ورطة الأوروبي إزاء اللاجئين.. حوار مع مُخرج “Styx” وبطلته/ محمد صبحي
امرأة، قارب، بحر مفتوح. في فيلم النمساوي فولفغانغ فيشر، “Styx”(*)، يتحول البسيط إلى معقّد، بفعل الطبيعة وتصرفات البشر والقوانين اللاإنسانية. عنوان الفيلم يحيلنا مباشرة إلى الميثولوجيا الإغريقية، فـ”ستيكس” هو النهر الوحيد في العالم السفلي، بحسب الإلياذة، الذي يفصل بين عالم الأحياء وعالم الأموات، ولمياهه قداسة عظيمة، والحنث بقسمها نهايته مميتة. ووفقاً للشاعر الإغريقي هسيودوس، “ستيكس” أيضاً هو اسم حورية البحر التي هبّت لمساعدة زيوس في حربه ضد التايتان في ما يعرف بـ”حرب الجبابرة”.
في قلب الفيلم، “ريكا” (سوزان وولف)، طبيبة طوارئ وبحّارة هاوية تقرر قضاء إجازتها السنوية في الإبحار وحدها إلى إيسلندا، هرباً من ضجيج البشر وأملاً في الاقتراب أكثر من الطبيعة. لكن رحلتها البحرية تأخذ منعطفاً مفاجئاً عند مضيق جبل طارق، حين تضطر لمواجهة الطبيعة ولامبالاة السلطات المحلية، في محاولتها لإنقاذ لاجئين من الغرق وسط البحر. المأزق الأخلاقي وورطة الإنسان الأوروبي في قلب حكاية الفيلم، الذي يقدّم تناولاً لافتاً وذكياً ومنضبطاً لأزمة الخطابات الاجتماعية الحالية حول الهجرة وما يُفقد في خضمها من ضمير أخلاقي ونازع إنساني.
يُفتتح “ستيكس” بلقطة بـ”عين الطائر”، نُظهر كيف أنه في أوروبا الحضرية، بعد وقوع حادث لمواطن أوروبي أبيض؛ يُسرع أسطول من خدمات الطوارئ لتقديم المساعدة. الفارق سيتضح لاحقاً في التفاعل الأوربي مع ناس الجنوب، داكني البشرة، المتلهفين للرسو على أراضيهم، حينما لا يحدث شيء عندما يُهدد الغرق والموت سفينة ملأى باللاجئين وسط البحر.
“هذا هو السبب في أننا نستأنف هذا المنظور، للتأكيد على السلبية، من خلال مرأى زوارق الطوارئ والإنقاذ المحيطة الثابتة، رغم نداءات الاستغاثة القادمة من قارب اللاجئين”.. هكذا يعلّل فولفغانغ فيشر، في حديثه لـ”المدن”، سبب بدء فيلمه بذلك المشهد الحضري، قبل الدخول في قلب البحر لعالم أبعد زمناً وأقل بهرجة. ويضيف: “صُمِّم ستيكس لتصوير الصراع الأخلاقي الذي يتعيّن علينا كغربيين خوضه، والخيارات التي يتعيّن علينا القيام بها. بطلتنا، ريكا، طبيبة طوارئ وبحّارة. هي امرأة قوية قادرة على البقاء في عالم صعب، لكن المشكلة الأكبر التي تواجهها تكمن في داخلها، بسبب التنازع بين ضميرها وانحيازها الإنساني لمساعدة اللاجئين وبين الالتزام بتعليمات وقوانين أوروبية. نبقى على متن قاربها الشراعي للحفاظ على وجهة نظرها. وبهذه الطريقة، نجبر المُشاهد على التفكير في تجربتها العاطفية الشديدة ليتساءل: “ماذا كنت سأفعل في هذه الحالة؟”.
