دراما تكبير الوجع/ وسيم الشرقي
عقب عدّة مواسم من التخبّط الإنتاجي، ارتفع منسوب التفاؤل لدى صنّاع الدراما السوريّة بالنسبة للموسم الحالي، ليس بسبب فرض النظام سيطرته الكاملة على أماكن التصوير المحتملة في دمشق وحمص وحلب والساحل فحسب، ولكن أيضاً بسبب ظرف سوق الإنتاج الجديد في المنطقة، والذي جعل من التصوير داخل سوريا أرخص بكثير من التصوير خارجها (في لبنان مثلاً) بسبب انهيار الليرة السوريّة، وبالتالي انخفاض أجور الفنيّين والتقنيين وحتى الممثلين في الداخل السوري، القادرين على إنتاج أعمال تنافس بقوّة في سوق العرض العربي، والذي يبيع منتجه لعشرات ملايين المشاهدين القادرين على فهم اللّهجات السوريّة.
مع بداية الموسم، لم تكن كميّة الإنتاج أو سويّتها دون التوقّعات. عدد كبير من الأعمال تم إنجازها، وعدد لا بأس به منها استقطب أسماء شهيرة سواء أمام الكاميرا أم وراءها، والعديد من المؤشرات تشير إلى أنّ نسب المتابعة حتّى اليوم مرتفعة، خاصّة بعد تقنين شركات الإنتاج لمنابر التسريب، وضبط عمليّة العرض على الإنترنت، بالإضافة طبعاً للقنوات التلفزيونيّة الناقلة.
لكنّ السؤال السهل الممتنع، والذي لابدّ من طرحه قبل أيّة قراءة نقديّة لأعمال هذا الموسم، هو ببساطة: عن ماذا؟
ما الّذي من الممكن أن ترويه مئات الساعات التلفزيونيّة السوريّة المصوّرة في مناطق سيطرة النظام، وما نوع القضايا التي من الممكن مناقشتها في بيئة ينعدم فيها أيّ نوع من الحقوق والحريّات، ووسط مزاج انتصار فاشي يحكم كافة المؤسسات في سوريا.
سرديّات ثلاث
المتابع لأعمال الموسم الحالي يستطيع فرز ثلاث مرويّات أو «سرديّاتّ» رئيسيّة، تطرّقت إليها أعمال هذا الموسم «اجتماعيّة» الطابع حسب توصيف صنّاعها، ذلك لتمييزها ربّما عن الأعمال التاريخيّة، وأعمال «البيئة الشاميّة» والتي لا تعنينا هنا نظراً لابتعادها في الغالب عن أيّ مقاربة مباشرة للواقع السوري، أما الأعمال «الاجتماعيّة»، أو المعاصرة، كما نقترح تسميتها، فتنهل مباشرة من الواقع السوري اليومي، ووفقاً لسرديات ثلاث رئيسية.
السردية الأولى هي ببساطة سرديّة النظام عن المأساة السوريّة، مع تباينات قليلة بحسب طبيعة العمل، وطبيعة القضايا المعالجة. لكن بالمجمل تتبنّى هذه الأعمال سرديّة النظام السوري عن أكثر المفاصل إشكاليّة في تاريخ سوريا في السنوات القليلة الماضية، وكمثال على هذا النوع من الأعمال أثار مسلسل كونتاك بداية الأسبوع الأخير من رمضان، غضباً شديداً في أوساط السوريّين، نظراً لتعرّضه في أحد حلقاته لحادثة جريمة استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيّين السوريّين، مقدّماً الحادثة بطريقة ساخرة يقوم فيها الضحايا بالتمثيل والكذب، وسط حضور مخرج يصوّر المشهد كمشاهد الدراما التلفزيونية، وذلك تجسيداً لأحد سرديّات النظام عن المجزرة التي ارتكبها في مناطق مختلفة من سوريا.
بعيداً عن تفاصيل كونتاك، المنتج من شركة إيمار الشام التي يملكها سامر فوز، يبدو تحليل الأعمال الّتي تقدّم سرديّة النظام بحذافيرها أقلّ أهميّة من تحليل سرديّة الأعمال التي يحاول صنّاعها «الاجتهاد» ورفع سقف الحريات المفترضة التي تقيّدها رقابة النظام، فالأعمال التي تقدّم سرديّة النظام تستهدف الفئات الأقل نقديّة من جمهور النظام، والتي قد لا تصدّق هي نفسها سرديّة تمثيل مسرحية الكيماوي في كونتاك، في حين تبدو الأعمال التي تحاول الاجتهاد، وتقديم سردّية أكثر تعقيداً وتحايلاً أجدر بالتوقّف عندها.
سرديّة الفساد والعصابات
في الحلقة الأولى من مسلسل مسافة أمان تتلقّى الطبيبة سلام ابراهيم (سلافة معمار) اتصالاً من عصابة كانت قد خطفت زوجها، وبعد عدد من المشاهد المشوّقة تطلب العصابة من الطبيبة إدخال حقيبة تحتوي على قنبلة تحتوي غازات سامّة إلى قاعة الاجتماعات في المشفى الذي تعمل فيه، مقابل الإفراج عن زوجها المختطف. تترّد الطبيبة في البداية، تدخل الحقيبة إلى المشفى، ثمّ تستجمع شجاعتها وتتصّل بـ «الجهات المختصّة» التي تقوم بتفكيك القنبلة بكلّ احترافيّة، حيث تفضّل الطبيبة إنقاذ روّاد المشفى الغرباء على إنقاذ زوجها الذي ستقتله العصابة.
السلاح الكيماوي يعود إذن إلى الواجهة، وليس من الحلقة الثالثة والعشرين كما في كونتاك، بل من الحلقة الأولى. يقارب مسافة أمان، الذي كتبته إيمان سعيد وأخرجه الليث حجّو مسألة استخدام الأسلحة الكيماويّة في سوريا، ولكن دون اتّهام المعارضة بتمثيل الحادثة، بل عبر لصق الأمر بعصابة غامضة يبدو أنّها تستطيع تصنيع هذا النوع من الأسلحة ونقلها بسلاسة في دمشق، ناهيك عن قدرتها على الخطف والابتزاز لتحقيق أهدافها غرائبيّة الطابع، أي استخدام الأسلحة الكيماوية في أحد مشافي دمشق.
ورغم عدم انتهاء حلقات المسلسل حتّى لحظة كتابة هذه السطور، وعدم اكتمال ملامح الحكاية التي يسردها، وبالتالي السرديّة التي يقدمّها، إلا أنّ المادة المقدّمة في حلقاته حتّى اليوم تقدّم جرعة غنيّة لجهة استنتاج نوع من المقولة المتماسكة، والمقدّمة بسويّة فنيّة جيّدة، والتي ترسم عالماً سوريّاً غريب الطابع، يتكرّر تقريباً بصورة أو بأخرى في أعمال أخرى مشابهة.
في هذا العالم الغريب، يعيش السوريّون تحت رحمة الفساد والعصابات، لا الفساد الحكومي فقط، بل أيضاً «فساد النفوس» واضطرارها في لحظات الحاجة والضعف لارتكاب الخطايا. في الحلقة السابعة من مسافة أمان، يسرد صوت الرواية في المسلسل (شكران مرتجى) سبباً محتملاً لتدهور أوضاع السوريّين في هذه السنوات، وهو كوننا، أي البشر بألف ولام التعريف، ورثة قابيل القاتل «بس بالحقيقة ما حدا قدران منّا يتحمّل معرفة الحقيقة الكاملة.. حقيقة أنو قابيل قتل هابيل.. ونحنا ورثة القاتل»، وذلك صحبة مشاهد من مناطق مدمّرة بقصف الطيران، أغلب الظنّ أنّها من ريف دمشق، ممّا يعني، وفق المسلسل، مسؤوليتنا جميعاً عن هذا الدمار الذي لحق بسوريا، لا مسؤوليّة من يملك سلاح الطيران، ويحتكر قصف السورييّن من السماء.
أكثر من ذلك، يعبث المسلسل بأحد أكثر أدوات القمع السوري مأساوية، أي الاعتقال، والذي لا يخفي مسافة أمان أثره المأساوي على عائلة المعتقل، بل يطعّم دراماه به، لكنّه يعلّل الاعتقال باستغلال مروان (إيهاب شعبان) لأخيه «المتحمّس» لتوريطه في «مشاكل» يبدو أنّ نتيجتها القدريّة المسلّم بها هي الاعتقال عند النظام، ومن ثمّ الموت تحت التعذيب، الموت الذي على الرغم من مرارته يحدث لأنّ مروان، المرتبط بعصابة تهريب أعضاء بشريّة من دمشق إلى تركيّا (الأمر مستحيل الحدوث)، يورّط أخاه البريء بالتورّط في «السياسة» التي تسلّم جميع الشخصيّات حتّى في خلوتها، ومن ضمنها عائلة المعتقل، بأنّ عاقبة العمل بها هي الاختفاء القسري، المسلّم به، وغير الخاضع للمسائلة.
لا تنكر سردية العصابات وجود الحرب، كما لا تنكر سوء الأوضاع المعيشية التي يعرضها العمل برهافة عالية، لكنّها تعلل ذلك كله بفساد النفوس، بالطمع، بعلل بشرية عامة تميّع النقاش حول أسباب الخراب السوري بصورة تبدو معها سرديّة المؤامرة أكثر وجاهة ومنطقيّة، فنطرّية المؤامرة تفترض وجود أطراف خارجية طامعة في إفساد عيش السوريين الهانئ المفترض، أما «نظريّة العصابات» التي يطرحها مسافة أمان وغيره، فمفادها أنّ «دود الخل منه وفيه»، أنّ أفرداً من الشعب فاسدين، ومتحالفين استراتيجياً مع أفراد فاسدين في السلطة كما يظهر في العمل، لا أنّ السلطة ذاتها تشنّ حرباً مفتوحة ضدّ الشعب منذ انتفاضته عام 2011.
التحايل ثم الاشتباك
كمهرب من المآلات السابقة، يظهر التحايل على مؤسسات النظام كأحد الخيارات الممكنة، وعلى الأغلب لمرّة واحدة فقط، الأمر الذي ينجزه مسلسل دقيقة صمت من تأليف سامر رضوان وإخراج شوقي الماجري، حيث يبدو أنّ العمل قد التفّ على محاذير النظام الصارمة بطريقتين مختلفتين، فبداية عاد صنّاع العمل إلى العام 2010 أي إلى ما قبل انتفاضة السوريّن، وبالتالي ابتعد صنّاعه عن كمّ هائل من المحاذير المرتبطة بأحداث الأعوام الأخيرة، التي قد تخضع لرقابة أشدّ من مؤسّسات النظام.
بالإضافة إلى ذلك، أثار كاتب المسلسل في تصريح تلفزيوني لقناة الجديد غضب كثيرين من مؤيّدي النظام حين عبّر بشكل واضح عن معارضته للنظام، وعن رغبته في أن يُقرأ العمل «انطلاقاً من صراعه الشخصي مع السلطة» من خلال المسلسل الذي كتبه، والذي صوّر بعلم النظام الذي أصدرت وزارة إعلامه لاحقاً بياناً تتهّم فيه الشركة المنتجة بتهريب المادة المصوّرة خارج سوريا، وتنشر فيه أيضاً «الفيش الأمني» لكاتب النص، في معركة يبدو أنّها ستحكم لصالح عدم تمكّن الشركة المنتجة من العمل لاحقاً في الداخل السوري، أو على الأقل أعمال الكاتب سامر رضوان.
لكن بمعزل عن الصدام الحاصل بين الطرفين، وعن التحايل المزدوج الذي قام به العمل، لا يقدّم دقيقة صمت نفسه سرديّة ترقى لوصف حياة السوريّين حتّى ما قبل انتفاضتهم، فالعمل يرسم عالماً من الممكن أن تعمل فيه عصابة روبنهودية نبيلة يقودها أمير ناصر (عابد فهد) بمعزل عن العلاقات مع السلطة، بل على العكس، مع وجود عداوة معها، ممثلة بمدير الناحية.
يرسم العمل عالماً يتآمر فيه «مسؤولون كبيرون» هلاميّو الهويّة للتهرّب من «قضايا فساد» هلاميّة الهويّة هي الأخرى، عبر عمليّة تهريب مساجين، وقتل ضباط، وسلسلة طويلة من الأعمال غير القانونيّة، لكن دون القدرة على وصف أو التلميح لمنصب أيّ من هؤلاء المسؤولين الكبار، فهل هم ضبّاط في أفرع أمنيّة؟ أم وزراء؟ أما ماذا بالضبط؟ لا يقدّم العمل حتّى حلقاته المتأخّرة إجابة واضحة عن تلك الأسئلة البسيطة.
لا تتعلق هذه الهلاميّة، المرتبطة بسقف الحريّة المنخفض للعمل التلفزيوني، بمسلسل دقيقة صمت وحده، بل بعموم عمليّة صناعة الدراما التلفزيونيّة في سوريا، كونها أكثر الوسائط الفنية جماهيرية دون منازع، وبالتالي الأكثر ضبطاً من قبل السلطة، ربّما خوفاً من أيّ تأثير محتمل لها على الرأي العام، ولذلك عاجل النظام من الأيّام الأولى للثورة إلى استقدام «نجوم الدراما» إلى قنواته للمساعدة في توجيه الرأي العام نحو تقبّل سرديّته عمّا يجري في سوريا، معتمداً على شهرة هؤلاء، والاعتقاد الذي كرّسه عبر السنوات عن مكانتهم الثقافيّة والفكريّة، في بلد همِّش نظامه مفكّريه وسياسيّيه وحقوقييه وحاربهم، لجهة تصدير مشاهير ممثلّي المسلسلات، لكنّ ذلك حديث منفصل.
في النهاية لا بدّ من التنويه، أنّ غرضنا هنا ليس اقتراح نوع من الرقابة الثوريّة على المسلسلات التلقزيونيّة، بل على العكس تماماً، قد تكون البيئة المثالية المشتهاة لصناعة الدراما السورية المتطورة، هي أن تكون في بيئة حرية مطلقة، يروي فيها الجميع سردياتهم المختلفة، لكن الواقع غير ذلك تماماً، فالخيارات المتاحة في الداخل السوري هي إمّا العمل تحت سقف الرقابة المنخفض جداً مع هامش هزيل لانتقاد الفساد، أو حتّى فساد النفوس، على طريقة مسافة أمان! أو محاولة القفز قليلاً فوق هذا السقف، وبالتالي الاشتباك مع مؤسسات النظام، والحرمان من فرصة الانتاج مرة ثانية داخل سوريا.
بنظرة عامّة على الموسم الرمضاني السوري لهذا العام، يبدو الموضوع بكليّته مثيراً للحزن ومشاعر الغبن. محتوى المسلسلات وحياة الشخصيات فيها، سقف الرقابة المنخفض المنيع الذي لا يمكن اختراقه، أو حتّى لا ترغب الغالبية باختراقه، وفوق ذلك كله شهادة الزور البائسة التي تقدمها الأعمال عن مأساة السوريّين في السنوات الماضية.
مشاعر الغبن هذه تذكّر بإحدى مظاهرات مدينة سقبا في الغوطة الشرقيّة، قبل الهجوم الكيماوي عام 2013 بأشهر قليلة، حيث يغنّي المتظاهرون على لحن أغنية «يامو» الشهيرة من مسلسل ملح وسكّر التي يغنّيها غوّار (دريد لحّام) أحد أكثر الممثلين السوريّين تأييداً لنظام.
يا غوار فكّرناك معنا..
تحكي وجعنا وتشكي على دمعنا..
تاري عم تكبّر بوجعنا..
دموعك عن الكرامة عاملها صنعة.
يغنّي شبّان سقبا في المظاهرة بحرقة وإحساس كبير بالغبن، الغبن اتّجاه من كان يدّعي تمثيل تطلعاتهم للكرامة، لكنّه في النهاية تنكّر لهم حين خرجوا مطالبين بها، لكنّ يبدو أنّ عمليّة «تكبير الوجع» التي غنّى عنها المتظاهرون تتسّع في هذا الموسم لتشمل شهادة زور عن مأساتهم الرهيبة، والتي انتهت عند صنّاع دراما 2019 إمّا مادّة للسخرية وإثارة الضحك، أو في أحسن الأحوال مادّة للتذاكي والتحايل البائس على رقابة نظام تعميق الجروح والآلام.
موقع الجمهورية