الكاتبُ وشخصيّاته/ نجوى بركات
جاء في صحيفة ذي غارديان البريطانية، الأسبوع الماضي، أن الروائية المعروفة، أليف شفق، تعرّضت لشكوى من الادّعاء العام في تركيا، هي وعدد من زملائها الروائيين، بتهمة الترويج في أعمالهم لجرائم التحرّش بالأطفال. وقد طالب الادّعاء بأن يتمّ التحقيق في كتبها، وبالتحديد في روايتيها “نظرات ثاقبة” (1999) و”بنات حواء الثلاث” (2016)، هذا في حين أبدت صاحبة “قواعد العشق الأربعون” استغرابها الأمر، ذلك أن “القوانين لم تتغيّر، عندما يجب اتخاذ إجراءات طارئة للتعامل مع التحرّش، تلاحق السلطات الروائيين. إنها مأساة كبيرة باتت كمطاردة الساحرات”.
بالطبع، ليست هي المرّة الأولى التي يتمّ فيها الخلط بين الكاتب وشخصياته، بالمعنى السلبي والإيجابي على السواء، فإن كانت الشخصية الروائية لبطلٍ شريف مقدام، قطف الكاتبُ، في نظر قرّائه، صفات الأخير وأمجاده، وإن كان بطلا مضادّا ذا شخصية سلبية معقدة أو سوداء، اعتُبر الكاتب أيضا بمثل سلبيّته وتعقيده، هذا إن لم يُنظر إليه منحرفا، مروّجا القيم السلبية والأفعال المسيئة إلى المجتمع. وفي الحالتين، لا ينجو الكاتبُ من عواقب ابتكاره هذه الشخصية أو تلك، بفعل عملية تماهٍ بين القارئ والشخصية، أو تنافرٍ يستدعي دفاعَ الأوّل عن ذاته، برفضه الشخصية مباشرة والحكم على مؤلّفها.
لقد سبق لكتّابٍ عربٍ أن دفعوا أثمانا باهظة، إذ وضعوا على ألسنة شخصياتهم الروائية كلاما مستفِزّا بأحقّيته، أو صادما لتجاوزه مسلّمات اجتماعية، أو دينية، أو خادشا للحياء، أو مسيئا للذات الإلهية، والأمثلة عديدة ومعروفة، وليس أصعبَها أو أشدّها خطورةً ما واجه “وليمة لأعشاب البحر” لحيدر حيدر، و”أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، أو “مدن الملح” لعبد الرحمن منيف.. إلخ. بيد أن الجدير بالذكر، أن المكروه قد يصبح في زمن آخر محبّبا، والمسموح ممنوعا، والمقبول مرفوضا، والعكس بالعكس. أجل، لطالما سمعنا عن ضرورة عدم الخلط بين الكاتب وشخصياته، وعدم اعتبار آرائها آراءه وأفكارها أفكاره. ومع ذلك، ما تزال المحاكمة جارية ضدّ الشخصية متمثّلة بشخص كاتبها، وما زال الكتّاب يقعون أسرى قفص الاتهام بسبب أقوال شخصياتهم، كما يجري مع أليف شفق اليوم، وأخرياتٍ وآخرين أمس وغدا.
وعلى الرغم من الاعتراف بأن الكاتب ليس صنوا لشخصياته المختلقة، وإن كان فيها منه وفيه منها، فإن بعض الروائيين يكذّبون هذه المقولة (التي يُفترض أن تصحّ أكثر ما تصحّ في كتابة السيرة الذاتية)، فتأتي شخصياتُهم نسخا مجتزأةً من ذواتهم، معبّرة عن أفكارهم، بل إنها تكاد تكون القناع الذي يساعدهم على إبراز حقيقتهم، تلك التي يخجلون أحيانا من إعلانها، أو يخشون كشفها، أو على العكس، هم يستغلّون ملامح شخصياتهم للمجاهرة بها.
هنا، يحضر مثالُ الكاتبة مرغريت ميتشيل التي لم تكن مع مساواة البيض والسود، وهو ما نضحت به كيفية رسمها شخصية “العبيد” في رائعتها “ذهب مع الريح”، والفيلسوف الفرنسي فولتير الذي كان عنصريا حيال السود والنساء، هو القائل: “البيض أرقى من هؤلاء العبيد، كما أن العبيد أرقى من القردة، والقردة من المحار”.. وكذلك كان الكاتب العبقري فردينان سيلين معاديا كارها لليهود. أما ميشال ويلبيك الذي لم يُخف يوما معاداته الإسلام والعرب، وعنصريّته أو تشجيعه للسياحة الجنسية والاستنساخ البشري، فقد علّق ذات يوم من عام 1998 قائلا: “الرواية ليست مكانا لإصدار الأحكام الأخلاقية، غير أنها مكان جيّد لتفجير القضايا الأخلاقية: فمن الممكن الإيمان بالخير والشرّ من دون أن نؤمن بالطيّب والشرّير”.
لا يجري الخلط بين الكاتب وشخصياته على هذه الشاكلة في كل الثقافات، بل إنه بات اليوم وبشكل فاضح، ميزة ثقافاتٍ تراوح مكانها، تنغلق على ذاتها، تتقوقع وتتزمّت، متوّجهة إلى الحائط مباشرة.
العربي الجديد