«الفنار» للأمريكي روبرت إغرز… رجلان في مواجهة الطبيعة وأشباح روحيهما/ نسرين سيد أحمد
لندن ـ «القدس العربي»: البحر يغوي، البحر يهمس، البحر يوقظ الأحلام والهواجس، البحر يخيف وأعماقه تغص بالأرواح، أرواح من راحوا فيه وأرواح من شاهدوه عن بعد وتعلقوا به. والبحر والوحشة وما يفعلانه في الروح والعقل هي أبطال فيلم «الفنار» للمخرج الأمريكي روبرت إغرز، الذي عُرض في مهرجان لندن السينمائي للعام الحالي (2 -13 أكتوبر/تشرين الأول الجاري).
«الفنار» فيلم يستحوذ علينا كليةً منذ بدئه إلى خاتمته، ويعصف بنا، كما تعصف أنواء البحر ووحشة المكان النائي وأضواء الفنار بعقول وأرواح بطليه. «الفنار» دراما نفسية، وهو ثاني أفلام إغرز بعد «الساحرة» (2015). هو فيلم يحفل بالإشارات والإحالات إلى أعمال أدبية مثل قصيدة «البحار القديم» لكوليريدج، ورواية «موبي ديك» لهرمان ميلفيل. يذكرنا التصوير البديع بالأبيض والأسود، والوحشة وقسوة الطبيعة في «الفنار» بأفلام المجري بيلا تار. يحفل الفيلم بأدائين كبيرين من روبرت باتيسون ووليم دافو، اللذين يسطعان في الفيلم جموحا، وجنونا، وغضبا، وحزنا وضعفا، نشهد هشاشتهما وهواجسهما ورغباتهما الدفينة.
يلقي بنا الفيلم بلا هوادة إلى أواخر القرن التاسع عشر، في مرفأ قصي في أمريكا الشمالية، حيث يصل إفرايم وينسلو (روبرت باتيسون) وتوماس ويك (وليم دافو)، ليكونا طاقم هذا الفنار البعيد الموحش لمدة أربعة أسابيع، يتعهدانه بالعناية، ويحافظان على اشتعال ضوئه. ولضوء الفنار سطوته على عقل الرجلين وروحيهما، وقد يمكننا القول إن بريقه وسط وحشة المكان وظلمته ذهب بعقل الرجلين. منذ البداية يسن ويك، الأكبر سنا والأكثر سطوة في الاثنين، قواعد لا حياد عنها للعمل: فهو من يعنى بالضوء ويحافظ على اشتعاله، بينما يعنى وينسلو بالتنظيف وجلب المياه وغيرها من المهام البعيدة عن ضوء الفنار. ولكن الحرمان من الاقتراب من ضوء الفنار أو تعهد جذوته بالرعاية، وقسوة المهام وجفاء الصحبة وتجبر ويك، سرعان ما تذهب بالبقية الباقية من صبر وينسلو وهدوئه وتعقله. يبدو الفنار لوينسلو كما لو كان سجنا يجبر على البقاء فيه مع ويك بعجرفته الأبوية، وتسلطه وقسوته.
ولكننا نجد أنفسنا نتساءل عن الفنار وضوئه والرجلين. يمكننا القول إن ثمة بعد أسطوري أو ربما ديني للضوء، وللرجلين ولعلاقتهما بالضوء. هل ضوء الفنار هو تصور آخر لتلك الثمرة التي حُرمت على آدم؟ هل ويك القاسي المتجبر، الذي يمد يد الرحمة أحيانا، هو الإله الآمر الناهي، بينما وينسلو هو الإنسان الذي يتحمل غضب الطبيعة وقسوة الأنواء وغصب الإله؟ هل تلك البقعة النائية الصخرية بطبيعتها التي لا تلين هي الأرض التي يتوجب على الإنسان أن يعمرها؟ لا يعطينا إغرز إجابة قاطعة لتساؤلاتنا، ولكنه يترك الباب مشرعا أمام الرؤى والتفسيرات.
يواجه وينسلو مصيره في الظل المهيب للفنار بشجاعة، يحمل الأثقال والمياه، يجابه قسوة الطبيعة والأنواء والرياح، ويتحمل عنت الطيور التي يغضبها وجوده قربها. يحفل الفيلم بالأساطير، كأسطورة البحار القديم لكوريدج، ذلك البحار الذي قتل طائرا بريئا فعاقبته الطبيعة وأغلظت له العقاب. يتحمل وينسلو النورس، الذي يبدو كما لو كان يتربص به، يتصبر ويصبر حتى ينفد الصبر، ويتحول لغضب جامح. أتراه غضب الإنسان أمام ما يخاله تجبر الإله وعدم رضاه وصمته؟
«الفنار» فيلم تسكننا أجواؤه وتتغلغل فينا روحه القاتمة. تعوي الرياح أو تهمس كجنيات البحر اللائي يستحوذن على روح وينسلو وجسده أحيانا. نجد أنفسنا حيال الأبيض والأسود بجمالهما وجلالهما المهيب، كما لو كان الفيلم يكشف الحجب عن روح الإنسان، خيرها وشرها وهواجسها.
تبقى الطبيعة على جفائها وتقلبها وغضبها وأنوائها وعواصفها. ويجد الرجلان نفسيهما مجبران على تحمل صحبة بعضهما بعضا، بل إنهما على اختلافهما ومقتهما لبعضهما يجدان بعض التصبر والسلوان في صحبتهما. علاقة ملتبسة بين الحب والكراهية، والنقمة والرغبة في الرضا، كعلاقة ابن بأبيه، أو كعلاقة إنسان بإله بعيد. يمكننا القول أيضا إن الفيلم عن ذلك الصراع الأبدي بين الإنسان والطبيعة وقسوتها، فهي قد تثور بلا مبرر، ويبقى الإنسان عاجزا أمام قسوتها، كعجز وينسلو أمام النورس الذي يتربص بها أينما ذهب.
«الفنار» أنجزه مخرج في أوج صنعته وفي أوج تحكمه في أدواته. هو فيلم عصي على التصنيف أو الوصف. هو فيلم يحمل بعض سمات أفلام الرعب، ولكنه يأبى أن يحصر نفسه في جانب بعينه. أفلام قليلة للغاية تشعرنا بالترقب الدائم وتتغذى على قلقنا وهواجسنا كبشر، ولكنها في الوقت ذاته تمنحنا من متعة المشاهدة الكثير، ومن ذلك الشعور بالرهبة والانبهار الكثير. تجربة مشاهدة «الفنار» تجربة فريدة متفردة تماما، فهو يقتلعنا من سكينتنا ويتلبسنا قلقه وغضبه تماما. هو فيلم عن رجلين وحيدين وسط الأنواء، ووحيدن في صحبتهما لبعضهما، ووحيدين وسط هواجسهما. هو فيلم كبير، اتخذ إغرز من الطبيعة والبحر مسرحا له.
القدس العربي