ثورات ما بعد الاستبداد: ثقافة سياسية جديدة في العالم العربي؟/ محمد سامي الكيال
تبدو الأوضاع في العراق وتونس مختلفة نسبياً عن بقية الدول العربية، في هذين البلدين تقام الانتخابات بشكل دوري، بقدر معقول من النزاهة، وتنشط القوى السياسية ضمن هامش من الحرية. تونس أسقطت طاغيتها في واحدة من أنجح ثورات الربيع العربي، وطوّرت مجتمعها السياسي والمدني، بما يرافق ذلك من حريات ثقافية واجتماعية.
أما العراق فتعرض لتغيير سياسي عنيف نتيجة الاحتلال الأجنبي، لم يعد من الممكن معه بروز مستبد وحيد. تحلّل الاستبداد إلى شبكة شديدة التعقيد من الزعامات المحلية والطائفية، والأحزاب والمليشيات المتنازعة على السيطرة ومناطق النفوذ. في البلدين لا توجد شخصية أو جهة واضحة يمكن تحميلها مسؤولية المشاكل المزمنة، باستثناء أحاديث عامة عن فساد «المؤسسة» أو «الطبقة السياسية» بأكملها.
لعب هتاف «الشعب يريد إسقاط النظام» دوراً مركزياً في الربيع العربي، بسبب قدرته على تكثيف تطلعات الثوار المتعددة، بمطلب أساسي هو التخلص من الطغاة المزمنين. ولكن ما معنى «إسقاط النظام» بدون وجود طاغية؟ وهل يجب فعلا إسقاط أنظمة تؤمّن الحد الأدنى من الشرعية الانتخابية والدستورية؟ هذان السؤالان يطرحان تحدياً كبيراً على ثقافة سياسية عربية، ارتبطت كثيراً من الأحيان بشخصنة الاستبداد، وشخصنة الثورة عليه. وقد أصبحت لهما أصداء مهمة حتى في بلدان مازالت تعاني الاستبداد المباشر. كما في الحالة المصرية، التي رافقت دعوات التظاهر الأخيرة فيها تساؤلات مهمة عن معنى التخلص من الطاغية، إذا لم يتم تحقيق تغيرات هيكلية في الدولة، تمنع ظهور طغاة جدد.
فضلاً عن هذا تبدو الحالة الاحتجاجية الجديدة متجاوزة للقضايا التقليدية في الجدل الاجتماعي العربي: مسائل الهوية والإسلام السياسي والعلمانية والطائفية والجهوية، إلخ، وذات طرح اجتماعي أكثر وضوحاً، يرتبط بقضايا البطالة والفساد وهيكلية الدولة والتنمية وإعادة توزيع الثروة. لا يعني هذا أن المسائل التقليدية قد غابت أو فقدت أهميتها، ولكنها اندمجت في سياق جديد يكسبها معاني مختلفة. فما الذي تستطيع الثقافة السياسية العربية قوله في وجه هذه التحديات الجديدة؟
إسقاط النظام أم توسيع المشاركة؟
الإجابة، التي تبدو الأكثر اتفاقاً مع العقل السياسي العربي، هي التحذير من ثورة جديدة أو قلب لنظام الحكم في ظل هذه الظروف المعقدة. الأنسب، حسب هذا الطرح، توسيع المشاركة السياسية لتشمل فئات أوسع، خاصة الفئات المحرومة، ولكن إحالة الأزمة إلى مبدأ «التمثيل»، ضعفه أو غيابه، يبدو قاصراً بشدة. يوفر الإطار الدستوري والانتخابي في تونس، تمثيلاً لا بأس به لولايات ومعتمديات الجمهورية، وتطرح الأحزاب السياسية برامج متنوعة، تأخذ باعتبارها المشاكل العالقة في البلاد. في العراق يتمركز الحضور الأقوى للاحتجاجات ضمن الطائفة الشيعية، التي من المفترض أنها الأفضل تمثيلاً. كما أن الاختلاف الشديد بين أنماط التمثيل في البلدين (المحاصصة في الحالة العراقية، العمومية الوطنية في الحالة التونسية) قد يشير إلى أن المشكلة ليست في شكل تمثيلي معين، بما يفترضه من مركزية أو طائفية، بل في أن التمثيل نفسه (أو الديمقراطية التمثيلية في الحالة التونسية خصوصاً) أصبح موضع سؤال.
يُبدي المحتجون رفضاً شديداً للأحزاب والأشكال السياسية التقليدية، سواء عبر حرق مقرات الأحزاب في العراق، أو التصويت العقابي ضد القوى السياسية التقليدية في انتخابات تونس الرئاسية. من المقولات الشائعة أن الربيع العربي تجاوز التنظيمات السياسية القديمة، ولكن لم يسبق أن تصاعد الرفض والغضب لهذه الدرجة ضد أحزاب وتيارات سياسية، لا يمكن اعتبارها بسهولة «الحزب الحاكم». بناءً على هذا لا تبدو الاحتجاجات العربية الأخيرة قريبة كثيراً من «الثورات الملونة» أو حتى المظاهرات في هونغ كونغ، حيث تعتبر الديمقراطية الليبرالية مفتاحاً للتغيير، بل ربما تكون أكثر تشابهاً مع احتجاجات شمال المتوسط: السترات الصفراء في فرنسا، والتحركات الاحتجاجية في إيطاليا وإسبانيا واليونان. يدرك المشاركون في هذه التحركات ضرورة التغيير، يرفضون الأطر السياسية التقليدية، ولكنهم لا يستطيعون تقديم صيغ بديلة. والأهم أن المطالب الاجتماعية، مثل القدرة الشرائية والبطالة والخدمات العامة، أصبحت في الصدارة، بوصفها تعبيراً عن حالة سخط عامة من المنظومة بأكملها، بما في ذلك جوانبها السياسية والثقافية.
المسألة بالفعل إذن هي «إسقاط النظام» وليس إصلاح النظام التمثيلي أو توسيعه، وهذا لا يمرّ إلا من خلال قضايا أساسية مثل حقوق العمل، إعادة توزيع الثروة واستعادة حق تقرير المصير الفردي والجماعي من الأوليغارشية المسيطرة. ولكن ما هو الأفق الذي تطرحه الاحتجاجات للتصدي لهذه المسألة؟
ثورات المشتبه فيهم
هنالك سمة عامة تتقاسمها أغلبية الحركات الاحتجاجية الحالية، وهي أنها تبدو ظلاً باهتاً للمفاهيم الكلاسيكية للثورة الاجتماعية، نتيجةً يائسةً لانسداد الآفاق وليس توسيعاً لها. غياب الأشكال التنظيمية الواضحة، والقدرة على تقديم خطاب سياسي وثقافي متماسك، يعمّق هذا الانطباع. ما يجعل المحتجين في موضع الاشتباه العام، فيصبح من السهل تأويل حراكهم بأشكال عديدة، أو نسبه إلى جهات لا تتمتع بكثير من المصداقية السياسية. في تونس يبدو هذا واضحاً، فسواء في حالة المرشح الرئاسي نبيل القروي، أو في أنماط جديدة من التنظيم مثل «عيش تونس»، تبدو الجهات التي تدعي تجاوز العمل السياسي التقليدي، مرتبطة بالفساد والمال السياسي واستغلال العمل الخيري، والمنظمات غير الحكومية. في العراق يتم التلميح، كالعادة، إلى «أيدٍ خفية»، حتى في الحالة الفرنسية تحدث كثيرون عن دور اليمين واليسار المتطرف، أو عن حضور تنظيمات شبه فاشية.
يرتبط هذا بأزمة واضحة في الهوية السياسية، فعلى الرغم من التصاعد المطرد لسياسات الهوية في الخطاب الثقافي السائد، لا يستطيع الحراك الاجتماعي المعاصر، كثيراً من الأحيان، تقديم هوية واضحة لنفسه والمشاركين فيه، حتى بالاستعانة بالهويات التقليدية وغير التعاقدية، مثل الطائفة والإثنية. تبدو الاحتجاجات مقسّمة بين خطوط اجتماعية عديدة، هلامية أحياناً. أما الاستقواء بـ«الشعب» فلا يعتمد على تكتيكات سياسية وخطابية واضحة، لبناء الكتلة الشعبية في مواجهة الآخر. قد يبدو العدو واضحاً: الفساد والسياسيون التقليديون، ولكن لا رموز سياسية قادرة على جمع المطالب المتعددة للمحتجين، على اختلافهم، في إطار متماسك. المسائل الاجتماعية، التي تتصدر المشهد، لا تتحول إلى دوال واضحة، يمكن من خلالها فرض هيمنة شعبية ما في المؤسسات القائمة. ما يجعل الاستثمار السياسي في الاحتجاجات شديد الصعوبة، وأي منظمة يمكن أن تنتج عنها ضعيفة الفعالية. يبدو هذا واضحاً من المسيرة المتعثرة للحركات الشعبوية في أوروبا، وهو ما يمكن توقع تكراره، ربما بشكل أكثر تعثراً، في أي تجربة شعبوية عربية، لعل الوصف الأفضل للحالة هو «تمرد يصعب فك تشفيره»، حسب تعبير المفكر الإيطالي أنطونيو نيغري.
حيوية فائقة
لا يعني هذا أننا نتكلم عن تحركات عبثية، فإذا كانت الاحتجاجات تعاني من عدم الوضوح على المستوى التواصلي، في اللغة والخطاب والترميز، فهي ذات جذور اجتماعية وطبقية واضحة، قابلة للتحليل والفهم. كما أنها من مظاهر أزمة عالمية شاملة، يتعثر فيها التوسع الرأسمالي وتتصاعد أزماته، ما ينتج جمهوراً واسعاً من المُفقرين والمتضررين، الذين يمارسون أشكالاً مختلفة من المقاومة، لا يمكن، نظراً لاتساعها وتنوعها، أن تكون معدومة التأثير على المدى الطويل.
في هذا الشرط أظهر العالم العربي حيوية فائقة: خلال ما يزيد عن عقد من الزمن لم تتوقف التحركات الاجتماعية بكل أنواعها، من العمل النقابي المنظم وصولاً للتمردات العشوائية، بالإضافة لعديد من التجارب الثقافية والسياسية التي لا يمكن إهمالها، حتى لو لم تنتج خطابات واضحة، قادرة على فرض هيمنتها. يمكن تفسير هذا على المستوى الاقتصادي في موقع العالم العربي شديد الهشاشة، ضمن المنظومة الاقتصادية العالمية، ما يجعله مركزاً أساسياً للزلازل الاجتماعية، وعلى المستوى السياسي- الحيوي بديناميكية مجتمعات فتيّة، لم يعد من الممكن ضبطها بالأطر السلطوية التقليدية: الدولة والبنى الأهلية. توق الجمهور المتنوّع لظروف أفضل في الحياة والعمل والعلاقات الاجتماعية، يخلخل أي إمكانية لترميم السلطات القديمة. لا يعني هذا أن ما تؤدي إليه هذه الحيوية إيجابي بالضرورة، فهي كثيراً ما تنتج أشكالاً جديدة من الاستبداد، طائفية وذكورية ودينية، إلا أنه استبداد على أسس هشة، غير قادر على مأسسة ذاته، بسبب حركية الظروف التي أنتجته بالتحديد.
لا تبدو الفرصة معدومة تماماً لتشكيل «منظمة» من حراك الجمهور، في الحالة السودانية استطاعت الكوادر النقابية والسياسية جعل الاحتجاج الاجتماعي أكثر تماسكاً ونجاعة، وأخرجت المتمردين من حالة الاشتباه العام إلى ممارسة سياسية متميزة عربياً، رغم التعقيد الشديد لظروف البلاد، والمصاعب العديدة للمرحلة الانتقالية، التي قد تؤدي لتعثر آمال التغيير. وربما كان هذا النموذج هو أفضل ما نعرفه عربياً لتحويل الحيوية الاجتماعية إلى إمكان للتحرر.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي