تفجير أعزاز: عن الجَدّ الذي خسر ابناً وحفيداً/ وليد بركسية
لا يستيقظ السوريون كل صباح وهم يخططون لتصدر المشهد العام في نشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي، بينما يشربون القهوة ويأكلون مربى الكرز، ليحاولوا بنشاط ابتكار لقطة مؤثرة وصادمة تأسر قلوب المشاهدين وتسيل دموعهم. بل يحصل ذلك الواقع المؤسف معهم نتيجة للحرب والقصف والتفجيرات التي تجعلهم رغماً عنهم أبطالاً للقطات أيقونية توثق أكثر لحظاتهم ضعفاً، ضمن مشهدية الحرب المستمرة منذ 8 سنوات.
وعادت الصور المؤلمة الآتية من سوريا للتداول مجدداً، بعد التفجير الذي ضرب مدينة أعزاز بريف حلب الشمالي، الأحد. وبرزت بينها لقطة جَدّ مفجوع بوفاة ابنه وحفيده في وقت واحد، وانضمت بتداولها على نطاق واسع إلى أرشيف طويل من القهر الإنساني، حيث لا تؤدي الرغبات إلى تخفيف مصائب أبطال ذلك الأرشيف، ولا تساعد الكلمات المكتوبة في تحقيق نتيجة ما، خصوصاً أن انعدام المنطق في كل ما يحصل في سوريا وتكرار هذه النوعية من الصور، يحيل الذهن تلقائياً نحو كلمات مثل القدر واللعنة، لإيجاد تفسير ما، مهما كانت خيالية وبعيدة من المنطق.
ولعل ما يخيف في الصورة، هو البرود الذي يمكن أن تكون عليه ردود الفعل بشأنها: “أوه.. إنها مجرد صورة أخرى من سوريا”. حيث أشاع تكرار هذه الصور، ربما، نمطاً عاماً من التعامل معها وكأنها نتيجة طبيعة روتينية لحياة السوريين ضمن مسار الحرب في البلاد، والذي يحظى بارتفاع وانخفاض حسب المتغيرات السياسية، ما يفضي إلى استسلام ضمني أو يأس من الخروج من دوامة العنف المميتة هذه، والأسوأ هو لوم السوريين على ذلك، بالحديث عن الرغبة في إعادة الزمن إلى الوراء وإلغاء الثورة “لأننا كنا عايشين” على الأقل.
والحال أنه خلال الأشهر القليلة الماضية، بدا أن الأزمة الإنسانية المروعة في سوريا تنخفض وتتلاشى تدريجياً مع سيطرة النظام على مناطق واسعة وانخفاض مستوى الحرب في البلاد، وظهور أشكال جديدة من البؤس اليومي، التي تصور الذل والقهر الذين يطغيان على حياة كثير من السوريين في ظل حكم النظام، بما في ذلك صور طوابير الغاز أو فيديوهات الأطفال المشردين أو مشهديات التجنيد ومراكز الإيواء الأشبه بالمعتقلات، وغيرها. لكن الهجوم على إدلب من جهة، والتفجيرات المتفرقة التي باتت تضرب مناطق متفرقة من جهة ثانية، أعادت خلق الصور المؤثرة، التي يلعب بطولتها الموت والفقدان، والتي كانت بارزة بين العامين 2013 و2017.
وبحسب المعلومات المتداولة، فإن الرجل الظاهر في الصورة هو جَدّ الطفل وسام علي ويسي، الذي قتل مع والده في التفجير نفسه بعدما كانوا ذاهبين إلى السوق لشراء ثياب العيد، علماً أن حصيلة القتلى في التفجير الناجم عن انفجار سيارة مفخخة، وصلت إلى 16 شخصاً بينهم 6 أطفال وامرأة، والذي اتُّهمت وحدات حماية الشعب الكردية بتنفيذه.
أكثر ما يحزن في الصورة، ربما، ليس الطفل الميت، بل الذهول الذي يغمر الجدّ المسكين وهو يحضن جثته، بلا مشاعر تقريباً، وكأن جزءاً منه، مات بموت أحبابه في لحظة لم يخترها أحد منهم من أجل جذب انتباه العدسات، ولم يستحقها أحد منهم أيضاً بناء على “كارما” مفترضة، بل حصلت فقط بسبب مصادفة أنهم خلقوا وعاشوا في هذه المنطقة المنكوبة بالدكتاتورية والعنف والموت، مثل بقية السوريين.
ورغم أنه لا يمكن سماع ما يجري في محيط الرجل المسكين لكن يمكن تخيل الفوضى الحاصلة حوله: بكاء وصراخ وأحاديث ونحيب. ووسط ذلك، يبقى الرجل في المركز مفصولاً عن تلك الجلبة، كأنه لا يسمع شيئاً منها، مثل مُشاهد الصورة تماماً، لأن هذا الحزن هو حزنه الخاص الذي لن يشاركه مع كل أولئك المتطفلين، يحضن حفيده، بحبّ أخير وينتظر أن ينتهي كل شيء كأنه لم يحصل.
هذا اليأس يجعل مَن يتأمل الصورة في عجز تام لا تفيد معه الدعوات والحسرات والنظرات، ويكرر البعض أمنيات أنانية بألا يتعرضوا لموقف مشابه، حيث يتحول التعاطف إلى منظور شخصي، بسبب الذهول الذي يظهره الجَدّ في موقف يستدعي الغضب والصراخ والهستيريا وإظهار المشاعر، حسبما يفكر البعض ربما، بدلاً من الذهول، والذي في الواقع قد يكون النتيجة الطبيعية لمراقبة دمار سوريا تدريجياً وببطء عبر السنين، وصولاً إلى حالتها اليوم، كبلد يشكل فيها الموت الجماعي المجاني حدثاً عابراً.
وتفوقت الحرب السورية على كافة الحروب الأخرى، على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية، في تقديم مشهدية بصرية توثق هذا الموت المجاني والعنف، حيث يتنافس أطراف النزاع السوري على ارتكاب الفظائع مرة بعد مرة، مع تفوق النظام السوري في كمية المجازر التي يرتكبها ويصدّرها للعالم متباهياً بفرط القوة الذي يتبجح به ضد المدنيين وتحديداً الأطفال، في وقت توثق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 28486 طفلاً منذ انطلاقة الثورة السورية وحتى آذار/مارس الماضي.
ولعل الصورة الآتية من أعزاز، وصوراً أخرى من إدلب ومناطق أخرى في البلاد، بما في ذلك مناطق سيطرة النظام والقوات الكردية، تظهر بوضوح أن نهاية تنظيم “داعش” من جهة ومحاولات تعويم نظام الأٍسد بوصفه “منتصراً” من جهة ثانية، لا تعني الوصول إلى حالة السلام في البلاد، بل تعني أن الفوضى مستمرة مع تشظي البلاد إلى 3 كانتونات وفق التقسيم السابق (النظام، المعارضة، الأكراد)، تشتعل نيران صغيرة في كل منها على حدة، ليستسلم البلد إلى واقع اليأس والعجز، وحتى التقسيم.
المدن