الطائفة رقم 19/ عمر قدور
مرت قبل أسبوع بلا تداعيات حادثةُ طرد عائلات سورية من مبنى “الأغا”، محلة الظريف-بيروت، رغم أن تلك العائلات وبعض العمال من جنسيات أسيوية قد استأجروا مساكنهم وفق عقود قانونية سليمة. حادثة الإخلاء، التي تابعت تفاصيلها جريدة “المدن”، تمت بموجب قرار شفهي من محافظ بيروت على خلفية شكوى من بعض الأهالي المحتجين على وجود السوريين تحديداً. الأهم أن تنفيذ الإخلاء تم بطريقة وحشية وغير قانونية، حيث أُجبر المستأجرون على الخروج إلى العراء قبل أن يُسمح لشخص واحد من كل عائلة بجلب الأمتعة الشخصية.
يوم الجمعة الماضي أيضاً، كانت خمس منظمات حقوقية، بينها هيومن رايتس ووتش، قد اتهمت السلطات اللبنانية بترحيل 16 سورياً إلى سوريا من مطار بيروت، بعد إجبارهم على توقيع وثيقة تنص على أن عودتهم طوعية، بدل إعادتهم إلى البلد الذي جاؤوا منه إذا لم يكونوا مستوفين شروط الإقامة، أو شروط طلب الحماية بموجب القوانين الدولية. في مطلع هذا الشهر، كانت “هيئة علماء المسلمين في لبنان” قد وجهت بياناً إلى رئيس الحكومة ووزير الداخلية ومفتي الجمهورية يشير إلى وجود قرار من مجلس الدفاع الأعلى يقضي “بهدم كل بناء أنشئ كسكن للنازحين السوريين على الأراضي اللبنانية، بما في ذلك الخيم التي أطرافها من لبن أو باطون”.
وقت صدور بيان هيئة علماء المسلمين كان الحديث أيضاً يدور عن قرار شفهي غير معلن وفق الأصول، إلا أنه دخل حيز التنفيذ الفعلي مؤخراً، حيث أُنذر اللاجئون لغاية العاشر من الشهر القادم قبل أن تبدأ قوات الجيش اللبناني بإزالة ما تراه مخالفات، من قبيل رفع جدران خيمة لأكثر من متر واحد أو استخدام سقف من التوتياء والاسمنت. مع الإشارة إلى أن قوات الجيش قد هدمت منذ حوالي شهر عدداً من الخيم في عرسال، ومن المتوقع أن تؤدي الحملة الجديدة إلى تشريد حوالي ثلاثين ألف لاجئ معظمهم من النساء والأطفال.
إذا كنا بحاجة إلى إثبات سياق ما فالحوادث السابقة، وفوقها حوادث مشابهة تلزم مجلدات للإحاطة بها، كافية لتكشف لنا سياقاً من الاستهتار بكافة القوانين الدولية المتعلقة بحماية اللاجئين. هذا توصيف شديد اللباقة لحالة متكاملة، أقل ما يُقال فيها أنها نتاج اجتماع الاستهتار بالقوانين الإنسانية مع العنصرية بأبهى تجلياتها. فنحن منذ سنوات إزاء سياق لا يتوقف من التحريض على “السوري”، سياق ساهم فيه سياسيون وإعلاميون، ومنابر إعلامية وبلديات معروفة العنوان. سياق ساهمت فيه أيضاً اعتداءات على السوريين، من ضمنها القتل، وبقيت بلا جزاء أو ردع مناسبين.
هو أيضاً، وهذا ما ينبغي أن يعترف به الأصدقاء اللبنانيون، سياق من الصمت المعمم على كافة الانتهاكات، بحيث تتحول مع الزمن إلى أفعال اعتيادية ومقبولة اجتماعياً. لقد رأينا مثلاً كيف تنشر جريدة النهار قبل خمس سنوات، وهي مع الأسف لها عدة سوابق من العنصرية إزاء السوريين، تصريحاً لرئيس شعبة العلاقات العامة في الأمن الداخلي يعزو فيه ازدياد عدد حوادث السير إلى السوريين “لأن معظمهم مشاة، وهم آتون من بيئة ريفية أي غير متأقلمين مع الأعداد الكبيرة للسيارات ومع السرعة على الطرق”! المسؤول نفسه يعود في مطلع نيسان الماضي، ضمن برنامج “نقطة على السطر”، إلى التنويه بضغط النزوح السوري وما يتسبب به من حوادث سير.
في المثال السابق، لا يتوقف المسؤول ولا معظم اللبنانيين عند واقع افتقار بلدهم للحد الأدنى من احترام حقوق المشاة من وجود أرصفة وممرات خاصة، حيث تتفوق حقوق المشاة في كافة الدول المتقدمة على حقوق المركبات، ولا يتوقف أحد أيضاً عند واقع خلو لبنان من ثقافة النقل الجماعي باعتبارها ترشيداً للهدر العام وأكثر احتراماً للبيئة. السوري الفقير الذي لا يملك سيارة، ولا يجد أمامه في لبنان بنية تحتية مناسبة للمشاة يصبح “ريفياً” مُحتقراً، وبهذا المعنى من حق اللبناني احتقار مدن عالمية معروفة مثل باريس أو برلين أو جنيف أو طوكيو لاعتمادها على النقل الجماعي واحترامها المشاة بصرف النظر عن ريفيتهم أو مدينيتهم. وإذا لم يكن من حقنا أن نملي على اللبناني ثقافة سير فالأولى به ألا يرمي مشاكل ثقافته الخاصة على السوري، وأن يتحمل نتائجها بشجاعة.
بحسب السياق العنصري ذاته، السوريون هم سبب تردي الاقتصاد اللبناني. هكذا ببساطة تغيب مشكلات لا شأن للسوري بها من قبيل تراجع معدلات السياحة الخليجية إلى عتبة تقارب انعدامها، لأسباب سياسية تتعلق بالوضع اللبناني أولاً، وهذا الانكماش عمره ما يقارب عقد ونصف. وحتى إذا تجاوزنا الأسباب السياسية، لا يريد اللبناني رؤية تجارب سياحية منافسة، بدءاً من تركيا القريبة ذهاباً إلى شرق آسيا، ولا يريد رؤية المزايا التي يحصل عليها السائح هناك بتكلفة أرخص، بل لا يريد اللبناني رؤية أن العروض السياحية في بلدان أوربية شهيرة في هذا الميدان “مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان” تقدم خيارات اقتصادية أفضل من نظيرتها اللبنانية، مع توفر معايير أمان متكامل “سياسي وإداري وحقوقي” لا تُقارن بلبنان. يغمض اللبناني عينه عن تراجع تحويلات اللبنانيين في الخارج وتأثير ذلك على الاقتصاد، وهنا أيضاً لا يتعلق الأمر فقط بالاصطفافات السياسية “أو باللبنانيين حصراً”، فسوق العمل بات مكتظاً بمنافسين يحملون كفاءات ومهارات موازية أو متفوقة وبأجور أقل، وهذا أدى إلى خلخلة التراتبية القديمة في سوق العمل الخليجي.
اليوم يتحدث قياديون لبنانيون عن الفساد، هذا شأن داخلي لا علاقة لنا كسوريين به، لكن من حقنا “ومن حق المواطن اللبناني” المطالبة بالشفافية في ما يخص المساعدات الدولية التي حصلت عليها السلطات “المتهمة بالفساد” من أجل إيواء اللاجئين السوريين، ومن حقنا معرفة أوجه صرف تلك المساعدات. نحن نعلم مثلاً أن الاتحاد الأوروبي قدم لتركيا 3.3 مليار أورو في هذا الملف، بينما لا نعلم شيئاً عن الصندوق الأسود اللبناني، ومن يريد المتاجرة بقضية اللاجئين يتوجب عليه تقديم أرقام دقيقة وواضحة عن الأعباء التي تكفل بها المجتمع الدولي والأعباء التي تكفلت بها السلطات اللبنانية.
في الميدان الاقتصادي، ينبغي ألا ننسى أولئك المتلهفين إلى إرضاء تنظيم الأسد، وأعينهم على كعكة إعادة إعمار سوريا. وإذا كان من المعهود أن توفر مصائب بلدان فوائد لبلدان أخرى مجاورة فالأمر يختلف عندما تمر الفوائد ببيع مواقف سياسية رخيصة على حساب دماء الأبرياء، ومنهم الأبرياء الذين يُضيّق عليهم في لبنان، ويتم ترحيلهم إلى سوريا. لقد شاهدنا قبل أشهر وزير الدولة اللبناني لشؤون النازحين معين المرعبي وهو يقدّم أدلة على تصفية لاجئين أُجبروا على العودة إلى سوريا من لبنان، إلا أن أية جهة حكومية لم تتدخل لإيقاف عمليات الترحيل، بل دخلت العملية برمتها ضمن مساومات البعض للدخول في شراكة مع سلطة بشار لإعادة الإعمار المرتقبة.
من حقنا أيضاً، كسوريين متضررين، أن يُعامل السوري على الأقل وفق ما تنص عليه القوانين الدولية المتعلقة بواجبات القوى المحتلة. نحن أمام واقع قامت فيه قوة لبنانية بالحرب على السوريين وباحتلال أراضٍ لهم، الحكومة اللبنانية التي لم تتخذ أي إجراء لردع تلك القوة “المشاركة أيضاً في الحكومة” تتحمل مجتمعة مسؤولية هذا الوضع وتبعاته، ومن ضمنه وجود اللاجئين على أراضيها. استكمال الحرب التي قامت بها ميليشيا لبنانية بحرب أخرى على النازحين يشير إلى تكاملها بين مختلف الأطراف، وتكافل هذه الأطراف لاستئناف الحرب السياسية والعسكرية بحرب إنسانية، وإذا كان السوريون لا يستطيعون الآن تجريم كافة المشاركين قانونياً فذلك لن يمنع تجريمهم أخلاقياً وسياسياً مع كافة التداعيات المحتملة لاحقاً. تحميل الحكومة اللبنانية المسؤوليةَ ضمن موقعها وولايتها ليس ابتداعاً سورياً، فهناك دعوات دولية كي تتحمل مسؤوليتها التامة وتُحرم من موقع الابن المدلل الذي طالما حظيت به.
ندرك أن الواقع اللبناني معقد جداً بفعل التركيبة اللبنانية نفسها، وهذا ينبغي ألا يغيب أولاً عن أذهان اللبنانيين، لأن تحويل العنصرية البينية وصبّها على السوريين لن يجعل من التركيبة أكثر تماسكاً، إلا في الظاهر ومؤقتاً. كأن اللبنانيين يخترعون طائفة هي طائفة السوريين، ويخشون أن تكون الطائفة رقم 19 في تركيبتهم، فيصبّون غضبهم وعنجهيتهم عليها استباقاً. كأنما أيضاً ثمة فكرة راسخة في وجدان الكثير من اللبنانيين، هي أن لبنان بمثابة فردوس مشتهى للسوريين “المتخلفين”، لا يغيّر منها أن أول ما تفكر فيه غالبية السوريين الذين اضطروا للجوء إلى لبنان هو العمل على المغادرة إلى منفى آخر يحترم كراماتهم، لا لأن الشعوب الأخرى أقل حساسية تجاههم فحسب، وإنما بحثاً عن دولة قانون يتكفل بحفظ كرامات البشر واحترامها.
مؤسف جداً أن نضطر إلى القول أن التفاخر اللبناني أشبه بالزجل الفلكلوري، وأنه أبعد ما يكون عن واقع لبنان خلال العقود الأخيرة بوصفه بلداً على شاكلة بلدان المنطقة كلها. ومؤسف أن نضطر إلى القول أن ما كان يُسمى الاستثناء اللبناني قد انتهى منذ زمن بعيد، والعمل جارٍ للإجهاز على آخر مظاهر ذلك الاستثناء، وعلى اللبنانيين ألا يستبعدوا أن يكون التنكيل باللاجئين السوريين مجرد تدريب باللحم الحي لا تنتهي وظيفته مع ترحيلهم.
المدن