ثقافة وفكر

شيء من الدفاع عن جوردان بيترسون/ وسام سعادة

الدافع وراء تنظيم مناظرة بين السلوفيني سلافوي جيجك، الغارف من مصادر مختلفة هي أساساً منطق هيغل والتحليل النفسي والفلسفة الفرنسية، وبين عالم النفس العيادي الكندي جوردان بيترسون، الذي طوّر مذهبا خاصا له يتعلق بسلوكيات الاعتقاد والايمان وآليات التبرير، هو سجالية كليهما في وقت سابق ضد «الصوابية السياسية» بكل ما تختزنه الأخيرة من مكابرة ورياء.

ماذا يعني ان يتأفف مفكر من «اوروبا الشرقية»، ومفكر من الغرب من الصوابية السياسية؟ خلال المناظرة، جازف جيجك بما يستشف منه ان تنويها بوجود تقاطع، رغم التناقض في الموقع، أما بيترسون فوجد نفسه في منزلة بين منزلتين: هو من جهة يشعر بالفعل بالتواطؤ مع منطق من قبيل «أيها المتأففون من الصوابية السياسية، اتحدوا!» لكنه من جهة ثانية، لا يريد لهذا التواطؤ ان يمر من خلال الغاء الفارق بين النظم الديمقراطية وبين التوتاليتاريات. هو ضد الصوابية السياسية، لكنه ضد النسبوية الايديولوجية أيضا. لا يستطيع ان يضع في سلة واحدة شتيمة ضد النساء أو المثليين أو السود أو اليهود أو المسلمين وبين سياسات تحكم كلاني بالسكان، وما يتصل بها من سياسات ابادية. وهذا يختلف تماما عن موقف جيجك، الذي يعيد الاعتبار للمفكرين الذين دافعوا عن «قضايا خاسرة وكارثية»، كما انه يفكك في كتابه «هل قلتم توتاليتارية؟» مفهوم الأخيرة، مذكرا مثلا، انه في المانيا النازية بالثلاثينيات، ان لم تكن شيوعيا ولا يهوديا، كنت تتمتع بحرية كلام وانتقاد اكبر بكثير من الحاصل في روسيا السوفياتية، وانه كان يمكنك ان لا تقول شيئا وتجري تصفيتك في العهد الستاليني، في حين صار بامكانك ان تهادن النظام و«تأخذه على قد عقلاته» بعد ذلك، ما تسبب بالانهيار الكبير.

المناظرة بينهما غير مفهومة من دون هذه الخلفية: الموقف حيال مفهوم التوتالتيارية. الاول يفككه، الثاني يوسعه فيشمل به تيارات ايديولوجية وسياسية مشاركة في الحياة الديمقراطية الانتخابية والبرلمانية وبتداول السلطة في الغرب منذ عقود طويلة. بالنسبة لبيترسون، المساواة في الحقوق مناقضة تماما لفكرة العدالة الاجتماعية. وجه بيترسون سهامه لكراس الشابين ماركس وانجلز «بيان الحزب الشيوعي» من هذا المنطلق: كنص نموذجي لكل طرح قابل لتبرير تعليق المساواة في الحقوق، والاطار القانوني للتعاقد والتقاضي بين البشر، تحت ذريعة «تحقيق» هذه الحقوق من خلال العدالة الاجتماعية، او من خلال اي فكرة تزعم اعادة تنظيم مجتمع.

بديهية اختزالية بيترسون لماركس، لكن حصر «الإفحام» بها ليس دليل تمكن. بخاصة حين يزاول اليساريون لعبتهم المضحكة المبكية: يأتيهم انتقاد على ما كتبه ماركس في «البيان» فيدعون الناقد لزيارة كتب ماركس الاخرى: «لاقينا على درج الكابيتال»! يلزم مع بيترسون اللعب حيثما هو اختار: نص المانيفستو.

يساجل بيترسون بصدده ضد القسمة الثنائية في الصراع الطبقي بين بروليتاريا وبرجوازية، لكن «البطل السردي» في البيان ليس البروليتاريا. البروليتاريا حاضرة فيه شبحياً. البطل هو البرجوازية التي «لعبت دورا بالغ الثورية في التاريخ».

في محله تماما سؤال بيترسون، اذا كانت ديكتاتورية البروليتاريا افضل من ديكتاتورية البرجوازية؟ لكنه يوئد السؤال بالاجابة الفورية عليه، ويغفل انه في «المانيفستو» لم يكن ماركس قد صاغ بعد تصوره، البلانكي المصدر، عن الديكتاتورية التي تتولاها طبقة واحدة في كل مجتمع. كان يجب انتظار بضع سنوات لرؤية ذلك في نصوص ماركس، في اعقاب هزائم ثورات 1848. أما المشكلة المصاغة في البيان، فهي ان البرجوازية قوضت علاقات الانتاج السابقة عليها، لكنها غير قادرة بعد على فرض سيطرتها، وانها باتت امام خيارين: اما ان تلتحق بقوى النظام القديم فتخون الثورة البرجوازية نفسها، او ان تثابر في الحركة الديمقراطية التي يتصاعد فيها في الوقت نفسه ثقل البروليتاريا. ليس في «البيان» ثنائية، بل ثلاثية اساسية: البرجوازية محاصرة، بين قوى النظام القديم، وبين البروليتاريا، فما العمل؟

هل ديكتاتورية البروليتاريا افضل من ديكتاتورية البرجوازية؟ سؤال بيترسون في محله. لكن البرجوازية، منذ هزيمة نابليون الاول، لم تعرف كيف تفرض ديكتاتوريتها، وتطورت الرأسمالية على حسابها بعد ذلك! في القرن التاسع عشر بقيت البرجوازية اضعف سياسيا من النخب الارستوقراطية النافذة في العسكر والديبلوماسية. بعد الحرب الكبرى، احتاجت للبرجوازية الصغيرة لصد الشيوعية، من خلال الفاشيات. لم تستطع البرجوازية ممارسة «ديكتاتوريتها» الا في ظل ديمقراطية سياسية مستندة الى تنازلات اجتماعية اساسية لصالح الطبقة العاملة في بلدان اوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. اضعفها في الوقت نفسه المدراء والاوليغارك، همشوها كطبقة، في نفس حركة الارتداد عن مكتسبات الطبقات الشعبية الاجتماعية.

البرجوازية، اكثر الطبقات ثورية في التاريخ، لجهة تثوير علاقات الانتاج، وفتح المجال لاقصى تطور للقوى المنتجة، لم تستطع تعمير ديكتاتوريتها مطولا بسبب الارستوقراطية، العسكر، الدواوين، البرجوازية الصغيرة، الاوليغارشية، ولا ننسى ايضا طبقة المدراء التي صعدت مع الشركات المساهمة، وكان لها اكبر اسهام في ابعاد البرجوازية اكثر فاكثر عن التحكم سواء بالاقتصاد او بالسياسة.

هل ديكتاتورية البروليتاريا افضل من ديكتاتورية البرجوازية؟ قطعا لا. بخاصة عندما لا تفهم ديكتاتورية البروليتاريا ان مسوغها الاساسي هو الدفاع عن مرتكزات «الحضارة البرجوازية» وتجذيرها وكوننتها. لكن المشكلة الاساس هي ان البرجوازية فقدت ديكتاتوريتها، وتطور النظام الرأسمالي على قاعدة تهميشها، وتمكين الاوليغارشية والمدراء. لأجل هذا، المناظرة جيجك – بيترسون بالقدر نفسه التي تنبني على تواطؤ «يا اخصام الصوابية اتحدوا!» بقدر ما يلزمها اعادة التعرف على البيان الشيوعي، ملحمة صعود البرجوازية، واستيحائه شعارا لليوم «يا عمال العالم ويا برجوازييه اتحدوا ضد الاوليغارشية والبيروقراطية وسياسات الهوية والبولتكلي كوركت!».

كاتب لبناني

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى