نهاية الكاريكاتير والشمولية الثقافية الجديدة/ محمد سامي الكيال
أثار قرار جريدة «نيويورك تايمز» الأمريكية بإلغاء الكاريكاتير السياسي من نسختها الدولية كثيراً من التكهنات حول مستقبل هذا الفن. لا يتعلق الأمر بالنقاش حول ما إذا كان الرسم الذي دفع الجريدة لهذا القرار (يصور ترامب شخصاً أعمى، يقوده كلب على شكل نتنياهو، على صدره نجمة داوود) معادياً فعلاً للسامية، كما ادعى بعض النقاد. فالجريدة لم تحظر رسماً بعينه، أو تطرد رساماً بسبب مواقفه، لكنها وجدت أن فن الكاركاتير بحد ذاته لم يعد مناسباً للعصر، وبدأت تفكر بـ«أشكال فنية جديدة» للتعبير. ما يطرح تساؤلات جدّية عن طبيعة هذا العصر، الذي لم يعد قادراً على تحمل ذلك الشكل من التعبير الفني الساخر.
ليست المسألة فحسب في «نهاية الكوميديا» بسبب الصواب السياسي، كما يشتكي عدد من الفنانين الكوميديين، بل في تغيرات هيكلية تشهدها الثقافة الغربية نحو الحد من أشكال معينة من التعبير، واستبدالها بأشكال أخرى تناسب روح العصر. ما يدفع بعض المتحمسين للحديث عن «ثورة ثقافية»، تلغي ما شاب المنتج الثقافي القديم من مظالم وتمييز وانتهاك للحساسيات، وتؤسس لثقافة أكثر نظافة ومراعاة لأصحاب المظالم التاريخية. وعلى الرغم من أن ما تنشره «نيويورك تايمز» من رسوم هزلية يتفق تماماً مع هذا المنظور الثوري، بل ربما كان في طليعته، إلا أن فن الكاركاتير نفسه، بما يحويه من تنميط ومبالغة وإبراز للتناقضات، يحمل إمكانات لإثارة حساسيات، تبدو الثقافة المعاصرة في غنى عنها.
تطرح هذه الثورة الموجهة من أعلى، عددا من الأسئلة حول مستقبل الثقافة: هل يمكن بالفعل وجود نظام ثقافي معقد ومتعدد الأصوات، لا يثير حساسية أي فئة من الفئات الاجتماعية الكثيرة التي يحويها مجتمع حديث، يتسم بدوره بشدة التعقيد والتركيب؟ هل ستستطيع الأنماط الثقافية «الصحيحة سياسياً» إلغاء كل أشكال العدوانية والتمييز في الخطاب العام؟ وكيف يمكن تفسير زيادة حدة الاستقطاب الاجتماعي والحروب الثقافية، في شرط ثقافي يطالب معظم الفاعلين فيه بالمزيد من اللباقة ومراعاة «الآخر»؟
الخطاب الشرعي الوحيد
يميل كثير من الفاعلين السياسيين والثقافيين اليوم إلى تقديم طروحاتهم بوصفها غير أيديولوجية، فهي لا تتعلق بموقعهم الاجتماعي أو ميلهم السياسي، بل هي تعبيرٌ عما تتطلبه الحقيقة والأخلاق. فهم يمتلكون سرداً متماسكاً من الوقائع التي لا يمكن التشكيك فيها، والالتزامات الاجتماعية والإنسانية التي يصعب تجاوزها. ما يجعل الاختلاف معهم نوعاً من الجهل أو التعصب. وسواء تعلق الأمر بقضية البيئة أو النسوية أو التعددية الثقافية، هنالك دوماً موقف شرعي واحد، وكل جدل اجتماعي أو سياسي هو دلالة على أن المجادلين لم يصلوا بعد إلى درجة النضج الكافية، التي تتيح لهم فهم أحقية هذا الموقف. بهذا تصبح السياسة غير مرتبطة بقدرتها على التوفيق بين المواقف المختلفة، أو إدارة الصراع بينها، ومناقشة البدائل المطروحة، والسعي لانتزاع الحقوق الدستورية، وهو ما يستلزمه المفهوم الديمقراطي لـ«السيادة الشعبية»، بل ترتبط بدلالتها على الحقيقة السابقة لأي ميل أو مصلحة. وهي حقيقة يحتكر طرف واحد تمثيلها والتعبير عنها، وتُنتج في مؤسسات «شرعية» معينة. ما يقرّب السياسة والثقافة المعاصرة من الأشكال الثيوقراطية والكهنوتية. إلا أن الأيديولوجيا السائدة ليست علموية أو أخلاقية دائماً، فهي تميل في حالات معينة إلى تحويل العلم إلى عقيدة مغلقة، قائمة على الإجماع وتدين التشكيك (كما في خطاب المنظمات غير الحكومية «الخضراء»)، في حين تصبح نسبوية، مشككة في العلم وميوله الأيديولوجية، في حالات أخرى (الصراع بين بعض علماء الفيزيولوجيا وناشطي «دراسات الجندر»). نراها تدعو للنسبية الثقافية والأخلاقية، عندما يتعلق الأمر بهجوم المحافظين على التعددية الثقافية، وتحمل، من جانب آخر، مسطرة أخلاقية جامدة، عندما تريد محاكمة الفن والتراث الإنساني (محاولة تطهير المعارض والمتاحف والأكاديميات من ذكورية واستعمارية «الرجال البيض»). ترفض الهوية، عندما ترتبط بالنزعات القومية اليمينية، وتمارس في الوقت ذاته أكثر أشكال سياسات الهوية تطرفاً. من الغريب فعلاً أن نرى مؤسسات وجماعات تشدد على الهوية الإسلامية أو النسائية أو السوداء، وتتباكى في الوقت ذاته من تصاعد الذكورية، والهوية المسيحية البيضاء.
يمكن رد جانب كبير من هذه التناقضات إلى كون السياسة نظاماً اجتماعياً مستقلاً، يشتغل أساساً على مبدأ السلطة، وليس الفضيلة أو الحقيقة، وعندما يستعير عناصر من أنظمة أخرى، مثل نظامي العلم والأخلاق، فهو يفعل ذلك لتعزيز قدرته على إرساء السلطة والهيمنة. فيحول العناصر العلمية أو الأخلاقية إلى مقولات سياسية – أيديولوجية. ولكنها أسوأ أنواع الأيديولوجيا، لأنها تحاول إخفاء طبيعتها ووظيفتها الخاصة، والتستر وراء العلم والأخلاق. إنها بالفعل وعي زائف، كما كان الماركسيون الكلاسيكيون ينعتون الأيديولوجيا.
على هذا الأساس يمكننا أن نفهم أحد الأسباب التي تجعل الكاركاتير فناً غير محتمل، فهو يعبّر دوماً عن موقف سياسي ذاتي، واعٍ لتحيزاته وموقعه السياسي. في حين أن الأيديولوجيا الغربية المعاصرة لا ترضى بأقل من التعبير عن الحقيقة المنزّهة.
الذكورة السامة
إلا أنه لا يكفي نقد هذه الأيديولوجيا من الخارج، بل لا بد من مساءلتها أيضاً وفقاً لمعاييرها وأهدافها المعلنة، فهي تدّعي محاولة تخليص الخطاب العام من «التنمر» و«الذكورة السامة». يمكن القول إن نقل مصطلح «التنمر» من عالم الأطفال والمراهقين، ليصبح مستخدماً في السياسة التي يمارسها البالغون، يدل عموماً على الميل لطفلنة المجتمع. في حين أن مفهوم «الذكورة السامة» أكثر أهمية وإثارة للتأمل، فهو لا يشير بالأصل إلى تعبيرات الذكورة الجسدية، مثل شعر الوجه والجسم والعضلات والخشونة، بل أساساً للميل إلى إذلال كل من لا يملك ما ترمز إليه هذه التعبيرات من قوة، من نساء و«مخنثين» ورجال «ضعاف». وهي ممارسة ليست مقتصرة على الذكور، بل يقوم بها كل من يستطيع إذلال الآخر لضعفه. وكثيراً ما كانت الأمهات والزوجات قادرات على إذلال أولادهن وأزواجهن، إذا لم يكونوا في مواقف معينة مطابقين لمفهومهن عن الرجولة، بما في ذلك ترددهم أو عجزهم عن ارتكاب جرائم «الشرف» مثلاً.
«الذكورة السامة» إذن ليست خاصة بيولوجية لجنس معين، بقدر ما هي بنية اجتماعية، قادرة على قمع الرجال والنساء، وتتعلق أساساً بالسلطة، التي ارتبطت في أغلب المجتمعات بالقدرة على استخدام القوة والخشونة، جسدية كانت أو معنوية. وهي ممارسات مازالت مستمرة بأشكال مختلفة، حتى في أكثر المجتمعات تقدماً. وبما أن الأيديولوجيا «الصحيحة» السائدة شديدة السلطوية، فسنجد لديها أنماطاً متعددة من هذه الذكورة. فلنذكر ردة الفعل ضد الممثلة الفرنسية كاترين دونوف، بسبب نقدها لحملة «أنا أيضاً»، عن طريق معايرتها بسنّها: إنها «امرأة عجوز بيضاء»، وبالتالي تتسم بضعف العجائز اللواتي ولّى زمنهن، ولا تملك قوة النسويات المسيطرات على المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، المحتكرات لـ«روح الشباب»، بدون أن يكن شابات بالضرورة. في ألمانيا واجه فيليب امتور، النائب الشاب عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، حملة عنيفة، لم تركز على مواقفه المحافظة، بقدر ما سخرت من ملابسه، ونعومة ملامحه التي تدّل على ضعفه الجنسي المزعوم. دعك من احتقار محتجي السترات الصفراء، وتعميم «صورة نمطية» عنهم، بوصفهم رجالاً جاهلين عنصريين، مدمنين على التدخين وقيادة السيارات.
الأمثلة كثيرة، وتدل على أن المسألة لا تتعلق بالقضاء على ممارسات «الذكورة السامة» أو «التنمر» أو حتى التمييز والتعميم، بل السيطرة على هذه الممارسات لأجل تسخيرها لمصلحة طرف واحد، بحجة أن أنصار الأيديولوجيا السائدة لا ينطقون عن الهوى، بل يناصرون الحقيقة والأخلاق.
أخلاق الشمولية
فن الكاريكاتير قد يكون مناسباً لأغراض الذكورة السامة، ولكنه سلاح ذو حدين، يمكن أن يستخدمه الخصم أيضاً، أو قد يُستعمل لكشف التناقض بين ادعاءات الأيديولوجيا السائدة وممارساتها، الأمر الذي يبيّن عجزها عن إظهار أي تفوق أخلاقي على خصومها. ليست المسألة على أي حال المفاضلة بين منظومتين أخلاقيتين، بل في أن الحيّز العام، بثقافته وسياسته، قام، وسيقوم دوماً، على الاختلاف والصراع والتفاوض، ولذلك لا يمكن أن يوجد اجتماع بشري خالٍ من خدش «الحساسيات». محاولة نزع شرعية الخصم بزعم التفوق الأخلاقي أو المعرفي، وشرعنة «التنمر» لطرف واحد، ستعني قيام أنظمة شمولية سياسياً ومعلّبة ثقافياً، وزيادة حدة الاستقطاب الاجتماعي. هذا لا يتعلق فقط بالغرب، فالزلازل التي تحدث هناك، تصل هزاتها الارتدادية بسرعة إلى الدول العربية. وفي أوضاعنا ستؤدي إلى المزيد من القيود والمحظورات، في زمن يناضل فيه كثيرون لتوسيع حرية القول والممارسة. قد نصل إلى حال تبدو معه معاناة رسامي الكاركاتير العرب، من قتل وسجن وتعذيب، لا معنى لها، في جو ثقافي عالمي يعتبر حرية التعبير أمراً عتيقاً، أو امتيازاً لفئات دون غيرها.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربية