مقالة حول الحالة الإنسانية: حوار مع روي أندرسون (ترجمة)
مريم عرابي
ترجمة عن مجلة fourbythreemagazine
ماذا يعني أن تكون إنسانًا وهل الفن قادر على تصوير هذا؟ يتحدث المخرج السويدي روي أندرسون، الحائز على الجوائز، إلى مجلة “four by three” عن ثلاثية الوجود، وعن السينما المعاصرة، والعلاقة بين الجماليات والأخلاق، وهشاشة الحالة الإنسانية، أثناء تناوله لغرض الفن والسينما.
على النهج الوجودي لألبير كامو وبقسوة جمالية واستخدام محصور لممثلين هاوين على غرار روبير بريسون، تتأثر أفلام روي أندرسون بنظريات أندريه بازان السينمائية وواقعية فيتوريو دي سيكا في “Bicycle Thieves”. بعد أن قام بإخراج 500 إعلان تجاري، عاد أندرسون إلى الأفلام الطويلة عام 2000 بفيلمه “Songs from the Second floor”، والذي فاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان وشكّل أساس ثلاثية الوجود، متناولًا شيئًا لا يقل أهمية عن معنى أن تكون إنسانًا. في حين أن “Songs from the Second Floor” يدور حول مؤسسات وعلاقات السلطة، كالرأسمالية والدين، يبرز “You, the Living” العلاقات الشخصية بين الأحباء والعائلة بشكل أساسي، بينما يُصوّر فيلمه الأخير “A Pigeon Sat on Branch Reflecting on Existence” كيف يجيد الناس بطريقة صادمة التظاهر بأنهم بخير.
يبدأ “A Pigeon” برجل وامرأة في متحف يتأملون حمامة مُحنطة على غصن، فاتحًا عقلية المشاهد على كل الأشياء الممكنة. تتسم أفلام أندرسون بالسخرية والقسوة على حد سواء، وبإنشائه أسلوب خاص به وحده، فإن أفلامه محيّرة وعظيمة ببراعة.
ما الذي حفّزك لتصبح مخرجًا؟ وما أهدافك الفنّية الآن؟
حين كنت صغيرًا، أردت أن أصبح مهندسًا وأن أقوم بإنتاج بعض الابتكارات المهمة جدًا. ولأنّي نشأت في عائلة من الطبقة العاملة دون أي تقاليد فكرية، فقد أصبحت على صلةٍ فقط بالأدب الجيد جدًا حين كنت في المدرسة. لذا وددت في البداية أن أصبح كاتبًا على خطى كاتبي المفضل آنذاك: ألبير كامو. لكن، في أواخر الخمسينات وخلال الستينات، كانت هناك فترات جيدة في السينما الأوروبية، من الموجة الروسية في أواخر الخمسينات إلى الموجة البولندية خلال الستينات والموجة التشيكية. كانت هناك الكثير من الموجات الرائعة التي جعلتني بدورها أغيّر رأيي وأطمح إلى أن أصبح مخرجًا بدلًا من أن أصبح كاتبًا. في الواقع، لا بد أنني كنت في الرابعة عشر أو الخامسة عشر حين تعرّفت أول مرة إلى الواقعية الإيطالية الجديدة وعلى وجه التحديد فيلم “Bicycle Thieves” لفيتوريو دي سيكا. خلال هذا الوقت طمحت إلى أن أصبح كاتبًا أو مهندسًا أو صانع أفلام في آن واحد. لكن كان تعرّفي إلى “Bicycle Thieves” مثيرًا للإعجاب ومهمًا لي لأنّي قررت حينها أن أصبح صانع أفلام.
أفلامك الثلاثة في ثلاثية الوجود (2000-2015) التي أنهيتها مؤخرًا، والتي يُشار إليها كثيرًا على أنها سخيفة وسيريالية وبلا معنى، تُركّز على جوانب مختلفة للوجود الإنساني. يبدو “You, the Living” مختلفًا في أسلوبه، حيث أنه عاطفي أكثر، أو ربما حتى أكثر تفاؤلًا، من الفيلمين السابقين، يبدو أنهما ينطويان على قدر من الهلاك للبشرية. هل توافق على هذا الوصف؟
من المثير للاهتمام قول الناس أنهم يشعرون أن هناك اختلافات حقيقية بين الأفلام الثلاثة في الثلاثية. لكن بالنسبة لي هم متشابهون للغاية وجزء من نفس العائلة. وكما سبق وأشرت أنت، تدور كل أفلام الثلاثة حول معنى أن تكون إنسانًا. على سبيل المثال، أكره أن أرى الناس يُهانون، مما يشكل اهتمامي حيال أسئلة تخص المصالحة، إلى جانب أسئلة تخص الجرائم الفردية والجماعية، مثل الهولوكوست. كيف لنا أن نتصالح مع تلك الكوارث التي اقترفناها في الماضي وكيف لنا أن نتعايش مع تلك الجرائم الآن؟ المصالحة هي عنصر بالغ الأهمية لي فعلًا.
