العدالة والملح في دفاتر تونسيات/ هيفاء زنكنة
لمركز «العدالة الانتقالية الدولي» نشاطات في ست دول عربية، هي: الجزائر ولبنان وتونس والمغرب ومصر وفلسطين. كما قام المركز ببعض النشاط في العراق إثر الاحتلال لفترة لم تطل، إذ بات تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية، في ظل الاحتلال والحكومات المتعاقبة، أمراً مستحيلاً. خلافاً لذلك، شهدت تونس استمرارية نشاط المركز، بمستويات متعددة منذ الثورة عام 2011. نشاط تبدى بدعم عمل «هيئة الحقيقة والكرامة»، ومكافحة الفساد، وتعويض ضحايا الاستبداد.
وكان للمرأة حصة. مثال ذلك، مشروع «أصوات الذاكرة» الذي ضم أربعة أوجه، من بينها إقامة ورشة للكتابة الإبداعية، كانت حصيلتها إصدار كتاب «دفاتر الملح: كتابات تونسيات عن تجربة السجن السياسي». بواسطته، تمكنت المشاركات من تسليط الضوء» على كيفية تأثر الحياة العادية لمواطنة ما، بقسوة، عندما يكون أحد أفراد عائلتها هدفاً للقمع أو لأنها تجرّأت هي نفسها على الاختلاف»، حسب سلوى القنطري، مديرة المكتب بتونس، التي شخصت تحديا «لا يزال يشهده التحول الديمقراطي بتونس، وهو الانقسام الإسلامي العلماني» الذي يحدد الهوية بشكل صارم قائم على الأيديولوجية، ما يؤدي في النهاية إلى إنكار أيّ تعاطف أو تضامن محتملين مع «المختلف»، حسب تعبيرها.
عالجت الورشة تساؤلات كثيرة على غرار: هل بالإمكان الكتابة عن وجع الروح بشكل لا يحبط القارئ ويدفعه إلى وضع الكتاب جانباً؟ كيف نكتب تجربتنا إذن؟ كيف يمكن سرد الأحداث المستخلصة من الذاكرة، وغربلة الحقيقة، وتوثيق التجربة المريرة التي أرادتها السلطات القمعيّة عقابا لكلّ من يعارضها، على مدى عقود طويلة، والتواصل مع القارئ في الوقت نفسه؟ كيف الوصول إلى مستوى «الكتابة عن الضجر بدون أن نصيب القارئ بالضجر»، كما ينصح أحد النقاد؟ ولماذا تريد المشاركات الكتابة بهذا الشكل، أساساً، وقد قام معظمهن بتقديم شهاداتهن، رسمياً، سابقاً؟
كان من الواضح أنّهنّ يرغبن في الكتابة لعدّة أسباب، من بينها وبكلماتهن: توثيق التجربة من أجل حفظ الذاكرة الجماعيّة، والتوثيق للأجيال المقبلة، ونكتب لأولادنا، والتعريف بما حدث لنا وبتاريخنا، لإبراز ما جرى لآلاف السجناء من القفّة إلى المراقبة الإداريّة، ووفاء للضحايا ولاستمراريّة النضال بشكل جديد لإظهارالحقيقة، ولنتصالح مع أنفسنا والآخرين ضمن مسار العدالة الانتقالية، لئلا تتكرّر الجرائم، ولئلا يتكرّر التعذيب، ولتحقيق المصالحة والتواصل وقبول الآخر.. هذه الأسباب دفعت المشاركات إلى المواظبة على الكتابة وهن يتوخين تحقيق هدف الورشة العام الذي يطمح إلى تشجيع كل النساء على كتابة قصصهنّ بأنفسهنّ، ولا يُكتفى بما يكُتب عنهن بالنيابة. وأن تكون الكتابة مختلفة عن التدوين السائد لأغراض التوثيق وتسجيل الشهادات التي تستوجب دقة المعلومة لا المشاعر والمعاني. وأن يكتبن قصصهنّ بشكل إبداعيّ، وظلالها وعمقها الإنسانيّ التي غالباً ما يهملها كُتاب التاريخ، باعتبارها تفاصيل جانبية لا تستحقّ التسجيل. فلكلّ مشاركة قصّتها الاستثنائية، وكلّ ما تحتاجه هو تنمية التقنية الفنيّة الضروريّة لتدوين القصّة.
الملاحظ في الكتاب، حصيلة الورشة، أن كاتبات النصوص لسن جميعاً من المعتقلات السياسيات، بل شاركتهن الكتابة نساء عشن تجربة اعتقال أحد أفراد عائلتهن، وهن في سن تقل عن العشر سنوات، ما حفر في ذاكرتهن صوراً يختلط فيها الخوف مع الأسى والرغبة بالتغيير في آن واحد. نهى الديماسي، مثلاً، شهدت اعتقال والدتها واقتيادها بعيداً عنها وهي في سن الثالثة. وميلان حامي شهدت مأتم جدها بعد اعتقال والدها بحضور رجال الأمن: «كان من بين الحضور أناس لا يبكون. كانوا الوحيدين الذين يشبهونني. وقتها أحسست تجاههم بالاطمئنان. روعني نحيب من حولي، فخلت أنّ الصامتين سيكونون ملجأً لي. عرفت فيما بعد أنّهم من الأمن وأنّ المفرّ الذي اخترته كان نفسه يدعو إلى الفرار».
وسلافة مبروك استمعت إلى كلام والدها عن الأعين والآذان التي تراقبهم وتسمع كلامهم، بعد اعتقال شقيقها، فـ «تخيّلت جدران الغرف وقد التصقت الآذان بها، وعيون كبيرة وكثيرة فوق أشجار الزيتون تسترق السمع إلى حديثنا، أما أذنا الحارس وعيناه فأكبر بكثير. تخيلت أنّه بالإمكان أن يمدّها فتصل وراء بيتنا، ولا بدّ أنّه سيسمع كلام أمي وأبي عن بورقيبة الذي نهرانا عن ذكره. أحسست بالحيرة والخوف… فكيف لبيتنا الريفي الواقع وسط غابة الزيتون أن تصل إليه وتراقبه كل هذه العيون والآذان؟»
عن هذه التفاصيل والذاكرة، كتب الروائي والأكاديمي شكري المبخوت في تقديمه للكتاب: «فثمّة في بلادنا ذاكرة مليئة بالتفاصيل الموجعة تريد أن تُخرج إلى عامّة الناس ما اختزنته من لحظات كانت تبدو عابرة، لكنّها اندست عميقاً في التواريخ الفرديّة والنفوس المعذّبة. لم تكن هذه التفاصيل في ضمائر القرّاء مثلي موجودة إلاّ على نحو باهت ضبابيّ بين مصدِّق ومكذِّب. ولكنّها إذ تروى تبدو أوضح قليلاً علّها تمنح للمترجرج غير المتشكّل حبكة تكشف وجهاً من الحقيقة. فأن تروي الضحيّة مسارها الفرديّ يعني أنّ الذاكرات التي منعت من إخراج ما اختزنته من ألم ممضّ وأوجاع مبرّحة قد منحت فرصة لتقول وتعبّر عن سخطها وغيظها فتراكم العلامات الدالّة على التعسّف فتدين وتصرخ وتحتجّ وتطالب بنصيبها من الحقيقة الغائبة والمغيّبة».
إنّ ما كتبته النساء في «دفاتر الملح» يقربنا خطوة من فهم ما مررن به من ألم وحيرة وإحساس بالظلم والاضطهاد، من تساؤلات ربّما بقي بعضها بلا أجوبة. إلا أنّهن، وهذا هو الأهمّ، كتبن نصوصهنّ وهنّ مدركات، تماماً، أنّ هدف الكتابة ليس الانتقام أو طلب الغفران، بل وسيط التعافي عبر مشاركة الآخرين الحقيقة. وكشف الحقيقة هو أساس العدالة إذا ما أريد للمجتمع أن يتعافى، آخذين بنظر الاعتبار مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الحقيقة «باعتبارها مطلباً أخلاقيّاً وسياسيّاً وقصّة تفتقر دائماً إلى حبكة دقيقة مفصّلة، لا يمكن تجزئتها ولا توظيفها سياسيّاً بالمعنى الحزبيّ للسياسة»، ما يقودنا إلى تساؤل يلخصه المبخوت «فأيّ الوجوه ستغلب وقد بدأت المصارحة؟ وأيّة هويّة جماعيّة جديدة سيبتكرها هذا المشروع السرديّ الجماعيّ وغيره من المشاريع الأدبيّة التي تعتمل هنا وهناك في بلادنا؟». وهو تساؤل عام لا يمكن إهماله إطلاقاً. تساؤل يشمل الجميع وليس النساء وحدهن. وكما هو معروف، إن مقياس نجاح أي كتاب، بعيداً عن الآنية، هو مدى ما سيثيره من تساؤلات تحفز على التفكير والمبادرة. فهل سيكون للملح في دفاتر النساء دور في بناء الحقيقة المشتركة؟
كاتبة من العراق
القدس العربي