الثورة وابتكار الحيز العام: ما الذي يمكن أن يقوله الثائرون؟/ محمد سامي الكيال
تشهد التحركات الاحتجاجية، ذات الطابع الاجتماعي والطبقي، تصاعداً مطرداً على الصعيد العالمي، عقب فاصل جمود نسبي، طغت فيه قضايا الهوية، وأنماط الحياة على الخطاب العام، مع انكسار الموجة الثورية الأولى التي أطلقها الربيع العربي. يبدو أن العالم العربي اليوم يعود ليحتل موقعاً متميزاً في خريطة الاحتجاجات، وليواجه كل الأسئلة الصعبة التي تتعلق بالتغيير الراديكالي في عصرنا.
يرى كثيرون أن الجمهور المنتفض في موجتي الربيع العربي قد تجاوز الأنماط التقليدية في الحشد والتنظيم، وابتكر أساليب جديدة في التواصل، تتجاوز المؤسسات السياسية التقليدية، مثل الحزب والنقابة، نحو شكل جديد من «التنظيم الشبكي»، الذي يربط بين مجموعات متباينة بأسلوب غير هرمي، عبر وسائل اتصال متطورة. وبعد أن اكتسب موقع «فيسبوك» صبغة ثورية ما مطلع هذا العقد، يحتل «واتس آب» دوراً شبيهاً الآن، يظهر هذا واضحاً في لبنان والعراق والجزائر.
إلا أن هذا الأسلوب الاحتجاجي، رغم كل إمكاناته، أبدى جوانب ضعف كبيرة، من ناحية قدرته على الاستمرار وتقديم خطاب سياسي وثقافي واضح. الأهم أن تجاوز التنظيمات السياسية التقليدية يفترض ابتكار أشكال اجتماعية بديلة للتنظيم، إما بهدف تأمين التسيير الذاتي لشؤون الحياة، أو لبناء سلطة مضادة لسلطة النظام القائم، وأحياناً لتحقيق الهدفين معاً. ورغم كل الحديث عن المواجهة بين الشارع والميدان من جهة والسلطة ومؤسساتها من جهة أخرى، فإننا لم نشهد في أي حالة احتجاجية، مهما بلغ زخمها وطموحها، ابتكارات من هذا النوع. فضلاً عن أن الثورات العربية الأكثر نجاحاً، خاصة الثورتين التونسية والسودانية، كانت تقليدية أكثر مما يتصور البعض، فقد لعبت فيها التنظيمات النقابية والحزبية دوراً كبيراً في تحويل احتجاج الجمهور إلى أهداف سياسية قابلة للتنفيذ.
رغم كل هذا، لا يمكن الحكم على الحيوية الاجتماعية الكبيرة، المنتجة لهذه الاحتجاجات، بالفشل سلفاً، أو القول بعبثيتها. نشهد حشوداً كبيرة من البشر الرافضين للمنظومة القائمة، ليس فقط بأبعادها السياسية، بل أيضاً الثقافية والاجتماعية. وضعفاً واضحاً في الشبكات الزبائنية، التي أمّنت دور الوساطة الاجتماعية سابقاً، ما حفظ الاستقرار السلطوي لعقود. هنالك إذن حالة «خروج» عامة من أطر الهيمنة السلطوية. وهو وضع حافل بإمكانات عديدة، فما الذي يحققه المحتجون بخروجهم هذا؟ وهل بإمكانهم، بأدواتهم الاحتجاجية الحالية، إبداع أشكال اجتماعية للتضامن، وهيمنة سياسية وثقافية مضادة؟
التنظيم والتواصل
يقوم مفهوم «التنظيم الشبكي» على أساس القول بتعددية المواقع الاجتماعية في عصرنا. لم يعد البشر مجتمعين في مؤسسات انضباطية ذات حدود واضحة، مثل المعمل والمؤسسات الحكومية، يتعرضون فيها لظروف متشابهة في العمل والحياة. كما أن الهويات الاجتماعية والطبقية المعهودة أصبحت أكثر مرونة وسيولة، ضمن هذا الظرف يتفرّع المجتمع إلى عدد صعب الحصر من المجموعات الفرعية. ويتفتت الحيز العام إلى كثير من المساحات الخصوصية غير واضحة المعالم، البشر اليوم يعيشون غالباً على «التخوم»: أعمال ومهن غير مستقرة، تتطلب كثيراً من «الإبداع» والمبادرة الذاتية واستثمار السمات والمهارت الشخصية؛ الهوية صارت ممارسة لتأكيد الذات الفردية أكثر من تعزيز تماسك المجموعة؛ العواطف والقيم الثقافية والأخلاقية أصبحت جزءاً مدمجاً في الإنتاج المادي نفسه. ضمن هذا الشرط لم يعد من الممكن أن يتوحّد البشر بسهولة في تنظيمات ذات هرمية واضحة، ويقدموا مطالب واحدة ومحددة بدقة. إلا أن المجتمع لم ينته، بل تغيّرت أشكال تواصله فقط. أصبح بإمكان الجمهور، الذي صار أكثر ذكاء وإبداعاً، أن يتواصل بأساليب مبتكرة، ويتحرك بمرونة أكبر لطرح سلسلة متنوعة من المطالب، بقدر تنوع البشر أنفسهم. الاحتجاجات تصبح لقاءً حراً لبشر مختلفين، تقوم وحدتهم على وعيهم بالاختلاف.
يقدم هذا الطرح وصفاً مثالياً، وإن كان لا يخلو من الصحة، للطريقة التي يتم بها عدد من الاحتجاجات، إلا أنه لا يستطيع أن يبني تصوراً واضحاً عن الأسلوب الذي سيحقق به الجمهور إرادته، والبدائل التي يمكن أن يقدمها، فضلاً عن الطريقة التي سيحافظ بها على تماسكه على المدى الطويل. التجربة أثبتت أن كثيراً من الحركات المبشّرة، خاصة في الدول الغربية، انتهت بسرعة كما نشأت، بدون أن تحقق أثراً يذكر، فمن حركة «احتلوا وول ستريت» في أمريكا، وصولا لاحتجاجات اليونان وإسبانيا وفرنسا، حلّت التنظيمات سريعاً محل الجمهور المتنوع، مثل «يسار» الحزب الديمقراطي الأمريكي، وحركتي بوديموس وسيريزا، وهي تنظيمات لم تثبت نجاعتها السياسية الكبيرة. في العالم العربي كانت المآلات أكثر مأساوية، فقد عجز الثوار حتى عن تأسيس تنظيمات ضعيفة الفعالية، رغم كل المواجهات الملحمية التي خاضوها. لا يمكن بالتالي الحديث بجدية عن «تنظيم» شبكي، هنالك «تواصل» شبكي بين الجمهور، تؤمنه وسائل اتصال أكثر تقدماً، ولكن التواصل بحد ذاته ليس تنظيماً ولا يؤدي بالضرورة إلى ابتكار البدائل، وإن كان الأساس الأولي لكل تنظيم وكل بديل. فكيف يتم هذا التواصل فعلاً في حالتنا، بعيداً عن تحديده التقني البحت؟
فعل كلامي
بغياب مساحة عامة يتم بها التواصل، حاول المحتجون دوماً إعادة ابتكار الحيز العام بأكثر أشكاله مادية وبساطة: احتلال الميادين والساحات، وتحويلها إلى مكان للقاء الاجتماعي المباشر، يتداول الناس فيه، عن طريق لغتهم العادية والمشتركة، الأفكار والتجارب والانطباعات. اللغة لا تقوم هنا بنقل المعلومات والوقائع وحسب، ولا ينطبق عليها معيار الصدق والكذب وحده، بل هي أيضاً «فعل»، أي نشاط يسعى لإحداث تغيير في الوقائع والتأثير على السلوك، عن طريق صيغ معينة مثل الأمر والسؤال والطلب والمحاججة والتعبير عن المشاعر.
الاستخدام المكثف للشتائم، في حالة الاحتجاجات اللبنانية مثلاً، هو نمط لفعل كلامي، يقوم على رفض زعامات مكرسة طائفياً واجتماعياً والاستهانة بها، ما يجعله ممارسة سياسية بامتياز، لا تعبّر فقط عن تجاوز نمط ما من الهيمنة، بل تساهم في فعل التجاوز نفسه، عن طريق سلب الاحترام الاجتماعي والرأسمال الرمزي من شخصيات معينة، ولكننا نتحدث هنا عن أفعال تتعلق بالهدم والرفض، ولم نشهد حتى الآن تركيبات إيجابية لرغبة الجمهور المنتفض، يتحول فيها رفض المنظومة إلى آفاق حياتية وسياسية جديدة. لم يستطع الميدان المحتل أن يصبح حيزاً بديلاً، تُبنى به سلطة مضادة.
ليتحوّل التواصل إلى تنظيم قادر على التغيير، تحتاج الاحتجاجات إلى أكثر من شبكات حديثة للاتصال والاحتلال العفـــوي للشــوارع والميادين، ربما يتطلب الأمر جعل الجمهور المتعدد طبقةً قادرة على تبديل العلاقات الاجتماعية، أي مجموعة متماسكة ذات مصالح متقاربة، تعي ذاتها بوصفها فئة تحتل موقعاً اجتماعياً يمكّنها من إحداث التغيير المنشود. وهذا يتطلب، ضمن أمور أخرى، إنتاج رموز ودوال تظهر تماسك مطالب هذه الطبقة، وتساهم في فرض هيمنتها. ولكن هل يمكن إنتاج طبقات لذاتها في شرطنا المعاصر؟
أشباح لينين
مع كل أزمة اقتصادية يتحدث عديدون عن شبح ماركس، الذي يعود ليذكّر بتناقضات النظام الرأسمالي، ولكن تصاعد الحركات الاحتجاجية في أيامنا، وما تعانيه من انسداد أفقها، حتى على المستوى النظري، يستدعي أشباحاً أخرى، ربما كان شبح لينين في مقدمتها، خاصة لدى النقاش حول الأشكال التنظيمية والوعي الطبقي وازدواجية السلطة. إلا أن اللينينية تبقى، على أهمية طروحاتها، مجرد شبح، فلا يمكن إعادة استنساخ الشرط التاريخي الذي ظهرت فيه، حين نشأت المجالس العمالية بوصفها معطىً لا يمكن إغفاله في سيرورة الصراع الطبقي. اليوم من النادر أن نرصد أشكالاً مشابهة للتنظيم الذاتي للجمهور، وبالتالي فإن غياب التنظيم لا يعود لبرود همة الثوار أو تفضيلهم للعفوية، بل لأن بروز الأشكال التنظيمية يبدو متعذراً حالياً لأسباب موضوعية.
تاريخياً ساهمت الهزّات الاجتماعية الكبرى في إنتاج أنماط غير مسبوقة من التضامن المجتمعي، وبالتأكيد لا يمكن أن يمرّ أكثر من عقد من الاحتجاجات والثورات بدون أن يراكم كثيراً من الخبرات على مستويي التنظيم والخطاب. نلحظ هذا بشكل واضح في الفرق بين موجتي الربيع العربي، فمن الصعب مماثلة الرطانة الوطنية العاطفية، و»الشباب الطاهر البريء» في عام 2011، مع أشكال الاحتجاج الأكثر تطوراً، التي بدأنا نشهدها منذ نهايات عام 2018. قد تنشأ المنظمة والطبقة تدريجياً، وبصورة لا يمكن التنبؤ بها مسبقاً، مع تقدم التحركات الثورية وانتشارها. ولكن هذا لن يحدث بالتأكيد، بدون عمل طويل النَفَس على الصعيد العملي والنظري. الاكتفاء بالتلذذ بالصور الواردة من التجمعات الاحتجاجية، ومهاجمة النخبوية والتنظير، لن يوصل المهتمين بتحقيق التغيير إلى غاياتهم. لا بد من عمل منظم تقوم به طليعة ما، سواء كان الهدف الاستيلاء على السلطة أو مواجهتها بسلطة بديلة، هكذا فقط يمكن لشبح لينين أن يكون فعالاً.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي