مغامرات شيلتبرغر وأسفاره… رحلة أسير عثماني في المدن الإسلامية/ محمد تركي الربيعو
يعمل المؤرخ السوري أحمد إيبش منذ سنوات عديدة على نشر أسفار الرحالة الذين زاروا العالم الإسلامي في القرون الأخيرة، ولذلك وفي محاولة لرصد بعض جهوده، حاولنا في مقالة سابقة لنا تسليط الضوء على بعض هذه الرحلات التي خاضها عدد من الأوروبيين، إسبانا وفرنسيين، في المدن العربية العثمانية، خلال القرن السابع عشر، والتي نُشِرت تحت عنوان «رحلات في بر الشام في القرن السابع عشر؛ إذ استطاع إيبش في هذا الكتاب، رغم بعض الثغرات التي شابت أسلوبه في التحقيق؛ أن يطلعنا على مصادر جديدة لفهم الفضاء العام للمدن العربية العثمانية في القرن السابع عشر.
ولم يقتصر اهتمام إيبش في هذه التحقيقات على التاريخ العثماني، إذ بقيت الفترة المملوكية في القرنين الخامس عشر وبدايات السادس عشر من بين الفترات التي ظل إيبش مولعاً بعوالمها، الأمر الذي دفعه أيضاً في السنوات الماضية (بالتوازي مع نبشه في عالم الرحلات) إلى تحقيق عدد من النصوص والرحلات، التي تعود لتلك الفترة، فمعرفة الرجل الجيدة باللغة الألمانية، وخزائن المخطوطات الإسلامية في الجامعات والمعاهد الألمانية، مكناه من العثور على أجزاء مفقودة من هذه اليوميات،
كما دفعه مؤخراً السبب ذاته إلى استكمال بحثه في الظروف السياسية والديموغرافية التي كانت تعيشها مدن العالم الإسلامي في القرن الخامس عشر، عبر ترجمته وتحقيقه لأسفار الرحالة الألماني يوهان شليتبرغر إلى الشرق في هذه الفترة. ويعود مكمن الأهمية والتشويق في هذه الرحلة إلى أن كاتبها لم يزر المنطقة بشكل عادي، وإنما زارها أسيراً عندما وقع في أسر الجيش العثماني، ولاحقاً المغولي، لفترة زادت على ثلاثة عقود (1394/1427) وهي فترة عُرِفت بأحداثها الدموية، التي طالت عدداً من مدن المشرق، في ظل الهجوم المغولي الذي تعرضت له، كما عرفت تغيرات سياسية عديدة، أهمها أنها أجلّت من تنامي دولة بني عثمان، وتأسيس دولة المماليك الجراكسة في مصر. ورغم أن شيلتبرغر لم يكن رحالة كغيره من الرحالين، بل عانى من الأسر والعبودية طويلاً، غير أن ذلك لم يمنعه من أن يُتحفنا بنص ثمين، حول تلك الفترة وما عاشته من أحداث وظهور دول، بأسلوب تغلب عليه البساطة والعامية، ويمتاز بالعفوية والصدق. إذ صوّر ما رأى وسمع وشهد، أو ما وصل إليه بالمشافهة، الأمر الذي قد يمكننا من إجراء مقارنات، وربما سد بعض الثغرات، مع نصوص المؤرخين المسلمين الذين تناولوا أحداث تلك الفترة من أمثال نظام الدين شامي، ابن تغري بردي الأتابكي، وابن الصيرفي وابن خلدون وغيرهم من الأسماء.
كيف وصل يوهان إلى الأسر؟
غادر يوهان شيلتبرغر موطنه في عام 1394 برفقة سيده لاينهارت ريخارتينغر، وكان ذلك قبل عامين من اندلاع القتال في معركة نيكوبوليس (التي وقعت بين العثمانيين وعدد من الجيوش المسيحية). إذ كان سيده يخدم ضمن القوات الحليفة. يذكر شيلتبرغر أن العثمانيين نجحوا في هذه الرحلة في هزيمة وقتل عدد كبير من الجيوش المسيحية، وكان من ضمن من قُتِلوا آنذاك سيده؛ فقد استطاع جيش بايزيد أسر مئات المقاتلين، من بينهم يوهان الذي وجد نفسه أسيراً بين عدد من الأمراء المسيحيين. في هذه الأثناء، يذكر الأسير الألماني أنه أبلغ الملك بايزيد أن ابن أخيه قد قُتِل في المعركة، حينها استشاط غضباً طالباً جنوده بقتل الأسرى. وعندما جاء دوره رآه ابن الملك (سليمان) وأمر «بأنني يجب أن أُترك حياً، وأُخِذت إلى شبان آخرين لأنه لا يقتل أحد تحت سن العشرين، وأنا كنت بالكاد قد بلغت السادسة عشرة من عمري». في هذه الرواية، نجد أن شيلتبرغر يخالف روايات بعض المؤرخين الأوروبيين الذين ردوا عدم قتله إلى وسامته، وهو ما مكنه لاحقاً من أن يصبح خادماً للسلطان. كما ذهب البعض إلى القول بأن روايته هذه ربما تكشف عن سياسات العثمانيين الأولى في التعامل مع الأسرى. وأن أسلوبهم كان شبيهاً بأسلوب الأيوبيين في تحويل بعض الأسرى والعبيد إلى جنود في الجيش. مع ذلك، لا تشير التفاصيل التي يذكرها شيلتبرغر إلى ما يشير إلى هذه السياسة، إذ يذكر في مكان آخر صعوبة الحياة التي عاشها في السنوات الأولى من أسره، فقد «أُخِذ إلى قصر الملك التركي، وأُجِبر هناك لمدة ست سنوات على العدو على رجليه مع الآخرين حيثما ذهب، إذ جرت العادة بأن يقتني الأمراء أناساً يركضون أمامهم، وبعد ست سنوات نلت أحقية السماح لي بالركوب»، ومما يُلاحظ في هذه الرواية بقاء الأسير الألماني في خدمة القصر العثماني فترة تجاوزت الثماني سنوات (خلافا لروايته حول بقائه اثني عشر عاماً في خدمة بايزيد)، وهو ما مكّنه من تدوين غزوات ومعارك بايزيد خطوة خطوة، ومن تفسير وذكر أسباب هزيمته أمام المغول في أنقرة في 20 يوليو/تموز 1402، إذ فرّ سليمان ابن السلطان من المعركة تاركاً أباه لوحده يواجه مصيره بنفسه، قبل أن يتم أسره هو ومن تبقى معه من جنوده.
بعد موت بايزيد في الأسر، وجد شيلتبرغر نفسه أمام القدر ذاته الذي عاشه مع مالكه الأول، فقد وقع هذه المرة أسيراً لدى المغول. مع ذلك، فقد مكنته هذه التجربة من خوض غمار أسفار ورحلات جديدة في بلدان أخرى. في يومياته المغولية نتعرف على أرمينيا وجورجيا اللتين زارهما أثناء قيام تيمورلنك بغزو هذين البلدين بعد فتوحاته في آسيا الصغرى، ثم تبعتها حملته إلى أبخازيا، لنصل إلى الجزء الأكثر تشويقاً في الأسفار والمتعلق بمرافقته لإحدى البعثات إلى سيبيريا بهدف إخضاعها؛ إذ استطاع أن يرسم لنا صورة شاملة وواسعة عن عادات أهل هذه المناطق، ودياناتهم، وأطعمتهم، ولباسهم. ولعل هذا الرسم الدقيق والأثنوغرافي، إن صح التعبير، قد ساعد في دحض بعض القراءات التي حاولت التشكيك بروايات هذا الأسير، أو بوجود هذه الرحلة بالأساس، خاصة أن بعض التفاصيل التي ذكرها لا تدع مكاناً للشك في أنه رأى بأم عينيه كل ما يرويه، وإلا لما روى بأن هناك العديد من الحيوانات البرية في ريفها، وأسماء لم يكن باستطاعته ذكرها، لأنها لا توجد في ألمانيا. ولما أمكنه أن يختتم رحلته في سيبيريا قائلاً «لقد رأيت هذا كله، وكنت هناك مع ابن الملك المذكور أعلاه جقرى».
في مغامرات شيلتبرغر العديد من الأخبار والتفاصيل الغنية، التي تغني معرفتنا بالتحولات التي كان يعيشها العالم الإسلامي في بدايات القرن الخامس عشر، وقد تدفع إلى مزيد من البحث في حياة الناس والمدن وما عاشوه من تغيرات في ذلك القرن العصيب والعجيب.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي