمة نفسها في قوالب دستورية.
والشرعية لأجل هذا تزيد أو تنقص، ضمن مسيرة كل نظام سياسي وبالمقابلة بين الأنظمة أو على مستوى البلدان مرحلة بمرحلة. مدى الموافقة على سمات نظام الحكم بشكل عام، وعلى سمات الحاكم بشكل محدد، يمثلان محكين أساسيين للشرعية من قبل المحكومين في بلد ما، من قبل نظام حكم بعينه.
وحتى اذا تضاءلت بمصادر شرعية نظام ما السبل، لا يجعل ذلك من النظام قائما على البطش والتنكيل وحديهما لا اكثر. ما دام النظام قادرا على تأمين بدائل تقوم مقام الشرعية، فالخوف من البدائل المطروحة بازائه اكثر من الخوف من استمراره هو، فانه قادر على تأمين «ما يقوم بدل الشرعية»، والذي يمثل على طريقته «شرعية من النوع السلبي».
هذا بالذات ما صعب، ويصعب، على «مجتمع الناشطين» ادراكه. لا هم لهم سوى اخبارك بأن هذه الانظمة كناية عن «قمع، بالقمع، للقمع» ليس الا. احساسهم ببرودة الآخرين حيال ما تكابده شعوبهم، يدفعهم للشكوى من عدم فهم خصوصيات الكفاح ضد الطغيان في حال مجتمعهم. احساسهم له مسوغاته، لكن في نطاق بعينه. والحال، السياق الخاص بكل مجتمع، بكل بلد، ينبغي ان يتم انصافه على الدوام، انما فقط من بعد الاقرار بأنه، لأجل فهم اي مجتمع بعينه، لا بد من الانطلاق من انه لا يمكن لنظام سياسي من الاستمرار دون اي قاعدة اجتماعية ينجح هذا النظام في انتزاع رضاها او تأمين جانبها بأي شكل كان، وينجح اكثر في جعلها تعترض بدائل مطروحة له او حالات تمرد او سخط عليه.
مشكلة «مجتمع الناشطين» هؤلاء تظل أقل استفحالا من مشكلة «مجتمع الباحثين» الذين اخذ كل رهط منهم يتفنن في تصوير أشباح الثورة المضادة التي انقضت على حركات الشعوب، من دون اي مسعى جدي لتلبيس هذه الأشباح في شرائح اجتماعية بعينها، واذا حصل، فالاكتفاء بتلبيسها لشرائح محدودة الوزن، شرائح من فوق، كما لو كانت هذه الانظمة لم تسند، في مواجهة حركات الانتفاض عليها، بشرائح من تحت.
والمدهش هنا، انه كلما جرت محاولة طرح السؤال عن هذا «التحت» الذي اسند الانظمة في مواجهة الثائرين عليها، والذي قابله تواطؤ من «فوق» مع هذه الانظمة في الوقت عينه، كلما جرت محاولة التفلت على هذا السؤال كما لو انه سؤال «لصالح» الأنظمة، يكسيها بدل ان يعريها. المشكلة تكمن هنا، في هذا الوهم، وهم «عري» الأنظمة.
يتقوى هذا الوهم بآخر، هو ذلك الذي يعصم مقاربة البنية الاجتماعية في البلدان العربية بأي سبر لمكامن التأخر المزمن فيها. بدل التأخر المزمن يراد فقط الانهماك باستعراض تناقضات ومفارقات لا وجه فيها لفداحة الاستغراق في الزمن. ما عاد يساريو وليبراليو وربيعيو العرب يجرؤون على مقاربة التأخر والتخلف في مجتمعاتهم، خشية ان يتهموا بعضهم بعضا بالثقافوية والانسلاب للمركزية الاوروبية والاستشراقوية.
في المقابل، لم يتوان البلاشفة عن وصف تأخر وتخلف المجتمع الفلاحي الروسي. لم يكتفوا باعتباره تخلفا اقتصاديا، بل «بربرية آسيوية»، ولم يتعاملوا مع هذه البربرية كنقاوة منجية من الرأسمالية، بخلاف ما ذهب اليه «النارودنيون» (الشعبيون الروس). طبعا، لم يهتم البلاشفة بارجاع هذه البربرية الآسيوية عند الموجيك الى تفسيرات تاريخانية محض او ثقافية محض او مناخية محض، لكنهم اخذوا بكل هذه العوامل ايضا. في المقابل، عندما صاغوا برنامجهم ابان ثورة 1905، تجاوزوا كل تشكيلات الحركة الثورية الروسية، في نشدانهم للتحالف العمالي الفلاحي، انما من دون اي استعداد لانكار عناصر التأخر الريفي، من دون الاكتفاء باعتبارها اسبابا عارضة تزول بزوال الاستبداد القيصري مثلا. يساريونا، ليبراليونا، اسلاميونا، ما عادوا يقبلون في المقابل بأي كلام عن التأخر والتخلف في مجتمعاتنا، الا التأخر في النهوض بالواجبات الدينية عند بعض الاسلاميين، والتأخر في الوعي الفردي عند بعض الليبراليين، او الطبقي عند بعض اليساريين. وحده ادونيس اقترب من مثل هذا، انما على ارضية جوهرانية كاملة، لا يعود فيها التخلف مرتبطا بتشكيلة اجتماعية اقتصادية تسنده، وانما يصير فكرة.
انكار عناصر التأخر المجتمعي، وانكار القاعدة الاجتماعية المسندة للانظمة، يتماثلان الى ابعد حد، ويفرزان وعيا شقيا مكابرا. في مقابل هذه المكابرة المزدوجة، ينفع السؤال المفتاحي للتراكتاتوس اللاهوتي السياسي عند سبينوزا كمحاولة اولى لاخذ مسافة. سؤاله، «لماذا يسعى البشر من اجل عبوديتهم كما لو كانت هي حريتهم؟». سؤال يخرجنا من الحلقة المفرغة (مشكلة انظمة ام مشكلة شعوب) لأنه يذكر بأن ثمة شرائح واسعة اما رغبت في دوام هذه الانظمة كما لو كانت تلاقي فيها حريتها، وحتى عندما خرجت على هذه الانظمة، عادت ورغبت في قوى تكافح من خلالها من اجل عبوديتها كما لو كانت هذه العبودية حرية.
وسؤال سبينوزا هنا يجوز طرحه على اطلاقه ايضا: هل يمكن لاي سعي من اجل الحرية الا يكون سعي من اجل عبودية ما؟ وهل يمكن لاي تبرير لعبودية ما من قبل فئات اجتماعية تتوسل هذا التبرير، من دون التعامل مع هكذا عبودية على انها شكل من الحرية، بالنسبة لهذه الجماعة او تلك.
سؤال يبقى بعد كل هذه القرون مخلخلا في كذا اتجاه. لكنه اكثر ما يقوض الاتجاهات التي تريد ادانة الاستبداد والطغيان صبحا ومساء دون اي استعداد لسبر القواعد الاجتماعية لهذا الاستبداد، ودون اي استعداد لسبر عناصر التأخر في البنية الاجتماعية. فقط الاكتفاء بالحديث عن كبوة هذه البنية او تبعيتها، كما لو انه ثمة كبوة وتبعية من دون تأخر.
كذلك، قيمة السؤال السبينوزي الاساسي في اعادة الفطن ببعد اساسي من تاريخ الفكر بديار الاسلام. اذ ليس صحيحا ان الاحتراس من بطش الحاكم هو الذي كان يقض مضاجع الفلاسفة والمتكلمين والمشتغلين بالعلوم وأرباب القلم، بل الاحتراس من العامة بالدرجة الاولى. الاحتراس من الحاكم فقط كان يأتي من زاوية انه يمكن ان يبطش بهم نزولا تحت ضغط العوام وعيّاري العوام، او استمالة للعامة، وبالعكس تماما، كلما كان الاستبداد الشرقي «في غنى عن مراضاة العامة» كلما كانت دولة هذا الاستبداد «ليبرالية»، اذا ما شئنا التلاعب الزماني بالمفاهيم.
لم تعد نفس التراتبية بين الخاصة والعامة قائمة اليوم. وما عاد جائزا الانعزال بالثقافة عن اكبر عدد ممكن من الناس. لكن، ما يكتسب راهنية، ولو بشروط مختلفة تماما اليوم، هو واجب الاحتراس. الاحتراس من «الفوق» و«التحت» معا عند طرق مسألة الاستبداد، والاحتراس من الرغبة بتفسير كل شيء بالاستبداد وحده، كما لو كان الاستبداد هو مصدر كل استعمار وامبريالية، او مصدر كل تأخر وتخلف، وكما لو كان الاستبداد على الصعيد الاثني والطبقي مقطوعا، في داخل مجتمعاته، من شجرة. وكل هذا، ببساطة، غير صحيح.
كاتب لبناني
القدس العربي