النهار الأشهر في تاريخ الأدب/ صبحي حديدي
تذكير، بادئ ذي بدء، بما هو معروف: تروي «عوليس»، رواية جيمس جويس، وقائع يوم 16 حزيران (يونيو) 1904، من الصباح الباكر حتى قرابة الثانية والنصف بعد منتصف الليل، في مدينة دبلن. الفصول الثلاثة من القسم الأوّل تصوّر ستيفن ديدالوس (تليماكوس الرواية) في برج مارتيللو، ثمّ تنزهه على شاطئ سانديماونت. الإثنا عشر فصلًا التالية تروي وقائع نهار ليوبولد بلوم (عوليس الرواية)، ولقائه مع ديدالوس. القسم الثالث يتألف من ثلاثة فصول تتوازى مع القسم الأوّل: بلوم وديدالوس في الملجأ، عودتهما إلى منزل بلوم في شارع إيكلز، ثمّ حجرة نوم موللي بلوم (بنيلوبي الرواية) وأخيلتها الجنسية.
وهذا اليوم، الروائي الصرف المتخيَّل، بات الأشهر في تاريخ الأدب، على مرّ العصور ربما؛ بسبب أنّ الرواية صارت الأشهر عالمياً، أسوة بعمل سيرفانتس «دون كيخوته»، مع فارق انتماء «عوليس» إلى قلب حداثة القرن العشرين، والذهاب بفنّ الرواية إلى مصافّ تجريبية هائلة وغير مسبوقة. وهذا هو اليوم الذي بات يُعرف باسم Bloomsday نسبة إلى بطل الرواية، ويتمّ الاحتفال به على نطاق عالمي وليس في إرلندا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة فقط؛ وإنْ كان نفر من أدباء إرلندا، على رأسهم باتريك كافاناه وفلان أوبريان، هم الذين أطلقوا المبادرة للمرّة الأولى في يوم 16 حزيران 1954، احتفاءً أيضاً بالذكرى الخمسين لذلك النهار الروائي. وأمّا في الذكرى المئوية، سنة 2004، فقد بلغت الاحتفالات ذروة قصوى، اتخذ بعضها في دبلن درجة الهستيريا الجَمْعية التي تمزج الفخار الوطني بالولع الأدبي؛ وصدرت أعمال مرجعية متميزة حقاً، لعلّ أبرزها ــ في تقديري الشخصي، بالطبع ــ كان كتاب «نهار بلوم 100: مقالات حول ‘عوليس’»؛ الذي حرّره موريس بيجا وآن فورغارتي، وضمّ مساهمات من نقّاد وباحثين ومؤرخين مختصين بأدب جويس وبروايته هذه تحديداً.
وعلى مبعدة نصف ساعة من مدينة دبلن يقع برج مارتيللو الذي يفتتح الرواية، ولكن الذي يحتضن اليوم متحف جويس أيضاً، ويشارك في كلّ سنة بسلسلة أنشطة وفعاليات مكرّسة ليوم بلوم. ولعلّ مدير المتحف، الباحث الجويسي روبرت نيكلسن، هو بدوره صاحب القول المأثور الأشهر: «علاقة جيمس جويس الوثيقة بنهار بلوم ليست أقلّ من علاقة يسوع بعيد الميلاد»؛ الأمر الذي يتأكد عاماً بعد عام في الواقع، وكلما اغتنت الاحتفالات بالجديد والمستطرف والنفيس، سواء حول شخصية جويس نفسه، وأعماله إجمالاً، وموقعه في الأدب العالمي؛ أو حول رواية، لا تكفّ عن تحريض الباحثين والدارسين لاستكشاف مجاهيلها الكثيرة. ولم يكن دون مغزى فعلي، متعاقب ومتواصل، أنّ جويس صرّح ذات يوم بأنّ روايته سوف «تجعل الأساتذة ينشغلون بها طوال قرون، ويتناقشون حول ما قصدتُه»، في ما يستغلق هنا وهناك من فصولها.
وامرؤ متيّم بأدب جويس يتمنى، أغلب الظنّ، لو كان في دبلن يوم أمس؛ فاستقلّ «حافلة جويس»، التي ستذرع به الطرقات ذاتها التي مشاها بلوم في الرواية؛ أو يتناول الإفطار، الأشهر بدوره كما يساجل كثيرون، لأنّ كلية الخنزير التي اشتراها بلوم لإفطاره لفّها له الجزار دلوغاز في واحدة من أوراق الدعاية الصهيونية للاستيطان في فلسطين (وأطلقت، استطراداً، نقاشاً لا يزال مستعراً حول يهودية بلوم من عدمها)؛ أو يتوقف في ساحة وولف تون لينصت إلى رهط من الكتّاب والساسة والمغنّين والعوامّ، ينشدون (إذْ لا يكتفون فقط بتلاوة) فقرات من الرواية. والمرء، في كلّ هذا، ملزَم بارتداء القبعة الجويسية… الأشهر، من جانبها!
ولا مناص، في كلّ عام، من فعالية تنطوي على إشكالية خلافية، كما في الفاصل المسرحي الذي يقدّمه هذه السنة المنتج ومخرج الأفلام والمسلسلات الوثائقية باتريك موريس، تحت عنوان «بلوم في أوشفتز»؛ وفيه يسعى مؤلفه، ريشارد فريدمان، إلى استكشاف جذور بلوم اليهودية، والاستنتاج بأنّ عقود ما بعد السنة 1904 سوف تشهد «كابوس التاريخ» على نحو أشدّ وطأة مما تخيّل ديدالوس في الرواية.
وفي دراسة مسهبة بعنوان «ليوبولد بلوم ليس يهودياً»، نشرتها فصلية «الكرمل» في العدد42، تشرين الأول (أكتوبر) 1991، حاولتُ استقراء هذه المسألة ليس من أي زاوية انحياز ضدّ اليهود وتفضيل للبروتستانت؛ بل لأنّ الإجابة تخصّ إشكالية مركزية في النقد الروائي الحديث، هي مغالطة القصد عند الروائي؛ فكيف عند جويس دون سواه، صاحب الألغاز والأحاجي! والحال أنّ والدة بلوم (في الرواية دائماً، بالطبع) كانت بروتستانتية، ووالده كان يهوديًا بالولادة لكنه اهتدى إلى البروتستانتية؛ والطفل ليوبولد عُمّد بروتستانتياً ثلاث مرّات؛ واهتدى إلى الكاثوليكية، وليس إلى اليهودية؛ لم يكن مختوناً، كما نعرف من أحد مشاهد فصل «نوسيكا»؛ ولم يتلقّ التثبيت الديني اليهودي، وهو يأكل لحم الخنزير، وفي ترتيبات زواجه من موللي يطلب النصح من الكاثوليكية، ونعلم أنه حجز لنفسه قبرًا في مقبرة للبروتستانت والكاثوليك…
كلّ هذا لم يردع ديفيد بن غوريون عن إطلاق التصريح الشهير: «حسناً… قد لا يقول الحاخامات بأنّ بلوم يهودي. أنا من جهتي لا أتردد في اعتباره يهودياً»؛ ولا يلوح أنه سوف يردع دولة الاحتلال الإسرائيلي عن المشاركة في إحياء يوم بلوم، على خلفيات تستدعي أوشفيتز وعقدة الضحية!
القدس العربي