“العبودية الطوعية”.. لماذا تخضع الشعوب لحكامها؟/ رمزي بوودن
أرذل ضروب العبودية.. عبودية نختارها بأنفسنا
– إبراهيم الكوني
منذ بدايات القرن السادس عشر كانت فرنسا دولة ضائعة ذات نظام ملكي فاشل تناوب عليها مجموعة ملوك من أفراد العائلة المقدسة، الذين واصلوا حينها -على غرار أسلافهم- المضي في سياسة السلطة الطاغية والاستبداد العظيم جسدت له منظومة الحكم الملكية داخليا وخارجيا، واندلعت الحروب الفرنسية ضد إيطاليا وسويسرا ثم اصطدمت بالإمبراطورية الرومانية المقدسة فازدادت المعارك وقتلت الأرواح وأسفكت الدماء في وقتٍ كانت الأوضاع الداخلية للشعب الفرنسي مزرية إبان الفقر والجهل والاعتقالات والتضييق، فذاق الفرنسيون العذاب حتى تخدّروا من جور النظام الملكي الذي كان يُطرِب الفرنسيين بخطبه الرنّانة ضد القوى الخارجية بينما لم يكن المواطن الفرنسي الجائع الخائف يفهم ما يقوله حكامه، فالذئب الذي يأكل لحم الفرنسيين موجود بالداخل لكن الملك يخبرهم أنه قادم من وراء الحدود!
حينذاك كانت الصراعات الدينية قد بدأت تظهر في المجتمع الفرنسي بين الكاثوليك والبروتستانت، هذا الصراع الذي سَيَّسَته السلطة الحاكمة آنذاك لمصلحتها فوقفت مع الكاثوليكيين وعملت على بث الفتنة الدينية وشحن الجماهير لينشغل الفرنسيون بالمعارك الدينية التافهة في حين كان ملوكهم يتلقون الهزائم الخارجية ويقتلون ويبطشون في الداخل.
في خضم هذه المآسي والأحداث كان شاب يتيم وطالب قانون لامع بجامعة (أورليون) شمال البلاد يضحك ويبكي على ما يجري، مكنه تفوقه من الحصول على ترخيص ملكي للعمل قاضيا دون بلوغه السن القانونية بمجلس قضاء مدينة (بوردو) فسعى حينها إلى التسويق لسياسة التسامح الديني وحاول أن يشرح لنواب البرلمان المتعصبين هناك أن العنف ليس حلا وأن على الشعب أن لا يتبع خطوات السلطات الملكية التي تحاول إلهائه فقط عن أخطائها وسوء تسييرها، فحاول تقريب وجهات النظر بين الإخوة الأعداء لكن الدين والملك كانا أقوى منه فلم تكلل جهوده بالنجاح، توجه بعدها إلى دراسة علم الاجتماع والفلسفة السياسية فأصبح الكاتب والفيلسوف المعروف “إيتيان دولا بويسي”.
في عمر الثامنة عشر فقط، كتب إيتيان دولا بويسي كتابه ذائع الصيت بعنوان “مقالة العبودية الطوعية” (Discours de la servitude volontaire)، يستغرب فيه علة الإذلال الذي يقدمه الناس لملوكهم ويندهش عن السر الذي يدفع الجماعة إلى أن تخضع -بإرادتها- للفرد الذي لا يتميز بشيء سوى أن نطفته كانت في صلب أب منتمي للعائلة الملكية. يتحدث أيضا عن الأنظمة المستبدة والملكيات الطاغية وينتقد “عملية صناعة الطغاة” داعيا فيه الشعوب إلى التمرد والعصيان، ورفض الانصياع للحكام حتى لو كلف ذلك حياتهم، فحسب لابويسي “لا يكفي أن نولد وحريتنا معنا، بل يجب علينا أيضا أن نحميها”.
يحاول الكاتب الفرنسي -انطلاقا من أدبيات علم النفس السياسي- أن يشرح الأسباب التي تدفع بالناس للإذعان إلى قوة شخص واحد وهم بالأساس من منحوه تلك القوة، واصفا ذلك بالفسق لكون أن الفرد الممجد ذاك غالبا ما لا يملك أي مميزات خارقة أو مواصفات بديعة بل يكون أضعف القوم وأفشل الناس، فيرجع الأمر حسبه إلى ثقافة “الإرادة العميقة في العبودية” التي تتولد لدى الشعوب نتيجة طاعتها العمياء للملوك والحكام، ويذهب لابويسي إلى أن ثنائية (الطاعة-السيطرة) هي المتحكم الرئيس في علاقة الحاكم – المحكوم لدى الأمم المنغمسة في وحل العبودية، وأي محاولة لتفسير سلوك الشعوب خارج هذه الثنائية ضرب من أضرب الخيال، ذلك أن العلاقة بينهما علاقة سببية أحادية القطب، فلا يوجد ملوك مسيطرون حيث لا يوجد عبيد مطيعون، لهذا فالشعوب هي من تصنع طواغيتها ومن تحوّل ملوكها لآلهة تخدمها طواعية بامتنان وتقدير دائمين لتمنح هؤلاء الحكام القوة والسطوة التي تُستعمَل لاحقا في استغلال الرعية واستبدادهم.
يضيف لابويسي أن هناك عاملين مهمين يخدمان قضية العبودية الطوعية وهما: الدين والخرافات، فهو ينظر للدين كأداة في يد السلطة الملكية للتأسيس والاستئثار بالسلطة -وهو ما يراه (كارل ماركس) مؤسس الفكر الاشتراكي و(نيكولا ميكافيلي) الفيلسوف الإيطالي حين يقول: “إن الدين عنصر أساسي لدى الحكومات، ليس لنشر الفضيلة ولكن للسيطرة على الناس”- فالسلطة الملكية تستعمل رجال الدين لإقناع المواطنين بخرافة “الحق الإلهي للعائلة الملكية” القادم من السماء السابعة كما توظف الخطاب الديني لأجل التحكم في الغضب الجماهيري وانتهاج سياسة الإلهاء والتفرقة. لهذا السبب حاول هذا المفكر الفرنسي أن يطفئ نار الفتنة الدينية بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت داعيا إلى التسامح وفاضحا شر النظام الملكي آنذاك الذي حاول تغذية ذلك الصراع خدمة لأجندته، في حين يقوم خدم البلاط في نشر الخرافات والتطبيل لمهارات الحاكم المبجّل من العبقرية والحكمة والبصيرة التي يتمتع بها جلالته.
لا أظن أن تحرّر الشعوب من عبوديتها ثم تحرّرها من ملوكها الفاسدين سيكون قريبًا، خاصة مع تتالي الأجيال التي تعوّدت على الخضوع فأنتجت لنا ما يسميه المفكر الفرنسي بـ”المواطن المستقر”
كُتب كل هذا قبل خمسة قرون لكنه يجسد حرفيا ما تعيشه البلدان العربية حاليا خاصة منها تلك الخاضعة لحكم الملوك والسلاطين، وحال الشعب الفرنسي في تلك الأيام أشبه بحال الشعوب المتوجسة في بلاد الخليج أو المغرب الأقصى، ولعل النموذج الأقرب هو النظام السعودي باعتباره الأكثر بطشا وتطرفا -رغم أنني حرصت على الصبغة العلمية للمقال بعيدا عن التمثيل- فالتهليل والتكبير الذي تحظى به عائلة آل السعود من طرف الشعب هناك يعتبر اللبنة الأساسية للعبودية الاختيارية التي يمارسها الشعب السعودي، أو نخبته على الأقل، وهذه الطاعة العمياء هي السبب الرئيس الذي دفع بالحكام هناك للاستخفاف بالجماهير ومن ثمة إقصائها من المشهد السلطوي ومن الممارسة السياسية ليكون الطغيان والاستبداد نتيجة حتمية زادت حدتها مع قدوم ولي العهد الجديد وما اغتيال الصحفي جمال خاشقجي والاعتقالات التي مسّت رجالات الدين المعارضين والناشطات الحقوقيات سوى انعكاس ضئيل لذلك.
من جهة أخرى، يلعب الدين دوره في المملكة السعودية متزاوجا مع السلطة، من خلال رجالاته الذين يؤيدون حق الملك المطلق في الحكم ويُصدرون فتاوى على المقاس من تحريم الخروج عن طاعة ولي الأمر إلى تحريم الديموقراطية كنظام حكم يستند إلى أغلبية العوام، ثم يلجؤون إلى زرع الفتنة بين طوائف الدين من سنة وشيعة ليبرروا الشطحات السياسية لنظامهم الفاسد الذي لا ينفك يلاحق دولة إيران وجماعات الإسلام السياسي في مصر وفلسطين وتركيا ثم التطبيل التام لتنوير الأمير وحاشيته وقيادتهم الرشيدة التي لا يعرفها أحد.
لقد وضع إيتيان دو لابويسي علاج العبودية الطوعية الذي اختصره في تهديم قاعدة هرم التسلط و”هرم التسلط” هو السلسلة التي تجعل الحاكم في قمته معبودا من طرف الرعية في قاعدته أما ما بينهما فهم خدم البلاط ورجال الدين والاعلام والمستفيدين من الوضع والذين هم على تماس مباشر مع عامة الشعب، لهذا فالحل يكمن في اعلان العصيان والتمرد والقطيعة مع هؤلاء بشرط الشجاعة والارادة الكاملة في تحمل كل المترتبات لدفع الثمن كاملا، لأن الشعب الذي أوجد المشكلة يملك حلها بنفسه ويكفي أن يسحب هو قاعدته من الملوك ليسقطوا تلقائيا لأنه هو مصدر قوة هؤلاء الحكام أولًا وأخيرًا.
شخصيا، لا أظن أن تحرّر الشعوب من عبوديتها ثم تحرّرها من ملوكها الفاسدين سيكون قريبًا، خاصة مع تتالي الأجيال التي تعوّدت على الخضوع فأنتجت لنا ما يسميه المفكر الفرنسي بـ”المواطن المستقر” كفردٍ راضٍ بطمأنينة البؤس بدل مغامرة الرفاهية وبعَسل العبودية المرّ على حنظل الحرية الحلو، لهذا يجب أن تتعلم أمّة العرب غرس الحرية كثقافة في أولادها ونشأتها الصاعدة لتقوم هي بما عجز عنه آباؤها. يقول خليل جبران:” لا يبني العصفور عشّه في القفص لغرض واحد.. لكيلا يعلّم أولاده العبودية!”.