ثنائيات حمص الخانِقة/ منى رافع
نحن الآن في الجزيرة الأولى في حي الوعر، حيث البيوت معروفة بفخامتها. يسأل صاحب المكتب العقاري مالك البيت عن سبب إصراره على بيع منزله، مضيفاً أنه سيخسر في هذا البيع كثيراً. يلتفت صاحب البيت، وهو ضابط متقاعد، ويقول له: «عمي إنتو على عينّا وراسنا، بس تعا نحكي بصراحة، نحن ما عاد يمشي الحال نعيش جنب بعض».
دار ذاك الحديث منذ نحو سنة، حين كانت مدينة حمص «المنتصرة على الإرهابيين» لا تزال تنفض عنها غبار الدمار وقَيحَ الجروح العميقة. ولا يمكن القول إن الأمور اختلفت جذرياً الآن، أو أنها ستختلف عما قريب، طالما أن الجروح بين الطرفين لم تبرأ بعد، وطالما أن الخوف القديم لا يزال قائماً، وطالما أن العفن الذي يتجاوز عمر الثورة بسنوات قد بقي على حاله من دون مداواته وإزاله مسبباته، فأحداث الثمانينات وما تلاها ما تزال حاضرة في الأذهان، رغم اختلاف الأحداث وسياقها.
للأسف، قد يجد القارئ ارتباكاً عند استخدام الثنائيتين: «مُوالٍ-معارض» أو «سني-علوي» أثناء تدرّج هذا النص، لأنه ليس كل سنيّ معارض للنظام، كما يعلم الجميع، وليس كل علوي موالياً له، وإن كان هذا الاحتمال مرجحاً غالباً. ويعلّمنا الماضي والحاضر في كل يوم معنى أن يؤخذ البعض بجرائر البعض الآخر. ويعرف من يسكن مدينة مثل حمص جيداً أنه لا يمكن إصدار حكم صادق بناء على مظهر الشخص الخارجي، أو انتمائه الديني أو الطائفي. ومنعاً للالتباس بين المنبت الاجتماعي والموقف السياسي في هاتين الثنائيتين، ولأن المعاني والمقاصد ستتداخل حتماً، فإنني سأحاول جهدي استخدام ثنائية «سني-علوي» في موضعها الصحيح، أي عند الدلالة على المنبت الاجتماعي، وثنائية «موال-معارض» في موضعها الصحيح، أي عند الدلالة على الموقف السياسي.
وليس مما يُبهج القلب الخوض في موضوع شائك كهذا، إذ تختلط علينا المواقف وتتشابك، بل إن اللغة ذاتها تكاد تخذلنا عند استخدام مفردات بعينها دون غيرها؛ مفردات تحمل معاني عابرة للمعنى الدقيق المقصود بها. فالحساسية القديمة الجديدة ليست بهذا الوضوح المتخيل، وليست بهذا الفصل المفترض الصارم. بل على العكس، إذ إن هناك وجهاً آخر للأمور، حيث لا شيء أبيض أو أسود، ولا أحد ملاك أو شيطان.
ويخلق الواقع الفعلي للمدينة اختلاطاً غريباً من نوعه بين أناس عاشوا شهوراً طويلة من الاحتقان والخوف المتبادل، الذي وصل مداه بالقتل والخطف اللذين لم يهدأا إلا بعدما قام النظام بإخراج الثوار والمعارضين وتدمير أحيائهم وتهجير كثير من أهل المدينة. القلّة القليلة الباقية في المدينة من «المعارضين»، أو ربما «السنة»، هم ممن لم يمسّهم الضرر، أو ممن آثروا البقاء رغم الضرر، أو من كبار السنّ الذين سفّروا أولادهم الذكور وظلّوا وحيدين، أو من القلّة العائدين، أو من النازحين من المدن والأرياف. ويقطن معهم في المدينة علويون، جلّهم من كبار السن والنساء والأطفال والشباب الصغار في سن الدراسة، ومعهم أيضاً آخرون من طوائف أخرى. وكلّ أولئك فهموا الدرس تماماً، وباتوا يعلمون أن الكذبة التي يتفوّه بها أزلام النظام وقنواته عن عودة حمص إلى سابق عهدها من الأمن والسلام تكاد تبدو حقيقة، وهي على جميع الأحوال ستكون أفضل من المواجهات والنزاعات الدموية التي لا رابح ولا خاسر فيها. فأيام الخوف من دخول الأحياء التي تتبع لهذا الطرف أو ذاك قد ولّت، وأيام الخطف المتبادل والقتل على الهوية قد ولّت، ولا أحد، أي أحد، يود عودتها تحت أي ظرف، وأولهم الطرف المنتصر، لأن ذلك سيكون دليل عجزه وقصوره وفشله عن تحقيق الأمان الذي يتبجّح به، والذي يسعى وراءه – ومعه كلّ ساكني المدينة الذين يتحملون قسوة العيش فيها وحزنه.
وحتى إن وقعت إحدى حوادث الاختطاف على ندرتها، فإن السلطات تسارع فوراً إلى حلّها، والتكتّم عليها، ثم إعطاء تبريرات أبعد ما تكون عن تلك التي كانت تسوقها أيام الثورة. فالفتاة التي اختُطفت مؤخراً «كانت على علاقة مع عسكري» وهربت معه، كما ذكرت بعض صفحات فيسبوك الموالية للنظام، وكما قال العسكري للأم التي جاءتهم تبكي وتطالبهم بالبحث عن ابنتها؛ بينما الجانب الآخر من القصة يقول إن مجموعة من الشبيحة أُعجبوا بها واختطفوها، ليتدخل فوراً ذوو الشأن من معارف الفتاة المخطوفة، ويتواسطوا عند ذوي الشأن من معارف الأشخاص الخاطفين، لتخرج الفتاة بعد يومين في صورة حزينة على وسائل التواصل الاجتماعي مع شخص من «الحكومة»، دلالةً على العثور السريع عليها وهي سالمة وبأفضل حال، وعلى سيطرة «الحكومة» على هذه المواضيع فائقة الحساسية التي أصبحت نادرة لحسن الحظ.
*****
نحن الآن في جامع في أرقى حي في مدينة حمص. بعض الفتيات متجمعات في قاعة الجامع حول عدد قليل من الآنسات، يتلون آيات حفظنَها من القرآن الكريم. إحدى الفتيات سعيدة جداً لأنها قرأت للآنسة جزءاً كاملاً من القرآن عن ظهر قلب، وفتاة أخرى أكثر سعادة لأنها حفظت سورة البقرة بكاملها. أوقات النساء مفتوحة في عدة جوامع لتحفيظ القرآن في الصباح والعصر، وكل ذلك تحت أنظار «الحكومة» ومباركتها، وإن كانت جميعها تجري على نطاق ضيق يبلغ أوجَهُ في رمضان.
تنطلق إحدى الفتيات من الجامع، لترى أمامها جحافل من الشبّان والفتيات، تبدو عليهم مظاهر الحداثة المتمثلة في طريقة اللباس والجلوس والمشي والأغاني الصاخبة والأراكيل – التي أصبحت معياراً للتحرر والتفريغ عن الضيق. يبدو المظهر غريباً ومفاجئاً في بداية الأمر، لا سيما مع وجود أناس متنوعين في هذه المقاهي، ومع تراجع عدد الفتيات المحجبات إلى حدّ ما، إضافة إلى تراجع كثير من مظاهر التدين. وكل ذلك يبدو تصريحاً صامتاً يقول إننا لسنا «إرهابيين» أو «إخونجيين»؛ ومع كل هذا يصبح التمييز بين الحاضرين صعباً بل غير هام أيضاً. تنظر فتاة الجامع إلى ما تراه بكل اعتيادية، ثم تعود إلى بيتها.
ويرى بعض أهل المدينة أن هذا التطور ومظاهر التحرر المصاحبة له أمور طبيعية، وأنه كان موجوداً من قبل وسيبقى وسيزداد، لا سيما أننا في ظروف استثنائية، ذلك إضافة للانفتاح العالمي الحاصل. وإذا كان هذا لا يعطي أبداً صورة كاملة عن المشهد، إلا أنه موجود ولا يمكن إيقافه أو إنكاره.
*****
والآن تعالوا نذهب إلى الجامعة، هناك حيث تجتمع الناس كلها بكل أصنافها ومنابتها الاجتماعية، حيث البيئة الأنسب لدراسة كيفية تعامل أفراد تلك الفئة الشبابية مع بعضهم بعضاً. وإذا كان القسم الأكبر من الطلاب في الجامعة من الإناث، لكن ذلك لا يعني عدم وجود شبان كثر ومن كل الأصناف، وهناك العساكر الطلاب أيضاً، الذين يمشون متفاخرين في حرم الجامعة.
على باب الجامعة يقف ثلاثة حراس أو أكثر، كانوا في السابق لا يسمحون بدخول أحد من دون بطاقته الجامعية، ومرت فترة كانوا يفتشون فيها حقائب الطالبات، ثم تراجع الأمر بالتدريج وباتوا أقلّ تشديداً. ولا يزال الحراس واقفين إلى الآن، ينظرون بعين الرقيب إلى كل من يدخل، لكن كل شيء يبدو آمناً. وقد عادت أيضاً أنشطة اتحاد الطلبة في الجامعة، والانتخابات المتعلقة بها، وكل هذه التفاصيل التي كانت موجودة قبل الثورة، وكأنه لم يتغير شيء، لا سيما مع «تمثال الأب القائد» الهائل وسط الجامعة.
لكن هذا كله في الظاهر، فالواقع يقول إن كل شيء قد تغير، ومع ذلك فإن أكثر ما يلفت النظر هو اجتماع الشبّان والشابات من انتماءات ومنابت مختلفة، مشكلين «شللاً» للدراسة، أو للّهو، أو للصداقة. أحياناً يتساءل المرء كيف يمكن بعد كل ما جرى أن نرى فتاتين، إحداهما علوية والأخرى سنيّة، تتبادلان القُبَل بمناسبة الأعياد، أو تحتضنان بعضهما اشتياقاً. وقد يخطر في البال لوهلة أن ذلك النوع من العلاقات بالنسبة للطرفين هو علاقة مصلحة، أو علاقة المهزوم بالمنتصر، أو لعلها علاقة الصديقة بالصديقة ببساطة… لكن لا يمكن الحكم على الأمور بظواهرها، فها هي فتاة موالية للنظام تغضب من تفوق زميلها الدراسي عليها، فتكتب به تقريراً يودي به إلى سجن صيدنايا منذ خمس سنوات حتى الآن؛ وها هو شاب آخر يقول بكل بوضوح إنه لا يصاحب أحداً من الجامعة، شباناً أو شابات، لا سنّة ولا علويّة ولا غيرهم، حتى لا يقع في مشاكل أمنية كما حصل مع أصدقائه؛ وهنالك شاب آخر يقلد شخصية «جبل» في مسلسل الهيبة، ثم يقول ضاحكاً ملء شدقيه أمام شباب من «أصدقائه المقربين»: «لو بشوف شب هاجِم على بنت ما بقرّب ساعدها، بركي طلع الشب من الـ…، ويا روح ما بعدك روح»، فيضحك السامعون طويلاً.
ويخطر في البال سؤال عن نوع الصداقات التي نشأت في أجيال ما بعد الثورة؛ أولئك الذين كانوا أطفالاً عند بدايتها، ولم يكونوا طرفاً في أحداثها ولم يسمعوا عنها سوى أصدائها. ويكاد المرء يشعر أنها لا تعني لهم شيئاً مثل أولئك الذين عايشوها فعلاً. يتساءل واحدنا عن مستقبل هذا الجيل وطبيعة علاقاته البينية ومدى ارتباطها بما حدث، فقد ترى طالبة محجبة بصحبة عسكري في الجامعة، وقد ترى طلاباً سنّة ومسيحين وعلويين يتفقون للذهاب إلى مقهىً ما معاً. كل هذا موجود، ونقيضه أيضاً بالتأكيد موجود، وليس سوى الأبواب المغلقة على الناس ذوي الانتماء الواحد تحمل الحقيقة وراءها.
تبقى الحقيقة غائمة تماماً، وتختفي وراء القصص والمرويات عن المشاكل التي تحدث، والتي يتبادل أصحابها على اختلاف انتماءاتهم دور الجلاد والضحية داخل الحرم الجامعي؛ أعني مشاكل شباب وفتيات الجامعة المعروفة حول علاقات الحب والصداقة بينهم، ومشاكل الفساد الإداري والتعليمي في أروقة الجامعة، ومشاكل الاختلاف في الرأي حول بعض المسائل المجتمعية العامة، باستثناء المسائل السياسية والدينة طبعاً. لا شيء قابل للقياس هنا على الإطلاق، وكلّ ما يمكن قوله أن الجامعة لم تشهد أي حادثة ملفتة، وكأن ظل التمثال الضخم يكتنف حرمها ويحول دون ذلك.
*****
ولأننا اقتربنا من الجامعة، فلنذهب في جولة في حي الحضارة المجاور، وهو أحد أشهر الأحياء الضخمة ذات الغالبية العلوية. وعلى الرغم من شيوع عبارة «الأحياء ذات الغالبية العلوية»، إلا أنها تبدو غير متطابقة تماماً مع المشهد، حيث يحوي الحي سكاناً متنوعين، وقد بقيت الأحياء التي تتميز باختلاط في نسيجها على حالها إلى حدّ ما، مثل أحياء الخضر وعكرمة، وهي الأحياء التي اتخذ الجميع من الجميع فيها تقريباً موقف الحياد، لا سيما مع معرفة سكانها ببعضهم بعضاً منذ سنوات بعيدة، بل وصل الأمر أن جاراً علويّاً نصح جاره السني أن يسفّر «ابنه» في أسرع وقت، «لأنه سمع من معارفه أن هناك نية لأخذه للاحتياط».
نعود إلى شارع الحضارة. في أول الحي كان هناك حاجز يطلب الهويات، ويسأل بعض داخليه الغرباء من السنّة عن سبب مجيئهم إليه، وكم سيبقون من الوقت؛ لكن ذلك راح يتراجع بالتدريج مع حلول الهدوء في المدينة، ثم تمت إزالة الحاجز، ولم نعد نسمع حادثة واحدة تتضمن مساساً بأحد الذين يزورون الأحياء ذات الغالبية العلوية – ولا السنيّة طبعاً – للتبضع أو للاستشفاء أو للزيارات أو ببساطة للمشي. ولعل ما يدفع كثيرات وكثيرين للذهاب هناك هو الأسواق والبضاعة الجيدة والرخيصة مقارنة بالأحياء الأخرى داخل المدينة.
في البداية كان هناك خوف من الذهاب إلى الأحياء ذات الحضور العلوي الواضح، والذي يرافقه وجود عسكري بطبيعة الحال، وكانت هناك رهبة من المشي في طرقها المتداخلة الكثيرة. ثم ما لبث أن اختلف الأمر، وظهرت بالتدريج محالّ تجارية متنوعة، يُديرها أشخاص متنوعون أيضاً، من سنّة وغيرهم، في الشوارع الرئيسية على الأقل. عند المشي في هذه الطرقات والأحياء، يشعر المرء لوهلة أنه في أحد أحياء بيروت «إلى حدّ ما»، حيث يمكن أن ترى الفتيات والشبان بملابس أكثر انفتاحاً وتحرراً، أو أن تجد باراً صغيراً وكثيراً من المحلات التي تبيع المشروبات الروحية. وليس هذا بالأمر غير المألوف، لكن ما قد يلف النظر هو رؤية الكثير من المحالّ التي تعمل فيها فتيات محجبات، رغم أن البائعين قد يكونون من العلويين. لكن قلة فرص العمل، وكثرة الشبان والشابات العاطلين، الذين بلغت نسبتهم في سوريا حسب منظمة العمل الدولي 50%، تجعل أمور العمل والتعامل بين الطرفين عابرة لكل ظروف الحرب والحساسيات المتعلقة بها.
ويبدو كل هذا إجبارياً وبديهياً رغم كل ما حدث. ذلك أن تشابك المصالح لا مناص منه بين أهل المدينة، ولو بالإمكان لكُتبتْ صفحات مطولة عن محلات «البالة» (الثياب المستعملة) في أسواق حي الحضارة و«شارع العشّاق» الشهير الذي يغصّ بهذه المحالّ، وكيفية تعامل التجار والناس مع أصحاب هذه المحال، والإقبال على بضاعتهم المعروفة بانخفاض سعرها وجودتها، والتي يتهافت عليها كثير من الشبّان والصبايا من مختلف الأحياء.
تقول صبية «سنيّة» بفخر إنها تتعامل مع محلات بالة رائعة في الحضارة، وإنهم يبيعونها ما تريد بأسعار بخسة مقارنة بأسعار الثياب الجديدة، وكثيرات من صديقاتها تحمّسن للذهاب معها وشراء ما يحتجنه لا سيما مع اشتعال أسعار الثياب. في ظل المعيشة الغالية التي تطحن الجميع، تطغى الحاجة على كل الاختلافات التي قد يحسب المرء أنها لن تُحَلَّ يوماً، وتسمع أحدهم يقول إن من فرّقتهم الحرب جمعتهم البالة والمتّة! لكن ذلك كله بطبيعة الحال جزء من الصورة، فبالتأكيد هناك من يرفض هذا تماماً ولا يعترف به أو يتقبله، ومن الطرفين.
إضافة إلى ذلك، انتشرت في السنوات الأخيرة كثير من صفحات فيسبوك التي تعرض إعلانات لأشياء مستعملة، من أثاث وثياب وكهربائيات وأدوات مطبخ وسجّاد، كلّها مستعملة بأسعار بخسة، ومعظم المحالّ التي تبيعها في الأحياء ذات الغالبية العلوية. وهنا يختلف التعامل مع هذه الأمور بحسب المشترين وتفكيرهم، وبحسب احتياجاتهم ومواقفهم. تقول سيدة إنها أخذت فتوى من الشيخ بأنه يحق لها شراء غسالة مستعملة ولو كانت مسروقة، لأنها فقدت كل أثاث بيتها ولا تملك مالاً كافياً، بينما أفتى شيخ آخر بعدم جواز ذلك. هناك كثيرون لا تهمهم الفتاوى ولا الشيوخ، ولا كون الأشياء مسروقة أو غير مسروقة، لأن بيوتهم المستأجرة الخالية من العفش تحتاج لأي شيء يملؤها، ولو كان من عند الشيطان؛ المهم أن يجدوا أبسط احتياجاتهم بما تتلاءم مع إمكانياتهم المادية البسيطة.
ويتعامل أصحاب المحال بكل مودة مع الجميع، ويلبّون طلبات الزبائن بإيصال المشتريات إلى أي مكان عند اللزوم. وقد حدث أن فتاة أعرفها كانت بحاجة إلى لابتوب، يتجاوز سعره الآن 400 ألف ليرة سورية إذا كان جديداً، وقد تعاملت مع أحد العروض على فيسبوك، واتفقت مع البائع على اللقاء في منتصف الطريق بين بيتها وبين مكان بيع اللابتوب، فكان الاتفاق على نقطة ترضي الطرفين، قرب دوار الرئيس، وهناك تمت عملية التسليم بكل تهذيب من قبل الشابّ الذي أحضر لها حقيبة لابتوب مجانية كهدية. لكنها لم تجرؤ على سؤال الشاب عن مصدر هذا الكمبيوتر المستعمل الجيد بسعر منخفض. ورغم شعورها بغصّة جرّاء ترجيحها أن يكون مسروقاً، إلا أنه لم يكن لديها سبيل لقضاء عملها غير هذا.
لكن على أية حال، يبقى أن هناك فئة من السكان ترفض بشدة شراء البضائع المستعملة من هناك، ويختارون الحل الوسط بالذهاب إلى حي المخيم الفلسطيني الذي يمتلئ بالبضائع والكهربائيات والثياب المستعملة، التي تقول الفكرة الشائعة في المدينة إن معظمها ليس مسروقاً، كما أن الباعة فيه يقدمون جميع التطمينات اللازمة لزبائنهم حول مصادر بضاعتهم.
*****
يشترك سكان حمص اليوم بكل طوائفهم وأحيائهم وأصولهم بانتشار ظاهرتين، تدخين الأركيلة وشرب المتة، ويمكن لسكان حمص بسهولة تذكر الفترة الصعبة التي مروا بها حين فُقد «النوع المفضل» من هذا المشروب المبهج لكثيرين. لكن يبقى أن القاسم المشترك الأكبر بين جميع أحياء حمص وشوارعها هو كثرة الفتيات والسيدات اللواتي يرتدين ثياب الحداد السوداء، والفرق فقط أن بعضهنّ بحجاب وأخريات بدونه، فيما يترافق لون الحداد الأسود غالباً مع صورة للمتوفى معلّقة بسلسال في العنق، وكأن ذلك تذكير أبدي للجميع بحقيقة ما كان وما هو كائن.
ربما تحتاج الإحاطة في تغيرات علاقات سكان حمص أبحاثاً عميقة مطولة، وربما يكون في ذلك نَكءٌ للجروح ليس وقته الآن. لكن هذا النص يسعى إلى إلقاء بعض الضوء على كيفية سير العلاقات البشرية في مدينة عانت وتعاني الكثير من تمزق نسيجها الاجتماعي، عن طريق الوقوف عند بعض المحطات التي يظهر فيها بجلاء اختلاط الجميع بالجميع، في ظل حالة معيشية ضيقة تثقل كاهل معظم السكان، وتضعهم جميعاً تحت ظل الأصنام واللافتات الكثيرة المتربصة بأي أحد يخرج عن سياق الحياة المعيشية اليومية من أكل وشرب ولباس وعمل. أما الحسابات الأخرى المتعلقة بدمار المدينة، وتيه روحها الثائرة، والحزن القابع وراء كل بيت فيها وخلف وجوه معظم أهلها، حيث في كل بيت عزاء أو مأساة لم تُروَ، وحيث الجميع خاسرون، فهي كلها مدفونة داخل الجمر الخامد الذي لا يزال يحمل كثيراً من الغضب والشرّ في داخله.
تندرج هذه المادة ضمن «الجمهورية الثانية»، ويضم العدد:
«الفاعلية والنسوية الإسلامية»: حوار مع آمال قرامي أجراه أسامة سليم؛ «المطبخ كساحة حرب» لـ رؤى الزيات؛ «طاقية الإخفاء» لـ مصطفى أبو شمس؛ «دفاعاً عن التفاجؤ واحتفاءً بالمفاجئ» لـ تنسيقية ألفينوإيدعش من أجل الحرية.
موقع الجمهورية