أحد المشاهد قبيل نهاية “A Pigeon” لافت للنظر وصادم للغاية، خصوصًا لأنه يعكس المشهد الافتتاحي لفيلمك القصير “A World of Glory” (1991). ما شأن تلك الصورة تحديدًا لتجعلك تعود إليها مرة أخرى؟
وُلدت عام 1943 حين كان الهولوكوست في ذروته وحين كانت معسكرات الاعتقال فعّالة على نحو ممل في قتل كل هؤلاء الأشخاص في فترة قصيرة كتلك. نشأت في تلك الفترة التاريخية، وعرفت بشأنها، لكن لم أدرك إلا بعد ذلك كم كان حجم الفظاعة، والقسوة، والدمار. صدمني الانعدام التام للإنسانية. طاردني طوال حياتي سؤال كيف أمكن كل هذا من الحدوث، ولازلت لا أستطيع التخلّص منه. أفكر أيضًا بالغزاة الإسبان وكيف تعاملوا مع الهنود خلال القرن الخامس عشر أو كيف فرّغ البريطانيون سُفنًا مليئة بالعبيد في ليفربول. الهولوكوست ليس حادثًا منعزلًا وأنا مهتم بتكرار الجرائم ضد الإنسانية على مدار التاريخ وكيف يبدو أننا لم نتعلم منها سوى القليل. علينا أن نواجه الماضي، كي نتجنّب ارتكاب نفس الأخطاء في المستقبل.
تتجنب أفلامك المونتاج واللقطات المُقرّبة وتتصف بالحركة البطيئة، واللقطات الطويلة الثابتة، والزوايا الواسعة، والعمق البؤري. لقد وصفت أسلوبك المتناهي الدقة والتكوين المحكم “بالصورة المعقدة”، وهو ما يذكرنا بالمُنظّر السينمائي العظيم أندريه بازان، فأنت تحفز المُشاهد ليكون متفاعلًا بدلًا من أن يتشرّب الفيلم بسلبية. هل يمكنك أن تتناول الدور الذي تلعبه الجماليات والأخلاق في أفلامك بالتفصيل؟
أفكر بهذا كثيرًا وهو سؤال مثير للاهتمام لكنّه حساس. في رأيي هذان المستويان مقترنان ولا يمكنك فصلهما، فهم من نفس العائلة. لا يمكنك ببساطة أن تتخلص من البعد الأخلاقي في الجماليات. التفكير في الأخلاق يجعلني أفكر في طريقة تصرفنا كوحوش على مدى تاريخ البشرية. لكن على الواحد أيضًا أن يفهم ويدرك أن البشر قد حققوا أشياء جيدة للغاية. في فيلمي القادم أوّد أن أعرض هذا على وجه التحديد وبوضوح أكبر: التزامن المطلق للخير والشر في كل واحد منّا. لا أريد أن أكون متشائمًا حيال هذا وأعتقد أن البشر ليسوا جيدين على الدوام ولا سيئين على الدوام.
آمل أن أتمكن عن طريق أفلامي من الإفصاح عن حساسيتنا تجاه بعضنا البعض وأن أُظهر أننا وجوديًا مخلوقات في غاية الضعف. إلى جانب أننا نملك وقتًا ضئيلًا جدًا في حياتنا. ليست هناك نهاية سعيدة لأي منّا [يضحك]. لكن لهذا السبب تحديدًا علينا أن نكون أكثر مسؤولية تجاه ما تبقى لنا من الوقت.
حين أشاهد أفلامك لا يسعني إلا أن أشعر أنك تأخد مشاهدينك على محمل الجد وأنك تثق بنا. معظم الأفلام السائدة تخبرك بماذا عليك أن تفكر، إذ إنهم يتلاعبون بنا لنفكر فيما يحددونه. ولا يقتصر الأمر على أن تلك هي الطريقة الصحيحة للتفكير بمسألة أو حكاية معينة بل إنها الطريقة الوحيدة للتفكير بها. لكنك تفتح الأسئلة بدلًا من أن تغلقها بالإجابات. هل هذا شيء مهم لك؟ كيف تشعر حيال السينما المعاصرة؟
لا أريد أن أكون غير سخي في حق المخرجين الآخرين، لكن السينما المعاصرة تجعلني حزينًا بعض الشيء وأجدها أقل صدقًا بشكل عام، وهو ما يرجع في الغالب إلى الأسلوب. في الوقت الحاضر من الممكن أن تؤدي العمل بسرعة كبيرة بفضل قلة القيود والعقبات التقنية. هناك نقص في الصبر. ومع ذلك يتساءل المخرجون المعاصرون لم ليست أفلامهم مثيرة للإعجاب كأفلام الستينات. رغم أنه كان من الضروري في الستينات أن تعمل بقدر كبير من الصبر. حين أسأل نفسي ما الذي تفتقر إليه السينما المعاصرة، الجواب في غاية البساطة: قلة صبر، وقلة موهبة، وقلة نقود.
كما أشرت أنت مسبقًا، أنا متأثر جدًا بكتابات أندريه بازان. استخدام اللقطات الواسعة هو بمثابة رسم التاريخ، إذ ليس هناك الكثير من لوحات اللقطات المُقرّبة في التاريخ المثيرة للاهتمام بقدر اللقطات الواسعة. مع ذلك، يمكن الاحتجاج بأن استخدامي للقطات الواسعة متلاعب أيضًا، رغم أن الخداع بتلك الطريقة أصعب.
أنت صريح بلا تهاون وجريء حين يتعلق الأمر بإظهار هشاشة الحالة الإنسانية. لقد جادلت في كتابك “Our Time’s Fear of Seriousness” بأن الإنسان المعاصر يعاني من خوف الجدّية ونقص الوعي النقدي والأخلاقي. ما الذي أردت أن تستكشفه وتعرضه عن طريق ثلاثية الوجود؟ ما الذي ترى أنه الأكثر صعوبة أو إدهاشًا بخصوص الحالة الإنسانية؟
مصدري الأساسي للإلهام هو الحياة ذاتها. لكن عليك أيضًا أن تجرؤ على النظر إليها. لقد تأثرت بشكل كبير أيضًا بالأشكال الأخرى للتعبير الفني، كما من خلال الرسم والموسيقى والأدب. من دون ذلك لم أكن لأحقق التنوع في أفلامي، لذا فأنا مدين بالفضل للفنانين الآخرين. كان الفن والتاريخ الثقافي وتاريخ الحضارة مصدراً عظيماً لصناعة أفلامي. تتضمن الحضارة كل شيء، من الوحشية إلى الجمال وكل ما بينهما. من دون ذلك كنت لأصنع أفلامًا فقيرة.
المشاهد التي يقول فيها الشخصيات إنهم بخير في “A Pigeon”، هي مشاهد تدور في الأساس حول الاهتمام بأمر البشر الآخرين. رغم أننا نهتم أكثر بشأن الأشخاص الأقرب إلينا، كأقاربنا وأطفالنا وآبائنا وما إلى ذلك، إلا أننا قادرون أيضًا على الشعور بالاهتمام تجاه أشخاص مجهولين إلينا.
لقد قلت ذات مرة في مقابلة: “أريد أن أصنع أفلامًا أوضح من الواقع نفسه. أن أفسر الواقع.” لمَ يُقدّم عرضُك لواقع العالم من ناحية مؤسلبة ولاواقعية، أقرب كثيرًا إلى الواقع، بدلًأ من الواقعية الإيطالية الجديدة (التي صنعت أول فيلم طويل لك في شكلها A Swedish Love Story)؟ هل ترى أن تقديم العالم في شكل تقليلي مجرد يشبه الحلم، على أسس “مؤثر التغريب” لبرتولت بريشت، يُظهر العمق الهيكلي للواقع بشكل أكثر أصالة؟
يقربنا التجريد للواقع بالفعل، ويجعل فهمه أسهل. بالطبع يمكننا أن نبالغ بهذا الأسلوب التجريدي، لينتهي بنا الأمر فاقدين شيئًا جوهريًا. لكنّي أشعر أيضًا أن مستوى أو شكل معين من التجريد يدعم وضوح كلًا من الصورة والمحتوى. إذا أخذت على سبيل المثال الرّسام الفرنسي ماتيس؛ كانت فلسفته هي أن عليك أن تُبعد كل ما هو غير ضروري للصورة، كي تحقق أعلى درجة من الوضوح. فهو يُنظّف لوحاته إلى درجة أنه لا يبقى له سوى الخطوط.
في بنيتك السردية يبدو الزمان والمكان مُكثفان وتتجنب السبب والمسبب التقليدي، حيث أن مشاهدك مترابطة ارتباطاً غير وثيق من ناحية الموضوع والزمان والمكان، وهو ما يؤدي إلى ظهور عالم متفكك. لمَ تجعل الأولوية لأصغر الأجزاء بدلًا من أن تُصوّر سردًا شاملًا؟
اكتشفت عبر السنين أن الأفلام المُقادة روائيًا مملة. يصبح كلًا من المشاهد والمخرج محاصرين، إذ عليك أن تلتزم بشكل محدد للقصة. ومن هذا المنطلق يصبح الفيلم أيضًا أكثر توقعًا وأشعر أنا كمخرج أني ملزم بالتوقعية، مما يُحد من الإبداع بالطبع. أوّد أيضًا أن أبيّن كيف قد تكون الأشياء الصغيرة في الحياة جميلة جدًا. في أمريكا يشيرون إلى الفن الجيّد بمصطلح “اللحظات السحرية” وليس من الضروري فهم الفيلم بأكمله، ففي بعض الأحيان يكفي أن تشاهد بعض اللحظات السحرية.
أُفضل شظايا الوجود، فهم أغنى وأكثر اتساقًا مع الشعر. أشعر كما لو أن التشظّي أكثر صدقًا وأقرب للحياة نفسها. أرغب في بعض الأحيان أن أقارن أفلامي بالذكريات، فالذكريات مصدر هام للإلهام في أفلامي. يمكن للذكريات أن تكون مُنقاة، فهي تُقصي كل ما لم يعد هامًا. وحتى في الأحلام، تتلاشى التفاصيل، بينما تصبح الأولوية للأكثر أهمية. الأحلام هي واقعية، لكنّها في حالة من الفوضى.
ما غرض السينما بالنسبة لك؟ هل هي كيان قائم بذاته أم أن لها آثاراً أخلاقية أو ثقافية أوسع نطاقًا؟
الغرض من الفن دائمًا هو أن يكون في خدمة الإنسانية وأن يزيد من فهمنا وتعاطفنا مع الآخرين. لا يمكنني إيجاد لوحة واحدة في كل تاريخ الفن لم تكن في خدمة الإنسانية. حتى لو كانت اللوحة قاسية أو تُصوّر شيئًا فظيعًا، فهي لاتزال في خدمة الإنسانية. لو أخذت لوحة غرنيكا لبيكاسو على سبيل المثال، إنها احتجاجية، حتى لو كان من الصعب النظر إليها بسبب العنف المُجسّد فيها. بالنسبة لي، غرض السينما هو نفس غرض الفن. لكن حين أتحدث عن السينما، فأنا لا أتحدث عن الصناعة، إذ أن الأناس الجشعون يسلكون هذا المسار وكل ما يهتمون لأمره هو المال.
كيف ترى العلاقة بين السينما والفلسفة؟ هل ينتمي الفن والفلسفة لبعضهما البعض؟
أجل بالطبع! ينتمي الفن والفلسفة لبعضهما البعض، فالفن فلسفي للغاية والفلسفة هي فن بحد ذاتها بلا شك. هذا الجانب الفكري للبشر مثير للإعجاب ويفتنني. إنه لأمرٌ رائع أن نملك الوسائل لنتأمل وجودنا بتلك الطريقة.
مارغريت دوراس، كاتبة سيناريو “Hiroshima Mon Amour”، الذي أخرجه آلان رينيه، هي مخرجة فرنسية مهمة أيضًا. رغم أن الفلسفة لم تُقدّم بشكل مباشر في هذا الفيلم، إلا أن هناك قدر كبير من الفلسفة فيه! يردد البطل للمرأة مرارًا وتكرارًا أنها لم ترَ أي شيء في هيروشيما. لكن كيف له أن يدّعي هذا؟ لقد رأت الكثير في الحقيقة، حتى لو لم تكن هناك وقتها. لذا فإن التيار الفلسفي الخفي ينشأ عن طريق التوتر الناجم عن ما قد شهدته وما قد اختبرته بشكل غير مباشر.
هذا يقودني إلى سؤال لماذا لم نعد نصنع أفلامًا مثل “Hiroshima” لرينيه أو “Veridiana” لبونويل؟ فقط امنحني القليل من الوقت وسأريك كيف بإمكاننا أن نصنع أفلامًا كما في الستينات من جديد [يضحك]. إن هذا طموحي في الواقع، أن أجد حدود الوسيط السينمائي. أريد أن أصنع أفلامًا فيها أبعاد فلسفية وشعرية في الحياة. أريد أن أنقذ السينما أو على الأقل أعيدها لكونها فنًا.
روي أندرسون هو مخرج سويدي معروف، مشهور بفيلمه A Swedish Love Story (١٩٧٠) وبثلاثية الوجود التي تتضمن فيلم Songs from the Second Floor (٢٠٠٠)، وفيلم You, the Living (٢٠٠٧)، وفيلم A Pigeon Sat on a Branch Reflecting on Existense (٢٠١٥) الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي بمهرجان فينيسيا الدولي للسينما، في دورته الـ ٧١.
رمان