مسلسل تشرنوبيل.. أصل الكارثة وفصلها/ علا المصياتي
من آخر إنتاجات شركة HBO الأمريكية للمسلسلات القصيرة، مسلسل تشرنوبيل Chernobyl الذي أخذ تسميته من الحادثة المروعة الواقعة في عام 1986 على الحدود البيلاروسية الأوكرانية. من منا لم يسمع بحادثة انفجار المفاعل النووي تشرنوبيل، والمنطقة المحظورة شمال أوكرانيا، والمهجورة إلى الأبد؟ يعيد المسلسل الزمن إلى الوراء ليرينا كيف كانت الحياة في ذلك المكان، ويكشف لنا عن أهم العوامل التي أثرت على تلك الحادثة، التي يقف وراءها الإنسان وأخطاؤه دون أدنى شك.
يعود المسلسل للحادثة ليس بغرض رويها من جديد من منطق ماذا حدث، فالجميع يعلم، ولكن يقدم كاتب السيناريو ومنتج المسلسل كريج مازن، وهو مبتكر فكرة المسلسل وقد عمل على تطوريها بنفسه عبر متابعته للأبحاث والتقارير والوثائقيات وإجراء مقابلات مع أشخاص عاشوا في أوكرانيا السوفيتية وعايشوا الحادثة. إذًا، هناك مصادر عديدة لما جرى فما الذي سيقدمه مازن للمشاهدين؟ إلى جانب عمله مع المخرج يوهان رينك، والجدير بالذكر أنه لم يسبق للمخرج أو للكاتب العمل على مواضيع مشابهة كالتي يعرضها مسلسل تشرنوبيل.
كيف تعاملت السلطات السوفييتية مع الكارثة؟
الصدمة كانت ردة الفعل الأولى، وعدم التصديق هو المحرك الأساسي لأفعال الشخصيات، لم يعتقد العالم أناتولي دياتلوف الذي يعمل في المناوبة الليلية في المفاعل النووي، بأن انفجارًا قد يحدث أثناء تنفيذ العمال في غرفة التحكم لأوامره الصارمة، وهي ضرورة خفض درجة الحرارة في المفاعل أثناء قيامهم باختبار السلامة، كما لم يصدق صوت الإنذار وكل الإشارات التي أطلقها المفاعل، وكل علامات التسمم إثر التعرض للإشعاع التي أصابت العمال في المفاعل وأردت بعضهم قتلى. كما لم يتوقع رجل الإطفاء فاسيلي إجناتنكو بأنه سيترك بيته وزوجته متوجهًا إلى مصيره، عندما غادر البيت معتقدًا بأنه ذاهب إلى إخماد حريق في المفاعل النووي.
هذا ليس حريقًا، جملة لم تأت مبكرة من قبل العالم الفيزيائي فاليري ليجاسوف، في اجتماع حضره الأمين العام للحزب الشيوعي وقتها ميخائيل غورباتشوف، معتقدًا هذا الأخير بأن الأمور تحت السيطرة، ومؤكدًا بأنه لا داعي لنشر الأخبار حول الحادثة كي لا تصل إلى أعدائهم، وضرورة التحفظ على الموضوع ريثما يتم إخماد الحريق. عن طريق تلك الجملة أخذ العلم موقفه من قرارات السلطة، وغيّر بذلك الطريقة التي كانت ستتبعها الحكومة في اعتقادها بأنها وجدت طريقة للسيطرة على ما حدث. وهنا ظهرت شخصية غورباتشوف بأداء الممثل السويدي ديفيد دينسك، شخصية مصدومة مهزومة وخائفة، ومن حوله من قيادات الحزب لا يفكرون إلّا بطريقة مثلى للانتصار على المعلومات، غير مقدريّن لطبيعة الكارثة، غير مهتمين إلاّ بأمر واحد وهو أن يكون كل شيء على ما يرام دون المساس بسيادة الاتحاد السوفييتي.
