الكلمة التي أصبحت أملًا/ إبراهيم الزيدي
لم يعد الصيف حاملًا موضوعيًا للسفر، فترف الاصطياف أصبح بعيد المنال، والشتاء هو الآخر لم يعد يرسم غيومه في أحلام المزارعين السوريين، ولا أحد من التجار اليوم يبحث عن فضل القيمة، بين حركة رأس المال الثابت، ورأس المال المتداول. لقد سيطر الموت على مقاليد الحياة السورية، وسجّلت عملة الخوف أعلى معدلاتها في سوق البورصة الاجتماعية، فسقطت من التداول عملة الأمان، والاستقرار!! وأصبح الوطن حلمًا جميلًا، في الذاكرة، وليس في الواقع!! وتحولت حياتنا إلى رواية، تمعن في الإفصاح عن نفسها كل يوم، ولكل فصل من فصولها المأسوية، أبطاله. في متن النص ثمة حرب، أصبح من العسير إحصاء أطرافها، أو معرفة أهدافهم، أما في الهامش فثمة غصص ترويها مسيرة الألم، على طريق النزوح واللجوء والهجرة غير الشرعية. أشخاص لم يرد في خاطرهم أن المأساة ستأكل أحلامهم البسيطة، أفراد، وعائلات، وجدوا أنفسهم في خضمّ القلق، تلطمهم أمواج الحيرة والضياع. وقد التقيت بالكثير منهم، وقد أتاحت لي الظروف أن ألتقي بالفروع التي غادرت سورية بحثًا عن ملاذ آمن، والتقيت أيضًا بالأصول التي تنتظر من فروعها الخبر اليقين، فالمغامرة يقوم بها أحد أفراد العائلة، لعل أملًا يحثّ إليه الخطى، فيتبعونه بحكم صلتهم به. فترى الزوجة التي غادرت برحلة محفوفة بالمخاطر، وهي حامل، لعلها تضع مولودها في إحدى الدول الأوروبية، على أمل أن يحصل وليدها على جنسية تلك الدولة، بحكم ولادته فيها، ومن ثم تتقدم إلى تلك الدولة، بطلب لم الشمل الذي يؤهلها أن تستقدم زوجها، وبقية أولادها بطريقة شرعية، وهناك الرجل الذي جازف بكل ما يملك من مال وحياة، لعله يصل إلى إحدى الدول الأوروبية التي تمنح السوريين حق اللجوء، ومن ثم يتقدم بطلب لم الشمل، ليستقدم بقية أفراد عائلته بطريقة قانونية، وهكذا… أصبحت المغامرة سبيلهم الوحيد للوصول إلى أحلامهم بالأمان!! وكأننا نجسد مقولة دانتي: لبلوغ الجنة على المرء أن يعبر الجحيم. وليتها كانت جنة.
سألت صديقي آرسين، الذي التقيته بمحض الصدفة في أحد مقاهي بيروت، عن سبب وجوده، فأخبرني أنه ينتظر أحد سماسرة تهريب السوريين إلى أوروبا، وعلمت منه أن ذلك السمسار وعده بجواز سفر بديل “مزور”، وأرسين هذا أرمني من مدينة تل أبيض 105كم شمال شرق الرقة. عرفته مذ كنت أمينًا لمكتبة المركز الثقافي هناك، كان الأرمني الوحيد المثابر على المطالعة، فغالبية الأرمن انصرفوا إلى الأعمال المهنية. فسألته إن كان سبب مغادرته لسورية دينيًا، فقال سأجيبك بكلام منقول: “مشكلتنا لم تكن يومًا مع الدين، أو مع السياسة. مشكلتنا كانت وما زالت مع أولئك الذين يصرّون على تسييس الدين، وتديين السياسة”. فتذكرت قول جوزيف كامبل: لا أعتقد بأن الناس يبحثون عن معنى الحياة، بقدر ما يبحثون عن الشعور بأنهم احياء.
في الطرف الآخر هناك مهاب، الفلسطيني القادم من مخيم اليرموك في دمشق، ومهاب هذا قد سافرت زوجته وأخذت معها ابنها الرضيع، وقد استطاعت أن تصل إلى ألمانيا، وهو ينتظر أن تستكمل زوجته المدة القانونية، وبعد ذلك يمكنها أن تتقدم بطلب لم شمل. فسألته لماذا جعل زوجته هي التي تقوم بتلك المغامرة، ولم يقم بها هو؟ فأجابني أن زوجته تتقن اللغة الإنكليزية، وشكلها يوحي بأنها أجنبية، فهي شقراء، ممشوقة القوام، بينما هو لا يتقن غير اللغة العربية، إضافة إلى ذلك، ثمة تسهيلات للنساء، أكثر مما هي للرجال.
ثمة شبان غير متزوجين، قد غادروا على مراكب الموت، أو عبر حافلات، أو بجوازات سفر مزورة، منهم حسام، الذي قال لي وهو يغادر إلى تركيا: عندما بدأت ببناء مستقبلي، انهار الوطن!! وقد وصل هو الآخر إلى السويد، إلا أنه لا يستفيد من لم الشمل، فلم الشمل لا يشمل الإخوة والأخوات. لقد اقترفنا البعاد، واتسعت المسافة بين أفراد العائلة الواحدة، ثمة من ملأها بالأمل، والأكثرية قد انتعلوا بؤسهم، وساروا في طرقات اليأس، فهي الطرق الوحيدة التي بقيت سالكة!! لقد أصبح مصطلح (لمّ الشّمل) من مصطلحات الأمل في حياة السوريين، أخشى ما أخشاه، أن نستعير من إخوتنا الفلسطينيين، مصطلح (عائدون) فهذا يرعبني، لأننا إن فعلنا ذلك، فلن نعود أبدًا.