عطب الذات”.. النخبوية السورية في منظور غليون/ محمود الريماوي
شغل المفكر والأكاديمي السوري، برهان غليون، رئاسة أول هيئة للمعارضة السورية (المجلس الوطني) بين أكتوبر/ تشرين الأول 2011 ومايو/ أيار 2012. وعلى الرغم من أنه مقيم في فرنسا للتدريس الجامعي (وثلاثة أعوام في الجزائر)، إلا أنه ظل يتردّد على وطنه، وأسهم في التحضير لـ”إعلان دمشق”، أول تحرك علني للمعارضة في الداخل، قبل أن يتم اعتقال الموقّعين على البيان.
وقد قبلت هيئة المجلس الوطني استقالة غليون، على الرغم مما يتمتع به من مكانة معنوية عالية، قصر الفترة التي شغل فيها موقعه الذي تبوّأه بالتزكية. والحال أن تلك الفترة شهدت تدافعاً بين قوى المعارضة السورية لتمثيل الحراك الشعبي، كما شهد ذلك الحراك آنذاك مدّاً كبيراً، على الرغم من سقوط أعداد كبيرة من الضحايا بصورة يومية، كما حقق المجلس حضوراً سياسياً لافتاً، هو الأول من نوعه في تاريخ سورية الحديثة لجسمٍ سياسيٍّ معارض.
تلك التجربة في ترؤس هيئة المعارضة التي سرعان ما تمتعت بصفة تمثيلية، وما تبعها من نكسات، دفعت صاحبها لإعداد كتابه “عطب الذات.. وقائع ثورة لم تكتمل 2011 ـ 2012” (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت)، في 520 صفحة من القطع الكبير. ويضم سرداً لوقائع تلك التجربة مع مقدمة ضافية، عن الحياة السورية العامة في ظل حكم حافظ الأسد وخليفته نجله بشار. ومع أن عنوانه يشير إلى أن عاماً واحدا فحسب هو مدار الاهتمام، إلا أن الكتاب يتجاوز ذلك إلى الأعوام اللاحقة، وثمّة أكثر من إشارة إلى رصد الأحوال حتى عام 2018، فيما صدر الكتاب في بحر العام الجاري (2019). وبذلك، تمكّن المؤلف غليون، في كتابه، من تغطية فترة طويلة (وليس بالتفصيل نفسه لدى تناول مختلف المراحل)، وبما جعله ينجح في تحدّي الخوض في حدثٍ متحرّك (ما زال متحرّكاً). وإن كانت الإشارة في العنوان إلى عام واحد فقط قد ظلمت الكتاب، وأوحت لمن يتصفحه أن كل عام من أعوام الحراك يحتاج من المؤلف إلى كتاب في 500 صفحة كهذا الكتاب! فضلاً عن أن الإشارة غير دقيقة.
وقد اختار المؤلف موضوعه من قبيل مباشرة النقد الذاتي العام الذي يتعلق بذات جمعية، إن جازت هذه العبارة، لأداء القيادات السياسية والعسكرية والثقافية السورية، مشدّداً على أنه وقع تفاعل بين العوامل الخارجية من طرف من ناصبوا الثورة العداء في طهران وموسكو، ومن اتخذوا مواقف متردّدة، مضطربة، مثل الغرب، وبين عوامل الإعاقة الذاتية. وهذه سرعان ما ظهرت، في وقت كان الحراك بحاجةٍ إلى قيادة سياسية وعسكرية، تقوم بتثمير التضحيات الهائلة التي دفعها السوريون طواعية أو رغما عنهم. وما زالوا يدفعونها، في محرقةٍ لا مثيل لها في تاريخ الانتفاضات الشعبية العربية الداخلية.
وقد تناول المؤلف بالعرض والتحليل أبرز القضايا التي واجهها السوريون، وفُرضت عليهم منذ مارس/ آذار 2011، مثل فكرة التدخل الأجنبي، واللجوء إلى السلاح، ثم “أسلمة” الثورة. مع تركيز على فشل النخب في الاهتداء بالمصلحة الوطنية العامة، وتغلّب النزعات الشخصية والفئوية عليهم، وعجزهم عن بناء جسم سياسي متماسك نتيجة التنافسات المحمومة، والشكوك المتبادلة بين قوى المعارضة الرئيسية، والتي يُجملها المؤلف في “إعلان دمشق” بمن يمثلون الشرائح المثقفة ذوي النزعة العلمانية والإسلاميين ممثلين بجماعة الإخوان المسلمين. ثم مجموعة الـ 74، وتضم إسلاميين سبق لبعضهم أن عملوا في إطار “الإخوان”، بينما لم يكن لبعضهم الآخر تجربة حزبية. والقوة الثالثة هي هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطي، في الداخل، والتي تتخذ في العادة مواقف وسطية، يلمح برهان غليون، في أكثر من موضع، إلى أن مواقفها هذه كانت مفهومة، نتيجة انخفاض السقف الممكن للخطاب السياسي في الداخل، مع تركيز الهيئة على رفض مبدأ التدخل الأجنبي. أما القوة الرابعة فتتمثل في الحركة الكردية.
ويوجّه المؤلف نقداً مريراً لأداء تلك القوى، وخصوصاً لمجموعة “إعلان دمشق” التي كان يراهن على أن الانسجام سيكون سيد العلاقة معها، وأن معرفته الشخصية بممثليها، وعمله مع أعضائها في دمشق، قد حفّزه على القبول بترؤس أول جسم تمثيلي للمعارضة. ويرى غليون، من واقع تجربته، أن هذه المجموعة التي تمثل التيار العلماني قد أضعفت عمل المجلس الوطني، ولم يكن هناك انسجام بين أعضائها، ولا تفاهم بينها وبين الكتل الأخرى. وأن روح العمل الجماعي واعتبار المصلحة الوطنية العامة، وهي رائد العمل وميزانه، التي ميّزت تحرّك إعلان دمشق، في بداية هذا القرن، مع تسلم بشار الأسد الحكم، قد نالها تغييرٌ سلبيٌّ في عهد الحراك الشعبي العارم، إذ غلبت الحسابات الذاتية والفئوية، مع تقدير مضخم للذات بأن “إعلان دمشق” هو الممثل الأول والأكبر للمعارضة.
وينسحب النقد إلى الإسلاميين بمختلف تلاوينهم (رئيس ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، حالياً، أنس العبدة، منهم، ويتولى موقعه للمرة الثالثة، وهذه ملاحظة للكاتب، وليست للمؤلف) الذين حافظوا على تكتلهم بدون إيلاء اعتبار أكبر للعمل الجماعي المؤسّسي. وإن الإخوان المسلمين، على سبيل المثال، كانوا ينتسبون إلى المجلس، وإلى غيره من هيئات في الوقت نفسه، كـ”جبهة الخلاص” التي أعلن عنها عبد الحليم خدام النائب الأسبق لرئيس الجمهورية، من دون استشعار أية ازدواجية. بينما نجح الإسلاميون الآخرون في عمليات التعطيل، وبذر بذور الشكوك، ومن دون إيلاء أي اهتمام لمواكبة المواقف الإيجابية آنذاك تجاه الحراك والمجلس الوطني، وأهمية عامل الوقت في اتخاذ المبادرات والتكيف الإيجابي مع مواقف متقدّمة. ويضرب المؤلف أمثلةً كثيرة، منها العجز عن بناء جسم سياسي مشترك، أو بالأحرى إقامة تفاهم على خطوط عريضة مع هيئة التنسيق، وذلك بسبب تحفظات أطرافٍ في المجلس على الهيئة، ما حرم المعارضة من فرصة تمثيل شعبها بملء المقعد السوري الشاغر في جامعة الدول العربية.
يتناول المؤلف بالشرح الظروف التي نقلت الثورة إلى الطابع الإسلامي، مشيرا إلى ضعف العلمانيين، وإلى الفشل في بناء قيادة عسكرية، ما أغرى دولاً صديقة على التنافس في دعم فصائل بعينها، ما قاد إلى التحاق جمهرة من الثوار بتلك الفصائل المدعومة التي تُمكّن الثائر من تلبية حاجاته العائلية الأساسية. مع ما تبع ذلك من تغطيةٍ إعلامية واسعة، وعلى مدار الساعة لأنشطة الفصائل الإسلامية. وفي مداخلته الواسعة والمعمقة لظاهرة أسلمة الحراك، بعين الباحث الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي، مرّ غليون عَرَضا على ظاهرة تدفق عشرات المليشيات من الخارج، والممولة في جُملتها من إيران، إذ إن تلك المليشيات لعبت، وما زالت، دورا بالغ السلبية، سواء في القمع الوحشي للحراك أو استهداف البيئات الشعبية، وحيث كانت أكثر وضوحا من غيرها في تغليب اللون الطائفي والمذهبي لمهماتها وأهدافها، بما في ذلك مليشيات حزب الله. وواقع الحال أن هذه المجموعات المسلحة قد أسهمت في تعميق الاستقطاب الطائفي (على مستوى القوى المسلحة المتقابلة)، ويصعب الحديث عن أسلمةٍ بدون التطرق إلى وجهي المعادلة، فالمليشيات التي تدين بالولاء لإيران هي بدورها، وعلى طريقتها، إسلامية. ويبدو الوضع أكثر حساسية وفداحة، مع اقتران نشاط تلك المليشيات بما تفعله زعامات إيرانية من نشر التشيع، وإقامة جامعات تتبع إيران، واستقطاب شبّانٍ للقتال في صفوفها تحت ضغط الحاجة المالية، وصولاً إلى التنكيل بالمدنيين، وتقتيلهم وتدمير بيوتهم واقتلاعهم، ودفعهم دفعا إلى النزوح، وانتهاءً بالسعي المكشوف إلى تغيير الهندسة الاجتماعية وهوية المجتمع السوري.
وبما يتصل بواحدٍ من جوانب هذه المسألة، كان يؤمل أن يتطرق المؤلف إلى كارثة اللجوء السوري التي لا سابق لها، والناجمة عن كوارث استهداف المدنيين وتدمير البيئة الشعبية، بل وتدمير مدن. إذ لم تول المعارضة مسألة المشردين السوريين الاهتمام الكافي، فهؤلاء لم يبرحوا وطنهم نتيجة كارثة طبيعية، بل في سياق تدمير مظاهر الحياة. وهنا، كانت وما زالت مسؤولية النخب، كما مجموعات المجتمع المدني في الخارج، أن تولي المسألة مزيدا من الاهتمام. بعد أن وقع هؤلاء المشرّدون المنكوبون ضحية أطراف عديدة، أولها النظام الحاكم في بلادهم، ثم الدول والأطراف الدولية الغربية التي بنت خطابها ومواقفها على لوم الضحايا، وعلى عزل ظاهرة اللجوء عن أسباب وقوعها، مما يمكن رؤيته بالعين المجرّدة. ولكن أطرافا رغبت في أن تتعامل مع الأمر بوصفه مشكلة قائمة، بصرف النظر عن الأسباب والمقدّمات التي أدّت إليها. وقد ساعد على ذلك تنامي التيارات الشعبوية، واتساع تأثيراتها، بما تتوفر عليه من عداء للمهاجرين عموما، ومن مجتمعاتٍ إسلامية على وجه الخصوص. وقد كان وما زال من الواجب التشديد على أن الحل السياسي الجدّي المستند إلى المرجعية الدولية، وما يتبعه من إعادة الإعمار، هو السبيل إلى معالجة مسألة اللاجئين السوريين بصورة تحفز هؤلاء وتطمئنهم على العودة الطوعية لديارهم. وخلال ذلك فإن المواثيق الدولية تُملي إغاثة اللاجئين، حتى أن الأمم المتحدة أنشأت مفوضية خاصة لهذا الغرض. وأنه لا يمكن الجمع بين إشاحة النظر عما جرى ويجري في سورية وتوقع عودة اللاجئين أو توقف موجات الهجرة. والتهديدات التي تطاول منذ إبريل الماضي ثلاثة ملايين من المدنيين في إدلب هي شاهد على ذلك. ففظائع الحرب ووحشيتها في أي مكان تدفع المدنيين للبحث عن ملاذات آمنة أو شبه آمنة. ومن باب أولى السعي الدؤوب إلى إيقاف هذه الفظائع وتجريم مرتكبيها، بدلا من لوم الضحايا والتشكيك بهم وإغلاق الأبواب في وجوههم.
يمثل الكتاب وثيقة تحليلية عميقة تنبض بالإخلاص للشعب والوطن، والتوق الحار إلى أن ينعم السوريون بصفتهم مواطنين أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات، بحياة طبيعية في بلادهم، لا أن يُنظر لهم ويتم التعامل معهم كرعاع أو رعايا يمكن استئصالهم. ويزخر الكتاب بالمرارة لما فوّتته النخب من فرص لتمثيل شعبها، والارتقاء بأداء جسمهم التمثيلي الجديد. ولأنها لم تتغلب على النزعات الموروثة في الإقصاء والتغليب والشخصنة، فقد حال ذلك دون بروز جيل من السياسيين الجدد. فمدار اهتمام النخب كان يدور حول السعي إلى امتلاك مواقع متقدمة، وحرمان الآخرين من الوصول إليها، بصرف النظر عن انعكاس ذلك على المصلحة الوطنية العامة، ومن يقرأ كتاب برهان غليون “عطب الذات”، يلحظ ذلك، إذ لم تنجح المعارضة في فرز وبلورة سياسيين يزاولون السياسة (الخارجية خصوصا) بما هي مزيج من المبادئ والمصالح المتبادلة، وكيف أن المعارضين أخفقوا (أو لم ينتبهوا في الأساس) إلى أهمية بناء مواقف ذات مضمون يفيد أن نجاح المعارضة يكفل مصالح هذه الدولة المعنية أو تلك، كما يضمن إشاعة الاستقرار في المنطقة، ونسج علاقات على هذا الأساس، وليس الاكتفاء بالطرح الأخلاقي حول حق السوريين في الحياة والحرية والكرامة، وانتظار الدعم والمساندة تبعاً لذلك. وهو ما برع فيه النظام الذي أقام علاقات وشقّ مسارب لحركته في أصعب الظروف وأدقّها، انطلاقا من إدراكه مصالح الآخرين وحاجاتهم. وهي في الغالب مصالح وحاجات أمنية، بالإضافة إلى وعود بفرص وتسهيلات استثمارية. العربي الجديد