العلويون في فترة الانتداب الفرنسي لسوريا: سرديّة شائكة ومعقدّة/ محمد تركي الربيعو
حاولنا في مقال الأسبوع الفائت «مؤرخون غربيون عن تاريخ العلويين في سوريا» التطرّق لعدد من الكتابات الغربية التي درست تاريخ العلويين وقدومهم للسلطة في سوريا، وبالأخص قراءة المؤرخ الألماني ستيفان وينتر، التي عبّرت عن نفسها من خلال كتابه المهم «تاريخ العلويين: من حلب القرون الوسطى إلى الجمهورية التركية»، الذي شمل فترة امتدت قرابة 10 قرون وأكثر. وربما لم تسعفنا المساحة يومها بالتطرق إلى القسم الأخير من هذا الكتاب، الذي أعاد فيه الكاتب قراءة علاقة العلويين بولاية سوريا (الدولة الجديدة) بعيد رحيل العثمانيين، وبالأخص علاقتهم بالفرنسيين، وهي علاقة بقيت غامضة، وخاضعة لتأويلات ورغبات سياسية في العادة، وغالباً ما جرى تجييرها لصالح السردية التي تتحدث عن قيام جد حافظ الأسد (حاكم سوريا بعيد السبعينيات) بإرسال رسالة إلى الفرنسيين يعلمهم فيها بعدم رغبة الطائفة العلوية بالانضمام للدولة السورية الجديدة. وقد قُرِأ هذا الأمر لاحقاً، أو أعيدت قراءته بعد فترة الصراع خلال الثمانينيات مع الأسد، بوصفه دليلاً واضحاً على كرهه للدولة المركزية وأهلها السنة (وهي الرؤية التي ستتكرر كثيراً بعيد الانتفاضة في سوريا، في ظل الحديث عن دولة علوية)، كما نُظِر إليها بوصفها تعكس تناغماً وتنسيقاً لنوايا علوية/فرنسية بتسليم البلاد لاحقاً للأقليات بدلاً من الأكثرية السنية، وهذا ما تم، وفقاً لهذه السردية، عبر ضم أبناء الجبل وباقي الأقليات إلى صـــفوف الجيــش الذي شكّله الفرنسيون في سوريا، قبل أن يولّوا أدبارهم عائدين إلى باريس.
وبدلاً من نفي هذه الرواية أو تأكيدها، سيصطحبنا وينتر في رحلة شيقة ومفاجئة داخل الأرشيف الفرنسي، شبيهة برحلته في الفصول الأولى داخل الأرشيف العثماني، للتعرّف على وثائق تخالف ربما سردية جد الأسد، لصالح تصوّر يقول بوجود شخصيات علوية لعبت دوراً وطنياً في فترة الانتداب الفرنسي، كما سعت للتقارب مع الوسط السني الأوسع.
ولكن ما هي رسالة العلويين للفرنسيين في عام 1936؟
رغم تكرار الحديث في الأوساط السورية عن هذه الرسالة، إلا أنها بقيت مجهولة لأسباب متعدّدة لغالبية الباحثين. في هذا السياق، يمكن القول إن كتاب «سوريا الجنرال الأسد» للفرنسي دانييل لوكا (طُبع في القاهرة سنة 2003 وأعيدت ترجمته مرة ثانية عام 2017) من الكتب القليلة التي نشرت نص هذه الرسالة.
وهي تعود، كما يذكر لوكا، إلى 15 يونيو/حزيران 1936 وسُجِّلت في وزارة الخارجية الفرنسية برقم 3547. وقد أُرسلت، بالتزامن، إلى ليون بلوم رئيس الحكومة الفرنسية، ولعدد من قادة الحزب الاشتراكي الفرنسي، تحت توقيع عدد من الشخصيات النافذة العلوية؛ عزيز آغا الحواش، ومحمد بك الجنيد، وسليمان المرشد ومحمد آغا جديد (والد صلاح جديد) وسليمان الأحمد المعروف باسم «بدوي الجبل» (يبدو أن لوكا خلط بين الأب وابنه هنا في حين الأصح هو سليمان) وأيضاً سليمان علي الأسد (جد حافظ الأسد).
ومما جاء في الرسالة أن «الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله، على مرّ السنين مقابل تضحيات كبيرة، يختلف بمعتقداته الدينية وتقاليده التاريخية عن تلك التي تخصّ الشعب المسلم السني، ولذلك فإن الشعب العلوي يرفض أن يكون مرتبطاً بسوريا المسلمة، لأن الدين الإسلامي يُعدُّ الدين الرسمي للدولة، وأن الإسلام يعدُّ العلويين كفاراً.. وليس هناك من بوادر أمل بتغيير هذا الوضع، لهذا السبب، ستواجه الأقليات في سورية خطر الموت عندما ينتهي الانتداب». وكما ذكرنا في البداية، شكّلت هذه الرسالة وثيقة بالنسبة لبعض الأطراف في ظل الصراع الذي عرفته البلاد منذ الثمانينيات، كإشارة إلى إذعان العلويين للانتداب الفرنسي، وغياب نوايا وطنية لدى العلويين.
وبالعودة إلى حفريات وينتر في الأرشيف الفرنسي، نرى حيرته حيال هذه الرواية، ففي عام 1922، تشكّلت دولة العلويين أول الأمر، بوصفها جزءاً من الفيدرالية السورية إلى جانب حلب ودمشق (وإسكندرون لاحقاً). وفي السنة اللاحقة، بدأ الوجهاء العلويون المنضوون تحت لواء السلطات الفرنسية، ابتداءً من جبر عباس، بالضغط في سبيل الحصول على مزيد من السلطات، مشيدين (بالإنجاز الرائع) للحكم الفرنسي في المنطقة، ومطالبين بالاستقلال عن الفيدرالية السورية. بيد أنه في عام 1930 ستعطي الدولة اسماً جديداً أكثر علمانية (حكومة اللاذقية) ثم اعيد ضمّها إلى سوريا في النهاية عام 1936 مع بداية المفاوضات بين فرنسا وحكومة الكتلة الوطنية، بهدف منح البلاد سيادتها الوطنية الكاملة. وقد أسفر هذا الأمر، وفقاً لوينتر، عن انطلاق جولة جديدة من العرائض أرسلها جبر عباس، وإبراهيم الكنج، وعزيز هواش، وسليمان المرشد، وغيرهم من الوجهاء العلويين للتنديد (بالدعاية الوحدوية) للسوريين، وبالتعصّب السني وبالجريمة التي سيمثّلها ضمهم إلى سوريا مقترحين بدلاً عن ذلك ضم العلويين إلى لبنان. في هذا السياق، يؤكد وينتر أن أكثر العرائض شهرة هي رسالة العلويين للفرنسيين (التي عرضها لوكار)، إلا أن ما يلفت نظر وينتر هنا أن هذه الوثيقة المسجّلة تحت رقم 3547 ضمن أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، كانت معروفة فقط من خلال نسختها المحفوظة في مكتبة الأسد في دمشق. قد يثير، ربما، هذا الكلام عدداً من الأسئلة حول أسباب عدم عثور وينتر على هذه الرسالة في الأرشيف الفرنسي! فهل يعود ذلك لتسرّعه في البحث؟ أم أنها فعلاً غير موجودة؟ وفي حال لم تكن موجودة، فكيف كُتبت، وكيف ظهرت لاحقاً في مكتبة الاسد؟ وماذا عن الوثيقة التي أصدرها مندوب فرنسا في الأمم المتحدة في عام 2016 في سياق تذكير مندوب النظام السوري بمطالب جد الرئيس السوري.
بعد التواصل مع المؤلف، زوّدنا بمقال آخر له حول مدى جدية هذه الوثيقة، ومن بين ما يذكره في هذا السياق، أن الوثيقة المزعومة مكتوبة باليد، في حين أن العرائض المقدّمة إلى السلطات الفرنسية في ثلاثينيات القرن الماضي دائماً ما كُتِبت بواسطة الآلة الكاتبة. ولذلك يعتقد وينتر، بناء على حجج عديدة، أن هذه الوثيقة مزيّفة. وفي تفسيره لهذا التزييف، أكّد وينتر في تعليقه لنا، بأن قصة الوثيقة تعود ربما إلى أبو موسى الحريري، مؤلف كتاب «العلويون النصيريون: بحث في العقيدة والتاريخ»، الذي يعتقد أنه قام بنسخ هذه الوثيقة، لكنه قبل إيداعها مكتبة الأسد، أجرى تعديلاً عبر إضافة اسم جد الأسد إلى الوثيقة (بسبب موقفه المناهض لحافظ الأسد) ليأتي لاحقاً دانييل لوكا ويعتمدها وثيقة أساسية.
لا يعني هذا الكلام بالنسبة لوينتر عدم وجود عرائض علوية طالبت الفرنسيين بعدم الانضمام للدولة السورية، وإنما يرى من الضرورة تبيان خلفية هذه الوثيقة ليس إلا. ولا يقتصر الباحث على إثارة الشكوك حول سردية جد الأسد، وإنما يتجاوز ذلك لنقض الرؤية الأخرى التي تقول بوجود نية لدى الفرنسيين بتجنيد العلويين في الجيش السوري الكولونيالي، لتسليمهم البلاد لاحقاً.
يؤكد وينتر أن أكبر مكاسب العلويين وأكثرها ديمومة في فترة الفرنسيين تمثّلت في تجنيد أعداد كبيرة منهم في القوات المسلّحة للدولة. مع ذلك لا يميل إلى أن هذا الانتساب جاء على خلفية خطة فرنسية/ علوية، بل على العكس، تبين بعض الوثائق محاولة الفرنسيين الحفاظ على تمثيل نسبي للجماعات كلها، إلا أن الفقر في الجبال الساحلية، والإمكانيات الجديدة للتقدم الاجتماعي، والكثير من الخلافات المحلية، جعلت العلويين ينتسبون إلى الجيش بأعداد جعلتهم الجماعة الأفضل تمثيلاً في الجيش السوري الكولونيالي، مقارنة بغيرهم في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.
هل كان العلويون يدعمون الفرنسيين؟
يرى وينتر أن المصادر الفرنسية غالباً ما كانت تنحو إلى التأكيد على دعم العلويين لنظام الانتداب، إلا أن بعض وثائق الأرشيف تبين أن الجماعة كانت أبعد ما تكون عن الإجماع في ما يخص قبول الحكم الفرنسي ورفض الوحدة السورية والاستقلال. ففي مايو/أيار 1927 أعربت مثلاً الاستخبارات العسكرية الفرنسية عن قلقها من استهداف قادة الثورة الكبرى، التي اندلعت في سوريا قبل عامين، للسكان العلويين بحملات دعائية مرسلة عن طريق البريد من بيونس آيرس. بعد ذلك بسنة، في يونيو/حزيران 1928، أفادت تقارير ضباط الاستخبارات أن عدداً كبيراً من الوجهاء العلويين في صافيتا واللاذقية كانوا، إما وحدويين صراحة ووقعوا عريضة تطالب بإعادة دمج العلويين في سوريا، وإما مترددين حيال مجافاة الوحدويين. كما كتب محمد سليمان الأحمد (خلافاً لرواية أو وثيقة لوكا) عام 1933 سرداً تاريخياً مطوّلاً ينفي وجود ما يبرر ارتباك العلويين حيال الطوائف المسلمة الأخرى، أو خشيتهم من التعرض إلى الاضطهاد مجدداً على يد المسلمين. وإضافة إلى المناشدات المطالبة بإبقاء الحكم الفرنسي والاستقلال الذاتي العلوي، تلقّت المفوضية السامية في بيروت (كما تبيّن بعض الوثائق في وزارة الخارجية الفرنسية) عدداً كبيراً من العرائض التي أرسلها علويون يشجبون ويرفضون الرأي القائل بأنهم غير مسلمين في الحقيقة، ويستهجنون (ذريعة الأقليات) ويعلنون أن «200 ألف علوي يترقبون يوم الخلاص حين يبلغهم أن الاتفاق على الوحدة، والاستقلال، قد أُبرم».
وبينما تبقى العريضة الانفصالية الموقّعة باسم سليمان الأسد مشوبة (كما يكرر ذلك وينتر)، يكشف لنا عن وثيقة أخرى، قد تثير لغطاً وخلافاً واسعين (موازياً إن لم يكن متجاوزاً حتى لنتائجه الأولى حول نقض سردية ابن تيمية حيال العلويين). تتضمن هذه الوثيقة (المحفوظة في سجل الوثائق في وزارة الخارجية الفرنسية) هجوماً لاذعاً على الانفصاليين، كُتِبت في يوليو/تموز 1936 (بعد شهر من ما سُمِي بوثيقة المطالبة بالانفصال)، بتوقيع علي سليمان الأسد (وليس سليمان) والد حافظ الأسد، إلى جانب توقيعات ستة وثمانين من الوجهاء العلويين من عائلات رسلان، وهواش، وعباس، والخير وعائلات شهيرة أخرى، وهي محفوظة في أرشيفات وزارة الخارجية في لاكورنوف. تُعبّر الوثيقة عن استنكارها لاستمرار التلاعب والديكتاتورية والاستبداد الجائر، من قبل حاكم العلويين أرنست شلوفير وسواه من المسؤولين الفرنسيين، لتمضي إلى الاستهزاء بمزاعم بعض الأخوة في الدين (من أن العلويين ليسوا مسلمين ولا عرباً، لكنهم ينحدرون من الصليبيين، وأن حرب دين ومصالح تفصلهم عن سكان سوريا)، كما عبروا عن عدم جدوى انضمامهم إلى لبنان، إذ لطالما اعتبرت حكومة اللاذقية وفق تعبيرهم جزءاً لا يتجزأ من سوريا، وأن العلويين مسلمون بقدر ما الروم الارثوذكس».
ما يلفت النظر في هذه الوثيقة، إذا ما قارناها بالوثيقة السابقة (في حال وجودها فعلا)، مسألتان أساسيتان: الأولى تتعلق بوجود خلاف على ما يبدو بين أجيال العلويين، فالوثيقة الأولى تضم توقيع جد حافظ الأسد وسليمان الأحمد، وتعبّر عن موقف محافظ من الانضمام للدولة المركزية، في حين نعثر في الوثيقة الثانية على موقف أكثر ليونة لدى الأبناء (والد حافظ الأسد من الموقعين عليها)، وهو ما قد يشير ربما إلى وجود خلاف بين رؤيتين أو جيلين (رغم ضرورة هذا التحليل الجيلي)، بين تيار بقي متمسكاً برؤيته التقليدية، وتيار آخر كان يرى أن مشروع الدويلة العلوية بات من الماضي، وأن التغيرات الدولية والداخلية كانت تصبّ لصالح الدولة، وبالتالي لا بأس من الاعتراف بالواقع، والقبول بفكرة الوحدة لكن على أساس لا مركزي (كما ورد في نص صحيفة المقتبس/ ولا بد من التنويه بدور المؤرخ السوري عمرو الملاح على تنبيهنا وتزويدنا بعدد الصحيفة وبهذه الجزئية، التي لا يذكرها وينتر).
أما المسألة الثانية، فهي أنه قد يحاول البعض تجيير الوثيقة أو تفسيرها لصالح النظام، أو القول بأنها تُبرّأ ساحة نظام الأسد، الذي تم تذكيره من قبل المندوب الفرنسي بتاريخ مطالب جده (رغم أن وينتر يرى أن الفرنسيين يتحملون الجزء الأكبر من السياسات الإثنو/دينية في سوريا)، بيد أنني اعتقد أن ما فكّر به وينتر، ليس تأكيد مسألة أن إرث الأسد (أو العلويين) هو إرث انفصالي أم لا، وإنما القول بأن هذه الوثيقة وتناقضها مع الوثيقة الأولى قد تتطلب منا الخروج من منطق الإدانات (وتكذيب ورفع وثائق هنا وهناك)، لصالح تصوّر آخر عن علاقة العلويين بالسنة في سوريا، وهو تصوّر لم تكن تحكمه فحسب الاختلافات الدينية، بل عدد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تحيط بالعلويين وأيضاً بالسنة. فمثلاً في فترة السلطان عبد الحميد، تبنى الأخير يافطة الوحدة الإسلامية والإصلاحية السلفية، وشرع بتدعيم الأرثوذكسية الإسلامية، ما أدى إلى تبني سياسات تقوم على ضرورة الإنفاق بشكل أوسع على تعليم السكان العلويين، وإعادة تعليمهم قواعد المذهب الحنفي، لكن بعد عقود من سياسة الشك والريبة هذه، يبدو أن التغيرات في فترة الفرنسيين دفعت بعدد من العلماء إلى تجاوز هذه السياسة لصالح رؤية أخرى، ستظهر جلياً من خلال فتوى الحاج أمين الحسيني التي نصّت على أن العلويين مسلمون.
ما يسعى وينتر إلى قوله عبر نقضه سردية ابن تيمية (في الفصول الأولى) والتشكيك برواية مطالب جد حافظ الأسد للفرنسيين بالانفصال، هو أن الخروج اليوم من الحلقة المفرغة المذهبية يتطلب منا توسيع القاعدة الوثائقية لتشمل نصوصاً جديدة (الوثائق الإدارية، والرسائل التي تمس تفاصيل الحياة اليومية)، فالماضي، وفق تعبيره، ليس ميتاً ولا هو بماض، من الأهمية بمكان أن يستعيد العلويون وجيرانهم وأبناء وطنهم امتلاك الماضي.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي