تغريدات سارت بها الرُكبان/ أحمد عمر
هناك تغريدات تصلح للهدايا والذكرى.
جعلت وسائل التواصل العمال والفلاحين وصغار الكَذبة مفكرين وصحافيين ومحررين، كما جعلت التلفزيونات الكثيرة والأقنية الفضائية أشباه أميين محللين سياسيين، حتى رأينا محللين لا يعرفون الكلام، حرام ظهورهم على الشاشة، واستضافت مرة قناة لبنانية محللاً شبه أخرس، حتى كاد المذيع أن يقول له: انطق أيها الحجر. وقد خرجت إلى الشمس مدارس لتعليم كتابة الرواية والسيناريو والارتجال المسرحي، وأخرى للظهور الإعلامي، ولم أسمع بعد بمدارس تعلّم حُسن التغريد، وأعرف شعراء يغردون شعراً، لكنهم ضعفاء في قول النثر، وكان التغريد قديماً بالشعر أو بالمثل. أول من غرّد في بوادي التواصل الاجتماعي هو امرؤ القيس عندما أنشد لصاحبه بصيغة المثنى؛ لأن العربي يحبُّ الكثرة: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل، وجاء في خبر عاجل أنَّ صاحبه قال له: طيب ممكن نبكي واحنا قاعدين.
بعد قرنين قال امرؤ التيس المصري: يا ريت كنت أنا، والله لو كنت اتباع لاتباع، وقد ذهبت مثلا، ليس لبلاغتها ربما لأنَّ قائلها رئيس، غالباً لأنه لا يمكن أن يباع. قبلها قال حالفاً يميناً معظماً: والله لا إرادة لنا في حكم مصر، وكان على آثار امرئ القيس: إنما نريد ملكاً فنعذر. لا يمكن أن يباع ويشرى، صدّاق أشر. لو كان عبداً لأعتقته وقلت له: اذهب أنت حر لوجه الله. مصيبة، كلما مشى تعثر بوعاء اللبن.
ولم يكن مع امرئ القيس سوى جواده!
يجرب الناشطون حظوظهم في اللحاق بالفكرة الهاربة، سعياً وراء صيدها وجباية الإعجابات من المعجبين، قصاً ولصقاً وصياغة وتدويراً، فترى تغريدات بالَ الزمان على دمنتها. ومن التغريدات ما هو خبر، وتغريدات أخرى بالصور، وتغريدات الموائد والطرائف، وتغريدات السفهاء، وسكاي نيوز، والمغرورين والنوكى وحديث النفس والمكايدة، ونحن في نهاية التاريخ فلن يجمع أحد نوادر هذا الزمان كما كان السلف يجمعون النوادر والملح في مصنفات كبيرة مثل نوادر الحمقى ونوادر الأذكياء ونوادر البخلاء. أعرف سفيهاً يزعم أنه شاعر، هو شبه مجنون، يجمع خمسة آلاف لايك وهو سائب يديه، كيف؟ ما تفسير الظاهرة؟ لعلها السفاهة. امرؤ التيس المصري قال مرة في إحدى مواعظه: “وعزتي وجلالي لأرزقنَّ من لا حيلة له حتى يتعجب أصحاب الحِيَلِ”، وهذه هي المرة الوحيدة التي اقتبس فيها من الأثر اقتباساً صحيحاً كاملاً من غير تعثر أو نسيان، وهو حديث قدسي موضوع، وإن وافق بعض الحال.
ينسب إلى مايكل أنجلو قوله، إنّ التماثيل موجودة في الصخر وهو يحررها، والتحرير الكريم يكون بالأدوات المناسبة، المطرقة وحدها تحطّم الصخرة. هناك متاجر وشركات تشتري الأفكار، ليس الأفكار الأدبية والدرامية ولا الخواطر السياسية وحدها، وإنما الأفكار التجارية والعلمية، ثمة أفكار صغيرة لا ترى بالعين المجردة من المجاهر، غيّرت عادات الناس، مثل الكباب العمودي التركي الذي صار أشهر وجبة في العالم اسمها الشاورما، وفكرتها الدهن. قل لي كم إعجاباً تحصل في المنشور، أقل لك من أنت. الاجتهاد الحسن يثمر بعض الطرائف كما قال القائل في فوز قيس سعيّد: بعد رحيل ليلى بسبع سنوات جاء قيس.
صرنا نعيش في كواكب تويتر وفيسبوك وبقية مواقع التواصل والتفاصل. الشتيمة مطرقة، الكثيرون يسرقون الأفكار، بعضهم يصيغها بكلمات جديدة. أكثر فكرة شاعت عن مرض أسماء الأسد أنّ السرطان شفي منها وليست هي التي شفيت منه، ووجدت الفكرة قبولاً مع أن فيها ضعفاً، وضعف الفكرة هو المجاز الوسيع فيها، الناس لهم ثأر، وهم يشتمون، لكن الشتيمة آية ضعف. سرطان الرؤساء وزوجاتهم وعكة صحية، نزلة برد، شوب، فوتو شوب.
غالب المجتهدين يعملون على اللفظ، ولا يؤتى الحكمة إلا كل ذي حظ عظيم، الماغوط غرّد مرة قائلاً في العصر الورقي: كنت أمشي وأسمع بياع الجرائد يصيح: الوطن بخمس ليرات. الثورة بخمس ليرات. العروبة بليرتين. كنت أظنَّ أنه يقصد سعر الجريدة. هذه الفكرة تسري في وجدان كل عربي، الماغوط أول من قالها. الماغوط لم يكن من الذين يموتون من أجل فكرتهم، كان يحبُّ البراد والصوبيا. الشعراء منافقون.
من التغريدات الحديثة والحسنة أمس، تعليقاً على صورة لجنود من جيش أبو شاحطة وهم يقصدون الجزيرة السورية، بعد أن نزلت روج آفا عن اسمها الفني هذه التغريدة، وكان الجنود منقولين في سيارة شحن لها حيطان ثخينة من الصفيح الفولاذي قال ناشط سوري: إنها سيارة شحن أغنام، صححها زميلنا ماهر شرف الدين قائلاً إنها سيارة أعلاف. أظن أنها سيارة نقل زفت ورمل. قُبّلت جزمة الجندي السوري المسكين عشرات المرات من قبل نجوم أمثال زهير رمضان وكوثر البشراوي والزير سلوم، والجزمات التي قُبّلت على الشاشة كانت قد خرجت من المصنع لتوّها، لو أن هؤلاء النجوم التماسيح قبلوا الشحاطة، نعل الجندي السوري، لكان فيها تكريم حقيقي للجندي السوري المسكين. جزمته مقدسة وينقل في شاحنة زفت!
من التغريدات الجميلة التي ضاع اسم صاحبها: “أهل الجنة في الحياة الآخرة سيتحدثون بالعربية. أهل الجحيم في الدنيا يتحدثون بالعربية”. ومنها فتوى محمود عاشور: “لا يجوز الخروج على الحاكم الظالم وإن جلد ظهرك وأكل مالك، أما الحاكم العادل فيجوز الخروج عليه”. ما أكبر رأس هذا الثور، كسرنا رؤوسنا وكسرنا الجرة وما زال الرأس سليماً!
هناك إغراءات لفظية كقول القائل في عفرين: الدنيا على كفّ عفرين، وهي مدينة صغيرة، وكانت في عيون الكرد حلم دولة، واسمها حسب موسوعة حلب المقارنة اسم آرامي، والآرامية لغة عروبية، والعفر معناه التراب ومنها عفّره بالتراب. وعفراء هي حبيبة عروة. وفي الفارسية آفرين بمعنى حسن، وفي اليزيدية بمعنى النعمة والبركة. الإسكندرية العظيمة ثانية مدن مصر بعد القاهرة سميت على اسم الإسكندر المقدوني وهي مدينة عربية مصرية. وأشهر ما جاء في التغريدات القصيرة المستفيدة من الجناس اللغوي عن نبع السلام: نبع النظام. ومنها: نبع السلام نبع التسليم. وإبان بلوغ بوتفليقة أرذل العمر، وكان يظهر في المراسيم مثل الأشباح في أفلام الرعب، قال كاتب هذه السطور مزقزقا: “المصريون أبهروا العالم بمعجزة تحنيط الموتى، والجزائريون أبهروه بمعجزة تحنيط الأحياء”. وكان المصريون يحنطون ملوكهم الموتى وهاهي ذي معجزة عربية جديدة: الملوك العرب يحنّطون شعوبهم حيّة في إرهاب كلور الماء. لم يكن السيسي بحاجة إلى أسماء وألقاب مضحكة مثل بلحة، جاء إلى العرش ومعه اسمه الفني.
أمس استعاد صحافي يعمل في الصحافة السعودية كما كان سليم حانا يعمل في مسلسل حمام الهنا، فاستذكر قولاً قديماً، فقال: الجغرافيا عدو الكرد، لا صديق لهم سوى الجبال.
القول يضمر جزما بحتمية وجودية، كما يبث شعوراً بالرومانسية الثورية التي شاعت في تغريدات الناشطين الكرد بعد علامات سقوط حلم دولة كمشة الزبيب والبندقية والتبغ كما تذكرت تغريدة أخرى. بعض التغريدات لها خصائص العزاء وأخرى مليئة بالسعرات الحرارية مثل الزبيب.
والحق أن معظم الدول نشأت في كبد الجغرافيا السياسية ومكابدتها، الدولة العثمانية نشأت من الصفر، وأمريكا من الغزو، فلم يكن في أمريكا أبيض واحد، وخاضت أمريكا حرب الاستقلال المؤلمة، وناضلت اسكتلندا طويلاً ضد الإمبراطورية الإنكليزية حتى نالت الاستقلال، ولو نظر الناظر إلى التحولات التي أصابت الدول لوجد عجباً، وأظنُّ أنّ في القول السابق زيغاً وضلالاً، والصواب عندي أن عدو الكردي هو التاريخ، أو إنه عدو التاريخ، والرأي قبل شجاعة الشجعان، هو أول وهي المحل الثاني. المحل أي الدكانة كما جاء في شرح العكبري.
اليابان أكثر دولة عانت من عداوة الجغرافيا السياسية فعوقبت بالغزو المنشوري وبقنابل نووية على بعدها من أمريكا، ومن الجغرافيا الطبيعية، فاستأنست الزلازل وجعلتها تمريناً في المغامرات، وهي تستفيد من الزلازل في السيرك وتوليد الطاقة. الياباني شجاع وكاميكاز أكثر من الكردي، إذا تعثر في العمل انتحر.
تلحُّ على كاتب هذه السطور تغريدة لصديق مصري روائي، اسمه سي سلامة، لم يسر بها سوى راكب واحد بجانب السائق، آثر أن يتنازل إلى شخصية روائية من شخصيات تجيب محفوظ، يكرّر كل يومين تغريدة أجمل من حُمر النعم، يقول فيها: أولاد الكلب ما خلوش لأولاد الحلال حاجة.
فعل: انتحر، كان خاتمة مناسبة لهذا المقال لولا سي سلامة.