مناظرة جيجيك ـ بيترسون: السعادة والمعنى في الرأسمالية المعاصرة/ محمد سامي الكيال
عرف الفكر الإنساني بمختلف عصــــوره أسئلة السعادة والمعــــنى والمســـؤولية، إلا أن الحداثة، بما رافقها من بروز الحــــيز العام، ومفاهـــيم السيادة الشعبــية والثقافة الجماهيرية، أعطت لهذه الأسئلة بعداً سياسياً مباشراً، فلم تبق مجرد ترف فكري. كما أنها رفعتها إلى مستوى عمومي وكوني، فلم يعد العبيد و«البرابرة» والنساء مستبعدين منها، مثلما كان سائداً في المدينة الإغريقية، التي شهدت البروز الأول للحيز العام.
يمكننا، على هذا الأساس، أن نفهم المناظرة التي دارت بين المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك، وأستاذ علم النفس الكندي جوردن بيترسون، بوصفها سجالاً في السياسة والثقافة السياسية، رغم كل أبعادها الفلسفية وأسئلتها الوجودية. إلا أن البيئة التي أنتجت هذه المناظرة مختلفة عن الشرط الكلاسيكي للحداثة السياسية، فبطلاها لا يجسدان الصورة التقليدية للأكاديميين، أو الفاعلين السياسيين، بقدر كونهما نجمين من نجوم الثقافة الشعبية، أشبه بمشاهير موسيقى البوب والروك. والمناظرة التي انتقد طرفاها التسليع الرأسمالي للثقافة، تم طرحها، في سوق الثقافة، سلعةً غالية الثمن. ما يجعلنا ننتبه إلى ترسخ تغيّر أساسي في الحيز العام، لم تعد الثقافة السياسية معه موجهة لفاعلين اجتماعيين محددين ومترسخين (أحزاب، نقابات، تنظيمات طلابية)، بقدر ما أصبحت عرضاً، يشتري من يستطيع دفع ثمن تذاكره قيماً ثقافية جاهزة: التعمق والحس النقدي والتمرد على الصواب السياسي. بدون أن يترتب على ذلك التزام فعّال. في ما مضى كانت محاضرة أو مناظرة في هذه الأهمية، قد تعني انطلاق تيار سياسي وثقافي جديد، أو حتى تمهيداً لحراك في الشارع. إدراك هذا قد يمكّننا من رؤية المفاهيم التي طرحها المتحاوران بطريقة جديدة: كيف يتجسد المعنى والمسؤولية والسعادة في الشرط الرأسمالي المتأخر، بعد السياسي وبعد الأيديولوجي؟
المعنى: عبء الذات
جاء جيجيك إلى المناظرة، حسب قوله، لنقد مفهوم السعادة الفاسد، فالحداثة، التي هزت مرجعية وموثوقية أي سلطة مستقرة، نقلت المسؤولية إلى الذات الفردية، التي تحمل عبء حريتها. وبالتالي ليست السعادة هي المعيار، بل أن يكون البشر على قدر هذه المسؤولية في مواجهة مسائل عالمهم. الحرية والديمقراطية لا تحملان معهما السعادة بالضرورة، بل على العكس، وضعتا على كاهلنا كثيراً من الخيارات الصعبة والأسئلة العويصة، التي لا حلول بسيطة لها، مثل قضايا البيئة واللاجئين وأسلوب إدارة عالمنا عموماً. بهذا المعنى ربما يكون بعض سكان بنغلاديش، أو مواطني الدول الاشتراكية سابقاً، أكثر سعادة من الإسكندنافيين المعاصرين، لأنهم لم يعيشوا في شرط يحمّلهم مسؤوليات كهذه. من هنا تنبع نظرة جيجيك التشاؤمية، فالسعادة الحقيقية قد تكون في المعاناة والصراع والسقوط (رغم أنه قال أيضاً إن المرء يجب أن لا يقع في حب معاناته)، والضوء في آخر النفق قد يكون قطاراً مقبلاً لدهسنا. بيترسون بدوره يرى السعادة عرضاً جانبياً، والمهم هو «المعنى» الذي يأتي من خلال تحمل المسؤولية، وعلى الذات أن تعدّ نفسها لمواجهة هذا العبء: رتب غرفتك قبل أن تغيّر العالم.
