الأدب الاستهلاكي/ نهلة راحيل
الـ”استهلاكي”؛ اسم منسوب إلى “استهلاك”، ومصدر الفعل السداسي “استهلك” الذي يفيد -كما ورد في لسان العرب- معاني الإنفاق والنفاد دون تحقيق منفعة مباشرة للفرد أو للمجتمع، من هنا أصبحت الصفة لصيقة بكل ما يتم إنتاجه من سلع، مادية وفكرية، تفي بحاجات الإنسان ورغباته المتزايدة دون الاهتمام بجودة ما يُقدم أو بكيفية إنتاجه، ثم أصبحت “الاستهلاكية” كلمة تشير إلى أن المستهلك/ المتلقي هو صاحب القرار وهو الجهة المسؤولة عن تحديد كل ما هو رائج أو غير رائج في الأسواق.
يمكننا تعريف الأدب الاستهلاكي بأنه “ذلك النمط من الكتابة الذي يراعي فيه المبدع رغبات القراء ومتطلبات السوق”، كما يمكننا اعتباره أيضا “صيغة قرائية” في المقام الأول يفرضها المتلقي على النص وكاتبه، بعد أن قدم تصورا خاصا للأنماط الإبداعية وفق ذائقته القرائية أو انتباهه النقدي الذي قد يتركز -في كثير من الأحيان- على المؤلِف أكثر منه على المؤلَف.
من هنا يمكن القول إن “النزعة الاستهلاكية” (Consumerism) في النص الأدبي قد ترتبط بكاتب النص ذاته، وذلك عندما يسعى إلى محاولة خلق أدب جديد يكسر السلطات المعتادة؛ اللغوية أو الاجتماعية، ويخرج على المحددات النوعية الحاكمة للشكل الأدبي عموما. وقد يحكمه في ذلك أمران:
الأول، هو الرغبة في الانتشار السريع والشهرة الواسعة والربح المادي، وحينها يعد النص سلعة تجارية تخضع لآليات السوق وذائقة فئة محددة من الجمهور، فتصبح مفاهيم مثل المتعة والتسلية والإبهار من السمات التأسيسية والأصيلة في العمل.
والثاني: هو الرغبة في كسر الشكل الكلاسيكي التقليدي وتمثّل طرائق إبداعية مغايرة تنفصل عن المرجعيات الفكرية للأجيال السابقة وما تمثله من سلطة رقابية على شباب المبدعين، وحينها يعد النص ممارسة تجريبية تخضع لقدرات الكاتب على الابتكار السردي وحريته في تجريب الجديد من التقنيات، فتصبح مفاهيم مثل ثقافة الصورة والعناوين الجاذبة وتشكيل الأغلفة وتوظيف اللغات الأجنبية وإعادة تمثل المقولات التراثية، من الانشغلات الأدبية المشتركة في إبداعات الأجيال الجديدة من الأدباء والتي تسهم في رواج العمل واسم صاحبه.
أما إذا انطلق هذا التحديد من موقع القارئ، فإن تسويق بعض الأعمال الأدبية تجاريا قد يكون منوطا بميول القارئ لبعض النصوص القائمة على اسم مؤلفيها، مما يخلق لها شهرة زائفة ويضفي عليها بعدا استهلاكيا، فتتنافس على قراءتها شريحة كبيرة من القراء وتحصد نسبة عالية من المبيعات رغم بساطة قيمتها الأدبية. وهنا تؤدي “ثقافة الصورة” دورا في تحديد التذوق الفني للمتلقي، وبالتالي في دعمه لبعض النصوص دون غيرها (رغم ضآلة المضمون)، أو لبعض المؤلفين دون غيرهم (رغم تواضع الموهبة)، فيرتبط رواج العمل بانتشاره على وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط البصرية بأنواعها المختلفة، وتكون أحكام القارئ وسلطته على السوق الأدبية برمتها من الموجهات المهيمنة على بناء النص وطابعه التداولي.
كما أن انجذاب القارئ لبعض الأنواع الأدبية، كروايات الخيال العلمي والروايات البوليسية وروايات الرسائل والكتابات الإيروتيكية، قد يفرض على الكاتب نفسه الكيفية التي يصوغ بها نصه أو البنية التي يشتغل عليها، وفي هذه الحالة يصبح المتلقي شريكا في العملية الإبداعية، فيرتبط منتج النص وناشره بتحيزاته القرائية وأحكامه القبلية، وتنساق السوق الأدبية كلها وراء حاجاته وميوله، فتصبح عملية الكتابة معاملة استهلاكية قائمة على العرض والطلب، وتظهر الأعمال الأدبية الاستهلاكية التي تتماشى مع متطلبات السوق وقوانينها.
وأخيرا، يمكن القول إن سيطرة الفكر الاستهلاكي على قطاع من الأدباء أو الناشرين أو القراء، مع غياب المشاريع المعرفية الكبرى التي تجمع عقول هؤلاء حول أهدافها، جاءت انعكاسا واضحا لما أسماه جورج لوكاتش بـ”السيولة الثقافية”، التي “تقوم على المنطق السلعي والقيم الاستهلاكية التي تغري الجماهير وتجذبهم نحو الشراء”، وقد نجحت تلك القيم في اختراق الأدب والفن بعد سيطرتها على السلع التجارية، حتى لم يعد الدرس الاقتصادي وحده هو المدخل الحقيقي لفهم أبعاد تلك النزعة الاستهلاكية المسيطرة على الأفراد والمجتمعات، إنما أصبح التحليل السوسيولوجي هو الأقدر على تفسيرها بعد أن اتجهت -بشكل واضح- إلى العلوم الإنسانية والإنتاجات الإبداعية وفرضت عليهما مجموعة من المفاهيم والفرضيات التي تتعلق بأنماط تفضيل المتلقي لأنواع/ لنصوص أدبية بعينها.
ملف ينشر بالاتفاق مع مجلة الجديد الثقافية اللندنية
كاتبة مصرية
العرب