* سيد فيشر، اشتغلت لسنوات على سيناريو “ستيكس”. كيف جاءت الفكرة أصلاً؟
– فولفغانغ فيشر: بدأنا كتابة السيناريو قبل تسع سنوات. كانت الفكرة في الواقع هي إنتاج فيلم عنّا نحن البشر، وليس بالضرورة التقاط موضوع كبير مثل الهجرة. أردنا طرح مسألة كيف نريد أن نعيش في هذا العالم، وما هي الخيارات والفرص المتاحة لنا. وأيضاً، من منظورنا الغربي، أن نكون في مثل هذه المعضلة وأن نتتبع شخصية عليها الذهاب بمفردها إلى عالم بدائي ومواجهة مغامرة غير مخطط لها. ماذا سنفعل إذا وضعتنا الظروف في مثل هذا الموقف؟
* الشخصية الرئيسة – خصوصاً في البداية، في بؤرة تركيز الفيلم – يمكن رؤيتها بمفردها في معظم المَشاهد. كيف تستعدين لمثل هذا الدور، سيدة وولف؟ خصوصاً إذا لم يكن لديك أي شخص/شيء في مقابلك، ولا تتحدثين كثيراً أثناء أداء دورك؟
– سوزان وولف: لأكون صريحة معك، أعتقدت في البداية أنه لا يمكنني فعل ذلك. فولفغانغ شجّعني كثيراً وحثّني على قبول الدور. حاولنا اتباع الخطوات المعتادة. لذا بدأت بإعداد نفسي لهذا الدور. ألعب دور طبيبة طوارئ، وهي أيضاً بحّارة محترفة، ولهذا ذهبت إلى قسم الإطفاء وحضرت دورة تدريبية لمدة ست ساعات، تعلمت خلالها كيف أدخل أنبوباً في جسم المريض. بالإضافة إلى ذلك، كنت أبحر لمدة أربعة أيام لأنني لم أبحر بمفردي من قبل على متن قارب كبير. أثناء التصوير، كان معنا دائماً ربّان مرشد، ساعدني مراراً وتكراراً، بالطبع لأنني لا أعرف كل شيء. أعطاني ثقة كبيرة. يمكنك القول إنني استطعت الاستعداد للدور. بالإضافة إلى ذلك، طبعاً، يحدث الكثير أثناء التصوير. على سبيل المثال، الحديث عن إعداد مشهد والترتيب له.
* قرأتُ أن عملية التصوير كانت صعبة ومتطلِّبة. أنت صوَّرتَ في البحر فعلاً، سيد فيشر. فما هي أكبر التحديات التي واجهتك؟
– فولفغانغ فيشر: صوّرنا 90٪ من الفيلم في البحر المفتوح. لا قيم تجريبية بناءً على ملاحظة أو خبرة، لأن أحداً لا يفعل ذلك، ببساطة. نصحني شركائي المتعاونون في الفيلم بعدم القيام بذلك، لأنه لا يمكنك التحكم في هذا العالم. عليك أن تردّ على ذلك. كان من الصعب للغاية قضاء 42 يوماً على متن قارب طوله 11 متراً والتعامل مع الظروف الجوية المتغيرة باستمرار: الأمواج، أشعة الشمس، الغيوم، المطر. هذا عالم مجنون لتذهب إليه. لكننا أردنا التجرؤ. أردنا فيلماً أصيلاً، بلا مؤثرات خاصة. كان الأمر صعباً للغاية، ووجب علينا التصرف كمحترفين على كل المستويات. كان علينا أن نتعلم الكثير قبل بدء التصوير، لكن كان علينا أيضاً أن نتفاعل مع الطقس بشكل فوري. لم نتمكن من تصوير العديد من المشاهد كما خططنا لها. كان علينا دائماً أن نتفاعل بسرعة، واضطر مساعد المخرج، على سبيل المثال، لوضع أكثر من 40 جدول للتصوير من أجل الحصول على خدمات لوجستية أثناء تسلسل التصوير. كان ذلك صعباً للغاية. أردنا أيضاً القيام بالأمر بترتيب كرونولوجي قدر الإمكان، حتى لا نزعج القوس العاطفي للشخصية الرئيسية.
* في الفيلم لدينا “امرأة قوية”، هي بطلته، تذهب وحدها إلى البحر. كيف كنتَ، كمخرج، مهتماً بهذا البُعد الجندري؟ وكيف كان ذلك بالنسبة لكِ كممثلة؟
– فولفغانغ فيشر: بالنسبة إلي، كان واضحاً منذ البداية أنني أريد تصوير فيلم عن امرأة عصرية بإمكانها دخول هذا العالم القديم الخام، لأنها تمتلك المعدات والمعرفة اللازمة. لقد فتنني ذلك: أن أظهر شخصية تترك منطقة راحتها ويمكنها تحمُّل الشعور بالوحدة. كون تلك الشخصية امرأة، وجدته أمراً مهماً جداً. لم أكن أرغب في إظهار رجل يحكم البحر ويسود هذا العالم. من شأن ذلك أن يكون في فيلم آخر غير فيلمي.
– سوزان وولف: في الأساس، لا يتعلق اختياري لأداء الدور، بما إذا كانت الشخصية قوية أم ضعيفة، لكن ما إذا كنت أحب السيناريو أم لا. أنا مهتمة – رغم أن الجميع يدّعي ذلك – بالشخصيات متعددة الطبقات. لم أرغب في هذه الشخصية لأنها امرأة قوية. ليس هذا ما يهمّني ويثير حماستي للدور. كانت هناك الكثير من الأشياء التي أثارت اهتمامي بهذا المشروع: أحببت القصة بأكملها والمغامرة وراءها، بالإضافة إلى فكرة الذهاب إلى هذا العالم.
* أود التحدث عن عنوان الفيلم. يمثل نهر “ستيكس” الحدود بين عالم الأحياء وعالم الموتى في الأساطير اليونانية. كيف جاء هذا العنوان.. وماذا يعني بالنسبة لك، سيد فيشر؟
– فولفغانغ فيشر: يفصل “ستيكس” بين الأحياء والأموات، ونحن نعيش في عالم مشابه، حيث يوجد خط فاصل. ويمتد هذا الخط الفاصل عبر البحار، وعلى سواحل الحدود الخارجية الأوروبية، حيث يموت الناس. لذلك، وجدت العنوان مناسباً جداً. أردت أن أسأل ماذا يعني الذهاب إلى “ستيكس”. استحمّ أخيل فيه وأصبح معرضاً للخطر. ماذا يعني ذلك بالنسبة لنا وشخصيتنا الرئيسة عندما تذهب إلى “ستيكس”؟
* سيدة وولف، كيف كان تفاعلكِ مع جدوين أودور ويكاسا، الممثل الرئيسي الآخر، لا سيما مشهد سحبك إياه من الماء؟
– سوزان وولف: تدرّبنا على هذا المشهد مرتين قبل تصويره. اعتقدنا جميعاً أن إخراج شخص من البحر وجلبه إلى سطح القارب أمر سهل وسريع. لكن ذلك لم يكن ممكناً، لذا قفزت إلى الماء وحاولت إخراجه. استمر هذا لفترة طويلة جداً وكان مرهِقاً للغاية. ثم أدركت أنه لن يكون ممكناً بأي حال نجاح الأمر إذا لم يدعمني بأي شكل من الأشكال. شعرت بها كلحظة مخيفة للغاية. كان التعاون مع جدوين استثنائياً، حيث وجدت من المثير للاهتمام تفانيه الذي جعله متاحاً للعمل معنا. لا أعتقد أن الكثير كان مفهوماً له، لأنه لم يعمل قط كممثل من قبل. سواء كان ذلك عبارة عن موقع تصوير فيلم، أو حقيقة أن هناك بحراً؛ فهذا على الأرجح شيء لم يحدث له كثيراً من قبل. كان عليه أيضاً أن يتعلم كيف يسبح. لقد جاء واستمر في الرحلة من دون خوف، الأمر الذي أثار إعجابي.
* في بعض الأحيان تلقيتُ الفيلم كاستعارة عن الكلام واللغة. هل تتفق معي؟
– فولفغانغ فيشر: كانت الفكرة الأساسية هي خلق تجربة عاطفية عميقة، بحيث يلقي كل شخص بنفسه في الموقف نفسه، مثل شخصيتنا الرئيسية، وعليه طرح السؤال التالي: كيف أتصرف؟ الأمر لا يتعلق باللغة، إنه فيلم فيزيائي وحركي للغاية. عليك متابعة هذه الشخصية ومشاهدة تفكيرها، عبر تتبع لغة جسدها. لا تحصل على الفور على مساعدة شفهية ولا ينعكس ذلك كلاماً ملفوظاً. كان مهماً للغاية بالنسبة لنا أن يصير فيلماً فيزيائياً مفهوماً عالمياً. يجب أن تكون قادراً على قراءة كل مشاعر الشخصيات فور رؤيتها.
* كيف تتجلّى شخصية الشخص عندما يكون وحده؟ هل فكرت في هذا الجانب من الشخصية الرئيسة؟
– فولفغانغ فيشر: بالطبع، عليك أن تسأل نفسك كيف تتصرف في مثل هذا الموقف. ماذا ستفعل، ما هي الخيارات المتاحة لديك. هذه الشخصية أمامنا: إنها طبيبة، لذا يمكنها المساعدة، ولديها المعرفة اللازمة. لكن قوانين الدولة التي تقف في مياهها لا تستطيع أن تمنعها من الوقوع في معضلة أن كل ما تفعله جيد وسيء في الوقت نفسه. علاوة على ذلك، فهي في خطر عندما تنتهي في الماء. لأن كينغسلي، الصبي الذي أنقذته، بانتشاله من البحر إلى ظهر قاربها، لم يعد ضحية عاجزة، بل صار إنساناً متجاوباً عاطفياً. في تلك اللحظة هما متساويان، مع قوة الإرادة نفسها والعناد. كينغسلي قوي، ويترك دوره كضحية مُنقَذة وديعة ممتنة.
– سوزان وولف: أعتقد أن هذا سؤال مهم للغاية. إذا استمريت في تدوير تلك الفكرة، فأنت تدرك أن الطبيبة وحدها على متن القارب، لكن بعد ذلك ترى القارب الآخر. منذ تلك اللحظة، لم تعد وحدها. تستيقظ وترى أنها تَرى وتُرى. هذا يجعل كل شيء – كما أعتقد – لا مفر منه. بالتأكيد، قد تقرر الابتعاد أيضاً، لكنها لن تنسى هذا المشهد أبداً. ليس الأمر وكأنها أدركت شيئاً ما في الظلام، ولم يرها أحد. وليس كما لو أنها سمعت نداء استغاثة إذاعية لم تكن على علم بطبيعتها. هي لا تملك رفاهية الاحتمالات التي تقدمها مثل هذه اللحظات الضبابية أخلاقياً.
* لا يعطي الفيلم إجابات، لكنه يثير أسئلة. ما هي الأسئلة التي حصلت عليها من العمل عليه؟
– فولفغانغ فيشر: يحتوي الفيلم بالفعل على سؤال حول كيفية التصرف في مثل هذا الموقف. ليس من السهل العثور على إجابة إذا لم تكن في الموقف نفسه الآن. كان هذا هو السؤال الأساسي، ويجب على كل إنسان أن يجيب عن نفسه. هذا السؤال يستمر بعد نهاية الفيلم، وبعد خروجك من صالة السينما، وتأخذه معك إلى أي مكان. ما الذي يمكن عمله في العالم الذي نعيش فيه؟ جمهور الفيلم يمرّ برحلة عاطفية، وربما يحدث له بعض الاهتزاز والارتباك. لقد واجهت بالفعل ردود الأفعال هذه من الجمهور. يريد الكثيرون فعل شيء الآن. إنه لأمر رائع أن يتمكن الفيلم من فعل ذلك ويشارك الناس في الحوار أيضاً.
(*) يُعرض الفيلم يوم الجمعة 27 أيلول/سبتمبر في سينما “متروبوليس امبير صوفيل – الأشرفية”، ضمن فعاليات النسخة السادسة من “أسبوع الفيلم الألماني”.
حصد الفيلم أربع جوائز في حفلة جوائز الفيلم الألماني (لولا) العام 2019، من بينها جائزة أفضل ممثلة.
المدن
لمشاهدة الفيلم اتبع الروابط التالية