“ولدوا في سوريا”.. أنشودة حزينة عن المعاناة في الشتات/ أمير العمري
ظهرت أفلام تسجيلية كثيرة عن ضراوة المشهد الإنساني في سوريا في زمن الثورة وما أعقبها من نشوب حرب أهلية، وجاء تصوير هذه الأفلام من زوايا عديدة، بحيث تقدم صورة لما يحدث في العمق السوري، مصوّرة معاناة المدنيين وقسوة العيش في زمن الحرب حيث ينتشر الموت والخراب في كل مكان.
من الأفلام التسجيلية الكثيرة التي ظهرت عن الأوضاع في سوريا، أفلام تصوّر فرق الإسعاف والإنقاذ من شباب المتطوعين، وأفلام أخرى ترصد أحوال الأسرة السورية التي تفرّق بها الحال، قُتل من قتل، ونجا من استطاع، وأصبح الكثيرون يحاولون الفرار من جحيم الحرب، كما ظهرت أفلام أخرى عن تنظيم داعش وممارساته البشعة في المناطق التي كان يسيطر عليها وكذلك أحوال العيش في جحيم التنظيمات الإسلامية المسلحة.
قليل من هذه الأفلام يركز على معاناة الأطفال السوريين على وجه التحديد. ومن أهم هذه الأفلام وأفضلها وأكثرها تأثيرا، الفيلم التسجيلي الطويل “ولدوا في سوريا” للمخرج الأرجنتيني- الإيطالي هيرنان زين الذي برع في مثل هذا النوع من الأفلام التسجيلية التي تدور في ظروف الحرب والاشتباكات المسلحة. وكان هيرنان قد اكتسب خبرة كبيرة من خلال عمله كمصوّر حربي خاض الكثير من التجارب المضنية في مناطق النزاعات المسلحة.
وهو في فيلمه “ولدوا في سوريا” Born in Syria الذي انتهى من إخراجه عام 2016، يتوقف ليرصد من زاوية إنسانية، معاناة أولئك الذين ولدوا ونشأوا في ظروف الحرب الأهلية السورية ثم كتب عليهم الفرار إلى المهجر، من أجل النجاة من الموت. بعضهم فقد ذويه، والبعض الآخر ترك والديه خلفه أو سبقه أحد الوالدين إلى المهجر في أوروبا. وقد نتجت عن هذا الوضع الملتبس محنة إنسانية قاسية لا شك أنها ستنعكس على مصائر هؤلاء الأطفال مستقبلا.
فيلم مؤثر
فيلم شديد التأثير والقوة، ليس هناك ما يشبهه في قوته وتأثيره وصدقه بل وجمال صوره وشفافيتها الحزينةفيلم شديد التأثير والقوة، ليس هناك ما يشبهه في قوته وتأثيره وصدقه بل وجمال صوره وشفافيتها الحزينة
هذا فيلم شديد التأثير والقوة. ليس هناك ما يشبهه في قوته وتأثيره وصدقه بل وجمال صوره وشفافيتها الحزينة. ولا يملك المرء وهو يتابع لقطاته وشخصياته من الأطفال بل ومن الكبار، سوى أن يشعر بغصة في القلب، مع شعور بالعجز أمام محنة إنسانية هائلة على هذا المستوى.
يعتمد بناء الفيلم على الانتقال بين سبعة من الأطفال السوريين من أعمار مختلفة، تفرقت بهم السبل في أوروبا، من تركيا إلى جزيرة ليسبوس اليونانية، إلى أثينا، ومن المجر إلى فيينا، ومن سلوفاكيا وصربيا إلى ألمانيا. فهم ضائعون مشتّتون، يقضون دهرا على الحدود ينتظرون السماح لهم بالعبور. والحدود متعددة ومنها ما يتم إغلاقه عمدا لدفعهم دفعا إلى العودة من حيث أتوا، وهم يريدون أن يضعوا أقدامهم على أرض صلبة، يحلمون بمستقبل أفضل، لكن عبارة ترد في الفيلم على لسان أحدهم حتى بعد أن يجد المأوى بشكل ما في ألمانيا، تلخص الوضع بأسره: فهو يقول وكأنه في الحقيقة يناجي نفسه “كنت أتصوّر أن عبور البحر هو المرحلة الأكثر قسوة في الرحلة، لكن جاءت المرحلة الأشد في ما بعد، بعد أن عبرنا ووصلنا إلى هنا”.
هو يقصد مرحلة محاولة تحسّس الأقدام في بلاد المهجر.. الحصول على الوطن البديل، والقدرة على استيعاب ما حدث والانتقال إلى التعليم ثم العمل، في مناخ غير مهيأ تماما أو غير مستعد دائما للترحيب باللاجئين الذين ينظر إليهم بتشكك وريبة وأحيانا بغضب.
لا يستخدم المخرج التعليق الصوتي على مشاهد فيلمه، بل يترك للأطفال أنفسهم التعبير عن مأساتهم ورواية قصصهم الشخصية المتباينة بأنفسهم، وتقديم انطباعاتهم الخاصة المباشرة الصافية البريئة، بل يدفعهم أيضا إلى أن يقصوا علينا نحن المشاهدين، أحلامهم وهواجسهم ورؤاهم، كيف انطبعت التجربة القاسية، تجربة الحرب ثم المعاناة من أجل الخروج وما بعده، في أذهانهم ورسخت في ذاكرتهم.
هذه الأحلام هي في الحقيقة كوابيس مخيفة تتراءى فيها لهم الجثث والرؤوس التي انفصلت عن الأجساد، والقنابل التي تنفجر في المنازل القريبة.. والموت.. موت الأهل والجيران، ولا شيء غير الموت.
ومع الانتقال بين الأطفال السبعة، ينتقل الفيلم عبر شريط الصوت، بين مقاطع صوتية لمسؤولي الاتحاد الأوروبي، ما تقوله المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل وما يصرّح به رئيس وزراء المجر، وكيف تتناقض التصريحات، من التحذير والرفض كما يفعل رئيس الحكومة المجري، إلى الترحيب وفتح الأبواب والتعهد بالاستقبال من الجانب الألماني.
سبعة من الأطفال المشردين، منهم من تعرض للقصف فاحترق وجهه وتشوه إلى الأبد، ومنهم من نجا لكنه أصبح يعيش الآن في صحبة والده.. ومنهم من أصبح يقيم مع عمه في تركيا، لكن أقاربه يخفون عنه وفاة والديه بعد أن دفعا به إلى الفرار إنقاذا له من جحيم الحرب، خشية ألا يتحمل الصدمة أو كما يقول عمه، قد يلجأ إلى الانتحار هربا من واقعه المؤلم.
هناك أيضا طفل السنوات الخمس الذي يجد نفسه في مخيم مؤقت في النمسا، لا يعرف ما هي الخطوة التالية؟ إنه سعيد باللعب مع الأطفال، يمنحه أحد الزوار النمساويين زلاّجة
من تلك التي يلهو بها الأطفال، وعندما يذهب ليقضي حاجته ثم يعود يجد الزلاّجة قد سرقت. لقد فقد حتى أبسط الأشياء التي كان يمكن أن تمنحه سعادة مؤقتة!
وهناك جيهان أكبر من يظهرون في الفيلم من الأطفال، فهي في الخامسة عشرة، وقد أصبحت عالقة في أحد مخيمات اللاجئين في ليسبوس اليونانية، لكنها تركت أمها خلفها في بيروت فقد فضلت الأم أن تتيح فرصة النجاة لابنتها ولم تكن تملك من المال ما يكفي لتدبير مصاريف رحلتها معها.
وجيهان تتخاطب كثيرا مع أمها عبر التليفون المحمول والإنترنت، الأم تبكي كلما تحدثت مع ابنتها، والابنة تشعر باللوعة والأسى بل بالذنب أيضا كونها خرجت دون والدتها. وفي لحظة ما تطلب من أمها الكف عن البكاء، فتقول لها الأم في لوعة إن الدموع جفت ولم يعد لديها المزيد من كثرة ما بكت على فراق ابنتها.
أنشودة حزينة
يفتتح الفيلم برحلة قارب مطاطي كبير من قوارب حمل اللاجئين وهو يصل قرب جزيرة ليسبوس، وعمليات إنقاذ الأطفال من الغرق والاختناق والموت، ثم يصوّر مسيرة الآلاف من اللاجئين على الأقدام من تركيا إلى المجر والعبور إلى صربيا وإغلاق الحدود والبقاء لأيام على هذا النحو قبل نقلهم بالحافلات قرب الحدود النمساوية.
يعيش المخرج، والمصوّر، بالكاميرا معهم، يرحل معهم ويقترب من عالمهم، يرقب ويصوّر كيف يعيشون داخل تلك الخيام الضيقة في البرد الشديد، بل ويصحب رجلا مع ولديه وهو يحاول العثور على مكان للمبيت في مدينة فيينا دون جدوى، ثم ينتقل إلى مخيم آخر للاجئين، حيث ينتظر الآلاف البت في طلبات اللجوء، وبعد أن ينال بعضهم حق اللجوء ومغادرة المخيم تصبح الحياة أكثر قسوة بعد أن تصبح فرصة العثور على عمل شبه منعدمة، بل ويتابع المخرج مع أب وابنه رحلة البحث عمن يقبل تأجير مسكن يأويهما.
الصورة قاسية وأحاديث الأطفال وقصصهم مؤثرة ومحزنة، لكنها الحقيقة التي نتجت عن تجاهل سنوات من العنف والقتل في سوريا دون أن يحرك العالم ساكنا، والنتيجة المأسوية يدفعها الذين يجب أن يتمتعوا بكل ما يتمتع به الأطفال من العيش في أمان وتلقي قسط جيد من التعليم، يتيح لهم على الأقل، أن يصبحوا جزءا فاعلا في المجتمعات التي لجأوا إليها.
“ولدوا في سوريا” أنشودة حزينة عن الشتات، وعن العجز عن الفعل، ليس فقط من جانب أطفال كتب عليهم أن يعيشوا زمن القتل، بل وعجز المشاهدين أنفسهم عن القيام بما يجب القيام به. ولكنه على الأقل، يفتح العيون والآذان، ويدعو إلى التفكير في ما يمكننا أن نفعله. وتلك هي قوة الفيلم التسجيلي وتأثيره.
كاتب وناقد سينمائي مصري العرب