عنفٌ لابدّ منه/ منصف الوهايبي
أكاد أقرّر متعجّلا غير متريّث، وقد صرت مثل غيري؛ منذ سنوات غير بعيدة “كائنا فيسبوكيّا”، أنّ نشأة مواقع التواصل الاجتماعي واختراع أنظمتها؛ ترجع إلى أسباب ودوافع سياسيّة. والسياسة في أشمل معانيها هي علاقة الفرد بالمجتمع من ناحية وعلاقته بالسلطة من ناحية أخرى. وقد يتساءل المرء: إذن ما علاقة الفيسبوك مثلا بالسّلطة؟ وما شأنه بقيام الدّول أو بسقوطها، أو بتماسك المجتمعات أو بانحلالها؟ أليس لمواقع التواصل هذه من نظامها الخاصّ ما يجعلها سلطة قائمة بذاتها، وينأى بها عن تقلّبات الدول وتحوّل المجتمعات؟ وهل نسرف حقّا في التقدير حينما نقصر نشأة هذه المواقع وذيوعها على السلطة حينا، بل على العنف حينا؛ بل عليهما معا؟
أقدّر أنّ ما يقال عن الوظيفة الأوّليّة التي قام عليها التّخاطب الكتابيّ هو عينه ودون شطط ما يقوم عليه التواصل الفيسبوكي، من حيث تسهيل استعباد الناس وتسخيرهم والتحكّم فيهم، ومراقبتهم؛ وليس أدلّ على ذلك من حجب مواقع بعينها وحظر حسابات بعينها كلّما لزم، بذرائع ومسوّغات أخلاقيّة في الظاهر، ولكنّها سياسيّة أو إيديولوجيّة في باطنها. وربّما اعترض قليل أو كثير منّا، وتمثّلوا بما يزخر به الفيسبوك مثلا من كتابات وصور وصفحات وفيديوهات ومواقع، لا تخفى غاياتها ومقاصدها النزيهة أو الموضوعيّة مثل إشباع حاجات ثقافيّة أو جماليّة. وهذا اعتراض له وجاهته، ويقتضي منّا تنسيب حكمنا حتى لا نحصر الدافع إلى اختراع هذه الأنظمة وذيوعها في مجرّد الحاجة إلى التحكّم في الناس ومغالاة الأنظمة في استخدام قوّتها. فربّما صحّ ذلك في بعض المجتمعات، ولم يصحّ في أخرى؛ وربّما كان استثناء لا قاعدة. بل إنّ هذا الاعتراض يسترعي انتباهنا إلى مسألة في تاريخ مواقع التواصل ونشأتها وذيوعها؛ وهو تاريخ مستجدّ، نصنعه ويصنعنا؛ فهي نتاج المدن الضخمة بما تنطوي عليه من أدوات إخضاع الناس لقوانين الحضارة وقواعد الاجتماع، وإرغامهم على الامتثال لأصول الحكم أي إدماجهم في الحياة الاجتماعيّة المدنيّة أو في نظام سياسيّ أو تقسيمهم إلى فئات وطبقات. ومن هذا الجانب يبدو أنّ الحاجة الماسّة إلى شدّ أواصر السلطة وتوطيد دعائمها، كانت من أهمّ مقتضيات هذه المواقع مثلما كانت ولا تزال من مقتضيات الكتابة بل إكراهات اللغة نفسها و”عنفها”. والعنف اليوم ماثل لا في هذه المواقع فحسب، وإنّما في التلفزيون والراديو والصحافة. وقد يقع في الظنّ أنّه جديد، وننسى أنّه يتحكّم في كلّ تاريخ البشرية؛ حتى وإن تعذّر اختزاله في تفسير دون آخر؛ وقد يكون مردّه إلى غريزة حفظ الذات أو الدوافع العرقيّة أو العنصريّة على نحو ما نلاحظ في موقف الإدارة الأمريكيّة العنيف من المهاجرين. ومن المضحكات المبكيات أنّ هذا البلد الذي يدين بنشأته إلى المهاجرين، هو الذي يواجههم اليوم بأعتى القوانين وأشرسها. قد يكون العنف مظهرا من مظاهر التوحّش فينا وصورة من غرائبيّتنا نحن البشر، أو هو تعبير عن السلطة عامّة، وغضب إله العهد القديم، والآلهة عامّة؛ على نحو ما نجد في صور الجحيم والقيامة في الكتب الدينيّة والأدبيّة مثل جحيم أبي العلاء وجحيم دانتي، أو تمثيل المسيح على الصليب، وما إليها. إنّ العنف ملازم على ما يبدو لكلّ عقد أو تعاقد اجتماعيّ، أو هو صفة كلّ محمول لا ينفكّ أبدا عن موضوعه؛ ولكنّه يتّخذ هيئات مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة. ومثل هذا العقد هو مجال العيش معا، بواسطة اللغة والمثل والقيم والأخيلة الجمعيّة.
وكلّ ما هو فريد خاصّ في هذه المواقع، يدرك في سياق ما هو مشترك أو جمعي، ويلحق به حتى وإن كان نادرا أو غريبا. والعقد أو التعاقد الاجتماعي ينطوي على إقرار صريح أو ضمنيّ بالتباين والاختلاف والتفاوت. والثقافة نفسها يصوغها ويصنعها ما هو متغاير أو غير متجانس أو متنافر من حيث الخواصّ والعناصر. وثمّة في كلّ مجتمع فروق تتعلّق بالأفراد، وقد تكون حقائق من منظور ما، وقد تكون عيوبا وأخطاء من منظور آخر. وثمّة أيضا في هذه المواقع، تعقّد الخطابات التي تحاول أن تحيط بما يشذّ عن المشترك؛ وقد تكون تواطئيّة أو عدوانيّة أو حميميّة أشبه بالإضاءة أو الموسيقى التي تساعد على التقارب. وربّما لا غرابة فأوّل عنف أو إكراه نواجهه منذ بواكير الطفولة، ونحن ندرج في عالم اللغة والناس؛ هو عبور الصراط اللغوي الممدود على متن جحيم الآخرين؛ أي كلماتهم وعباراتهم، أعني الأمّ والأب والأقارب عامّة وهم الذين يضفون معنى على أوّل نحيبنا أو أنيننا، ونحن كائنات خرساء تعوزنا الإيماءة والإشارة؛ ويؤمّنون لنا معنى الكلمة ويحفظون لها نوعا من الثبات الدلاليّ. وقلّما نتنبّه إلى أثر هذه الكلمات، الحاسم بل “العنيف” أو الشديد الفظّ؛ وهي تطرق أسماعنا، وتحمل صراخنا أو عويلنا على معان شتّى (جوع أو نزوة أو استشعار الحاجة إلى العناية والملاطفة) ونحن نعزو إلى الآخر عواطفنا ودوافعنا الخاصّة وهو يتكلّم بدلا عنّا، أو نعكس ألوان نشاطنا في شخصيّتنا ذاتها؛ وما إلى ذلك من إجراء انتقائيّ قد يجرّد الكلمة من خصائصها الفذّة ومزاياها الفريدة، ويحصر معناها ويقيدّه في حدود العرف الشّائع.
إنّ الشيء يظهر على هذه الصورة أو تلك بالنسبة إلى من يدركه ويعلن عنه أو يتمثّله. وفي هذا المستوى فإن الكلمة وصورتها المفهوميّة تتشابهان، فهما تتمثّلان حلول الإنسان في الكون وتكّونان نظام استدلاله وسط ما يحيط به. لكن هذا التشابه لا يحجب عن الفرق بينهما، وهو فرق يكمن في طبيعة العلاقة الناشبة بينهما من ناحية، وبين الذوات والأشياء من أخرى. وتصوّر الأشياء أو قولها إنّما يبدأ على أساس من تقسيم العالم إلى مجموعتين متعارضتين: مجموعة الأشياء ومجموعة الذوات. وإذا كانت الأولى من الوضوح بمكان لأنّها تنضوي إلى عالم المحسوسات الماثلة للعيان، فإنّ الثانية ملتبسة أو هي غير واضحة الوضوح كلّه. إنّ الكلمة صورة تنطوي على صورة، سواء انبنت العلامة بين الكلمة والصوت على قانون المشابهة والمطابقة والرّمزية أو على ترابط المجاورة والاستبدال الكنائيّ. والكلمة في هذه الحال أو في تلك طقس سحريّ أو “سحر تعاطفيّ” سواء اتّخذ هيئة “التعاطف المثلي” القائم على المشابهة أو هيئة “السحر التجاوري” القائم على المجاورة. أمّا في مواقع التواصل فتحضر الكلمة من حيث هي صورة خطّية وعلامة بيانيّة، حضورا مضاعفا أي في ذاتها وفي تمثّلها، وتجمع بذلك بين وظيفتين: فنيّة وتوصيليّة. بل هي تصهرهما في وظيفة واحدة، إذ هي تنزع الأشياء من أقنومها وتفتح أغلاقها، لتعيد إنتاجها أو لتخلقها خلقا ثانيا. ولعلّ الفرق بين الكلمة والصورة كلّما تعلّق الأمر بهذا الواقع الافتراضي “المؤنسن” فرق بين الكلمة والشيء، مثلما هو فرق بين الشيء وصورته المفهوميّة. فالكلمة في “خارجانيّة” الأشياء، منفصمة عن المحسوسات، دونما أيّ إمكان لرأب الصدع. هي أشبه بطاق زخرفيّ أو نافذة عمياء، تغشي على الشيء وتطمس، فلا هي تخرقه ولا هي تجوز منه ولا هي تخلص عنه. على أنّها في الفيسبوك مثلا تقحمنا في نوع من “الإحيائيّة” المستجدّة أساسها رسم الصوت ورسم الشيء معا.
هل هي طريقة السلطة بما يلائم فروضها ويساوق رؤاها؛ في تسخير الناس، حتى وإن توهّموا أنّهم أحرار في هذه المواقع؟ هل هذا ما ييسّر النفاذ إلى دخائلهم وسرائرهم، فاستغلالهم قبل محوهم وتجريدهم من قيمتهم الفرديّة؟ وربّما على هذه الخطّة سارت وذاعت هذه المواقع ولا تزال. لهذه المواقع نظامها الخاصّ من حيث الكتابة والصورة والإخراج، وكلّ ما يكسبها قدرة على التمييز والتخصيص والتجريد، ونقل العلوم والفنون وتناقلها، وتسجيل الواقع وتقييده؛ على أنّه لا يمكن أن يحميها من الانغماس في فوضى العالم أو وينأى بها عن اضطراباته وعنفه.
والمسألة المطروحة اليوم في هذه المواقع، وقد اشتدّ التهافت عليها، وذاع التعلّق بها، وبخاصّة في بعض مجتمعاتنا التي تضرب فيها الفوضى، ولا تجري الحياة رضيّة مذلّلة؛ قد تكون في الجانب اللافت منها إعادة تعريف الذات تعريفا جديدا من شأنه أن يشرخ “الفردانيّة المركزيّة” بإدماج الآخر في “الأنا” حيث معنى السلطة التي تنعت بـ”الرّمزيّة” امتلاك أو تملّك، موصول بأحكام و تراتيب وتدابير لا نتفطّن إليها ونحن مستغرقون في عوالمنا الافتراضيّة، وما ينسجه السراب الفيسبوكي وأوهامه الخادعة؛ وهو ما هو في تمثّل السلطة تمثّلا بديهيّا أو طبيعيّا.
أهو فعل إبعاد، والإبعاد هو دائما غير المدرك وغير الحاضر وغير الواعي أم هو عنف لابدّ منه؟ وعلينا أن نتعايش معه، أم هو حضور لا علاقة له بحضور الأشياء إلاّ من حيث هي ظواهر؟
* كاتب تونسي
القدس العربي