“بلاك ميرور”: ديستوبيا الإنسان المعاصر/ أنس إبراهيم
(1)
“بلاك ميرور” Black Mirror مسلسل درامي بريطاني من أربعة مواسم حتّى الآن، هو استكشاف موسّع للنفس الإنسانيّة في عصر تتحكّم فيه التقنيّة والتكنولوجيا بكلّ شيء في حياتنا في المستقبل القريب.
يتنبّأ المسلسل عبر حلقاته التي تروي قصصاً مختلفة، بأثر التكنولوجيا وتقنيّات الاتصال والتوثيق الرقميّ على مستقبل العلاقات الإنسانيّة وانطباع الإنسان عن الحقيقة وتأثيرها على مفاهيم كالجريمة والعقاب، الذاكرة والنسيان، التقييم النفسيّ والاجتماعيّ والعديد من المفاهيم الأخرى. وترسم كلّ حلقة من حلقات المسلسل صورة غاية في السوداويّة عن حياة مستقبليّة تتوافر فيها أدوات كان من المفترض أنّها وجدت حتّى تُحسِّن من حياة الإنسان إلّا أنّها وبدلاً من ذلك تحوّل حياته إلى جحيم.
كاميرات في كلّ مكان، تصوّر كل شيء، كلّ لحظة، كلّ نفَسَ وكلّ خاطر. خدمات تعيد الموتى وتمنح الخلود في أماكن رقميّة متخيّلة. خدمات أخرى تمنعنا من التواصل مع أشخاص على أرض الواقع وتمنعُنا حتى من رؤيتهم ولو من بعيد. كأنّ استعارة ميشيل فوكو عن المجتمع، وهي السجن، توشك أن تتحوّل إلى واقع لولا أنّ السجين والسجّان في حالة “بلاك ميرور” هو كلُّ أحد ولا أحد.
وجهات نظر حول الجريمة والعقاب
“تاريخك الكامل” هو عنوان الحلقة الثالثة من الموسم الأوّل، أمّا “التمساح” فهو عنوان الحلقة الثالثة من الموسم الرابع؛ وفي الحلقتين الذاكرة هي الثيمة الأساسيّة والمحور الأساسيّ.
في “تاريخك الكامل” يعيش البشر في المستقبل القرب في عصر يمكنُ للجميع فيه الوصول إلى ذاكرتهم الكاملة عبر زراعة ذاكرة إلكترونيّة – بذرة إلكترونيّة، تسجِّل كلّ شيء يفعلونه،
“يتنبّأ المسلسل بأثر التكنولوجيا وتقنيّات الاتصال والتوثيق الرقميّ على مستقبل العلاقات الإنسانيّة وانطباع الإنسان عن الحقيقة وتأثيرها على مفاهيم كالجريمة والعقاب”
يسمعونه أو يرونه في كلّ يوم من أيّام حياتهم. يتمّ الاحتفاظ بهذه المعلومات كلّها عن طريق برنامج إلكتروني في الدماغ، بحيث يستطيع كلّ شخص إعادة مشاهدة كلّ مشهد من حياته كاملاً بحيث يمكنه تكبير أو تصغير أو إيقاف أيّ جزء من أجزاء ذلك المشهد أو مجرّد إعادة مشاهدته وحسب.
لا تتوقّف حدود هذه التقنيّة عند مجرّد الاستخدام الشخصيّ؛ فهي تستخدم لدواعٍ أمنيّة، في المطارات على سبيل المثال، وتستخدم لدواع شخصيّة، للتحقّق من خيانة الزوجة في حالة قصّة حلقة “تاريخك الكامل”؛ إذ يقود شكّ “ليام” في زوجته وأحد أصدقائها القدامى إلى الخوض مرّات ومرّات في مشاهدة اللقاء الذي جمعه بصديق زوجته في بيت أصدقائها القدامى. ثمّ يدفعه غضبه وسُكره إلى الذهاب إلى بيت هذا الصديق وإجباره على مسح كلّ ذكرياته مع زوجته بعدما عرف منها أنّها كانت معه من قبل أن تلتقي به، وجمعتهما علاقة حميميّة.
إذا كان من المثير للرعب بمكان أن تحتفظ بذاكرة حيّة عن نفسك في دماغك تستطيع استدعاؤها في أيّ لحظة تشاء، فمن المثير للرعب أكثر أن يحتفظ الآخرون بذاكرة بالصوت والصورة عنك بإمكانهم إعادة مشاهدتها مرّات ومرّات في أيّ لحظة يشاؤون.
هذا ما يدفع “ليام” إلى الجنون والانفجار. في تلك السهرة يحدّث “جونز” أصدقاءه أنّه اعتاد ترك زوجته تنام وحدها وممارسة العادة السرّية بينما يعيد مشاهدة أكثر لحظاته حميميّة مع نساء عرفهنّ من قبل. تظلُّ هذه الكلمات ترنُّ في أذنيّ “ليام” بعد عودته وزوجته إلى البيت. في الصباح التالي وبعد مشاجرة طويلة مع زوجته يذهب مباشرة إلى بيت “جونز” ليجبره على محو ذاكرته عن زوجته تماماً واللحظات الحميميّة التي جمعتهما ليكتشف خيانة زوجته.
يعود “ليام” إلى البيت، ويجبر زوجته على مشاهدة تلك اللحظة بينها وبين “جونز”، فإعادة المشاهدة لا تتوقّف عند الشخص نفسه، بل يمكن أن يشاهدها الجميع بواسطة شاشة خارجيّة تمكّن المرء من جعل ذاكرته عموميّة بشكل فاضح لا يطاق.
يحضر ميلان كونديرا عند حضور الذاكرة، وفي هذه الحلقة تحديداً يحضر “ميريك”، بطل قصّة “الأوراق الضائعة” في كتاب “الضحك والنسيان” لكونديرا. يطارد “ميريك” امرأة كان يعرفها منذ زمن طويل، قبل احتلال الروس لبوهيميا وعندما كان ناشطاً سياسياً. الآن يشعر هو وأصدقاؤه أنّ عليهم التخلّي عن كلّ مستنداتهم التي قد تجدها الدولة في لحظة من اللحظات وتشكّل خطراً على أمنها أو مخالفة للقانون والدستور. يسافر “ميريك” للقاء “زدينا”، التي هي في مكان آخر تماماً. وهي من أولئك الذي اعتبروا الغزو الروسيّ انتصاراً لشعاراتهم القديمة، واعتبروا “ميريك” وأمثالهم خونة لروح الثورة. ترفض “زدينا” إعادة الأوراق، فهي وقبل كل
“في إحدى الحلقات يحضر “ميريك”، بطل قصّة “الأوراق الضائعة” في كتاب “الضحك والنسيان” لكونديرا. يطارد “ميريك” امرأة كان يعرفها منذ زمن طويل، قبل احتلال الروس لبوهيميا وعندما كان ناشطاً سياسياً”
شيء الدليل الدامغ على حبّ “ميريك” لها في الماضي، الحبّ الذي راح يتنكّر له سنيناً طويلة، بل ويشعر بالحرج كلّما استحضر أحدهم ذكراه.
ماذا سيفعل “ميريك” في عصر الذاكرة الإلكترونيّة؟ ماذا ستفعل شخصيّات كونديرا في عصر الذاكرة الإلكترونيّة؟ فجميع شخصيّات كونديرا هي إمّا هاربة من الماضي إلى الحاضر أو هاربة من الحاضر إلى الماضي. أمّا الهاربون إلى الحاضر فيصطدمون بالماضي في كلّ مكان يذهبون إليه مذكّراً إيّاهم أنّهم ليسوا هم أنفسهم من يدّعون أنّهم كذلك، وأمّا الهاربون من الحاضر إلى الماضي فيصطدمون بالحاضر وهو يطردهم من ماضيهم الذي لم يعد موجوداً بعد، ويذكّرهم أنّ الحنين ليس إلَّا تهيُّؤات حالمة وليس شعوراً حقيقياً بإمكانه أن يكون أساساً لهويّتهم الذاتيّة.
البعض يخاف الارتجال ويجده مفزعاً، والبعض الآخر يخشى ذاكرة الآخرين القويّة، بل ويهرب من أماكن تواجد أولئك الذين قد يذكّرونه بشيء قديم عن نفسه. فكيف يمكن للإنسان أن يحيا في عالم إن لم يملك هو ذاكرة عن الآخرين فيه هم يملكونها عنه وبإمكانهم إعادة مشاهدته مرّات ومرّات في كلّ لحظة يحلو لهم فيها ذلك؟
لكنّ الذاكرة في “بلاك ميرور” لا تقتصر على كونها مجرّد ذاكرة إلكترونيّة شخصيّة يتمّ تمحيص الأشخاص عبرها والتأكَّد من مسارات حياتهم ويومهم في المطارات وفي غرف النوم، بل هي تتعدّى ذلك لتكون الموضع الأكثر حساسيّة وأهميّة للسُلطة.
“التمساح”: حتّى الفأر لديه ذاكرة!
في حلقة “التمساح” نصادف “ميا”، وهي امرأة في العشرينات من عمرها، برفقة صديقها في سيارة على طريق ريفيّ يصدمان رجلاً بسيارتهما ويقتلانه ثمّ يقرران رميه في بحيرة قريبة ونسيان الأمر.
تمرّ سنوات عليهما، تتزوّج “ميا” وتنجب طفلاً وتصبح ناجحة في مجال عملها المعماريّ، ويظلّ الرفيق على حاله في الشرب وتدخين الحشيش حتى يلتقيان مرّة أخرى في غرفة فندق تقيم فيه “ميا” التي تزور المدينة لغاية تقديم ورقة في مؤتمر في مجال تخصصها.
الرجل مسكونٌ بالذنب ويقرّر الاعتراف بجريمتهما بعد قراءته خبراً يقول إنّ زوجة الرجل المقتول لا تزال تنتظر أيّ خبرٍ عنه. بعد جدالٍ بينهما تقتل “ميا” صديقها القديم في غرفتها الفندقيّة وتكون في الآن ذاته شاهدة على حادثة صدم سيّارة توصيل بيتزا آلية لرجل في الشارع عبر النافذة الزجاجيّة الكبيرة المطلّة على الشارع الذي وقع فيه حادث الاصطدام.
تنقل “ميا” جثّة رفيقها القديم في سيارتها وتخفيها في مكانٍ ما وتعود إلى منزل عائلتها. على الطرف الآخر، هناك امرأة مهاجرة تعمل في مجال تأمين حوادث السير، بواسطة تقنيّة هي عبارة عن جهاز يمكن وصله بدماغ الأشخاص عبر مجسّات يمكن بواسطتها مشاهدة ذاكرة الشخص عن الحادث.
تقابل المحققة الشخص الذي أصيب بالحادث، والذي يقودها إلى امرأة كانت تعبر الشارع في ذلك الوقت، والتي تقودها إلى طبيب كان يتلصّصُ على رجلٍ عارٍ، والذي يقودها عبر ذاكرته إلى صور المرأة التي قتلت الرجل وهي تقف في غرفتها الفندقيّة وراء النافذة الزجاجيّة الكبيرة قبل أن تغلق الستارة لتتخلّص من الجثّة.
تقود المحققة سيارتها إلى بيت “ميا” الذي يقع في منطقة نائيّة بعيدة عن المدينة. توضّح المحققة لـ”ميا” سبب زيارتها والذي يقتصر على مجرّد أخذ شهادتها عن حادث الاصطدام ذاك. ترتبك “ميا” وبعد تردد تدعوها للدخول. في الحمام تحاول “ميا” تغذية ذاكرتها بذكريات مختلفة عن تلك التي حصلت بالفعل ومن ثمّ تخرج من الحمام وتجلس أمام المحققة. تضع المحققة المجسّ فوق صدغها وتعود لتنظر في الشاشة الصغيرة لتلك الآلة التي تشاهد عبرها ذاكرة الشخص الذي يجلس أمامها.
تشاهد المحققة كلّ شيء؛ الجدال الذي دار بين “ميا” ورفيقها، وحتى تلك الحادثة القديمة التي مرّت عليها سنوات، بينما تترك “ميا” نفسها وذاكرتها لتقول كلّ شيء دفعة واحدة، الصراخ، رمي الجثة في البحيرة وأخرى في المدخنة. ترتعب المحققة وتعدها ألّا تقول أيّ شيء، لكنّ “ميا” التي فعلت كلّ ما فعلته حتى الآن للحفاظ على عائلتها لا تصدّقها، وتأخذها رهينة.
تستخدم “ميا” جهاز الذاكرة نفسه على المحققة لمعرفة الأشخاص الذين أخبرتهم المحققة
“تقابل المحققة الشخص الذي أصيب بالحادث، والذي يقودها إلى امرأة كانت تعبر الشارع في ذلك الوقت، والتي تقودها إلى طبيب كان يتلصّصُ على رجلٍ عارٍ، والذي يقودها عبر ذاكرته إلى صور المرأة التي قتلت الرجل وهي تقف في غرفتها الفندقيّة”
بقدومها إلى منزلها، وتتعرّف إلى زوجها، وبالطّبع تقتل المحققة في الغرفة التي تحتجزها فيها وتقود إلى بيت المحققة للانتهاء من الشهود الآخرين. بهدوء تتسلّل إلى بيت المحققة لتجد الزوج في الحمّام وتقتله بهدوء وتجلس لحظات تستعيد أنفاسها. وعند خروجها من المنزل تصطدم بطفل صغير وهو في سريره وينظر إليها مباشرة؛ تقفُ أمام الطفل هادئة وتُنهي عليه وتقفل عائدة إلى حفلة طفلها الصغير الذي يغنّي في مسرحيّة مدرسيّة.
شيئان يجعلان من النهاية ساخرة؛ الطفل الذي اتضح أنّه ولد أعمى ولا يستطيع الرؤية، والفأر الذي لديه في غرفته سيعتمد المحققون على ذاكرته عبر جهاز الذاكرة لمعرفة هويّة الجاني.
“بانخفاض” أو “بانخفاض تدريجيّ”!
في حلقة “بانخفاض”، وهي الحلقة الأولى من الموسم الثالث، هناك هذا التطبيق المحمول بواسطة جهاز صغير يحمله الجميع، ولكلّ امرئ تقييمه النفسي/ الاجتماعيّ الخاصّ، وهناك “لايسي”، التي تحاول رفع تقييمها إلى أكثر من 4.5 حتى تستطيع الحصول على شقّة بمواصفات عالية الرفاهية وفي حيّ يسكنه الكثيرون من أصحاب التقييم المرتفع. لكنّ التقييم في تلك الديستوبيا المتخيّلة ليس مجرّد تقييم لا ينعكس على حياة البشر؛ فالحصول على تقييم مرتفع يضمن الحصول على وسائل الرفاهيّة الأكثر رقيّاً وتطوراً. في المطار تستطيع حجز رحلة خاصّة إن كان لديك تقييم عالٍ، تستطيع الحصول على تسهيلات بنكيّة إن كان لديك تقييم مرتفع، في العمل إن انخفض تقييمك إلى أقلّ من 2 فأنت مطرود تلقائياً بدون أيّ نقاش.
هذه الديستوبيا قريبة جداً إلى زمننا هذا؛ التقييم وسيلة هامّة من وسائل النجاح والتي يحرص الجميع عليها ويتفحّصُها الكثيرون قبل اختيارهم كتاباً ما أو مطعماً ما لتناول وجبة عشاء تافهة. التقييم يشمل كلّ شيء، الكُتُب، الملابس، المطاعم، شركات الطيران، البارات، المقاهي، الجامعات، المؤسسات، الخدمات بمختلفها، لاعبو كرة القدم، لاعبو كرة الطائرة، المواقع الصحافيّة والمواقع الإباحيّة؛ كلُّ شيء يخضع للتقييم. لكن في “بلاك ميرور”، ليس ما يصنع البشر هو موضع التقييم بل البشر أنفسهم وهذا ما يجعلُ من الحقيقة مكروهةً ومن الأقنعة/ الكذب/ المجاملة الاجتماعيّة من أساسيّات المعاملات البشريّة وقواعد المجتمع الحاكمة.
تقوم “لايسي” برحلة إلى جزيرة حيث يقام حفل زفاف صديقتها وستكون هي الوصيفة؛ تلك فرصتها المثالية لرفع تقييمها الاجتماعيّ إلى حدود الـ5 في حفل سيحضره الكثيرون من أصحاب التقييم المرتفع. وفي طريقها إلى حفل الزفاف تبدأ المتاعب، بدءاً بتأخّرها على التاكسي واصطدامها بامرأة وهي تسرع إلى اللحاق بالتاكسي الآخر، فتحصل على تقييمين سيّئين. تصل المطار لتجد نفسها فوّتت الرحلة فتتوسّل موظفة المطار لجعلها تركب برحلة أخرى؛ لكنّها لا تستطيع لأنّ الرحلة الأخرى خاصّة بأصحاب التقييم ما فوق الـ 4.5 وتقييمها
“تخبرها السائقة بقصّة مختصرة؛ كانت متزوّجة برجل مُصاب بالسرطان، لم تستطع توفير العناية الجيّدة له بسبب تقييمها الاجتماعيّ المتواضع، وبعد موته أدركت عبثيّة ولا جدوى ما كانت تعيش بناء عليه؛ وهكذا راحت تشتم براحتها وتكون وقحة كما تشاء في أيّ زمان وأيّ مكان”
أقلُّ من ذلك. تفقد أعصابها للحظة وتتفوّه بالحقيقة: الحقيقة في هذه الحالة هي عبارة عن مزيج من الشتائم والبذاءة غير المتحكّم بها! الأمر الذي يدفع بالموظفة إلى طلب الأمن الذي يخرجها من المطار بعد إجراء قانونيّ هو: تخفيض تقييمها بنقطتين، ليصبح أقلّ من 2.5. هذا التقييم سيحرمها من قدرة استئجار سيارة تاكسي حديثة وبدلاً من ذلك استئجار سيارة أجرة رديئة لا تستطيع إيصالها أبداً إلى حفل زفاف صديقتها. مع ذلك تجد نفسها تجادل مؤجّر السيارات الذي يخفّض تقييمها هو الآخر عن طريق تقييم سيء. تجد نفسها على الشارع، وفي الشارع تلتقي بشاحنة تقودها امرأة مسنّة ذات تقييم سيّء جداً، فتخاف الركوب معها لولا إصرار السائقة عليها.
تخبرها السائقة بقصّة مختصرة؛ كانت متزوّجة برجل مُصاب بالسرطان، لم تستطع توفير العناية الجيّدة له بسبب تقييمها الاجتماعيّ المتواضع، وبعد موته أدركت عبثيّة ولا جدوى ما كانت تعيش بناء عليه؛ وهكذا راحت تشتم براحتها وتكون وقحة كما تشاء في أيّ زمان وأيّ مكان.
تصل متأخّرة إلى حفل الزفاف، تنتهي إلى السجن بعد فضيحة غير متوقّعة ورفض صديقتها القديمة استقبالها بسبب تقييمها الاجتماعيّ السيء الذي يظهر لدى صديقتها بواسطة ذلك الجهاز اللعين. في السجن تلتقي برجل تروح تتبادل الشتائم معه بلذّة لا توصف؛ إذ تزداد سعادتها مع ارتفاع معدّل بذاءة الشتائم ودقّتها ووقاحتها.
تلك الشتائم غير الخاضعة لأيّ عمليّة تنقية لفظيّة أو لغويّة هي الحقيقة في حالة “لايسي” ورفيقها في السجن. تصبح اللغة واللفظ والصورة مجالات حيويّة خاضعة لسطوة الآخرين وسلطتهم على الفرد. لا يتوقّف الأمر عند التوبيخ أو الاستبعاد كممارسة اجتماعية ضدّ الآخر المختلف، بل يتعدّاه إلى العقاب المباشر والفوري الذي قد يودي بالمرء إلى الهلاك الاجتماعيّ التام والاستبعاد التام من المجتمع.
(2-2)
كاميرات في كلّ مكان، تصوّر كل شيء، كلّ لحظة، كلّ نفَسَ وكلّ خاطرة. خدمات تعيد الموتى وتمنح الخلود في أماكن رقميّة متخيّلة. خدمات أخرى تمنعنا من التواصل مع أشخاص على أرض الواقع وتمنعُنا حتى من رؤيتهم ولو من بعيد. كأنّ استعارة فوكو عن المجتمع، وهي السجن، توشك أن تتحوّل إلى واقع لولا أنّ السجين والسجّان في حالة “بلاك ميرور” هو كلُّ أحد ولا أحد.
“المكروه شعبياً”.. العامّة تغتال نفسها!
لكنّ الاستبعاد ليس الحدّ الأخير الذي قد يصلُ الآخرون إليه، فهم قادرون أيضاً على الاغتيال.
في الحلقة السادسة من الموسم الثالث بعنوان “المكروه شعبياً”، العامّة، روّاد التواصل الاجتماعيّ وأيّ شخص بإمكانه أن يكتب تغريدة أو بوست على الفيسبوك، وهؤلاء جميعهم لديهم القدرة على تقرير موت شخص ما لمجرّد ارتكابه خطأ بسيطاً أو تعبيره عن رأيٍ يخالف آراء العامّة.
تبدأ الحلقة بالتحقيق في موت صحافيّة قامت بنشر مقال ينتقد ظاهرة اجتماعيّة ما بطريقة فجّة. يثير مقال هذه الصحافيّة ضجّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ واستهجاناً شديداً ممّن اعتبرو رأيها غير إنساني تجاه ذوي الإعاقات وحقوقهم الاجتماعيّة والإنسانيّة.
تموت الصحافيّة فجأة، ثمّ يتلوها موت آخر لمغنٍّ انتقد أداء طفل قام بتقليده بطريقة فجّة على التلفاز وأثار صخباً اجتماعياً كذلك. ما هو مشترك في موتهما، الصحافية والمغني، هو موتهما بواسطة “نحلة” اصطناعية تنتمي لمشروع تكنولوجي ضخم هو عبارة عن خلايا نحل اصطناعي هائلة العدد والانتشار في بريطانيا المستقبليّة. المشروع يهدف إلى الحفاظ على التوازن البيئي عبر تلقيح الأزهار اصطناعياً بواسطة النحل الاصطناعي للحفاظ على الأنواع البيئيّة المهدّدة بالانقراض.
أمّا عن موت الصحافيّة والمغنّي، فهو ناتج عن اختراق شخص معيّن لهذا المشروع، وتبديل وظيفة النحل من مجرّد التلقيح الاصطناعيّ إلى نحل قاتل. الفكرة هي أنّ أولئك الأشخاص الذين يحصلون على أكبر عدد من مشاركات الهاشتاغ: #الموت_لـفُلان، يتعرّضون للاغتيال والقتل بواسطة نحلة تدخل عبر الأذن وتظلُّ تحفرُ في الدماغ مسبّبة صداعاً وألماً لا يحتمل يفضي بالمرء للموت أو قتل نفسه بنفسه نتيجة للألم الهائل.
في الحالتين الأولى والثانية، أي المغني والصحافية، لم يعرف العامّة تحديداً بهذا الأمر، ولكنّ ظهور النمط واتّضاحه جعل من عمليّة مشاركة الهاشتاغ عمليّة اغتيال وتقرير موت شخص معيّن عمليّة علنيّة وواعية جداً وصلت إلى حدّ مشاركة هاشتاغ يدعو إلى موت المستشار
“الأشخاص الذين يحصلون على أكبر عدد من مشاركات الهاشتاغ: #الموت_لـفُلان، يتعرّضون للاغتيال والقتل بواسطة نحلة تدخل عبر الأذن وتظلُّ تحفرُ في الدماغ مسبّبة صداعاً وألماً لا يحتمل يفضي بالمرء للموت أو قتل نفسه بنفسه نتيجة للألم الهائل”
الأوّل/ رئيس الحكومة في بريطانيا المستقبليّة.
الاغتيال متعدّد الأشكال في مسلسل “بلاك ميرور”، فهو اغتيال معنويّ في حلقة “بانخفاض”، وهو اغتيال أخلاقيّ سياسيّ مؤقّت في حلقة “النشيد الوطني”، وهو اغتيال حقيقيّ واعٍ بالنتيجة المترتّبة على مشاركة هاشتاغ واحد في حالة حلقة “مكروه شعبياً”. لكنّ الحلقة ليست بعيدة تماماً عن وقتنا الحاضر؛ فاغتيال الشخصيّة إلكترونياً/ إعلامياً/ دينياً/ وطنياً، لطالما كان مقدّمة لاغتيال الشخصيّة حقاً بدمٍ بارد.
تتعدّد الضحايا في حلقة “مكروه شعبياً” وصولاً إلى النهاية بقليل؛ فالمخترق الذي صمّم هذا الأمر بكلّيته كان له غايات أبعد من مجرّد موت شخص أو اثنين، موت معلَنٌ على طريقة ماركيز. فالمشروع نفسه لم يكن مشروعاً بريئاً تماماً، فقد كانت للنحل الاصطناعيّ وظيفة أخرى ساعدت المخترق والمصمم لهذا الاختراق على إتمام مهمّته على أعلى مستوى؛ كانت للنحل وظيفة أخرى هي التجسس بالصورة على المواطنين في كلّ لحظة من لحظات حياتهم. وهذا ما جعل من قدرة النحل على تحديد الشخص المراد موته بشكل دقيق، فقد كان الهاشتاغ مرفقاً بصورة شخصيّة لأولئك الذين قرَّر العامّة موتهم إلكترونياً.
في النهاية تتضّح غاية المخترق. عندما يعتقد فريق التحقيق أنّه استطاع أخيراً وقف الاختراق وإعادة النحل إلى وظيفته الأولى، تخرج خلايا النحل جميعها عن السيطرة، ويتّضح أنّ الغاية الأخيرة من وراء فعل المخترق هي قتل كلّ شخص شارك في مسرحيّة الاغتيال المعلن هذه، الأمر الذي يودي بحياة الملايين من أولئك الذين قرَّوا واعين قتل بعض الأشخاص الذين ظنَّوا أنّهم لا يستحقّون الحياة.
شبح النازيّة بنكهة تقنيّة محايدة
في خمسينيات القرن الماضي، كتبت حنّة آرندت عن “عاديّة الشرّ” في كتابها “آيخمان في القدس”، بعد متابعتها لقضيّة آيخمان واختطافه من قبل الموساد الإسرائيلي ومحاكمته في القدس وما بدا أنّه “بلاهة مطلقة/ عاديّة مطلقة” في شخص آيخمان، الذي يوصف بأنّه مهندس الحلّ الأخير في الرايخ الألماني الثالث.
“عاديّة الشرّ” مصطلح شائع الاستخدام، ويُدلِّل على ما تصفه آرندت بأنّه العاديّة التي تحكم السلوك الإجرامي البيروقراطي لجنود الرايخ الثالث النازيّ. آيخمان بيروقراطيّ وعسكريّ مثاليّ لنظريّة آرندت عن الشرّ، فقد ادّعى الرجل المسؤول عن إرسال ملايين اليهود والغجر والمثليين وغيرهم إلى معسكرات الهولوكوست النازيّة في عموم أرجاء أوروبا، أنّه قام بتنفيذ ما يُطلَبُ منه، بل أكثر من ذلك، كان مسؤولاً عن مساعدة أولئك الذين نجو من معسكرات الموت النازيّة، وذلك كلُّه، ليس لشرٍّ كامنٍ فيه أو طيبةٍ كامنة فيه، بل ليكون فقط بيروقراطيّاً مثالياً بإمكانه تحقيق أفضلَ ما يمكن بأحسن الطرق الممكنة. ذلك شبَحُ الماضي الذي يتحدّث عن عودته جورجيو أغامبين في نظريّته حول الإنسان المستباح وزيغمونت باومان في كتابه “الحداثة والهولوكوست”. لكنّ “بلاك ميرور” يذهب إلى أبعد من مجرّد منظومة فكريّة شموليّة تحدِّدُ أولئك الذين يجب أن يُحرَقوا وأولئك الذين يجب أن يعيشوا وفقاً لنظريّات رجل دولة مجنون كهتلر أو رجل بيروقراطي غبيّ كآيخمان.
في حلقة “رجال ضدّ النار” البشر في حرب على أنفسهم. هناك “الصراصير”، البشر المصابون بأمراض تجعلهم يبدون كالزومبي الذين يجب القضاء عليهم حماية للقرويين والجنس البشريّ، وهناك البشر القرويون والبشر العاديون.
تحكي الحلقة قصّة جنديّ ينضم للجيش لمحاربة “الصراصير” والقضاء عليهم؛ وفي معركته الأولى يتعرّض لأشعّة أداة طوّرها “الصراصير” تُصيبُ نظامه النفسيّ/ الإدراكيّ بخلل يغفلُ عنه أطباء الجيش. في المعركة الثانية لا يستطيع الجنديّ إطلاق النار على ما يفترض بهم أن يكونوا “صراصير”، لأنّه لا يستطيع بعد تعرّضه لتلك الأشعة أن يراهم كذلك، فيحاول أن
“آيخمان بيروقراطيّ وعسكريّ مثاليّ لنظريّة آرندت عن الشرّ، فقد ادّعى الرجل المسؤول عن إرسال ملايين اليهود والغجر والمثليين وغيرهم إلى معسكرات الهولوكوست النازيّة في عموم أرجاء أوروبا، أنّه قام بتنفيذ ما يُطلَبُ منه”
يوقف جنديّة أخرى معه عن قتلهم ويهرب برفقة امرأة وابنها إلى مخبأهم حيث تجده الجنديّة التي كانت برفقته وتقوم بإعدام المرأة وطفلها وأخذه سجيناً.
في السجن يوضّح الطبيب النفسيّ للجنديّ كلّ شيء؛ البشر بطبيعتهم متعاطفون ولا يريدون قتل بعضهم البعض، في الحرب العالميّة الأولى لم يكن الجنود يطلقون النار بشكل جيّد وكذلك في الحرب العالميّة الثانية، هذا شيء جيّد يقول الطبيب النفسيّ أن لا يرغب البشر بقتل بعضهم البعض إلى أن يعتمد مستقبلك على محو عدوّك بالكامل. هذا هو التبرير الخاصّ بالطبيب النفسيّ: المستقبل والبقاء. وهو التبرير النازيّ ذاته، التبرير الدائم ذاته للأنظمة الشموليّة وللحروب جميعها: البقاء أو الإبادة.
“الصراصير” في الحقيقة يبدون كالبشر تماماً، هم ليسوا زومبي، ولكنّ الجنود يخضعون لعمليّة تحويل في الإدراك تجعلهم عندما يرون “الصراصير” يرونهم وكأنّهم زومبي من دون أيّ أصوات حتّى صراخهم ليس بشرياً وكلّ كلامهم ومطالباتهم للجنود بعدم قتلهم يُترجَمُ لذهن الجنديّ إلى صراخ زومبي لا يُفهَمُ منه شيء؛ وهذا ما يجعل عمليّة القتل أكثر سهولة وقبولاً للعقل البشري، لعقل الجنديّ.
هذه هي المنظومة النازيّة بنكهة تقنيّة مُحايدة التي يتنبّأ بها “بلاك ميرور”. فـ”الصراصير/البشر” هؤلاء دمهم فاسد، يحمل العديد منهم الأمراض الجينيّة الوراثيّة غير ممكنة الشفاء والتي تشكّل تهديداً لمستقبل البشريّة ولذلك يجب إبادتهم والقضاء عليهم. لكنّ ما هو مثير للاهتمام بحقّ هو غير الجنود، أي القرويون الذين ودون أن يخضعوا لأيّ عملية تحويل يرون “الصراصير/ البشر” تماماً كما يعتقدون أنّهم عليه، فإذا مسُّوا طعامهم ولو مسّاً أصبح طعاماً فاسداً لا يمكن تناوله، وهم يريدون موتهم تماماً كما لو أنّهم يعتقدون أنّهم زومبي حقّاً.
هل كان الشعب الألمانيّ خاضعاً لسطوة صورة هتلر وصراخه وكلماته حول اليهود عندما اعتقد حقاً أنّ اليهود عرق دنيء والغجر أيضاً؟ بالتأكيد اعتقد الجنود الألمان في أغلبهم ذلك، تماماً كحال الجنود الإسرائيليين الآن، خاصّة أولئك الذين يظهرون وهم يطلقون الرصاص دون تردّد على فلسطينيين عزّل فيما يمثّل أشدّ عمليّات الإعدام وضوحاً واكتمالاً.
ذلك المستقبل الذي يتنبّأ به “بلاك ميرور”، وهنا تبدأ معضلة الجنديّ في السجن. بإمكانه بالطّبع العودة إلى منزله والتخلّي عن الجيش، لكن عليه حينها أن يتعايش مع ما ارتكبه من جرائم بحقّ أشخاص هم في ذاكرته ليسوا زومبي ولكنّهم بشر عاديُّون يرجونه أن لا يطلق النّار. أمّا الخيار الآخر فهو الخضوع لعمليّة التحويل في الجيش مرّة أخرى، والعودة لرؤية “الصراصير” كما يجبُ عليه رؤيتهم والتخلُّص من شعوره بالذنب، بالطّبع بالإضافة إلى مسحٍ شاملٍ لذاكرته وما يعرفه حتّى تلك اللحظة؛ سيعود جنديّاً مثالياً مرّة أخرى ومُعدَّاً للقتل بمهنيّة عالية!
عودة الموتى
عودة الموتى أو “سأعود” هي الحلقة الأولى من الموسم الثاني من “بلاك ميرور”، وتحكي قصّة امرأة يموت زوجها وتحاول استعادته والتواصل معه عبر “خدمة استعادة الموتى”!
تقوم الخدمة على أساس إتاحة الشخص المعنيّ بالمعلومات الرقميّة المتاحة للشخص المتوفّى (السوشال ميديا، الإيميل الإلكتروني وغيرها من المعلومات الرقمية التي عبرها يبني البرنامج محاكاة لشخصيّة الشخص المتوفى). من هنا تبدأ القصّة؛ يموت زوج المرأة التي تحاول صديقة لها إقناعها بتجربة هذا البرنامج على سبيل التجربة. لا تقتنع المرأة تماماً بالبرنامج وتستعر بالغضب، لكنّ صديقتها العنيدة تسجّلها بالبرنامج رغماً عنها، وفي لحظة مفاجئة، تصلها رسالة إلكترونية باسم زوجها المتوفّى. تبدأ بمحادثة كتابيّة معه، تنتقل إلى محادثة صوتيّة بعد أن أتاحت للبرنامج الوصول إلى العديد من المحادثات الصوتيّة بينهما والفيديوهات الخاصّة بزوجها المتوفّى. ثمّ تنتهي إلى طلب خدمة “التجسيد الحقيقي لزوجها المتوفّى”، وهو عبارة عن جسد يحاكي جسد زوجها المتوفّى وأدقّ ملامحه المتاحة إلكترونياً.
تنتظر المرأة في غرفتها “بعث” الزوج المتوفّى ليلة كاملة بعد أن اتّبعت التعليمات التي توصي بوضعه في حوض الاستحمام وتركه حتّى “يحيا”. في صباح اليوم التالي لا تزال المرأة في انتظار المعجزة التي تحدث فعلاً عندما تجد صورة حيّة عن زوجها المتوفّى في شكل إنسان هو نفسهُ زوجها الميّت أمامها ويكلّمها بنفس صوته.
تحاول ممارسة الجنس معه، تعلّمه متى يفعل ماذا وكيف. تحاول تعليمه كيفيّة النوم. تحاول تعليمه كيفية الحديث. كيف يغضب. كيف يشعر. ماذا يشعر. بماذا يجب عليه أن يشعر عندما
“تبدأ معضلة الجنديّ في السجن. بإمكانه بالطّبع العودة إلى منزله والتخلّي عن الجيش، لكن عليه حينها أن يتعايش مع ما ارتكبه من جرائم بحقّ أشخاص هم في ذاكرته ليسوا زومبي ولكنّهم بشر عاديُّون يرجونه أن لا يطلق النّار”
يحدث ماذا. ماذا يجيب وكيف يستجيب عندما يحدث شيء ما.
هو صورة حيّة عن زوجها الميت، لكنّ ينقصه “الحسُّ العاديّ بالأشياء والاستجابة الطبيعيّة للحياة وأشيائها”. هكذا تنتقل المرأة من صراع مع موت زوجها إلى محاولة التصالح مع صورة حيّة عنه.
العديد من الأسئلة تظهر فجأة: من يحقُّ له ماذا؟ إن كنت قضيت وقتاً طويلاً في المحادثة عبر الإنترنت وكتابة هذه المقالات والرسائل الكثيرة التي قد أكون خاضعاً لقواعد اللياقة في كتابتها – ربّما أودُّ الشتم إلى أٌقصى درجة ممكنة – إن كان هذا كلُّه، هل يحقُّ لأحدٍ ما سيملكُني بعد موتي، إعاة بعثي – وهذا ما لا أظنُّ أنّه سيحدثُ بالمطلق – وإعادة بعثي على هيئة ما؟ من يحقُّ له ماذا؟ كلُّ شيء كتبته من قبل أو من بعد قابلٌ لإعادة التوظيف والاستخدام من قبل آخرين بعد موتك، كلُّ كلمة، كل صوت، كلُّ ظهور عبر شاشة التلفاز أو في فيديو تافه هنا وهناك، سيكون موضع إعادة توظيف واستخدام من قبل آخرين، من قبل زوجة أو زوج أو ابن أو ابنة، قد يشتاقون لك في لحظة ما فإذا بك حيّ من جديد!
ديستوبيا غير معقولة! هنالك تقنية الهولوغرام في مكان ما، وهي التقنيّة التي تستخدم لإعادة إحياة المشاهير في وقتنا الحاضر، إعادة إحيائهم عبر إعادة تصويرهم يقومون بما كانوا يقومون به في حياتهم علناً؛ لكنّ ما يتنبّأ به “بلاك ميرور” أبعد من ذلك؛ إنّه إعادة فعل ما كنت تفعله في أشدّ مواضع حياتك شخصيّة، كممارسة الجنس مثلاً، وعلى سبيل السخرية، فستكون لديك قدرة جنسيّة أفضل من قدرتك وأنت حيّ لأنّك عبارة عن آلة ناطقة تحاكي نفسَكَ بطريقة أو بأخرى!
تبقى “الفُرجة عبر التقانة” الثيمة الأساسيّة لمسلسل “بلاك ميرور”. ليس هناك من تقنيّة إلّا وتتداخل مع صناعة “فرجة ما” حول شيء ما، سلبيّة كانت أم إيجابيّة، مدمّرة أم بنّاءة. والفرجة هي عكس الخصوصيّة المُنتهَكَة إلى أبعد حدّ في “بلاك ميرور”، بواسطة الأفراد وسلطاتهم المحدودة على بعضهم البعض أو بواسطة الدّولة والسُّلطة وسُلطتهما الشاملة على المجتمع.
ضفة ثالثة