باع الجولان.. مرة أخرى/ مطر اسماعيل
استغل النظام اعتراف الرئيس الأميركي بسيادة اسرائيل على الجولان السوري المحتل لإعادة انتاج منظومته الكلامية “النضالية”، في الوقت الذي كان قد تخلص فيه نهائياً من الجولانيين النازحين وقضيتهم. فالنظام الذي لم يفعل شيئاً لتحرير الجولان وإعادة نازحيه طيلة نصف قرن، استغّل انضمام مناطق نزوح الجولانيين في العاصمة دمشق للثورة، ليمعن في تدميرها، وطرد سكانها محولاً إياهم نازحين للمرة الثانية.
بين “الرفيق حسن” و”العم ابو خالد”
كلّما حاول الجولانيون النجاة بأرواحهم من حصار الجغرافيا داهمهم التاريخ بحقائق لا تسقط بالتقادم. ومهما رفعوا من جدران فوق رؤوسهم وحصّنوا ملاجئهم في باطن الأرض، فلن تنقذهم في استراحتهم ما بين التهجيرين. فالطوفان المستمر منذ جولان الـ67 إلى الحجر الأسود جنوبي دمشق، سيعود ويجرفهم مطلع العام 2018، مئات الكيلومترات شمالاً بين حجار جنديرس وأوتاد خيام دير بلوط قرب الحدود التركية-السورية.
أمام مشهد غرق مخيمي دير بلوط والمحمّدية، خلال الشتاء الأخير، في حلقة جديدة من مسلسل المأساة التي تعيشها عشرات العائلات من أهالي جنوب دمشق، تعود إلى الذاكرة حكاية الظلم التاريخي للاحتلال الخارجي، متمثّلاً بسطو إسرائيل على الأرض وتهجير السكان، ثم الاحتلال الداخلي والتهجير مرة أخرى.
وعلى عكس احتكار النظام واستثماره في القضية الفلسطينية وتبنّي خطاب “المقاومة والممانعة”، مع ما تخلّله من إفراد مساحة مضبوطة للفاعلين الفلسطينيين داخل سوريا، فقد اختزل قضية الجولان من شأنٍ وطني وقوميّ إلى مجرّد محورٍ تفاوضيّ مع الاحتلال، من دون أي مساحة للحراك الداخلي.
النظام لم يكتفِ ببيع الجولان واستباق إعلان سقوطه في البلاغ 66 على سقوطه الفعلي، بل قسم الجولان إلى جولانين، من ظلوا تحت الاحتلال ومن نزحوا إلى “حضن الوطن”. النظام قسم الجولانيين إلى شعبين، وتعامل مع كلٍ منهما بطريقة مختلفة، من منطلق عصبويّ وطائفي. وهذا عنى في ما عناه تهميش شعب الجولان النازح إلى الداخل السوريّ، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً، والعمل على تحطيمه وإشغال باله اليوميّ على حساب قضية التحرير والعودة.
ومقابل الإغفال المتعمّد لهموم تلك الشريحة التي دفعت تكلفة باهظة، جرت عملية استغلال إعلامي وسياسي مضاعفة للسكان المتبقين في الجولان المحتلّ، إذ صوّبت ماكينة التوجيه السياسي الأنظار، للتركيز على حالة التوق التي يعيشها أهالي تلك القرى للوطن الأم، والصراع المرير الذي يخوضونه مع كيان الاحتلال في سبيل الحفاظ على هويّتهم الوطنية. تساوق ذلك مع خطّة حلّ رسميّة صفريّة من حيث القيمة والتأثير، ومن حيث الاستراتيجية أيضاً. فالانتصار للجولان على منابر الأسدَين لا يعدو كونه ظاهرة خطابية في عقيدة “الاحتفاظ بحق الرّد” المرنة، رغم تزايد التصعيد الإسرائيلي عسكرياً وسياسياً. وليس أشدّ بلاغة للتدليل على هذا الحال، من الفيديو الذي بثّته قناة الإخبارية السورية أواخر آذار/مارس، للحديث العابر للسياسة والسياج الحدودي مع “الرفيق حسن” لتأكيد الانتصار الدائم على قرار ترامب المعترِف مؤخراً بسيادة إسرائيل على الجولان.
مواطن من الدرجة الثانية
وبينما كان “الرفيق حسن” يصبّح عبر مكبّر الصوت من بلدة مجدل شمس المحتلّة على “الجيش العربي السوري”، كان “العم أبو خالد الأحمد”، من موطنه الجديد في مخيم دير بلوط في عفرين، يسترجع ذكرياته الأليمة عن اللحظات الأخيرة التي عاشها في حزيران 1967، في مسقط رأسه بقرية راوية غربي مدينة القنيطرة. أبو خالد أعاد تقليب الحكايات التي طلّت برأسها بين غيوم عفرين البيضاء، في محاولة لإقناع نفسه بالأسباب المعلنة التي أدّت للهزيمة قبل المعركة. فتفاصيلها التي لا تغيب عن ذهنه، مهما نسيها الزمن، تكرّس حنقه على النظام وجيشه أكثر فأكثر، خاصة ذاك اللقاء الاستثنائي الذي جمعه مع أحد رجال عائلته، بعد مدّة قصيرة من النزوح، حين بادره بالسؤال الذي لطالما علق في حلقه كخثرة تاريخية: “لماذا لم تشكّلوا مقاومة شعبية تقاوم الاحتلال؟”، فأجابه “تجمّعنا في الملعب البلدي بدمشق، أي في أرض معرض دمشق الدولي حينها، من جهته الغربية القريبة من ساحة الأمويين، بحدود 5 آلاف من العرب على رأسهم أمير المنطقة شامان الفاعور، ثم بعث المجتمعون فريقاً برئاسة فاعور، لمقابلة وزير الدفاع حافظ الأسد في رئاسة الأركان، فقالوا له: نحن أبناء الجولان جاهزون لمقاومة الاحتلال، كما أننا نعرف المنطقة حجراً حجرا، وادياً وادياً، تلاً تلاً، لكن نريد منكم أن تزودونا بالسلاح والأموال، فكان الجواب من هذا المجرم، هذه سوريا فيها جيش هو الذي يحرّر الجولان، اذهب أنت ورجالك انقلع هذا ليس من شأنك”.
أبو خالد الشاهد على الهزيمة، كطفل ذي السنوات الستة، سيبقى عالقاً هناك، عند الساعة 9:30 من صباح العاشر من حزيران 1967، وهو يودّع قريته على ظهر حمارٍ، والراديو في يده يذيع البلاغ العسكري رقم 66، معلناً سقوط مدينة القنيطرة التي كان يتجه مع عائلته شرقاً إليها. البلاغ الشهير نزل كالصاعقة على الجيش السوري المرابط هناك وأهالي الجولان على حدٍ سواء، وأيضاً على الطفل الصغير الذي كان قبلها بنحو ساعة، ينتظر والده العائد من جولة استطلاع سريعة للوجود العسكري لقوات الاحتلال، من أعلى تلّة غربي راوية، حيث وجد الجنود الإسرائيليين على بعد 3 كيلومترات تقريباً من جهة الغرب. ما يعني أنّهم كانوا في لحظة إسقاط بلاغ حافظ الأسد للقنيطرة، على بعدٍ ستّة كيلومترات من المدينة فعليّاً.
بإعلان البلاغ 66 انهارت معنويات الجيش السوري، وترك قرار الانسحاب الكيفي للوحدات المرابطة هناك، وكان لكلّ ما يحصل معنىً واحداً فقط، فـ”التغريبة الجولانية” قد بدأت، لينطلق أهالي 200 قرية ومزرعة، في رحلة النزوح والتشريد الطويلة باتجاه الداخل السوري، تاركين خلفهم أرزاقهم وأملاكهم على أمل العودة القريبة. يقول أبو خالد: “كان الناس يظنّون أن رحلتهم لن تطول لأكثر من أيام قليلة تحاشيا للقصف المدفعي والطيران، ولكنهم فوجئوا في ما بعد أن الأرض قد بيعت في سوق النخاسة من هذا المجرم، الذي بدلاً من أن يستقيل وهو أضعف الإيمان رُقيّ من وزير دفاع إلى رئيس للدولة”.
ظنّ أهالي الجولان، أن السلطة الحاكمة في دمشق، ستهرع لإغاثتهم وتقديم العون العاجل لهم، في المسكن والمأكل والملبس، باعتبار أنّها قد تسعى لتدارك الفشل العسكري بخطّة إنقاذ وطنيّة شاملة، تترجم لمشاريع إغاثية وتنموية، ولا تغفل بالطبع عن جوانب المواساة المعنوية والاجتماعية والإعلاميّة. إلّا أن”دولة الثورة”، بحسب أبو خالد، لا يمكنها أن تضطلع بغير مهام التحرير والتثوير، لذلك شكّل أسلوب تعاطيها مع مأساتهم صدمة حقيقية، لم يتخطَّ “رفع العتب الاجتماعي”، في انكفاءة جديدة عن القيام بمهامها الطبيعية، فانحصر دورها بنصب الخيام في ريف دمشق ودرعا لعشرات آلاف النازحين، وتوزيع العائلات على المدارس الحكومية، بينما حظي حسن الطالع منهم بغرفة صغيرة في مساكن برزة والمزة، بلا كهرباء ولا ماء ولا نوافذ. وأمام ضغط المعيشة هذا “اضطّرنا إلى العمل، رجالاً ونساءً وأطفالاً، حتى نخرج من سكن الخيام والمدارس والحياة المشتركة، فكنت أنا الطفل الصغير، أدرس صباحاً، ثم أذهب في ما بعد للعمل في مدينة دمشق” كما يقول أبو خالد، ويتابع: “ما فاقم معاملة السلطة المجرمة سوءاً هو تعامل جهلة الناس معنا بطريقة سيئة، إذ كان يُنظر للنازح على أنّه مواطن من الدرجة الثانية، مع أننا أصحاب أرض وتاريخ وعرب أقحاح”.
حفرنا قنوات الصرف الصحي
تجاوز الجولانيون صدمة 1967 مع الوقت، وكان عليهم أن يؤسسوا لوضع أكثر استقراراً، معتمدين على أنفسهم، لذا انهمكوا بالعمل في قطاعات ومجالات مختلفة في العاصمة، كرصف الشوارع بالأحجار، وأعمال البناء والخدمات مع مجلس محافظة دمشق. بعض سكان الحجر الأسود، ومنهم طلبة طب وصيدلة، اضطروا للعمل مع أهاليهم بحفر قنوات الصرف الصحّي وأعمال البناء، لتغطية نفقات دراستهم الجامعية وتأمين مصروفهم اليومي، كما يقول ابن حي الحجر الأسود الناشط حسام المصطفى. في هذا المناخ القاهر اتجه نازحو الجولان لشراء الأراضي في ريف دمشق ودرعا، وبناء منازل عليها لتتوسّع الأحياء التي سكنوها، وتنشأ تجمعات سكانية كبيرة كان أهمّها الحجر الأسود عاصمة أبناء الجولان، وسبينة وغزال وحجيرة والذيابية وجديدة عرطوز وجديدة الفضل بريف دمشق، ومخيم درعا في مدينة درعا البلد.
وبالرغم من أن شكل التجمع السكاني لأبناء الجولان، ساعدهم فعلياً في البقاء كتلة اجتماعية واحدة، إلّا أنه أبقاهم على الأطراف والهوامش بعيداً عن قلب العاصمة. كما لم يساهم في إجبار السلطات على الاهتمام بالعمران والتنظيم والخدمات، وتوازى نمو أحياء العشوائيات والمخالفات، وتوسّعها وازدحامها مع الوقت، مع حركة اقتصادية ضعيفة، لم تقوَ على النهوض أو التطوّر، وهذا كان بالغ الوضوح عند المقارنة بين أسواق حي الحجر الأسود وجاره مخيم اليرموك. فأسواق الحجر غلب عليها الطابع الريفي البسيط، الذي لا يقدر حتّى على تلبية متطلبات سكانه، فيما عدّ سوق شارع لوبية في المخيم أحد الأسواق العشرة الأكثر أهمية في العاصمة، والتي تشكّل عصب الحركة التجارية في دمشق.
وبينما قد يُربط تدني مستوى الحركة التجارية في تلك المناطق بالوضع الاقتصادي العام في سوريا، تشير آلية النظام التي انتهجها في توزيع المناصب داخل أجهزة الدولة من أعلى الهرم حتّى أدناه، إلى تعمّد التهميش بل والسعي لتحييد الكفاءات. كما أن وصول بعض الضباط الجولانيين إلى مناصب مهمة في المؤسستين العسكرية والأمنية، عدا عن كونه مشروطاً بولاء مطلق وخضوع تام، إلّا أنه ارتبط بشكل مباشر بتجنّب إثارة قضية تحرير الجولان أبداً. وقد تكون إحدى أهم المرويات الشعبية الجولانية للتدليل على ذلك، ما يتناقله كبار السن عن اللقاء الذي جمع اللواء فواز سرحان، بحافظ الأسد “بعد الحركة التصحيحية، حيث اقترح سرحان باعتباره من أبناء الجولان، وأحد أجدر ضباط المدفعية في الجيش السوري، على الأسد رئيس الدولة وقائد الجيش، العمل على تحرير الهضبة من قبل أبنائها النازحين، فما كان من الأسد إلى أن أحاله من قيادة سلاح المدفعية إلى الجيش الشعبي، أي فعليّاً كسّر رتبته وجمّده في موقع عسكري ثانوي” حسبما ينقل أبو ماهر صالح أحد أبناء الحجر الأسود.
علاوة على ذلك نُظر من قبل المجتمعات المحيطة إلى الأحياء الجولانية جنوبي دمشق، حسبما يوضّح حسام “باعتبارها مناطق موحشة ومخيفة، ومستنقعات تنمو فيها الجريمة وعمليات السطو والسّلب وتجارة المخدرات والحشيش، الأمر الذي ألحق بنا نحن أبناؤها سمعة سيئة وتعاملاً سلبياً من قبل أهالي دمشق وريفها”. فيما غاب عن الناس دور النظام في ذلك.
الثورة والنزوح الثاني
ومن هذا المنطلق لم ينتظر أبناء الجولان كثيراً للمشاركة في الثورة السورية، فخرجت في 21 آذار 2011 أول تظاهرة مطالبة بإسقاط النظام في حي الحجر الأسود، لينتشر الحراك السلميّ بعدها في مناطق سبينة وحجيرة والذيابية والحسينية وجديدة عرطوز، ومخيم درعا في درعا البلد. وشكّل هتاف “ابن الحرام باع الجولان” شعاراً رئيسياً في تظاهراتهم محمّلاً النظام مسؤولية مباشرة في التفريط بالأرض وبأهلها، تلاقت مع أصوات جولانيي القرى المحتلة الذين رفعوا أصواتهم عالية في وجه تيار “الرفيق حسن” الموالي للنظام.
ومثلما واجه نظام الأسد المناطق الثائرة، بالعنف الممنهج والتدمير الشامل، ركّز بشار الأسد مدعوماً بحلفائه آلته العسكرية والأمنية للتنكيل والانتقام من مناطق أبناء الجولان، بدءاً بقمع التظاهرات السلمية وحملات الاعتقال، ثم إطباق الحصار عليهم عامي 2013-2014 وتجويعهم حتى الموت. ووثق سقوط العشرات من المدنيين ضحايا الجوع والمرض، وشهدت تلك الفترة احتلال المليشيات الشيعية لبلدات حجيرة والحسينية والذيابية والبحدلية وسبينة. ورغم عودتها لسيطرته، لم يسمح النظام والمليشيات الشيعية بعودة أهالي تلك المناطق، بسبب الرغبة الإيرانية بتحويلها إلى ضاحية جنوبية على غرار بيروت، لكونها تحيط بمقام السيدة زينب.
في النصف الأول من عام 2018، أدّت عملية عسكرية مدعومة روسيّاً إلى تدمير حي الحجر الأسود عاصمة أبناء الجولان بشكل شبه كامل، وتهجير ما تبقى من أبناء الجولان إلى الشمال السوري بعد رفضهم لاتفاقيات “المصالحة”. هجوم 2018 وما تبعه من تهجير، أعاد الجولانيين إلى ذكرى الحرب الإسرائيلية على الجولان عام 67 وبداية مسلسل التشريد، كأنما التاريخ يعيد نفسه، لكن هذه المرّة مع محتلٍ داخلي، سيرغمهم على ضرب أوتاد خيامهم مجدّداً في الشمال السوري، في انتظار المجهول، الذي يقلّبهم بين حروب المناخ ولعنة الطين من جهة، ومصالح الدول وصفقات البيع والشراء على حسابهم من جهة ثانية.
المدن