على الجانب الأخر البيلاروسيّ لم تتوقف مساعيّ الفيزيائية النووية أولانا خوميوك عن طرق أبواب كبار مسؤوليّ الحزب للتنبيه إلى الخطر القادم من انفجار المفاعل، والتأكيد على أنه سيؤدي بحياة الملايين من الناس الذين تعرضون للإشعاع، إلاّ أن أحدًا لم يأخذ على محمل الجد تحذيراتها. لنكون في أول حلقتين أمام مجموعة أفكار أراد لها الكاتب والمخرج أن تكون عتبة التعرف الأولى على أهم العوالم المميزة للساعات الأولى بعد انفجار المفاعل. والتي يمكن تحديدها بمفردات من قبيل، الصدمة، الثقة العمياء، التكتم على الحقيقة خوفًا على سمعة الاتحاد السوفيتي.
هذه الحادثة كشفت عن فلسفة السلطة السوفييتية وكيفية إدارتها للكوارث، وربطها للأحداث الطارئة بالصورة البراقة النقيّة للاتحاد السوفييتي. وهذا يكشف لنا طبيعة بعض القرارات التي اتخذها السوفييت من أجل السيطرة على المشكلة. سلّط المسلسل الضوء على حادثتين كشفتا عن استهتار وانعدام مسؤولية من قبل السلطات، الأولى كانت في استدعائهم لعمال المناجم للعمل في منطقة الإشعاع للحيلولة دون تسرب مخلفات الإشعاع إلى مياه البحر، وهكذا عمل المئات من العمال دون أقنعة واقية ولا تعهد بضمان السلامة من قبل المسؤولين. والثانية، كانت بعد فشل روبوت آلي استقدم من ألمانيا لوضعه في منطقة المفاعل المنفجر بهدف إزالة الغرانيت المشبع بالإشعاع وطمره، تعطل الروبوت بسبب سوء تقدير لنسبة الإشعاعات المتواجدة في منطقة المفاعل، ولذلك لم يتبق سوى الروبوتات البشريّة كما أطلقوا عليها، فطُلب من مجموعة من العمال الدخول إلى تلك المنطقة وإزالة المخلفات في 90 ثانية فقط، تلك الثواني المصيريّة التي غيّرت من طبيعة الكارثة وأنقذت أناس آخرين كانوا سيموتون لولا التدخل البشري. لذلك من أنقذ الناس بعد الحادثة في تلك المنطقة كان العمال، الذين حملوا على عاتقهم نقاء صورة الفكر السوفيتي بينما هم أول ضحاياه، قد اسُتغلت جهودهم بطريقة السلطة التوليتارية، عبر اللعب على المشاعر الوطنية وبتقوية عزيمتهم واستثارة الحماسة الجماعية، التي اختصرتها جملة يقولها العمال بعد نجاحهم في إزالة قطع الغرانيت، “أنا أخدم الاتحاد السوفييتي”.
الوجه الأنثوي الأخلاقي للكارثة
لقد أعاد الكاتب إحياء شخصيات العلماء المجهولين الذين عملوا على تدارك الكارثة، من خلال شخصية عالمة الفيزياء النووية أولانا خوميوك، التي تابعت الحكاية وأجرت لقاءات مع المتضررين وتوصلت إلى الحقيقة، كما كان لها كل التأثير على قول الحقيقة من خلال الضغط على ليجاسوف ودفعه للتصريح أمام المحكمة بكل ما جرى، والاعتراف بأن ما يقف وراء تشرنوبيل هي سلسلة الأخطاء البشرية التي قام بها العلماء، وقد غزت شخصياتهم نوازع السلطة وحب القيادة، خصوصًا في شخصية العالم أناتولي دياتلوف الذي كان يجبر العمال الآخرين على القيام بكل ما يأمرهم به دون التفكير بخطورة أوامره، وتظهر في شخصيته عنجهية وصرامة السلطة السوفييتية وحرصها على طاعة أوامرها وعدم السماح للشك بأن يلعب في قراراتها، ثقة عمياء بصلابة شخصية الرفيق الاشتراكي دفعت ثمنها الألاف من البشر.
في ذلك الوقت في الاتحاد السوفييتي لم تصل المرأة إلى مناصب عليا في الدولة، ولم يكن لها دور مؤثر كالدور الذي لعبته خوميوك في كشف المسكوت عنه في أحداث تشرنوبيل، لذلك يعد وجود شخصية أنثوية بوجه أخلاقي تدفع نحو إظهار الحقيقة، هو بمثابة تحية لكل العلماء المجهولين الذين سجنوا فيما بعد ولم يعرف بأمرهم. في المقابل يأتي انتحار عالم الفيزياء ليجاسوف كاشفًا عن تلك الحقيقة، ومصرحًا بأن العلم يجب أن يعاقب نفسه على أخطائه، فقد أقدم الأخير على الانتحار بعد عامين على وقوع الكارثة، بعد أن قام بتسجيل كل ما يعرفه عن المأساة على أشرطة، منهيًا بذلك الشكوك حول الموضوع، في الساعة ذاتها التي انفجر فيها المفاعل خلال محاولة القيام باختبار السلامة. تعطينا شخصية العالم الفرصة للتفكير بعواقب الأكاذيب ومحاباة المسؤولين ومجاراة مقولاتهم وأثر ذلك على مصداقية العلم وشخصية العالم. على الجانب الآخر تلعب شخصية زوجة رجل الإطفاء إجناتنكو، ليودميلا، التي تختصر شخصياتها العديد من ضحايا الحادثة من سكان منطقة بريبيات القريبة من تشرنوبيل، كانت ليودميلا حاملًا عندما حدثت الكارثة، التحقت بزوجها في المشفى الذي نٌقل إليه، واستطاعت عبر رشوة الممرضات أن تبقى بقربه، على الرغم من خطورة ذلك الأمر. خلال تلك الفترة كبر جنينها وامتص الإشعاعات التي كانت يمكن أن تقتل الأم، تحمل هذه الشخصية التي تذكر شهاداتها بالتفصيل في كتاب صلاة تشرنوبل، للكاتبة البيلاروسيّة ستيفلانا أليكسييفيتش، بعدًا إنسانيًا للكارثة بكل ما فيها من فقدان ومعاناة، كما وإن حكايتها الشخصية في إحدى جوانبها تقدم إدانة لكل من أخفى الحقيقة أو تباطأ في حماية أهل المنطقة.
بين التجسيد والتشابه البشري والمكاني
توجه طاقم المسلسل إلى إحدى المفاعل النووية التي تم بنائها في ليتوانيا، خلال ذات الفترة التي تم فيها بناء المفاعل تشرنوبيل، وبذلك حصلنا على بيئة مشابهة حد التطابق بين المكانين، قدمت منطقة فيلينوس الليتوانية صورة منطقة بريبيات البيلاروسية، المنطقة السكنية العمالية التي صارت منطقة أشباح بعد إخلاءها من ساكنيها، ما أثر بشكلٍ أساسي على حقيقية الصورة وإضفاء البعد الواقعي على الأحداث، ويمكن أن يكون ذلك مقصودًا من المخرج في توجيه أنظارنا إلى هناك ليقول بأن هناك احتمالية لوقع شيء مشابه اليوم إن لم تأخذ البشرية حذرها. في المقابل كان اختيار الممثلين أمرًا في غاية الأهمية، يمكننا ملاحظة التشابه بين الشخصيات الحقيقية والممثلين الذين قاموا بأداء أدوارهم، وأكثر ما لفت أنظار المشاهدين، هي شخصية غورباتشوف، والعالم فيرمين، ليجاسوف، ودياتلوف. أحد التفاصيل التي لعبت على إظهار ذلك التشابه كان العنصر الموسيقي في المسلسل الذي لم يبعدنا عن ما وقع، بل حملنا إلى تلك المنطقة الملتهبة حيث صوت صفارات الإنذار لا يهدأ في أول حلقتين، وأصوات سكان منطقة بريبيات السكنية، ومن ثم الإحساس الدائم بالخطر الذي حمل عبئه التأليف الموسيقي الذي قامت به واحدة من أشهر مؤلفي موسيقى الدراما، عازفة التشيللو الإيسلندية هيلدر غوفنادوتيير، مؤلفة موسيقى فيلم العائد، وفيلم الخيال العلمي أريفيل، يبدو أنها تتصدى عبر قوس التشيللو لكل المواضيع صعبة التصديق التي تتطرق لها السينما، ولذلك برعت في تحويل الأجواء الكارثية لتشرنوبيل والرعب الذي خيّم على المنطقة إلى خلفية موسيقية ساهمت فيها بعض الآلات الموسيقية الإلكترونية إلى جانب التشيللو الذي أضفت نغماته بعدًا مأساويًا ووضعنا في حالة انتظار، الأمر الذي كان له كل الأثر على متابعة أحداث المسلسل.
تقدم الحلقة الخامسة والأخيرة، إطلالة نادرة خلف الحادثة، في صيغة روي أحداث، تذكر واستعادة دقيقة وتفصيلية، لما جرى قبل ساعات، مؤكدةً على خطأ الإنسان الذي كانت عواقبه وخيمة، وتمر على أسباب الحادث الذي شكلته الأخطاء البشرية والقرارات السيئة، وتشكل خطوة بخطوة الظروف اللازمة لردود الفعل المتتابعة المؤدية إلى الكارثة، خروقات للقواعد، مزيج من ظروف وعوامل مستقلة، وأمزجة وطباع في أحيانٍ أخرى. قد يمنحنا المسلسل بساعاته الخمس بعدًا تأمليًا كافيًا للنظر للوراء في تفاصيل الكارثة، لا يطيل علينا ولا يقصر المدة، بل يقدم ما يريد تقديمه من الكارثة بزمن مثالي، إلى جانب إضفاء إيقاعه الخاص المرتبط بالفترة التاريخية، ويترك للمشاهد فسحة تأمليّة للإبحار مع نفسه عبر الزمن ومحاكمة تبعات أخطاء الإنسان، كل ذلك يجري مع تعقب التغيير الذي ضرب حياة وسلوك البشر إثر معاناة الفقدان والموت، وصدمة الرحيل.
يقدم مسلسل تشرنوبيل قراءة عن حاضرنا، عبر استعادته للطريقة التي تعاملت بها حكومة ميخائيل غورباتشوف مع أحداث الكارثة، آخذةً بعين الاعتبار أهمية إخفاء المعلومات والتغطية على أخبار الكارثة عالميًا، قبل نهاية الحرب الباردة التي كانت تهدد العالم بمخاطر مشابهة لما حدث في تشرنوبيل. واليوم نحن أمام معركة تناقل معلومات مشابهة، نشهدها عبر أدوات مختلفة، إلاّ أن الدوافع وردة الفعل عينها، نلاحظ ذلك في كل الأكاذيب التي تطلقها حكومة ترامب، وفي صراعها النووي مع كوريا، وسط مخاوف على السيادة من قبل كلا منهما، دون الأخذ بعين الاعتبار لسلامة البشر وأمنهم، ولذلك وجه المسلسل دفته للحديث عن مخاطر الأكاذيب والدعاية السياسية التي تعمل عليها السياسيات متناسية في المقابل لكل المخاطر التي تتعرض لها البشرية، وأدوات السلطة التي تلجئ لها عندما تخاف وتشعر بتهديد سيادتها، فلا تجد أمامها إلاّ إخفاء الحقائق والأكاذيب لتطلقها، وقد نأخذ على سبيل المثال مشكلة التغيير المناخي، الموضوع الذي يلقى تهميش من قبل السلطات الكبرى في العالم.
الترا صوت