فايز النوري: القاتل بالقانون/ حسام جزماتي
لم يستطع آلاف السجناء السياسيين الذين حاكمهم هذا القاضي المتجهم في محكمة أمن الدولة العليا تكوين انطباع كاف عنه. فقد كانوا يُعرَضون عليه لدقائق سريعة، جلسة واحدة على الأغلب، يعدّ وجود محام من الأحوال النادرة فيها. وتجري الأمور على نحو متكرر: يتلو النوري على المعتقل تهمته، ويقاطعه بفظاظة حين يشرع في الكلام، يعتمد الأقوال المرفقة في محضر التحقيق والمأخوذة تحت التعذيب، ثم يصدر حكمه الذي يكون في العادة صاعقاً بالقياس إلى ما فعله السجين الذي يعترض ويحاول التوضيح، فينهره القاضي الذي لا يعرف الرحمة مرة أخيرة، ويطرده بكلمة «انقلع» بلهجته الديرية.
لم يكن فائز محظوظاً بالولادة في تلك المدينة من شرق البلاد في أواسط الثلاثينات. ففي دير الزور، المسكونة بالأصول والسلالات والعشائر والأفخاذ، لم تكن لعائلته «العرب» أرومة واضحة، فكانت تنسب نفسها إلى عشيرة «العْبيد»، مثل الكثير من العائلات التي تقول إن أصلها يرجع إلى «حَويجة العْبيد» العراقية، التي كانت قضاء صغيراً وكان عدد من ينتسبون إليه كبيراً جداً. فكانت العائلات/ العشائر ذات الأصول الأشد رسوخاً في الدير تتناقل عبارة قالها أحد «الشيّاب» متعجباً: «شكون هالحويجة قلبت خليج المكسيك؟!».
في أسرته لم يكن فائز محظوظاً كذلك، فوالده نوري كان حلاقاً غير ذي شأن، أما والدته، لبيبة العلاوي، فكانت خياطة. وبعكس ما تقول الكتب المدرسية، لم يكن موقع المرأة العاملة في المجتمع شيئاً يبعث على الزهو حينها، خاصة إن كانت ذات أصل أوضح من أصل زوجها وشخصية أقوى، كما توحي نسبة الأولاد إلى أمهم «لبّوبة».
في مواجهة مدينة بمعايير قاسية كهذه سيلجأ فائز قاسم العرب، أكبر إخوته، إلى الدراسة ليقود قاطرة الأسرة إلى الصعود. وبعكس الصورة الخاطفة التي شكلها المعتقلون عنه، كقاض بليد بنظارات كبيرة قاتمة، يحكي من عاصروا نشأة فائز عن شاب موهوب لا زالت المقالات والأبحاث التي ترصد النهضة الثقافية في الدير تذكر اسمه كأحد مؤسسين ثانويين لنادي «الطليعة» للفنون الذي اهتم
بالمسرح والرسم والموسيقا في الخمسينات. ولا تزال المجموعة الضخمة التي خلّفها المصور جلال، المؤرخ الفوتوغرافي لدير الزور، تحتفظ بكثير من صور النوري وهو يؤدي دوراً في هذه المسرحية أو تلك.
«لقد ظل ممثلاً في الحقيقة»؛ يقول أحد من عرفوه متحدثاً عن قصة ترقيه التي بدأت عندما لفت نظر رفعت الأسد في إحدى زياراته للدير. كان أبو دريد نجماً في طور الصعود إلى جانب شقيقه القوي حافظ، وكان يجمع الرجال لصالح الأخوين قبل أن يفترق درباهما. استغل النوري، معلّم الرسم البعثي، فرصة اللقاء العارض، وبدهائه ومواهبه الكلامية حاز مكانة لدى رفعت الذي دعمه ليصبح أمين شعبة في الحزب، ثم أمين فرع الدير في النصف الأول من السبعينات، ثم ليستقدمه إلى العاصمة كعضو احتياط في القيادة القطرية.
كان نفوذ رفعت يتوسع في النظام على كل المستويات، وكان قد استلم رئاسة مكتبين في القيادة القطرية لم يكن يجد الوقت الكافي لتسيير شؤونهما، مع انشغاله بنزواته وبقيادة قواته العسكرية «سرايا الدفاع» التي لا مجال للتهاون في شؤونها، وكان في حاجة إلى موثوقين ليستلما هذين المكتبين، كنائبين له، بشكل يحافظ على سيطرته دون تحمّل الأعباء الإدارية المملة التي لا تروق لمزاجه الصاخب. وهكذا كان منصب نائب رئيس مكتب «التعليم العالي والبحث العلمي» من نصيب النوري الذي صار بذلك مشرفاً على كل جامعات البلاد.
كان الديري اليقظ قد حاز شهادة في الحقوق لتساعده في ترقي السلّم، دون أن يدري أنها ستحمله إلى مبنى صغير، ولكنه بالغ الخطورة، قرب ساحة السبع بحرات بدمشق. ففي عام 1979 تصاعد الصدام الدموي بين السلطة وبين الإسلاميين بشكل بدا أنه سيطول كل الأخيرين، وكان النظام في حاجة إلى شخص موثوق لتولي «محكمة أمن الدولة العليا» التي تشكّل واجهة قانونية شكلية لا غنى عنها للحكم على هؤلاء، وسواهم، بسنوات سجن طويلة، وصولاً إلى الإعدام في حق أحياء أو أشخاص قتلوا مسبقاً تحت التعذيب. وهكذا ظهر النوري، لأول مرة على الإعلام، رئيساً لهذه المحكمة في صيف ذلك العام.
يسخر محدّثي، الذي عرف النوري في تلك السنوات، من تكراري الفكرة الشائعة بأن هذا القاضي كان مجرّد منفذ لتعليمات أجهزة الأمن التي كانت ترسل إليه المعتقلين ومحاضر تحقيقاتهم والأحكام عليهم. ويقول: «فايز النوري يسمع للمخابرات؟! ليش ليسمع للمخابرات؟ كان أقوى من هيك بكتير. كان بيعرف النظام شو بدّه وبيتصرف ع هالأساس. كان جزء من النظام ومو بحاجة يسمع للأمن. الأمن كان يسمع لفايز النوري إذا راد»!
تدعم بعض روايات المحكومين هذا الرأي، حين تتحدث عن زيادة النوري الحكم الذي كان قد نطق به للتو بسبب غضبه من السجين «الثرثار» أو لسبب آخر. يروي أحد معتقلي حزب التحرير الإسلامي من دير الزور أنه عُرض، مع مجموعة من موقوفي الحزب، على النوري الذي لاحظ كنيته فناداه للمثول أمامه وسأله عن عنوانه ليتأكد أنه من الأسرة التي كانت جيرانهم في الدير، وأنه بالفعل ابن الشخص الذي يعرفه. وإثر ذلك قال له: «كان حكمك أربع سنين مثل رفقاتك، بس كرمال أبوك صار ستة»، وهو ما حدث!
لم ينسَ النوري دير الزور، إذاً، رغم زياراته النادرة لها، والتي يتذكر أهل المدينة منها اثنتين؛ الأولى أثناء «أحداث الثمانينات»، عندما أرسلته القيادة لضبط شؤون مدينته التي امتدت إليها المظاهرات ومعالم الاضطراب، فاجتمع مع الوجهاء والفاعلين في المركز الثقافي وعاملهم بعنجهية وتهديد، والثانية بعد سنوات، لحل صدام حاد نشأ بين رئيسين قويين لفرعي جهازي أمن مختلفين، فأوصى بنقل الاثنين، وهكذا كان.
سوى ذلك كانت دير الزور حديقة خلفية حلابة مواتية جداً لنفوذ أسرة النوري الذي رعى شؤون إخوته الذين سلكوا درب العصامية السنّية المتريّفة ذات الملمح البعثي منذ الستينات، بمتابعة الدراسة، وبشكل خاص في مجال الطب، فإن لم يكن ففي الهندسة، واستلام مناصب في القطاع العام تؤمّن السلطة وما ينتج عنها من ثروة سوداء، دون الغفلة عن إنشاء عمل خاص مربح. هكذا، مثلاً، سيصبح شقيقه، الدكتور غسان، مديراً للصحة في المحافظة، وشقيقه الآخر، الدكتور سهيل، رئيساً للرقابة الداخلية في مديرية الصحة نفسها، والشقيق الثالث، الدكتور عدنان، رئيس قسم في المشفى الوطني.
قصص فساد النوري في المحكمة قليلة، فهو هنا حارس «أمن الدولة» ويعرف الخط الأحمر الذي لا يصح أن يتجاوزه، لا سيما بعدما انتقل بيسر من الولاء لرفعت، الذي يمكن أن تنقضي المساءلة أمامه بمزاح على «سَكرة» وسط نساء جميلات، إلى سطوة حافظ الصارمة المباشرة بعد خلاف الأخوين. كانت للمنقلبين على القائد حظوة خاصة لدى الرئيس، مما زاد نفوذ النوري الذي استخدمه للاستثمار في مجال الخدمات النفطية بعد اكتشاف البترول في البلاد، وخاصة في محافظة دير الزور، مستفيداً من مصاهرة ثانوية ربطته بآل مهنا من الدريكيش، عندما تزوج ورفعت شقيقتين من هذه العائلة النافذة التي ستفتح له باب التعاون مع قريبها رجل الأعمال النفطية الشهير نزار الأسعد.
لن تؤثر زيجات النوري وعلاقاته النسائية على الاستمرار مع «أم الوِلاد»، فهذه عوارض تتعلق بالمتعة أو بتبادل الخدمات والهدايا. أما أسرته الصغيرة
فسيسير بها طريق الصعود نفسه، منذ ابنه الأكبر، الدكتور خالد، طبيب الأسنان وصاحب مستودع الأدوية، وحتى أشطرهم، الدكتور حافظ، المتعهد الذي استلم بناء كليات جامعة الفرات في المدينة والعقود الضخمة للمياه في المحافظة، مروراً بالدكتور نبيل والدكتور سامر.
وحدها الثورة ما سينغّص شيخوخة النوري المستمرة حتى الآن. فإثر اندلاعها ألغيت محكمة أمن الدولة وأحيل على التقاعد الفعلي بعد ثلاثين سنة من «القضاء». وبعد اشتعال دير الزور اضطر إخوته وبعض أبنائه الموجودين فيها إلى مغادرتها. بل إن ابنه الثالث، محمد، الذي ليس دكتوراً، سيُقتل في ريف دمشق أواخر 2012.
ورغم أن خالد صار أستاذاً في مشفى «المجتهد» ونقل مستودعه إلى دمشق التي فتح الدكتور الأصغر الأخير شادي صيدليته في أحد أفخم أحيائها، إلا أن الأمل الحقيقي ما زال في حافظ، الدكتور أبو يعرب الذي أسس فصيلاً مرتبطاً بالأمن العسكري ومنحه اسم شقيقه «الشهيد»، ليقدّم نفسه كأحد المساهمين في إعادة سيطرة النظام على دير الزور في خريف 2017، وهو الآن ينشط بقوة لينال حصته في وليمة إعادة الإعمار المغرية.
تلفزيون سوريا