ذاكرة مؤرخ ويوميات جنود: الحرب العالمية الأولى بعيون عثمانية/ محمد تركي الربيعو
■ في 28 يونيو/حزيران 1915، كان العريف الإسكتلندي جون مكدونالد، ابن التسعة عشر عاماً، قد نزل على شاطىء غاليبولي لقتال العثمانيين، إلى جانب قوات الحلفاء. وخلال خمس دقائق، أُبيدت الكتيبة الثامنة عن بكرة أبيها. توفّي جون نتيجة الجراح التي أصيب بها في مستشفى ميداني، ودُفن في مقبرة لانكستر لاندنغ (في منطقة الإنزال). ستقرر عائلة هذا الشاب، بعد هذه الحادثة، مغادرة إسكتلندا والهجرة إلى الولايات المتحدة. ركب الوالدان مع اثنتين من اخوات جون سفينة متجهة إلى نيويورك. وبعد سنوات من قدومهم، ستتزوج إحدى أخواته لتنجب طفلاً وطفلة. لم يخطر في بالها آنذاك أن حفيدها، يوجين روغان، سيكون يوماً ما واحداً من أهم المؤرخين في تاريخ العثمانيين، الذين أردوا أخاها برصاصهم دفاعاً عن أراضيهم.
إذ سيكتشف يوجين، بعد سنوات من بحثه في تاريخ العرب ومدنهم في فترة العثمانيين وملاحقة يوميات أبناء شيوخهم ووجهائهم في مدرسة العشائر، أن أحد أجداده (جون) قد قُتِل في معركة غاليبولي. مما سيدفعه إلى أخذ قرار بزيارة هذا الجد في عام 2005، تخليداً لذكراه، بعد مرور تسعة عقود على معركة غاليبولي.
ربما الصدف لوحدها، مرة أخرى، ستنحو بهذا المؤرخ ومرافقيه (أمه وابنه) إلى التيهان بين مقابر المقاتلين، الذين شاركوا في هذا الحرب، ليجدوا أنفسهم أمام نصب آخر لا يعود لجدهم وإنما لشخص يدعى (نوري يامون)، مقاتل عثماني كان قد قُتِل في اليوم ذاته الذي قُتِل فيه جون مكدونالد.
وكما يذكر يوجين، فإن هذا الكشف عن قتلى الحرب الأتراك في المعركة، سيزيح الحجاب عن باصرته، فمع أن وحدة جده فقدت 1400 رجل، وخسر البريطانيون 3800 رجل، فإن خسائر العثمانيين في ذاك اليوم بلغت 14000 بين قتيل وجريح.
ستدفع به، هذه المعلومة والصدفة، إلى إعادة النظر في رواية الحرب العالمية الأولى؛ إذ أن العديد من الكتب التي صدرت بالإنكليزية غالباً ما ركّزت على تناول جبهات البريطانيين أو الحلفاء، في حين أُهمِلت معارك الجبهة العثمانية، انطلاقاً من أنها لم تكن سوى عرض جانبي لمسارح الحرب الرئيسية. ستحفّزه، هذه الرواية، إلى الاستعانة بأعمال ومنهج بعض المؤرخين الاجتماعيين، الذين حاولوا في السنوات الماضية الانفصال عن مقاربة التاريخ الرسمي المتجه من القمة إلى القاعدة، عبر سبر تجارب الجنود العاديين، من خلال قراءة المفكرات اليومية والرسائل التي تركوها في محفوظات الأرشيف البريطاني أو الأسترالي. ورغم وجود عشرات المذكرات اليومية الشخصية لجنود عثمانيين شاركوا في الحرب العالمية الأولى، لا ينفي يوجين بالمقابل صعوبة الوصول إليها أحياناً؛ صحيح أن أنقرة اليوم تمتلك أرشيف الدراسات التركية العسكرية والاستراتيجية، بالإضافة إلى مجموعة من المواد الأساسية المتعلقة بالحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط، بيد أن الوصول لهذا الارشيف يخضع، كما يذكر يوجين، لسيطرة صارمة، إذ يُطلب من الباحثين استصدار موافقة أمنية تحتاج إلى أشهر، وأحياناً تُرفض. رغم هذه الصعاب، سيتمكن من تأليف عمل غني وممتع على صعيد رواية فترة الحرب (مقارنة مثلاً بالعديد من الكتب التي صدرت في العامين الأخيرين، بمناسبة مئوية الحرب العالمية الأولى في عالمنا العربي، التي افتقرت للمقاربات الجديدة). إذ سيفسح يوجين المجال لأسلوب آخر في الكتابة التاريخية، أسلوب يعتمد، وبشكل كبير، على يوميات الجنود (عثمانيين، أو من دول الحلفاء) عن تلك الفترة، وما دوّنوه خلال المعارك، وكيف وصفوا وضع المشافي والأطباء، خلال المعارك، أو أحوال المدن والقرى التي مرّوا منها إلى الموت.
نابليون العثماني
في أحد أيام 1908، كان السلطان عبد الحميد قد قرّر إعادة العمل بالدستور، أوردت الصحف الخبر بدون عناوين رئيسية وبدون تعليق: «بأمر من صاحب الجلالة، انعقاد البرلمان وفق شروط الدستور». وربما كان ذلك تعبيراً عن العدد القليل من الناس الذين يهتمون بقراءة الصحف العثمانية الخاضعة لرقابة صارمة. في 24 يوليو/تموز، تجمّعت الحشود الشعبية في الساحات العامة في إسطنبول ومدن وبلدات الولايات في شتى أرجاء الإمبراطورية للاحتفال بعودة الحياة الدستورية، ركب الرائد أنور القطار إلى سالونيك، حيث استقبلته الجماهير المحتشدة بالهتاف والتهليل باعتباره «بطل الحرية»، بينما وقف على رصيف المحطة زميله الرائد أحمد جمال، المفتش العسكري للسكك الحديد العثمانية ومحمد طلعت، موظف البريد، سيُعرفان لاحقاً باسم طلعت باشا وجمال باشا. حيّا الرجلان أنور: «أنت الآن نابليون».
في الأسبوع الأول من أغسطس/آب 1914، انتشر خبر اندلاع الحرب في شتى أرجاء العالم بسرعة التلغراف، أثار المطبّلون الروح القتالية في المدن والأرياف المنتشرة.
كان العثمانيون قد قرروا الدخول إلى جانب ألمانيا، لكنهم واجهوا تحدياً كبيراً على جبهتهم الداخلية، ففي أعقاب الحروب في ليبيا والبلقان، أخذ الرجال في سن التجنيد بالفرار سراً إلى الخارج لتجنّب الالتحاق بالخدمة العسكرية. ازدادت الهجرة إلى الأمريكتين عام 1913 بنسبة 70٪ مقارنة بالسنوات السابقة. علّق مخاتير وزعماء الأحياء في البلدات ملصقات في الساحات العامة وعلى أبواب المساجد تعلن التعبئة العامة، وتدعو جميع الرجال المؤهلين إلى حمل السلاح. أُغلِقت المتاجر في حلب في 3 أغسطس رداً على إعلان التعبئة هذا، «سادت حالة من القلق الشديد في هذه المدينة» كما ذكر لاحقاً أحد سكانها، بينما «جاء فرمان التعبئة العامة مثل الصاعقة» في ميناء طرابزون على البحر الأسود، حسبما سجّل القنصل الأمريكي.
أما في إسطنبول عاصمة السلطنة، أُعلِن النفير العام في كل حي بواسطة الحراس. يذكر أحد ممن عاشوا تلك الفترة كيف سلّم الحارس أباه مذكرة التبليغ. خرج من المنزل مع أبيه ليسمع نداء الحارس ويشاهده وهو يقف إلى جانب عمود الإنارة في ركن الشارع «ويعلن أخباره الساحقة: على الرجال من مواليد عام 1880 و1885 الالتحاق بمراكز التجنيد في خلال أربع وعشرين ساعة. وكل من يتمنع يعرض نفسه للعقوبة». كانت النساء يذرفن الدموع بحرقة وهن يرددن أغنية «أيها المحاربون، سأبقى من جديد غريباً وحيداً.. تنهداتي ودموعي لا تحتملها الجبال والصخور». وعبر انتقالهم من بيت لبيت، تمكّن العثمانيون من زيادة عدد جيشهم العامل من 200 ألف إلى 500 ألف جندي، قبل اندلاع القتال. مع ذلك لم يكن هذا العدد كبيراً إذا ما قورن بجيش ألمانيا 13.2 مليون رجل، ما يعادل نسبة 85٪ من السكان الذكور أو فرنسا التي جندت 8.4 مليون رجل. كانت روسيا أول من هاجم العثمانيين بالقوات البرية. أرسلت كتيبة عبر حدود القوقاز إلى شرق الأناضول. في هذه الأثناء كان العريف علي رضا أتي، ممرضاً في وحدة عثمانية أُرسِلت لمواجهة هذه الكتيبة، حين استُدعي إلى الخدمة، كان متزوجاً في السابعة والعشرين وأباً لطفل. حفّزته دوافع كثيرة للبقاء على قيد الحياة. أُرسِلت وحدته إلى المعركة فجر السابع من نوفمبر/تشرين الثاني، حاول رضا في يومياته التعبير عن لحظات الصدام الأولى مع القوات الروسية: «كنت خائفاً جداً من الموت، فهو أول يوم لي في جحيم المعركة. مع كل جف (أزيز الرصاص) يقطر جسمي عرقاً. من قمة الرأس إلى أخمص القدم». زحف الجنود العثمانيون إلى الموقع، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحمّل القصف المكثف، استمر القتال إلى الليل. نصب أتي ورفاقه خيمتهم بـ«سقفها المائل المنخفض» وحاولوا النوم في البرد القارس «بقينا نرتجف حتى الصباح».