رغم أن جيجيك لا يرى أن المعنى يأتي من خلال التوحد مع قيمة متعالية، وينتقد المنظور الديني لبيترسون، إلا أن طرحه برأينا لاهوتي مسيحي بامتياز، فالمعاناة والسقوط مفاهيم يسوعية، وإن كان قد حذف منها ما يعقبها، أي القيامة والتحقق. ينتقد أيضاً الماركسية لأنها تقوم على غائية وقوانين للحركة التاريخية، لحساب الهيغلية التي، برأيه، لا تحدد وجهة للمستقبل. لا يؤمن جيجيك بثورة أو قيامة توصلنا حتماً إلى المجتمع الشيوعي، أو ملكوت الله، على الطريقة الماركسية والمسيحية. هكذا يضاعف المسؤولية على الفرد، ويجعل خياراته أكثر صعوبة. ولكنه لا يخرج من الإطار اللاهوتي، بل فقط يجعله برسم الذات المتفردة وليس الله أو التاريخ. بيترسون يرى المعنى في بناء رؤية أخلاقية، وجعل أفعال الفرد متسقة معها، وهذه أفكار تنبع من التراث المسيحي- اليهودي. جيجيك يتفق معه في هذه النقطة.
هذا المنظور اللاهوتي، الذي يتشارك به المتناظران، يُخرج الفعل الإنساني المعاصر من المؤسسات السياسية والديمقراطية والقانونية التقليدية، ويقيمه على أساس ذوات فردية تواجه العالم، تتسم بنرجسية أخلاقية عالية. ليست الفئات التي يخاطبانها إذن بعيدة عن جمهور «اليسار الأبيض»، الذي يسخر منه جيجيك، أي الفئات المدينية المعولمة والموسرة، بل كلامهما موجه لهذا الجمهور تحديداً، الذي يبدو أنه يحتاج إلى لاهوت مستحدث، وآباء فكريين وأخلاقيين جدد، في عصر تراجعت فيه سلطة الآباء البيولوجيين والدينيين. وتذرر الحيز العام وروابطه الجماعية.
السعادة: نقد الرغبة
في إطار نقده للسعادة يقدم جيجيك وصفاً كلاسيكياً لـ«مجتمع الاستهلاك»، فنحن نعيش تحت ضغط قيمة السعادة، وندعي رغبتنا بأشياء لا نرغبها حقاً، وأسوأ ما قد يحدث لنا هو أن تتحقق رغباتنا. والأساسي في رأسمالية اليوم هو إعادة إنتاج الشرط الرأسمالي نفسه، ما يؤدي إلى تسليع الثقافة. الرأسمالية تزيّف رغباتنا إذن، وتجعلها رمزاً لاغترابنا، وموطناً لعمل الأيديولوجيا.
موضوع «نقد الاستهلاك»، المشتق غالباً من فكرة «الاغتراب» الذي تبناه كثير من الماركسيين الغربيين، يبدو مختلفاً جداً عن منظور ماركس نفسه، الذي انتقد بالفعل «صنمية السلعة»، ولكنه عنى بذلك أساساً الهالة السحرية للسلع، التي تخفي وراءها علاقات الإنتاج الاجتماعية، واستغلال العمال، واغترابهم عن منتجهم. ولكنه لم ينتقد الرغبة الإنسانية بالاستهلاك بحد ذاتها، وامتدح دوماً مجتمع الوفرة، معتبراً أن تفاعل الإنسان مع الطبيعة يهدف أساساً لإشباع الرغبات وتنويعها، وهذا هو منطلق العمل الإنساني وعملية الإنتاج، التي جعلها أساس كل تشكيلة اجتماعية – اقتصادية، أي أساس الاجتماع والحضارة الإنسانية نفسها. نقد الاستهلاكية يجد جذوره في فلسفات تعتقد بجوهر إنساني منفصل ومتعالٍ، تستلبه الرغبة المادية، فتجعل الذات مماثلة للشيء أو الموضوع، أو متعلقة به، ما يؤدي لتشويهها، ومن هنا يأتي المصطلح الشائع: «تشييء». بيترسون بدوره يرى أن الحياة أصلها المعاناة والأذى. وبالتالي اللاهوت الذي يتبناه المتحاوران هو أقرب للاهوت الغنوصي، الذي يرى في العالم المادي الشر والقذارة، ويحلم بتجاوزه نحو آفاق مفارقة، عن طريق التأمل الروحي الذاتي، أو المثال الأخلاقي الذي يجبرنا على الحرية، ما يجعل آلام المادة محتملة. الفرق بينهما أن غنوصية جيجيك بلا خلاص، في حين يلمّح بيترسون إلى خلاص أخلاقي ما. رغم ذلك بدا بيترسون أكثر مادية ويسارية من جيجيك، عندما عرّف السعادة بوصفها انتفاء البؤس، واعتبر أن الرأسمالية خفّضت الفقر المطلق حول العالم، أي أنها أمنت السعادة واللذة من خلال نفي الألم. هذا منظور قريب لفلسفة أبيقور المادية، إلا أنه عنصر غير متسق في إطار منظور بيترسون اللاهوتي.
المسؤولية: سلبية الفعل
انتفاء البؤس لوحده لا يقنع جيجيك، فهو يضرب مثل الصين، التي خرج فيها الملايين من الفقر إلى الطبقة الوسطى، ولكن هل «السعادة» الصينية هذه يمكن أن تصبح نموذجاً لأحد؟ ينبني هذا المنظور على فصل العقلي – الروحي عن المادي، واعتبار أنه من الممكن إشباع الحاجات المادية بدون نيل الحقوق «الروحية» (الثقافية والسياسية والفكرية). ولكن هذه الحقوق، وفق منظور غير غنوصي أو مثنوي، هي حقوق مادية أيضاً، وغيابها يعني بؤساً مادياً ملموساً، ينطبع على أجساد البشر، سجناً وقتلاً وتعذيباً. وبالتالي فالصين لم ترفع البؤس حتى عن طبقتها الوسطى، فهي مهددة جسدياً على الدوام من السلطة.
لا يتعلق الأمر بالصين فحسب، فهنالك نقطة أغفلها المتحاوران، وهي تصاعد البؤس في الغرب نفسه، بمعنييه الماديين: الفقر وتراجع حقوق العمل وارتفاع نسب البطالة من جهة، واضمحلال الديمقراطية والحريات الثقافية والسياسية من جهة أخرى. يبدو غريباً أن مفكرين يشتيكان من التهميش والصواب السياسي، لا يهتمان كثيراً بالحديث عن ضرورة استعادة الديمقراطية وتجذيرها، فجيجيك يرى أن الديمقراطية بحد ذاتها لا تقدم حلاً، وبيترسون يؤكد أن الأساس هو السعي الفردي، رغم قوله إنه ليس ضد السياسة. وإذا كان قد جلب معه إحصاءات عن تراجع الفقر في العالم الثالث، فيبدو أنه غير مهتم بأرقام أخرى، كالارتفاع الكبير في نسبة الأطفال الفقراء في ألمانيا، أو ضعف القوة الشرائية للفرنسيين.
بهذا المعنى يبدو مفهوم «المسؤولية» الذي يتفقان عليه ملتبساً وغير ذي معنى، فإذا كنا لا نركز على السعي لتحسين واقعنا، عن طريق الفعل في الحيز العام، وتجذير الديمقراطية والسياسة إن وجدت، أو بنائها حيث لا توجد، فلن يوصلنا السعي الفردي الروحاني على طريقة بيترسون، أو الالتزام فوق الوطني وفوق الديمقراطي على طريقة جيجيك، إلى أكثر من فعل سلبي تأملي، لا مغزى سياسياً له. ربما لا يتحمل جيجيك وبيترسون لوحدهما مسؤولية هذه النتيجة، بل هي مشكلة عامة في «لا» أيديولوجيات الرأسمالية المعاصرة.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي