فن التجاوز.. لم عليك أن تغفر لمن تخلى عنك أو أخطأ بحقك وتمضي قدما؟/ مادلين المشارقة
“يمكنك قضاء دقائق أو ساعات أو أيام أو أسابيع أو حتى أشهر في تحليل موقف ما؛ محاولا تركيب القطع معا، وتبرير ما يمكن أن يحدث، أو ما كان يمكن أن يحدث.. أو يمكنك بكل بساطة ترك القطع على الأرض والمُضي قُدما”
(توباك شاكور)
في الجاهلية، وفي شبه الجزيرة العربية تحديدا، حيث تتربع القَبَلية على عرش القوة، حلت البسوس ضيفة على ابن أختها؛ جسّاس، واصطحبت ناقتها وأطلقتها في المراعي. لم يُعجب كُليب -ملك القبائل العربية آنذاك- أن يُكرم جسّاس ضيفا دون علمه، فكانت هذه أول مُخالفة قام بها جسّاس، أمر كُليب -حينها- بإعادة الناقة إلى المراعي غير المُخصصة، الأمر الذي لم تكترث له البسوس مما دفعها لأن تُطلق ناقتها في اليوم التالي وكأن شيئا لم يكُن. حين رأى كليب الناقة مرة أخرى، غضب غضبا شديدا ورفع سهمه وضرب الناقة فوقعت ميتة. حين علمت البسوس بمقتل ناقتها، أخذت تُقلل من قيمتهم، وبأنهم غير قادرين على حماية ضيوفهم، الأمر الذي أثار حفيظة جساس ودفعه لمواجهة كليب. وانتهت المواجهة بسهم من جسّاس أصاب كليب بمقتل، فبدأت حرب البسوس -أطول حرب في تاريخ العرب- التي قادها الزير سالم -أخو كليب- لمدة أربعين سنة بين قبيلتي أبناء العمومة بكر وتغلب بسبب ناقة! (1)
إن ما فعله الزير سالم نفعله كثيرا في علاقاتنا، لو تحلّى بقليل من الحكمة لما حدث كل هذا لمدة أربعين سنة. كليب لم يتجاوز خطأ جساس، وجساس لم يتجاوز خطأ كليب، والمهلهل لم يتجاوز موت أخيه، وتوقفت حياته عند هذه النقطة وأخذ يحوم حولها، وجعلها نقطة البداية والنهاية، المركز وما حوله وانتهت بموته. ولعلّنا نخطئ الخطأ نفسه في علاقاتنا التي تنتهي بخلاف، بموت، أو بانفصال. لو أننا تركنا الناقة في المراعي، وتجاوزنا الخطأ، لما تعرقلنا بحروب تُكلّف الكثير منا. فلماذا لا نختار التجاوز والغفران؟ ولماذا نختار أن نقف عند الأخطاء ولا نغفر، أن نقف عند الموت ونُشل؟ هل اختيار الخوض في الحروب النفسية التي تُصاحب خلافاتنا أو خساراتنا أسهل من أن نتجاوزها؟
نحن لا نتجاوز بما فيه الكفاية!
“يجب أن تتخذ قرارا واضحا بأنك ستمضي. التجاوز لا يحدث بشكل تلقائي. يجب عليك أن تنهض وتقول: لا يهمني مدى صعوبة هذا الأمر، ولا أهتم بخيبة الأمل، ولن أترك هذا يحصل على أفضل ما لدي. أنا أتجاوز وأمضي”
(جويل أوستين، حياتك الأفضل الآن: 7 خطوات للعيش في إمكاناتك الكاملة)
في كتاب “محادثات مع الله” (Conversations with God) يقول الكاتب نيل دونالد والش خلال مقابلة (2) مع لاري كينج في عام 2000 إن ما دفعه لكتابة هذه السلسلة من الكتب -التي حققت أفضل المبيعات- هي الفترة الأكثر سوءا وظلاما في حياته، خسر وظيفته وكان يتابع بتمهل انهيار علاقته مع الجميع، وكان مُشردا بلا مأوى يعيش في خيمة. تلك الفترة التي كان بها شديد الغضب ولا يجد مُبررا واحدا يُفسر له لِمَ يحدُث له ما يحدث له، وبأن لا شيء في حياته يسير كما خطط له. كان غاضبا من الله، مُوجها له أسئلة ومُطالبا إياه بإجابات شافية تشرح له السبب وراء عدم نجاحه في حياته، وأنه في هذه اللحظة سمع صوتا يهمس له بإجابات، وعلى الرغم من أن لا أحد همس له، فإنه قرر أن يُدوّن كل الإجابات التي شعر بأنه يسمعها والتي ملأت ذهنه، وأنتجت هذا الحوار مع الله.
في مقابلة أخرى من برنامج الكاتب إكهارت تول، يقول نيل دونالد والش إنه لم ينو كتابة عمل إبداعي، ولم يكن الهدف هو النشر، ولم يكن يظن أن أحدا غيره سيقرأه أو أنه سيتحوّل إلى فيلم (3)، قال: “لقد كانت مجاهرة شخصية، وعملية تكفير ذاتي، كُنت أخَلّص نفسي من الأفكار التي تتملكني وتُسيطر على مجرى تفكيري نحو وحول الحياة، كُنت أتجاوز”. في كتابه يقول: “نعم، الأمور التي يفعلها أو يقولها الآخرون من الممكن أن تكون مؤذية في حقك أحيانا، وبالتأكيد هذه الأمور ستصل إلى مرحلة ما تكف بها عن أذيتك، أو شعورك بوقعها، والشيء الوحيد الذي سينقلك من مرحلة الأذى إلى مرحلة الشفاء هو الصدق التام. ما الذي أعنيه بالصدق؟ أن تكون بكامل استعدادك لتأكيد صدق مشاعرك تجاه شيء ما وعدم تجاهل سوئه، والاعتراف به، والإعلان عنه. كن لطيفا بصدقك، وكاملا. عش حقيقتك الكاملة وحقيقة ما يحدث لك بصدق، وبشكل متسق. وقُم بتغيير حقيقتك في أول فرصة تُتاح لك بوضوح، وامضِ”.
تعليقا على ذلك، تقول الكاتبة جيمي فارون في مقال بعنوان “لماذا نحتاج إلى التجاوز عندما يحين وقت التجاوز” (4) إن ما يقوله والش دعوة لمواصلة إعادة تقييم مُعتقداتنا، حقائقنا، وأذهاننا، وإن أمانة الاعتراف بالحقيقة كاملة هو مجرد عامل يحثنا على البدء بالعمل. الحقيقة التي تُكسبنا الوعي بأن علاقتنا مع فُلان لن تنجح مهما توقفنا، خسارتنا للعمل لن تعود مهما أظهرنا حاجتنا إليه، وصداقاتنا أخذت أكبر من حجمها وخُذلنا. أن نتقبل عددا من التغيرات التي ستطرأ على حياتنا، وأن ننفتح لها، أن نعترف بأن فُسحة الأمان التي كانت تُحيط بنا لم تعُد آمنة، أن نكبر وننضج وننهض من جديد، إذ دوما وأبدا سنحتاج إلى المُضي قُدما، فنحن بحاجة إلى رؤية الشيء الكبير الذي ينتظرنا بعد كل خسارة، ولا حاجة إلى إشعال النيران في حياتك ورؤيتها تشتعل أكثر، وتلتهم أكثر، وأنت تُشاهدها.
شاهدني وأنا أتجاوزك..
“التجاوز يعني أن تُدرك أن بعض الأشخاص خُلقوا ليكونوا جزءا من تاريخك، لكنهم ليسوا جزءا من مصيرك”
(ستيف مارابولي)
الكاتبة هايدي برايب، والتي تعرضت لانفصال عاطفي شديد دفعها لكتابة فيض من المقالات، جمعت بعضا منها في كتاب واحد يُواسي كل من مرّ بما مرّت به، وأهدته لمن كان سببا في كتابتها تحت عنوان “هذه أنا بينما أتجاوزك وأتخلّى عنك”. تقول هايدي إنه في عالم يُشجعنا على التشبث بما نُحب يكون من الصعب علينا أن نتخلى، أن نترك وأن نمضي، وتصف التجاوز والمضي قُدما بأنه فن نتعلمه باستمرار. وتقول بين هبوط وآخر كنت ألتقط أنفاسي وأكتب، وبدأت: “يبدو من الواضح أن نلملم أنفسنا بعد كل خيبة أو خسارة لِما نحب، ننتحب على ركام الذكريات، وننزف على الورق آمالنا التي انتهت صلاحيتها”. وتكتب في أولى مقالاتها: “هذه أنا أقبل أن تُغادر، حيث لا وجود لأي حجة تُقنعني بعكس ذلك، حيث لا إقرار أو صفقة يمكنني المراهنة عليها والتي قد تجعلك تغيّر رأيك وتبقى هُنا. هذه هي استقالتي الخفية واعترافي بسقوطنا، هذا هو قبولي الذي لم أتمكن من الوصول إليه سابقا. هذه أنا التي تعلم أننا لن نعود”. (5)
وفي مقطع متداول للناشطة جيسيكا أوبوكو بعنوان “في الثلاثين من عمري ومُنتهية الصلاحية” تقول أن تصل لسن الثلاثين دون شريك أو أطفال هو أمر مُستهجن خصوصا من قِبل العائلة التي تحثها دوما على الالتزام بعلاقة ما، وتستذكر أنها في عام 2015 جلست على أرضية منزلها في اللحظة التي تخلّى عنها آخر من كان شريكا لدربها، تُفكر خائفة: “لا أريد أن أخوض هذا وحدي”، وأن كل من كان يواسيها كان يقول لها: “حسنا، كُسر قلبك، امضي”، فتقول لم يكن الأمر كسر القلب وحسب، لقد تشتت قلبي لقطع صغيرة تطايرت، وهذا سيأخذ وقتا طويلا، ولا عيب في ذلك، بل ولا يدعو أيضا للشفقة.
الغُفران..
“الغفران هو أقوى شيء يمكنك القيام به تجاه وظائفك وروحانيتك. ومع ذلك، فإنه لا يزال أحد أقل الأشياء جاذبية بالنسبة لنا”
(واين داير)
الراهب والمُدرب الشخصي غور غوبال داس (6) يُشارك مُتابعيه الذين يبلغ عددهم أكثر من 4 ملايين مُتابع قصته مع والده، وهما اللذان يختلفان في وجهات النظر، وامتنع عن محادثة أبيه لمدة سنتين. لقد ركع والده تحت قدميه، باكيا وراجيا ولده غور غوبال أن يُكلمه ولو بكلمة واحدة، ولكنه لم يقبل. بعد ضغط والدته قبل أن يبدأ بالحديث معه. يعترف ويقول إنه في كل زيارة كان يتوجه بها لبيت عائلته كان يُريد أن يقول لوالده: “أعتذر يا أبي، لم يكن مقبولا ما فعلته بك”، ولكنّ كبرياءه منعه من ذلك، الكبرياء الذي يهمس له: “لماذا تعتذر؟ لقد كنت مُحقا”. ويقول: “وفي صباح يوم عابر حادثتني أمي لتخبرني أن أبي قد فارق الحياة، توجهت لجنازته ذارفا دموعا لا تُرى، دموعي كلها تقول له: أبي أنا آسف، أعتذر جدا، لم يكن مقبولا ما فعلته بك”.
يُتابع غور غوبال داس ليخبر كل من يُشاهده أن الغفران هو المعنى الحقيقي للعلاقات العميقة والقوية، وأننا لا نعلم كم من الوقت سنكون محاطين بأولئك الذين يلتفّون حولنا الآن، فما فائدة الوقوف على الأخطاء؟ والموت الذي خطف والده خطف زوج بطلة فيلم “P. S. I love You”، الزوجة التي لم تستطع تجاوز موت زوجها الذي ترك لها رسائل ومفاجآت كثيرة بعد موته، والتي توقفت حياتها بفوضى لفترة طويلة بسبب موته. كذلك صورت لنا شاشة التلفاز مشهدا جمع الطبيبة إيزي واحدة من أطباء “Grey’s Anatomy” التي أحبت مريضها الذي يرقد على سرير الموت، ومات، ولم تتجاوزه بسهولة لحلقات امتدت كثيرا. والزير سالم الذي مات وهو في رحلة ثأره لأخيه الذي لم يتجاوز موته. ولا أحد يُنكر أن تجاوز موت الأحبة أصعب وأشد من الخسارات المُتبقية، وهو شيء مررنا به جميعا، فنحن لا نتجاوز فُقدان أحبائنا بسهولة، ولكننا حتما سنتجاوز. كل هذه الأمور تُلقي بنا في بئر عميق من الذكريات التي يصعُب محوها ونخاف التخلي عنها واستبدال جديد نجهله بها، فالغفران هو أن تسمح لنفسك أن تعيش بسلام.
بالغفران تتحرر من مشاعر الأذى، والغضب، والعجز، هذا المشاعر التي تجعلك متشبّثا غير قادر على التجاوز. ليس هذا وحسب، بل لغفرانك عدة فوائد: (7)
– القوة الحقيقية في الغفران: خلافا للاعتقاد السائد، فإن المغفرة لا تعني الضعف، بل الغفران هو أن تكون قويا بما يكفي للمُضي قُدما وإدراك أنك سوف تكون سعيدا دون أي شيء تتمسك به.
– الغفران هو تعبير عن حب الذات: أن تُحب نفسك بما يكفي لإزالة كل الطاقة السامة من حياتك وتحرير نفسك من الغضب والمرارة والاستياء.
– أن تخرج من دور الضحية: هل تأذيت من قِبل شخص ما؟ حسنا، ولكن هذه هي الحياة. الجميع يختبر حسرة، والجميع يختبر خيانة. ومع ذلك، فإن ما يفصل الناجين عن الضحايا هو التسامح. الغفران يسمح لك بالمُضي قُدما ويجعلك تعتزل لعب دور الضحية.
– بالغفران تتخلى عن الهَوَس: لا يوجد ما هو أسوأ من الهوس بالشخص الذي آذاك، ليُصبح كل ما تفعله وما يشغلك ما هو إلا تغذية لغضبك، والإحساس بعدم الأمان، والشعور بالمرارة، والدخول في نوبات الاكتئاب، والشعور بالقلق. إضافة إلى ذلك، هم ليسوا مهتمين بك. إن مسامحتهم هي الخطوة الأولى للمُضي قُدما. وتذكر، إنهم لا يستحقون هوسك، فاتركهم وامضِ.
في واحدة من مقالات الكاتبة هايدي برايب تختمها بالقول: “إن أفضل شيء يمكنك القيام به في بعض الأحيان لشخص تحبه أو كُنت تحبه هو السماح له بالرحيل، وهو ما يسمح لك بفعل المزيد”. وأيضا ما تقوله الكاتبة غابرييل زافين، في مذكرات فقدان الذاكرة في سن المراهقة: “لقد كان غريبا حقا. قبل شهرين، ظننت أنني لا أستطيع العيش بدونه. على ما يبدو أنني ما زلتُ على قيد الحياة!”. نعم؛ إن التجاوز فن، يحتاج إلى وعي كبير حتى نُتقنه، نحتاج إلى دروس عديدة لفهم معنى الغفران وقيمة المُضي قُدما وترك ما كُتب له أن يكون ذكرى، أن يُصبح ذكرى! أن تفك تشابك أصابعك، ألّا تتشبث بالأخطاء، ألّا تجعل مَن آذاك محورك ونقطة هوسك وتوقفك، أن تغفر وألّا تُغذي غضبك.. فكّر، مَن عليك أن تُسامح الآن؟