استؤنف القتال في وقت مبكر «بينما أكتب هذه السطور، انفجرت قذيفة شظايا على التل فوقي. تعثر على القتلى حولي مثل أغصان صفصافة حزينة». وبعد مقتل رفاقه، سيلتقط الممرض رضا بندقية ليتقدم على الخط الأمامي «صاح ضابط هيا يا رفاق، نحن لا نحارب من أجل هذا النقيب، بل في سبيل الله». وفي الساعة العاشرة، كان العدو يتراجع على الجبهات، «اترعت الفرحة صدور الجميع» كما سجّل رضا.
يذكر يوجين روغان أنه وفقاً للأرقام العثمانية بلغت خسائرهم قرابة 8000 بين قتيل وجريح، إضافة إلى 3070 أسيرا، وهروب نحو 2800 جندي. بينما خسر الروس في المعركة 1000 قتيل، و4000 جريح، إضافة إلى 1000 ماتوا جراء الأحوال السيئة.
أما بريطانيا فستشن، في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، الحرب على الدولة العثمانية عبر شط العرب؛ في مدة ساعة، قُتِل قائد الحصن وتخلّى الجنود العثمانيون عن مواقعهم وعن المدينة. يصف لنا وليام بيرد، جندي في الحملة الهندية عملية تفتيش نمطية (قرية قريبة من البصرة). اقتحم الجنود الإنكليز والهنود القرية عند الفجر، وكسروا أبواب البيوت التي لم تفتح بعد الطرق عليها، ثم أسروا جميع السكان الذكور «وقُبِض على أولئك الذين حاولوا الهرب وانتهى بهم المطاف على حبل المشنقة».
أمام هذه الخسارة، شعر العثمانيون أنه عليهم اللجوء للهجوم بدل الدفاع، كي لا ينظر لهم الآخرون على أنهم ضعفاء. قام أنور باشا وزير الحربية بدعوة زميله جمال باشا وزير البحرية إلى اجتماع سري خاص في بيته، طالباً منه شن «هجوم على قناة السويس لإبقاء الإنكليز مكبّلين في مصر ومنعهم من تجميع قوة لإنزالهم في الدردنيل»، بينما تولّى بنفسه، في الوقت ذاته، قيادة هجوم على روسيا.
ومع انطلاق هذه الحملة وجد الأرمن أنفسهم على خط الجبهة. سينقل لنا العريف علي رضا أرتي مشهد التوتر وتدهور العلاقات بين الأرمن والترك. فقد زعم في أن الأرمن فرّوا من قطعانهم في جماعات من أربعين أو خمسين فرداً، للانضمام إلى القوات الروسية. «من الواضح أنهم سيقدّمون معلومات عن مواقعنا للعدو»، زحفت وحدة رضا في نوفمبر/تشرين الثاني عبر عدد من القرى المهجورة التي نزح سكانها الأرمن إلى الجانب الروسي، وهرب سكانها أو قتلهم الغزاة. سجّل في يومياته بتاريخ 15 نوفمبر: «حيث وقف الأرمن في هذه المنطقة مع الجيش الروسي أظهروا وحشية فظيعة لهؤلاء الفلاحين المساكين». ومع انتشار أخبار انشقاق الأرمن، يذكر رضا باستخفاف كيف أدى «انطلاق الرصاص» من سلاح جندي تركي إلى قتل زميله الأرمني. ليكتب لاحقاً بفتور «دفنا الرجل» بدون أن يذكر أي شيء يتعلق بعقاب الجندي التركي. ورغم الانتصارات التي حقّقها العثمانيون في البداية لكنهم سرعان ما سينهزمون أمام الروس في سكاريكاميش. هنا أصبح العثمانيون شبه عاجزين عن الدفاع عن أراضيهم ضد أي هجوم روسي على شرق الأناضول.
هزيمة جمال باشا
بالتوازي مع هذه الهزيمة، كان جمال باشا يشنّ معركته على السويس، خطط في البداية لاحتلال مدينة الإسماعيلية، ظناً بذلك أنه سيحفّز المصريين على الثورة ضد القوات البريطانية. طلب من الجنود المشاركين التزام الصمت الكامل، بل الامتناع عن السعال. يذكر الجندي فهمي الترجمان أجواء هذه المعركة: «وصلنا الترعة في الليل، صمت شامل. حظر التدخين والكلام». خطة العثمانيين لن تصمد طويلاً، حيث ستقوم مجموعة من المتطوعين الطرابلسيين من ليبيا بإطلاق هتافات حماسية، أخذت الكلاب تنبح في البعد، فجأة كما يذكر الترجمان «طلع علينا يعني من فوق الألف رشاش.. صارت مية الترعة تبقبق كأنها مي وعم تغلي. يللي هنيك صاروا يقوصوا ما عدنا عرفنا شو صار فيهن ويللي بالبحر انبخشت الطنبازة (المركب) وغرقت ويللي سبح ورجع وياللي ما بيعرف يسبح اختنق».
مشاهدات جندي في وان
مثلت مدينة وان في فترة ما قبل الحرب مركزاً تجارياً رئيسياً مقسّماً بين أحياء الأرمن والمسلمين. ونظراً لموقعها، بدا من المحتّم أن تتحول إلى بؤرة اصطدام بين الدولة العثمانية والمواطنين الأرمن. كان رافاييل دي نوغاليس الفنزيولي جندياً مرتزقاً في الجيش العثماني بدافع الإحساس بالمغامرة لا الاقتناع والعقيدة.. ولأنه توّاق للقتال تطوع في جندرمة وان، القوات الوحيدة المنخرطة في الحرب الفعليّة على الجبهة الروسية. كان قد وصل في اليوم الذي انتفض فيه أرمن وان ضد الحكم العثماني.
مما يذكره هذا الجندي عن ذلك اليوم، أنه شاهد «جثثاً أرمنية مقطّعة الأوصال». في صباح اليوم التالي (وفقاً لما ينقله روغان) شهد دي نوغاليس مذبحة وحشيّة في الحي الأرمني من قرية إديلجيفاز على الشاطئ الشمالي من بحيرة وان. اقتحم المسؤولون العثمانيون بمساعدة الكرد «والرعاع من المناطق المجاورة» بيوت الأرمن ومتاجرهم، وقاموا بعملية نهب وقتل منهجية لجميع الرجال. شارك نوغاليس على مدى واحد وعشرين يوماً في الحملة العثمانية ضد أرمن بلدة وان، «نادراً ما شهدت حتى الآن قتالاً بضراوة ذلك الذي اندلع أثناء حصار وان»، كما قال متأملاً وفق ما ينقل عنه يوجين. «لم يقبل الطرفان كلاهما أسرى. ومع استمرار المعركة، شهد أعمالاً وحشية ارتكبها الأرمن والعثمانيون على حد سواء.
أيام الجراد
في هذه الأثناء كان العثمانيون يمرّون بظروف صحية ومناخية صعبة إلى جانب شعورهم الصعب بالهزيمة. ولكن كيف كانت عليه الأحوال في المدن العربية؟
من بين ما سجّله الجنود عن تلك الفترة، نعثر على يوميات الجندي إحسان الترجمان في فلسطين (مارس/آذار 1915) «الجراد يهاجم أرجاء البلاد كلها، حيث بدأ قبل سبعة أيام وغطّى السماء، اليوم احتاجت سحب الجراد إلى ساعتين للمرور فوق المدينة (القدس)». ودعا قائلاً :»اللهم نجّنا من ثلاث بلايا: الحرب والجراد والوباء، لأنها تنتشر في البلاد». وفي محاولة يائسة من السلطات العثمانية لوقف الغزو، أمرت جميع المواطنين الذين راوحت أعمارهم بين خمسة عشر وستين عاماً بجمع عشرين كيلو غراماً من بيض الجراد، وتسليمها كل أسبوع إلى مستودعات حكومية لإبادتها أو دفع غرامة باهظة. وبحلول ديسمبر/كانون الأول اختفى الطحين من أسواق القدس، ليتحوّل الجوع في عام 1916 إلى مجاعة حتى نهاية الحرب العظمى أو «زمن سفر برلك».
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي