عوام وسلاطين: ظهور حوليات شعبية في أواخر العصور الوسطى الإسلامية/ محمد تركي الربيعو
كنا في مقال الأسبوع الماضي «انفجار تاريخ المدن في العالم العثماني» قد حاولنا تسليط الضوء على عدد من القراءات، أو الحوليات الجديدة حول هذه المدن، وكيف استطاع عدد من المؤرخين في السنوات الماضية إعادة تفتيت التاريخ التقليدي لها (في حال استعرنا مقولة فرانسوا دوس في كتابه «تفتيت التاريخ») وذلك في سياق كتابة تاريخ أناس آخرين بعيداً عن حوليات الامبراطورية.
وكان من بين ما سلطنا الضوء عليه في هذا السياق، أطروحة دانا السجدي، التي حاولت فهم أسباب بروز نصوص يوميات العامة في القرن الثامن عشر في بلاد الشام، إذ خلافاً للصورة التي رسمها عدد من الإصلاحيين حول هذه النصوص، بوصفها تدل على تدهور كبير عاشته المدينة العربية العثمانية في القرنين الأخيرين من حياتها، حاول عدد من المؤرخين في العقود الفائتة، تعديل هذا التصور أو الوسم السلبي لهذه العامية، عبر النظر لها بوصفها جاءت لتعكس التغيرات الاجتماعية وعلاقة السلطة بالعامة في تلك الفترة، ليولي اهتماماً أكبر بشؤون الحياة اليومية وأخبار العامة بدلاً من التركيز على أخبار المعارك والولاة. ورغم هذا الكشف والقراءة الإيجابية لنصوص العامة واليوميات، مع ذلك فإن ما يلاحظ في هذا السياق تعدد التفسيرات والسرديات حول كيفية ولادة هذه النصوص، وهل جاءت لتعكس التحولات في الفضاء الاجتماعي الذي كان تعيشه المدن العثمانية في القرن الثامن عشر، قرن الحداثة العثمانية، وفق رأي بعض المؤرخين، أم أن له إرهاصات تعود لفترة أسبق.
حوليات بيروقراطية
الفترة الوسطى الإسلامية، اتسمت الكتابات التاريخية بالابتعاد عن رواية أمجاد العصر الذهبي للإسلام، مفضلة عليها رواية الأحداث المعاصرة التي اعتبرها المؤرخون تستحق التسجيل، إذ رأى مؤرخو العصر المملوكي وبدايات الفترة العثمانية في مصر والشام أن مجتمعاتهم تستحق الملاحظة والتحليل والتسجيل. وفي تفسيره لظهور هذه الحوليات الجديدة، أرجع الخالدي ذلك لصعود الأسر التركية العسكرية، التي أدت وفق تعبيره إلى تزايد عسكرة المجتمع العربي/الإسلامي، ما أدى إلى تحكمها بشكل أكثر صرامة في حيوات الأفراد؛ إذ يجلس فيها السلطان على قمة الهرم العسكري/السياسي، وبالتالي ما أراد الخالدي قوله هنا إن هذه الحوليات البيروقراطية (التي تهتم بيوميات الناس والأوضاع) لم تأت كانعكاس لظهور لاعبين جدد (كما سنرى لاحقاً في عدد من الأطروحات) وإنما كانت تعكس رؤية جديدة للسلطة ولأشكال الرقابة، الذي جعل الحوليات أشبه بالرفع المساحي الإقطاعي. وبالتالي فإن ما عرفناه في نصوص العامة من تسجيل ليومياتهم يأتي كتطور لهذه الفترة، ولمفهوم السيطرة الشاملة على المجتمع في الفترة المملوكية، التي تقف وراء زخم إجراء مسوح لكل شيء وتسجيل كل شيء له علاقة بالحوكمة.
ما يُلاحظ في رؤية الخالدي هنا أنه بدا أكثر تأثراً برؤية فوكو حول «أركيولوجيا المعرفة»، وهو الأمر الذي لم يخفه مؤخراً في كتابه «أنا والكتب». فيشير مثلاً، في سياق سرده لذاكرته مع عالم الأفكار والورق، إلى الدور الكبير الذي لعبته أفكار فوكو في مسيرته التاريخية، وبالأخص العنوان السابق، «فرغم أنه لم يفهم سوى حوالي عشرة في المئة من صفحاته، بيد أن تلك النسبة الضئيلة كانت كافية لإحداث تأثير عميق في فهمه لتاريخ الفكر، وفي ترسيخ إحدى أسئلة فوكو الأساسية»، ما الذي جعل هذا النص ممكناً»؟ كان الخالدي ينظر إلى نفسه وهو ينقب بأدوات فوكودية في العوالم التي أنتجت هذه الحوليات البيروقراطية باعتباره أقرب في عمله إلى عالم آثار ينقب في طبقات مختلفة من أرض ما، إلا أن هذا العالم ستشاركه جهود أخرى، صحيح أنها حاولت التشكيك بأدواته، غير أنها بقيت بشكل أو بآخر تحفر بالقرب من الخالدي عبر ربط تفسير ولادة حوليات العامة بالتحولات السلطوية، التي عرفها القرن السادس عشر في مصر. إذ تجد نيللي حنا في كتابها «مصر والتحولات العالمية 1500/1800» أن اختراق اللغة العامة للنصوص، يرتبط بنظام الدولة، والتحولات التي شهدتها الدولة المملوكية ولغتها في أيامها الأخيرة، ولم تكن لغة سلطة فقط، بل كانت نموذجاً لثقافة رفيعة. ففي كتاب القلقشندي/ت1418 «صبح الأعشى في صناعة الإنشا»، الذي تعتبره حنا النموذج الأكثر تعبيراً عن لغة السلطة المملوكية، نجد أن الكتاب قد أُلِّف لتدريب المرشحين للعمل في ديوان الإنشاء، إذ يُشترط على من يتقدم للعمل أن يتحلّى بمهارات أهمها التمكن من ناصية اللغة وحسن الخط. بيد أنه عندما بدأت الدولة المملوكية طور التحول، وتحول مكانة القاهرة من عاصمة للإمبراطورية إلى عاصمة إقليمية مع قدوم العثمانيين، فإن هذا الأمر أنتج انزياحاً أكبر لحوليات البيروقراطية، التي أشار إليها الخالدي، لصالح رؤية تركّز على الأحداث اليومية للناس العاديين، وهذا ما يتضح في الحوليات الشامية. ففي يوميات شهاب الدين بن طوق ت 1509 نعثر على شجارات عائلية وعلى أوقات زيارة الحمام، كما نعثر على أخبار تتعلق بأصدقائه وجيرانه.
حوليات صوفية
وبالعودة إلى رحلة التنقيب التي قام بها عدد من المؤرخين في نصوص العامة واليوميات وخلفياتها، فإن هناك من حاول محاولة الحفر هذه المرة بعيداً قليلاً عن عيون السلطة التي بقيت تحكم قراءتي كل من الخالدي وحنا، رغم عدم التطابق في رؤيتيهما. وقد جاءت هذه المحاولات على يد تلاميذ لهؤلاء المؤرخين، كما أن أدواتهم في الحفر بدت أكثر رشاقة في التعامل مع النصوص. ففي نصها الشيق «حلاق دمشق» حاولت دانا السجدي المؤرخة في كلية بوسطن الأمريكية، أن تبحث عن تفسيرات أو جذور لظاهرة ولادة كتابات مثل يوميات البديري الحلاق، التي تدعوها بظاهرة محدثي النعمة، تمييزاً لهم عن العلماء في القرن الثامن عشر.
ترى السجدي أنه بداية من القرن الرابع عشر بدأ المؤرخون مثل اليونيني الدمشقي، باستخدام العامية في سردهم، كذلك نعثر على كتب ابن صصرى الدمشقي الذي أرّخ للأحداث المعاصرة بلغة عامية في أغلب الأحيان، مع ذلك استمر علماء بلاد الشام في كتابة التاريخ باللغة الفصحى، ليقرأه زملاؤهم العلماء، بيد أنه ظهر لاحقاً عدد من الابتكارات المهمة في بلاد الشام، ولم يكن لها مثيل في مصر. وكمثال عن هذه الابتكارات تتطرق لكتاب «مفاكهة الخلان في حوادث الزمان» لابن طولون الصالحي، الذي ألّفه بعد الغزو العثماني لبلاد الشام، فقد حاول في هذا الكتاب التأريخ للأحداث بأسلوب لم تعهده مدارس بلاد الشام مع التاريخ، ليس من حيث الشكل فقط، بل من حيث المضمون أيضاً. إذ أخذ تأريخه يتطرق لمعاناة العوام أكثر من حديثه عن العلماء. وفي سياق آخر، تعتمد السجدي على ملاحظات عالم العثمانيات التركي جمال كفادار حول وجود عدد من الأعمال العثمانية في القرن السابع عشر، التي تميز شكلها الكتابي بأسلوب «السرد بصيغة المتكلم». واشتملت هذه الأعمال على المذكرات، ويوميات السفر، وكتب الرؤى والمنامات. فالتحول من الحديث عن الآخر إلى الحديث عن النفس، رافقه تحول من وصف نفسي بصيري إلى وصف الأحداث اليومية، كما يرى كفادرار. وعلى صعيد المتصوفة، نعثر على دور مهم لهم في كتابة اليوميات. فحين رأى الشيخ الدمشقي عبد الغني النابلسي أحلاماً ورؤى، قام بتأريخها في عمل عنوانه «مناجاة الحكيم» سجّل فيه تاريخ كل حوار في أحلامه بتفاصيل يومية. ومما تلاحظه السجدي في هذا العمل، أن مذكرات أحلام النابلسي بدت منسجمة مع جميع معايير تاريخ اليوميات، فعلى الرغم من أن الأحداث التي يسجلها تقع في منامه، إلا أنها ليست أقل واقعية بالنسبة لمؤلفها.
ما ترغب السجدي قوله هنا هو أن التصوف الذي حظي بأهمية اجتماعية كبيرة آنذاك، أسهم في تشجيع الكتابة عن التجربة الشخصية، وربما فتح الباب، مع أسلوب ابن طولون، للعامة للاستحواذ على نص التأريخ في القرن الثامن عشر مع البديري الحلاق (مريد وحلاق الشيخ عبد الغني النابلسي).
ابن صيرفي يكتب التاريخ
وفي السياق ذاته الباحث عن جذور اجتماعية أو ثقافية لكتب اليوميات والنصوص العامة في القرن الثامن عشر، حاولت مؤخراً المؤرخة في الجامعة الأمريكية في القاهرة أمينة البنداري في كتابها «عوام وسلاطين: الاحتجاجات الحضرية في أواخر القرون الوسطى في مصر والشام» العودة إلى فترة المماليك. إذ عرفت الفترة الممتدة بين 1300 و1517، إنشاء 46 وقفاً للإنفاق على تعليم الصبية. وهو ما يشي بأن أعداداً أكبر من السكان كانت تتلقى نوعاً من التعليم، فأصبح بمقدور أعداد أكبر أن تقرأ، وبمقدار البعض أن يكتب أيضاً. ولذلك تزايدت أعداد من انخرطوا في الكتابة التاريخية من الأفراد الأقل تعليماً، بل من بعض غير المنتمين للمؤسستين الدينية أو العسكرية. ولذلك نعثر في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر على ابن طوق، وهو يدوّن يومياته في صيغة أشبه بالحوليات، كما نعثر على كتاب التعليق لابن الصيرفي الذي كان أبوه صرافاً يكتب تاريخاً، كما اشتهرت هذه الفترة من العصر المملوكي بالأشكال الشعبية من النثر مثل، ألف ليلة وليلة وسيرة الظاهر بيبرس، إذ أخذت قصص ألف ليلة وليلة تصوّر في تلك الفترة مجتمعاً حضرياً يلعب فيها التجار أدواراً مهمة وبطولية، اقتصرت في السابق على الملوك والأمراء. وبالتالي أثمر هذا الاتجاه الشعبي الذي بدأ في القرن الخامس عشر عن ظهور حوليات شعبية في القرن الثامن عشر.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي