محمد الجالوس: معادل بصري لمنظومة التذكار الجَمْعي/ صبحي حديدي
في «أبواب 48» يسعى محمد الجالوس إلى ترويض تلك المقاربة الفريدة، النبيلة والعذبة بقدر ما هي شاقة وعسيرة، والتي تكاد أن تداني المحال حتى حين تتحقق في صيغة افتراضية، على هذا النحو أو ذاك: استعادة ما بعد الذاكرة، أو محاولة استذكار عنصر محوري ناظم، مادّي ومتخيَّل، فعليّ شاهد ومجازي رامز، من ذاكرة لم يعشها شخصياً (ولد الفنان في عمّان، سنة 1960) وإن كان قد تمثّل الكثير من عناصرها ضمن انتماء بشري وشعوري جَمْعي، مكانيّ وزمانيّ في آن.
الباب هنا ليس مجرّد معطى بصري وتشكيلي مشترك يوحّد خطوط الاستذكار ويسيّر عناصر الذاكرة في أقنية تتشابك وتتقاطع لتنتهي عند المصبّ الأكبر، 1948، حيث النكبة والفقد والخسران والرحيل والمجهول والحيرة والتيه، فحسب؛ بل الباب سكنى إنسانية في المقام الأول، وعمارة وعمران، ومخزن وجود بالغ الثراء والامتلاء، سيق إلى خواء واغتراب وعدم. واسترجاعه هنا، كما يفعل الجالوس على سطوح القماش ومنعرجات الكتلة وإيقاعات اللون واشتباك المفردات التشكيلية، إنما يعيد تأثيث البيت من واقع أبوابه التي تنطق بمكوّناتها المختلفة (ألواح الخشب وثقوب الأقفال ورؤوس المسامير)، وكذلك ما يقع خلف الباب من مظاهر عيش وحياة (تبدأ من الأقمشة والأواني، ولا تنتهي عند رفوف الكتب وزخارف الجدران).
وأمّا الكائن البشري، شاغل هذه السكنى الحاشدة الذي طُرد منها، وفيها طاردته قطعان غربان البين الغازية المستبيحة، فإنه لا يغيب عن هذه الأبواب إلا لأنّ الجالوس استبعد التشخيص المباشر، أو هو بالأحرى استقرّ على اللاتشخيص، لصالح تجريد تعبيري بالغ التعقيد ومتعدد السطوح، وهذا خيار أشدّ مشقة في التنفيذ، والأرجح أنه أسخى مثوبةً من الناحية الجمالية، وأرفع تأثيراً في نفس الناظر. ولعلّ بين أبرز فضائل أسلوبية الجالوس في هذا المعرض أنّ إكساء ألواح خشب الأبواب بمسحة نحتية شبه نافرة مرّة، وشبه تكعيبية مرّة أخرى، يسبغ على فضاء اللوحة دينامية حيوية تشارك في تحريكها الألواح المتعامدة أفقياً أو شاقولياً، وتزجّ الناظر في تعاقدات شتى من التأمل والتبصّر والتأويل والتفكيك؛ إذا وضع المرء جانباً إمكانية استدراج تلك الرياضة الحميدة التي تطمح إليها كلّ لوحة: أن يعبّر الناظر إذْ يجرّد، أو يجرّد حين تغويه نزعة التعبير، وكيف يمكن لهذه الثنائية التبادلية أن تتماهى في وعيه مع نظائر لها أو نقائض.
والحال أنّ تجريد الجالوس، وما دامت أعمال معرضه هذا تتخذ الأبواب علامة محورية، كونية على نحو ما لأنها تحكي سردية اقتلاع واغتصاب واحتلال واستيطان، لا يملك الفكاك عن رفد السطوح بفضاءات تصويرية مصغّرة، ليست تشخيصية تماماً (كما هي حال الغربان، على سبيل المثال الحصري)، بقدر ما يُنشئها تضادٌ محسوب بين ألوان مستنيرة مشرقة وأخرى كامدة معتمة، في منتصف اللوحة تارة، أو في ثلثها السفلي أو العلوي تارة أخرى. وإذْ تقوم الألواح الخشبية بما يشبه «ترقيع» الفضاء، أو تشبيك مساحاته وفق هندسة متغايرة عالية التأثير من حيث جاذبيتها البصرية، فإنّ اللون شبه الموحّد هنا، في تدرجّات البنيّ والرمادي والترابي، ينقلب إلى معادل بصري صانع لمعنى مضاف في السياق الإجمالي للعمل؛ سواء احتوى على عنصر دالّ واقعي جزئياً، ما عدا الغربان بالطبع، أو اقتفى السيرورة ذاتها من مزج التعبير بالتجريد.
وفي بعض هذه الفضاءات المصغّرة سوف يبدو أنّ إشباع المساحة، وخاصة لجهة معمار ألواح الخشب وما تتخذه من هندسة في تناظراتها طولاً وعرضاً، إنما يقوم على طراز من «التعريش» الذي ينفكّ عن التجريد بهذا المقدار أو ذاك. وإذا صحّ انطباع كهذا لدى الناظر، فالأمر خير لجهة التحريض على تفاعل أكثر حيوية مع تلك الفضاءات المصغّرة، أو لجهة دفع الناظر إلى الاقتراب ببصره أكثر، والحملقة في حُسن ائتلاف الإنشاء بأسره، وأسرار تماسكه وانسجامه. وليست مصادفة أنّ الجالوس يتعمد مناقلة بؤرة الإبصار بين سطوح العمل يمنة ويسرة تارة، أو أعلى وأسفل طوراً، وأن يجعل من الباب استعارة مجازية مفتوحة يمكن أن توحي بالفجر أو المغيب، بجدار طيني أو بسياج خشبي، بحبل غسيل أو «نملية» أطعمة؛ ويمكن أن تحمل تخطيطاً بالسكين في جسم لوني عشوائي، أو دراسة بالفرشاة الناعمة لتناغم عارضة خشبية مع بقعة نارية دقيقة، أو انثيال لخطوط سوداء سائلة من ضربات فرشاة سميكة…
وقد يصحّ التذكير بأنّ الجالوس ليس غريباً عن مهارات التشخيص، ومشاقّ التصوير الواقعي الانطباعي، في علاقته بالمكان والبيوت والمدن؛ إذْ رسم العمران في الفحيص والسلط والقدس ونابلس، ولم يكن التجريد المحض أو التجريد التعبيري هو الخيار الطاغي على أعماله تلك. وأشتبه شخصياً، أو لعلي أتيح لباصرتي أن تحدس أيضاً، بأنّ الجالوس، إذْ راوده مشروع «أبواب 48» فانخرط فيه بوتائر متعاقبة ومتقاربة، خضع تلقائياً لتجربة ممضة من استذكار ذاكرة الآخرين، أسلافه على وجه التحديد؛ من دون أن يمتلك خزيناً شعورياً شخصياً حول إشكالية إغلاق الباب مع إيمان، وليس محض أمل، بالعودة إليه قريباً؛ ثمّ، بالطبع، محنة تبدّد الأمل تدريجياً، وبقاء المفتاح شاهداً على غياب حاضر، أو العكس. ولعلّ هذا ما يفسّر إصرار الجالوس على الإكثار من فتحات الأقفال في الأبواب، مع تغييب تامّ للمفاتيح، وتشديد في المقابل على تأصّل المسامير في الأخشاب؛ كأنه يُسقط على باب جَدّته ما استولدته ذاكرته الشخصية عن نكبة لم يعشها، أو هو يستعيدها اليوم على هواه، طبقاً لما يجرّده منها وما يعبّر لنفسه عنها.
ولأنّ التشكيل لغة، ذات معجم ومفردات ودالّ ومدلول، فإنّ الجملة في أبواب الجالوس ليست البتة بسيطة البناء أو متعرجة التركيب أو مبهمة المعنى، وذلك رغم التنويع المدهش الذي تتخذه الأعمال في هذا المعرض، لجهة المنظور والفضاء والعناصر التي تتآلف، على نحو لا يقلّ إدهاشاً وبراعة، كي تمنح بصمة مميزة ومتميزة لكلّ هذا الاتساع البانورامي في معالجة موضوعة واحدة؛ يُنتظر منه أن يتماثل في قليل أو كثير، وأن يتكرر على هذا النحو أو ذاك. صحيح أنّ اللوحة التي تشهد غياب عنصر الغراب، وهو دالّ التشخيص الوحيد كما سلف القول، تميل عموماً إلى استنهاض المعنى، وتحريض الناظر على التأويل، عن طريق تكثيف الحسّ بالتجريد، والاشتغال على تكوينات متداخلة مشبعة بإيقاعات اللون والخط والكتلة. وصحيح، كذلك، أنّ اللون الناري يندر أن يغادر اللوحة، موحياً بالحريق حتى في مساحة ضئيلة أقرب إلى الطلس البسيط؛ بما يشكّل، في نهاية المطاف، مدلولاً منبثقاً عن الدالّ. وصحيح، أخيراً، أنّ معظم الأعمال التي تشهد غياب الغراب إنما يحتلّ فيها اللون الأبيض، ومشتقاته الناصعة إجمالاً، مساحة واسعة تتيح أيضاً المزيد من ممارسة التجريد البارع في قلب اللوحة أو على أطرافها العليا والسفلى. إلا أنّ هذه كلها ليست أقلّ من منظومة متغايرة الدلالة تتكامل تأثيراتها عبر جولة الناظر في المعرض، واعتماداً كذلك على مفهوم «السلسلة» تحديداً، حين تترابط الأعمال خلف موضوعة واحدة معلنة، ولكنها تتقاطع وتتباين وتتعدد.
ويبقى أنّ أبواب الجالوس(*) فلسطينية الأصل والمنشأ، في الواقع كما في المجاز؛ إلا أنّ الحصيلة التي تفضي إليها، وتوحي بها، ترتقي بالتشكيل إلى مصافّ التسجيل الرفيع لذاكرة المكان الجَمْعية، حيث في الوسع استعادة طراز آخر من أبواب المقامات والزوايا ومعاصر الزيت والحمّامات التركية وآبار السبيل؛ أو: حيثما توجّب أن يكون الفلسطيني في حلّ من التذكار، كما شدّد محمود درويش.
(٭) محمد الجالوس: «أبواب 48»، 2 تشرين الأول (أكتوبر) ــ 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، غاليري بنك القاهرة عمّان، زارا سنتر، عمّان.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي