يوم غائم في حُمص/ شادية الاتاسي
استوت حُمص أمامنا. مدينة خارجة من الحرب. وكل ما قيل، عن خراب المدينة، بدا باهتا. إزاء قتامة المشاهد التي عبرناها باتجاه مقبرة تل النصر، كانت الطرقات فارغة وحزينة، كأن ساكنيها اختفوا فجأة بلا صوت.
لم أر حمص منذ أن بدأت الحرب هكذا، يجرفنا طوفانها المحموم نحو المجهول. وها أنا ذا اليوم في قلب اليقين. تباغتني المشاهد التي أحالت البلد إلى كتلة ملتهبة من النار
عبرنا طريق طرابلس. ساحة الغاردينيا. كانت من أجمل ساحات المدينة. تعج بالحركة والحياة. تبدو الآن كئيبة مسربلة بالهموم. ومن على تلتها المرتفعة قليلا، تراءى لنا الطرف الآخر من المدينة، ساكنا، منبسطا بلا لون، لم يكن هناك إلا الأطلال والخرائب. ابتعدنا قليلا خارج المدينة، وتوغلنا باتجاه مقبرة تل النصر، كان هذا أكثر من أن تطيقه روحي. ما رأيته، لم يكن مشهدا سينمائيا ولا روائيا، ولا لوحة سيريالية، كان مشهدا حقيقيا، نابضا بالحقيقة.
خراب على مد النظر!
أينما تطلعت، أمامك، وراءك، على الجانبين، يطوقك بحر عائم بالخراب، يسيطر عليك كابوس خانق، تحاول جاهدا أن تنجو وتبتعد، لكنك تبقى مسمراً مبهوراً مكانك.
أبنية بكاملها مهدمة، سويت بالأرض، وأبنية ثقبتها صواريخ عمياء، فاندلقت أحشاؤها، قهر ورعب ودموع من قضى من ساكنيها. روائح كريهة، لا يزال فيها طعم الدم والموت والبارود. أكوام هائلة من الأتربة والركام وحجارة البيوت المنهارة مشتتة في كل مكان، لم تمتد إليها يد لترفعها، صناديق فارغة مكومة، تنام فيها القطط والفئران. ذكريات وأسرار، أحلام وآمال، ضحكات وأنفاس وهمهمات، مشلوحة هنا وهناك، لم تدفن بعد، تسمع لها رفيفاً يعبرك برفق، فتحني رأسك بخشوع، وتنصت برهبة، وتبكي دموعك في صمت.
سبع سنوات عجاف مرّت، منذ أن قطعت أمي رحلتها الأبدية، وحيدة وسط هذه القفار الموحشة الباردة، لا زرع فيها ولا ضرع. وهأنذا اليوم أقوم برحلتي الحزينة، في هذا اليوم الشتائي الغائم، أجتاز مسافات شاسعة من الخرائب والركام والدمار، أحالتها إلى أمكنة أشباح، خارجة من بوتقة أفلام الرعب. لأقف أخيرا أمام قبر أمي. غيم في السماء، وغيم في القلب أواجه براري امتد فيها العدم بلا لون، بلا أفق، بلا نهاية
أنظر حولي بإمعان شديد، وفضول أشد، لأتأكد واستوعب أنني حقيقة هنا. أخيرا! ألامس الحلم الذي طالما أرقني، واعتبرته مستحيلا لن يحدث، ولكنه حدث.
تهدج صوتنا بخشوع، مخضل بالدموع، وكلمات سورة ياسين الجميلة تتساقط على قلوبنا، رطبا طيبا، تطبطب برفق، على جراح القلب، وتستل منه بعضا من ذاك الحزن الطاغي، الذي استبطن الروح. فيبدو المكان أقل بشاعة، وأكثر قبولا.
لابد أن روحها الآن قد أشرقت بفرحة اللقاء، قالت ابنة أخي بهدوء. أسرتني جملتها الصغيرة، كشفت لي بعمق، مدى جمالية وقوة ومتانة، أن يكون لك هذا الإيمان الساذج العميق. كنت أفكر بعمق في الفكرة ذاتها، في اللحظة التي جسدتها ابنة اخي، ليس إلى تساؤل، وإنما إلى إقرار فيه يقين عميق. أحببت هذا اليقين الذي يستكين في ثنايا هذا الإقرار البريء، أردته أن يكون حقيقيا، تخيلت هذه الروح القلقة في سرمديتها الأبدية، وقد سرت إليها إشراقة النور، بوجودنا القريب، فاستكانت، واطمأنت، وهدأت وفرحت.
أنا أيضا استكنت إلى نشيدي الخاص، أحلم وأتذكر، تلاويح خفية، روائح كامنة، أصوات آفلة، تسري مبتعدة، مفعمة بذاكرة وروح المكان والزمان، اشتقت فيها إلى أمي تزورني في بيتي، أعود طفلة من جديد، وتخضر الفرحة في قلبي. تملأ المكان والفراغ، كانت لها قدرة عجيبة على بث الحياة في الغرفة التي هجرها الأولاد. تفتح النافذة، يشع النور، يدخل الهواء الطري، تنتثر أشياؤها في أرجاء الغرفة والبيت، تصفّ أدويتها بعناية على رف المطبخ، مسبحتها على طاولة غرفة الجلوس، كرسيها في البرندة، تتطلع بإعجاب إلى زريعتي الحبيبة إلى قلبي وتقول لي كما في كل مرة
« أيدك خضرا يا بنتي متل قلبك». فيبتسم الفرح في داخلي.
بدا السائق العجوز، في طريق العودة، بسيارته المتهالكة، وهي تئن متوجعة، كلما مالت بِهَا وعورة الطريق ذات اليمين وذات اليسار، متجانسا ومنسجما مع المشهد الكئيــب، ومع صوته الحكائي الرتيب، كنت غارقة في أفكاري، ألتقط انهمار صور الخراب أمامي في ذهول، عندما سمعت صوته، بازغا من روحه ، تماهى مع عطب المكان الذي نحن فيه، «منذ خمس سنوات راح ابني الشاب». باغتت هذه الجملة، أفكاري المشتتة، وسألت بعجب «راح! لوين راح»؟
«مات. مات مع رفيقه الشاب، في قذيفة طائشة انفجرت بسيارتهم، ولا أعرف له أثراًولا قبراً». كان هذا نهاية صباح، في يوم شتائي غائم في حُمص.
٭ كاتبة سورية
القدس العربي