الإسلاميون والثورة السورية -أربعة مقالات-
في إشكال الإسلام السياسي في «المجتمعات» السورية/ حمود حمود
لا تروم هذه العجالة التنبؤ بأيّ قول فصل في الشكل الذي ستكونه مسارات الضباب الأصولي الذي يسود سوريا اليوم، بمقدار الإشارة سريعاً إلى أهم إشكال ربما ستواجهه مستقبلاً (وربما تواجهه الآن)، ما يمثل أحد العوائق في إعادة بناء هوية سوريا جامعة. الإشكال لا يرتبط بالحركات الراديكالية نفسها فحسب (منها تلك الإسلامية المسلحة وتلك الإسلامويات التي ساعدت إيران في خلقها)، بل بمدى «تبييء» الوباء الأصولي داخل «المجتمعات» السورية واستطالته فيها، ومن ثم احتمال الخطورة التي يمكن أنْ يواجهها أي مشروع وطني مستقبلي، وتتمثل في قابلية إعادة إنتاج فكر أصولي من عمق حواضن الثقافات السورية. أو بصيغة أخرى: إلى أيّ مدى استطاع هذا الوباء الأصولي تخريب البنى الهيكلية للمجتمعات السورية؟ هل يمكن الحديث بالفعل -بعد أنْ جرّبت سوريا كافة أشكال الإسلام السياسي (وأخرى جديدة تماماً عليها)- عن حواضن ثقافية سورية لديها استعداد سياسي-ديني ذاتي في توليد إسلامويات سياسية مستقبلية، حتى وإنْ قُضِي على الأشكال الحالية؟
ربما من المهم التأكيد بداية أنّ أحد أشكال تعقد أوجه «الإسلامات» السياسية مرتبط بنيوياً بتعقد فسيفساء المجتمعات السورية نفسها ومدى استجابتها لهذه التيارات؛ أي إنه لا يمكن الحديث عن مستقبل أيّ وجه من أوجه هذه «الإسلامات» من غير الأخذ بعين الدرس والنقد الحاضنة السوسيولوجية له، وبخاصة حينما يدعي وجه إسلام سياسي ما تمثيل هذه الحاضنة (طبعاً مع عدم إغفال القوى الخارجية، إقليمية كانت أم دولية، الداعمة للحركات الإسلاموية، كما هو حال «إسلاميي أردوغان» أو «إسلاميي خامنئي»). وربما يلاحظ القارئ هنا أنّ الحديث في هذا السياق هو عن «مجتمعات» لا عن «مجتمع» سوري توحده هوية أنثروبولوجية وسوسيولوجية واحدة، وهو الأمر الذي يعكسه التنوع ذاته في داخل الحركة الإسلامية. والحال أنه ثمة خطأ منهاجي كبير تقع فيه الأبحاث التي تتناول سوريا، دعك من اللغة الصحافية، في تنميط الشعب السوري وكأنه كتلة متجانسة وتتجاهل عن عمد التعقيدات الأفقية التي تتخلله والصور المختلفة التي ينتجها، لا بل أحياناً، في أحسن الحالات، في تصويره وكأنه يعبر عن «كتل هوياتية» من الطوائف مرسومة بأيادي قدرية، وكأنّ مصيرنا أننا طوائف وسنبقى طوائف (هكذا!).
لا شك في أنّ بعضاً من الأقلام الغربية يساهم في هذا الخطأ المنهاجي (ولا أفضل الآن الخوض به)؛ بيد أنّ العامل الأهم في هذا التنميط (مثلاً في تصوير السُنّة السوريين وكأنهم «سُنّة بالدم») هم الإسلاميون أنفسهم، وتحديداً الإخوان المسلمين، والسُّلطات الحاكمة للبعث السوري وما أفرزته من سياسات طائفية- تلك السياسات التي غدت اليوم تمارس علناً من غير خجل.
في ما يخص الإخوان المسلمين (بصرف النظر الآن عن التشكيلات السنية والشيعية الأخرى الهائلة)، فإننا نعلم أنّ أحد أهم عُقدهم في سوريا تتمثل في «إشكالية التمثيل» للشارع الاجتماعي السني خلفهم التي ما زالوا إلى الآن يلعبون على وترها. بيد أنّ المراقب لمسارهم في سوريا يدرك حجم صفعات الفشل الكبيرة التي كانوا يتلقونها من داخل هذا الشارع نفسه. لنتذكر مثلاً فقط الانتخابات التي خاضوها قبل انقلاب البعث 1963. فعلى الرغم من أنّ الإخوان كانوا في حينها شبه الوجه الوحيد الذي يمثل «الحركة الإسلامية» سورياً، إلا أنّ الشارع السني لم يعطهم كلّ ثقته. لقد خاض الإخوان السوريون في حياتهم كلها أربع انتخابات برلمانية، وفي هذه الانتخابات كلها لم تتجاوز مقاعدهم عدد أصابع اليد (سنة 1947: 3 من أصل 136 مقعدا= 2.2%؛ سنة 1949: 3 من أصل 114 مقعدا= 2.6%؛ سنة 1954: 5 من أصل 141 مقعدا= 3.5%؛ وأخيراً سنة 1961، وهي الفترة الذهبية لإخوان سورية في ظل حكومة معروف الدواليبي، الداعم لهم، والداعمون له: 10 من أصل 173 مقعدا= 5.8%). ربما يعدّ الإخوان أنّ حيازتهم على بعض المقاعد قد مثل انتصاراً رمزياً لهم، بيد أنه حقيقة فشل تاريخي كبير (حالة الإخوان المصريين حالة مختلفة تماماً عن نظيرتها السورية)، ليس أقله لأنّ «إخوان دمشق» كانوا الوجه الإسلامي المسيس شبه الوحيد على الساحة السنية، وليس أقله أيضاً لأنهم لطالما يفترون أنهم يمثلون الإسلام السوري. وإذا كان صعودهم للبرلمان قد أتى في أعز مراحلهم التاريخية (وحينها كان «السلاح» غائباً وليس الوسيلة للوصول إلى السلطة)، فما بالنا اليوم مع صعود ألف تنظيم وتنظيم، وكلّ هؤلاء ينافسون الإخوان على الإسلام ويدعي ملكيته للشارع الإسلامي السني (أو كما يقال: كلهم يدعي وصالاً بليلى، وليلى لا تقر لهم بذاك!).
وإذا كان صعود هذه التنظيمات الإسلامية يمثل عقبة أداء اليوم أمام مشروع إخوان دمشق، إلا أنه أيضاً يظهر لنا إشكالاً كبيراً يتعلق بالتشوّه الوطني الذي يطال الاجتماع السوري. وبغض النظر الآن عن جدل ما إذا كانت المجتمعات السورية بذاتها متدينة أم لا، خصبة في إنتاج الإسلام السياسي أم لا، بيد أنّ الخطر الفعلي الذي يتجسد أمامنا هو في «التبييئ» المديد لهذه التنظيمات داخل هذه المجتمعات. وعلى الرغم من ذهاب بعض الباحثين إلى أنّ مسألة الاستعداد الديني الاجتماعي ترتبط دينياً وسوسيولوجياً بصعود الإسلام السياسي، إلا أنني أقلل من أهميتها في المثال السوري الراهن (وأشدّدُ على كلمة «الراهن»). ليست كل تلك التفريخات الإسلامية التي صعدت في ظل الانتفاضة السورية هي الجواب المباشر على تدين المجتمعات السورية، بمقدار ما هي «صناعة»، بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فُرضت عليها؛ هذا فضلاً عن أنّ معظم التنظيمات الإسلاموية السنية قد مثلت رؤوس أموال سياسية لقوى خارجية تحاول فرضه على الخطابات السورية (إنني لا أنكر طبعاً وجود خصوبة كبرى لدينا في استقبال والتفاعل مع رؤوس الأموال السياسية هذه، الأمر الذي أسكت بالفعل الأصوات الوطنية العلمانية، ومن ثم خلو الساحة فقط لـ«صوت الجهاد» ومشاريع زينب والحسين والبغدادي…الخ). وهنا لا يغيب عن ذهننا، كم أنّ أجزاء من «المعارضات» السورية، ومنذ البداية، قد ساهمت بصورة مباشرة وغير مباشرة، لا في السكوت على ظهور التنظيمات الإسلامية فحسب، بل أيضاً في «تنميط» الحراك الشعبي وأسلمته، بحجة أنّ هذه الأسلمة هي شيء «طبيعي» تأتي استجابة لـ«دواخلنا الإسلامية»، طالما أنّ المجتمع السوري هو بـ«الدم» مجتمع متدين، وهو الأمر الذي تقاطع بالفعل بنيوياً مع ما يطلبه الأصوليون أنفسهم؛ حيث إنّ هؤلاء يقولون أيضاً أنّ المجتمع السوري هو مجتمع متدين، وهو الأمر الذي يشكل «خزاناً رمزياً» لهم.
طبعاً إنّ مسألة تخريب الإسلاميين للشارع الاجتماعي السني، تحديداً في ظل تأزمنا الراهن، أيضاً يمكن قوله، لكن بأشكال أخرى تماماً، في ظل ما يشهده الشارع العلوي من «تشييع» سياسي تقوده إيران من خلال حزب الله ونظام الأسد. (وهذا يمكن تناوله في سياق آخر). وإنْ دل هذا على شيء، فإنما يدل على تأزم حقيقي تعيشه مجتمعاتنا ومدى تعقيد صور الإسلام السياسي داخلها. وإذا كان يصح أنّ نجاح التنظيمات الإسلاموية يعتمد «خارجياً» على مستقبل مصالح القوى الإقليمية والدولية الداعمة لها، فإنه من الآكيد أيضاً أنّ دوامها واستطالتها بل ترسخها ثقافياً «داخل» الحواضن السورية، ومع غياب أي مشروع وطني حقيقي، سيعني بالفعل أننا سنكون أمام خطورة أنْ تغدو الخطابات السورية نفسها ليست قادرة على «استيراد» الإسلام السياسي فحسب، بل أيضاً على «تصديره».
بروكار برس
————————————-
الأخونة والسياسية والأيديولوجية/ حمود حمود
في الأول من مارس 2013 نشرت جماعة الإخوان المسلمين السورية في جريدتها «العهد» أربعة أطر استراتيجية للتعامل مع «الحراك السوري»، وذلك على لسان قياديّ بارز فيها، ملهم الدروبي: «1. ثورة وطنية؛ 2. ثورة سلمية؛ 3. المحافظة على وحدة التراب الوطني؛ 4. رفـــض التدخـــل الأجنبـــي العســـكري»، (ملهم الدروبي، جريدة العهد، 1 مارس2013، ص8).
لا شك، لا يصعب علينا اليوم، بعد أكثر من ست سنوات من هذا الإعلان، إدراك أنّ أيّاً من هذه المنطلقات «الاستراتيجية» لم ير النور، لا على الأرض ولا حتى نظرياً، سواء في سلوك الجماعة اللاوطني أو في مشاركاتها في بعض التنظيمات الجهادية أو فيما يخص سلوكها اللاهث خلف أي بريق تتدخل فيه أي قوة خارجية عسكرياً وأخيراً ارتمائهم غير المفاجئ، قلباً وقالباً، بالأحضان الحنونة لتركيا، حتى وإنْ كانت هذه الأخيرة تعمل على تهجير مهجرينا السوريين هناك، والذين سبق للسيد ملهم الدروبي نفسه أنْ وصفهم بـ«قلة الذوق» مع المضيف التركي. بيد أنّ ما يشاع من أحكام في الصحافة أنّ الإخوان المسلمين السوريين، وبسلوكهم مع الانتفاضة السورية قد «خانوا» تلك المنطلقات (وهم أنفسهم الذين أعلنوها)، أو خانوا وثيقتهم الإصلاحية سنة 2004 «المشروع السياسي لسورية المستقبل»…الخ، لهي أحكام تجانب الصواب في عدم إدراك ماهية هذا التنظيم، وتحديداً «ماهية الأخونة» أو قل الهوية الداخلية له.
لنشدد بداية على أنّ مصطلحات مثل «الخيانة» لا يمكن أنْ ترد في القاموس الأصولي البنيوي غير المكتوب لإخوان سورية، وتحديداً حينما يتعلق الأمر بـ«خيانة الأيديولوجية» الأصولية نفسها، أو بسلوكهم السياسي مع الدولة. وهنا من المهم الإشارة سريعاً إلى نقطة أجدها مهمة بغيةَ فهم «إخواننا» السوريين، وترتبط تحديداً في السياق الذي ولد به إخوان سورية، والتي ما زال لها أثر كبير في سلوكهم السياسي الحالي؛ وهذه النقطة تُجسّد مفصلاً (من بين مفاصل أخرى ربما نأتي عليها لاحقاً) يفترق به هؤلاء الأصوليون عن أشقائهم بالأصولية من إخوان مصر. فعلى الرغم أنه ليس هناك لحظة تاريخية فارقة لولادة الإخوان السوريين (ذلك أنهم بالإساس عبارة عن تجميع حركات وجمعيات إسلامية متعددة المشارب والمناطق في سورية وقد ولدت بالتدريج)، إلا أنّ اللحظة السورية التي أعلن فيها مصطفى السباعي تلك الولادة واستلم فيها شرف «رقابة» الجماعة كانت لحظة حادة ومحمومة سياسياً في سياق الاستقلال عن الفرنسيين. ولم يكن هذا الإعلان تعبيراً عما تريده مصلحة الإسلام، بمقدار ما كان انعكاساً لفضاء صراعات سياسية بين الأطياف والحركات السورية السياسية. لقد حمل الإخوان السوريون في جعبتهم السياسوية بعضاً من معالم هذا الفضاء الصراعي، وهي جعبة تميزت، بالفعل، بدهاء كبير كان جديداً تماماً على سورية حينها، وخاصة في مسألة علاقة الدولة بالدين؛ وهو الأمر الذي يمكن قراءته لا في الجدل الإخواني حول الدستور السوري، فيما يخص مسألة دين الدولة (وهو الجدل الذي خسر فيه السباعي معركته، ليغدو التأكيد فقط على «دين الرئيس»، وهذا ما اعتبره السباعي، رغم ذلك، نصراً طالما أنه أثبت وجوده الأصولي «سياسياً» مع جماعته) فحسب، بل أيضاً بكونهم أول جماعة إسلاموية عربية تدخل البرلمان، وإنْ كان هذا الدخول على خجل.
الرحم الذي حمل وأنتج إخوان سورية كان رحماً مثقلاً باللهاث وراء السلطة؛ سعيهم كان منصباً أساساً على إثبات وجود «سياسي»، لا ديني، لهم. وهذا بعكس إخوان مصر قبل أن يتسيسوا في سياق الأربعينيات. فهؤلاء الأخيرون صعدوا من عمق حاضنة أيديولوجية أصولية تأزمية أكثر منه حاضنة سياسية (وهم أنفسهم طرحوا أنفسهم بداية كجماعة «دعوية دينية»، أما التسيّس فسيأتي لاحقاً). وهذه النقطة تعتبر فارقة بين هذين الفرعين «الأخوين» (رغم انتمائهما إلى مشرب أصولي واحد).
من هنا لا نستغرب إذا وجدنا إخوان مصر أكثر إخلاصاً للأيديولوجية الأصولية منه إلى إخوان سورية. وأبعد من ذلك: ربما يتجاوز الأمر في حالة الأخونة السورية حتى أنْ نطلق عليها وصف «البراغماتية»، ذلك أنّ هذا المصطلح له ثقل سياسي وحداثي في الأدبيات السياسية البعيدة كل البعد عن هؤلاء. وإذا كان معظم الأصوليات يمثل مشاريع تقف تماماً ضد مفهومة الدولة، إلا أنه يمكن القول أنّ إخوان مصر، إذا ما قارناهم بالسوريين، أشد تعشقّاً بالدولة «مصر» وأشد ولاءً لها، هذا في حين أنّ إخوان سورية قد ولدوا تماماً خارج الدولة وما يتطلبه بناؤها (لا بل قل: لقد ولد إخوان سورية كامتداد لمشروع أصولي «مصري»، لا كمشروع أصولي «سوري»). وهذا ما كان له استحقاق شديد الوطأة على بنية النظيمة التي تحكم إخوان سورية؛ وهو بالفعل استحقاق يضرب بعصبهم الأصولي إلى الآن، سواء على الصعيد الأيديولوجي أو التنظيمي.
وهذه النقطة بالضبط يمكن أنْ نقرأها عند إخوان سورية لماذا نجد ولاؤهم لتركيا وسلطتها أشد وأقوى مما تقتضيه سورية في مسارنا الحالي. من هنا فلا يمكن اعتبار تأييدهم الأخير للتدخل التركي شمال شرق سورية بكونه يمثل خيانة لمنطلقاتهم؛ على الإطلاق لا؛ بل ينطلق من بعدين: الأول، أنه ينسجم تماماً مع ذواتهم الأصولية التي لا تعترف بالأصل بالدولة، وأنهم لم يبنوا في دواخلهم مفهوماً اسمه «سورية»؛ والثاني، يرتبط بمشكلة تاريخية تُقاس بعلاقة الأصولية بالقومية العروبية التي كانت تقف سلباً على طول الخط ضد القضية الكردية (طبعاً بغض النظر الآن عن بعض الميلشيات الكردية القومجية التي لا تختلف عن الأصولية)، وفي هذه النقطة يشتركون تماماً مع بعث سورية السلطوي. وحتى حينما أرادوا الدخول إلى القاع السوري مرة أخرى، بعد غياب استمر لأكثر من ثلاثة عقود، وعلى أكتاف الانتفاضة السورية، فلم يكن دخولهم من البوابة السورية، بل من البوابة الإخوانية أو ما تتطلبه هذه البوابة، حتى وإنْ كان على حساب الآخرين. لهذا كان تركيزهم بالأساس في هذا المسار يتمثل في الاعتماد على المساعدات التي ساهموا في تقديمها. لكن لمن؟ لأولئك المصطفين معهم أو من يقف أيديولوجياً على أرضهم (وهم أنفسهم اعترفوا بذلك)؛ أما البقية من الناس الذين يحتاجون المساعدات، فإنهم لم ولن يدخلوا في حسابات الإخوان السياسية، إلا إذا كان في مساعداتهم مكاسب سياسية في سبيل السلطة. وهذا، بالفعل، معلم مهم من معالم الأخونة السورية.
لا يمكن، والحال هذا، أنْ ننتظر من إخوان دمشق تعريفاً حداثياً دقيقاً لاصطلاح الدولة؛ فما نقرأه من أدبياتهم لا يعبر سوى عن مسخ من هنا وآخر من هناك- إنه مسخ يرتبط بكل شيء إلا دولة اسمها «سورية». الأمر نفسه يمكن قوله في مسألة غياب مفهوم دقيق لـ«الوطنية السورية»؛ فأيضاً هذه لا ترد في أحسن الأحول سوى في سياقات توفيقية اعتذارية أو للبيع السياسي لكسب حلفاء سياسيين أو للتسويق الإعلامي، ولا تعبر عن مواقف عميقة لديهم. واليوم غدت هذه الوطنية الإخوانية تقاس، بالفعل، على مسطرة مدى «وطنية» السوريين وقربها من السيد أردوغان ومشاريعه في سورية.
بروكار برس
————————————
الإسلاميون والثورة السورية: ملاحظات أوّلية/ طارق عزيزة
أفرزت المصالح والصراعات الإقليمية والدولية، في خلال الثورة السورية، والعوامل الذاتية والأيديولوجية المتعلقة بالمعارضة السورية وبخيارات قسم منها، وسلوك الأسد وحلفائه واستراتيجياتهم لمواجهة الثورة، في مجمل تفاعلاتها، معطياتٍ أودت بالثورة وبسورية نفسها إلى مآلات لا تنسجم مع المقاصد والغايات التي من أجلها ثار السوريون وقدّموا التضحيات الجسام. ولعل موقع “الإسلاميين” ودورهم في الثورة من أشدّ تلك المعطيات إشكالاً، بالنظر لما تركه طغيان “الخطاب الإسلامي” في المشهد الثوري العام من آثار ونتائج.
لا تناقش الورقة مسار “أسلمة الثورة”[1] وحيثياته، وإنما تقتصر على بعض سلوك “الإسلاميين” أنفسهم، وتسجيل ملاحظات أولية عن تأثيرهم في الثورة وتأثّرهم بها عموماً، من دون تناول تنظيم بعينه. فالإسلاميون المعنيون يتوزّعون على تصنيفات الطيف الإسلامي الواسع: السياسي والجهادي، على اختلاف درجات “التشدّد” أو “الاعتدال”، فجميعهم كانوا حاضرين وفاعلين طوال سنوات الثورة ثم الحرب السورية، وإن بنسب متفاوتة.
ثورة سوريّة وأخرى “إسلامية”!
في سياق “الربيع العربي”، سعى إسلاميون بأحزابهم وتياراتهم المختلفة إلى استغلال حركة الشارع لتمرير مشروعاتهم، مع ميلهم إلى الاعتقاد بأنهم الأقدر على تجسيد تطلّعات الشعوب العربية، إذ إن أكثريتها تدين بالإسلام. لم تكن الثورة السورية استثناءً. ثوارها وثائراتها هتفوا للشعب السوري الواحد في التظاهرات السلمية، ورفعوا الشعارات الرافضة للطائفية، وصبروا وصابروا ما استطاعوا للحفاظ على سلميّة ثورتهم ووطنيتها العابرة للأديان والطوائف والمذاهب، في وجه القمع الوحشي والسلوك الطائفي الذي انتهجه نظام الأسد منذ البداية. في المقابل دأب “الإسلاميون” وداعموهم على حرف وجهة هتافات المتظاهرين وحتى تسميات أيام الجمعة التي كانت موعد التظاهرات الأبرز، لتتراجع الشعارات الوطنية الجامعة ومقولة “الشعب السوري الواحد” وتحلّ محلّها شعارات مذهبية وطائفية مقيتة، لكن منسجمة مع أيديولوجيتهم، بزعم أنّ هذه ردّة فعل طبيعية على طائفية النظام وإيران وميليشياتها الطائفية المساندة له. فهل يُعقل أن يكون الردّ على طائفية النظام بطائفيّة مضادّة تخدم أجنداته؟
وحتّى عند جنوح فئات من الثوار إلى السلاح، فذلك أتى بدايةً بوصفه دفاعا مشروعا عن النفس أمام بطش عسكر الأسد وأجهزته الأمنية وممارساتهم الوحشية عند اقتحام المناطق المنتفضة، فكانت حالة غلب عليها الارتجال والعفويّة، ومثلها الانشقاقات الأولى عن الجيش التي شكّلت نويات ما صار “الجيش السوري الحرّ”، فجميعها كانت أشكالاً من “ردّة الفعل” على عنف النظام المفرط أكثر من كونها مبادرة منظّمة أو ذات فاعلية عسكريّة جدّية. غير أنّ ما كان يجري في الغضون ويجري الإعداد له بسرّية وكتمان شديدين هو “الجماعات المقاتلة ذات المحتوى العقدي الصارم والصريح، وهو ما يمكن التعبير عنه بالثورة الجهادية التي لا يخفى عليها ذاك الرصيد التاريخي، فكراً وعقيدةً وعملاً وأهدافاً، ولا خبراته أو خبرات وقائع تيارات (الجهاد العالمي) التي تجوب اليوم ساحات العالم الإسلامي” وفق ما يؤكّد كاتب إسلاميّ التوجّه[2].
ثمة إذاً ثورتان: واحدة أرادها شبّان سوريا وشابّاتها معبّرةً عن تطلّعات السوريين جميعاً وتنشد وطناً لجميع مواطناته ومواطنيه، وأخرى عمل عليها ولها الإسلاميون بوصفها “ثورة إسلامية”، لا تتحدث عن مواطنين متساوين بل عن “مسلمين، وأهل ذمة، وكفار”، ولا ترى سوريين بل سنّة وشيعة وعلويين (أو نصيرية) ودروز ومسيحيين، فضلاً عن موقفها الظلامي من المرأة ودورها.
هذا ليس افتراضاً أو اتّهاماً وإنما موقف الإسلاميين أنفسهم، وقد عبّر الداعية الإسلامي غازي التوبة صراحةً عن رؤيتهم للثورة السورية، وذلك في معرض قراءته لكتاب برهان غليون “عطب الذات”. يقول التوبة: “من البيّن أن الثورة التي انطلقت في 15 آذار (مارس) 2011 في سوريا هي “ثورة إسلامية”، وأوضح ما يكون ذلك في المراحل التالية، من وضوح غلبة الجمهور الإسلامي على الجمهور الآخر غير الإسلامي، على اختلاف تصنيفاته من علماني وقومي وشيوعي واشتراكي وليبرالي إلخ، وتأكد في اعتماد الإسلام كمرجعية بصورة من الصور لدى معظم الهيئات والتجمعات والفصائل التي خاضت غمار المواجهة والقتال مع النظام وحلفائه”. ورأى أنّ اللبس الذي جعل بعض الكتّاب يتهمون الإسلاميين بأوصاف مثل: “سرقة الثورة”، أو “خيانة الثورة”، هو أن بدايتها لم تكن إسلامية بشكل صرف، إنما كانت خليطاً من الإسلاميين وغيرهم: في قيادتها وشعاراتها[3]. يتّضح هنا تبنّي الشيخ، شأن بقية الإسلاميين، تصوّراً يفترض كل مسلم إسلاميّاً بالضرورة، وشتّان ما بين الاثنين. وعليه، لن يكون من المبالغة القول، مجازاً على الأقلّ، إنّ أحد أبرز أسباب تعثّر الثورة الأولى (السورية) وانتكاستها يتمثّل في الثورة الثانية (الإسلامية).
تأثير “الإسلاميين” السلبي في الثورة السورية
من المعلوم أنّ إعلام الأسد واظب على وصف الثورة منذ أيّامها الأولى، بأنها مشروع “فتنة طائفية” يحرّكه إسلاميون متطرّفون يسعون لإقامة “إمارات سلفيّة”، في محاولة منه لتشويه الحراك المدني والتظاهرات الشعبية السلمية التي انطبعت الثورة بها طوال أشهر، ولتسويغ “الحلّ الأمني” الذي كان نهجه الأوحد في التعامل مع الشارع المنتفض. ولم تكن مصادفةً أن يصدر الأسد عفواً أطلق بموجبه سراح مئات المعتقلين الإسلاميين، بينهم جهاديون بارزون، من سجن صيدنايا، بينما التعذيب حتى الموت هو مصير المتظاهرين السلميين والناشطين المدنيين. ومن ثم فإنّ أخطر مفارقات الثورة السوريّة تمثّل في دفعِ الإسلاميين لها عبر خطابهم الديني/ الطائفي، قولاً وفعلاً، في الاتّجاه الذي أراده النظام، ليتصدّر المشهد “مجاهدون” يعادون الديمقراطية ويكفّرونها، على حساب الثوار من طلاّب الحرّية وشهدائها. كان لهذا التحوّل تأثيرٌ حاسم في عزوف قطّاعات متزايدة من الرأي العام، داخل البلاد وخارجها، عن تأييد الثورة الشعبية، بل معارضتها، بعدما كانت معقد الأمل في الخلاص من القهر والاستبداد.
إلى ذلك، يجدر التوقّف عند العلاقة المركّبة بين تصدّر الإسلاميين للمشهد واستدخال البعد الإقليمي باكراً في مجريات الثورة. فبمثل ما كان الدعم الإقليمي بشقّيه المالي والإعلامي سبباً رئيسياً في صعودهم السريع، شكّل الإسلاميون قاعدة التدخّل الأساسية والملائمة وفق ما اقتضته أولويات الداعمين ومصالحهم سياسياً وأمنياً، حتى أنّ خلافات الداعمين أنفسهم انعكست على الأرض عبر أدواتهم من الإسلاميين. من ذلك، مثلاً، أنّ السعودية وعلى الرغم من دعمها للمعارضة السورية صراحة وبأشكال مختلفة منذ بدايات الثورة، إلا أنّها في الوقت عينه لم تكن مرتاحةً لتنامي نفوذ “جماعة الإخوان المسلمين” ومن ورائها قطر وتركيا في أوساط المعارضة، سواء على الصعيد الميداني أم السياسي، لذا عملت على تظهير من يواليها من الفصائل المسلحة، وفي الهيئات السياسية ودعمهم.
هذا كلّه وجد صداه في الخلافات والانشقاقات التي عصفت بهيئات المعارضة والتشكيلات العسكرية، وكانت لدى هذه أشدّ فتكاً كونها تمظهرت في شكل “حرب أهلية” مصغّرة بين الإسلاميين أنفسهم، وبينهم وبين “الجيش الحر”. ومع تطوّرات الموقف الميداني غدا المقاتلون الإسلاميون، على اختلاف انتماءاتهم، سادة الجبهات والحاكم الفعلي لمعظم المناطق الخارجة على سيطرة النظام. وهنا استطاع الأخير قلب المعادلة لصالحه بالاستفادة من سلوك خصومه المفترضين من “المجاهدين” أنفسهم، وما يرتكبونه ويفاخرون به من ممارسات إرهابية، فنشّط شبكة هائلة من العلاقات العامة والضخّ الإعلامي بهدف تصيير “الحرب على الإرهاب” عنواناً أوحد لما يجري، بما يعنيه ذلك من تعمية على إرهاب النظام نفسه ونهجه الإبادي ضد المدنيين، وتسويق نفسه حليفا موضوعيا لكل من يرغب في “محاربة الإرهاب”.
ومنذ أن وجد تيار “الجهاد العالمي” موطئ قدمٍ راسخ في سوريا، عبر تنظيم “القاعدة” وفرعه السوري “جبهة النصرة لأهل الشام” بزعامة الجولاني، بات قسم غير قليل من “المكوّن العسكري للثورة”، بحسب وصف بعض منظري العسكرة، معرّضاً للوسم بالإرهاب، نظراً لتحالفات جمعتهم بالقاعدة/ النصرة. وزاد الطين بلّة انشقاقُ القاعدة الأكثر تطرّفاً: “الدولة الإسلامية”، وإعلان كثيرين من إسلاميي المعارضة المسلحة ولاءهم لها ومبايعة “الخليفة البغدادي”.
تبقى الإشارة إلى أنّ الانعكاسات السلبية لسيطرة الإسلاميين جاءت أضعافاً مضاعفة على النساء وحقوقهن، وباتت مشاركتهن في الشؤون العامة في مناطق الإسلاميين شبه معدومة، بعد أن كنّ عنصراً أساسيّاً فاعلاً في بدايات الحراك الثوري.
تأثير الثورة في الإسلاميين[4]
في مقابل تأثيرهم السلبي فيها، كان للثورة أيضاً تأثيرها في الإسلاميين. فالإسلام السياسي بوصفه تيارا يمارس السياسة ويعلن نبذه للعنف، ولو من باب التورية، رضخ لفكرة العمل المسلح مع تصاعد وتيرته للحفاظ على وجوده وأنصاره في ظلّ تزايد حضور “السلفية الجهادية” وفاعليتها في الساحة. وكذلك حال الإسلاميين الدعويين، ممن يعدّون العمل الدعوي هو الأصل، انجرفوا مع التيار وانخرطوا في القتال. وبذلك لم تعد “ثقافة الجهاد” وتبنّي العمل المسلّح بوصفه مبدأ أساسيّا ومنهجا عملا حكراً على السلفية الجهادية كما في السابق. السلفيون الجهاديون أنفسهم اضطروا أحياناً إلى التنازل لاستمالة الناس في بداية سيطرتهم على المناطق، ثمّ ادّعاء الانتساب إلى الثورة والإيحاء بالابتعاد عن تنظيم “القاعدة” لتجنّب الصدام مع الغرب، ولرفع الحرج عن الداعمين.
ومع مضيّ الوقت وانكشاف استبداد الإسلاميين وجهلهم في الحكم والإدارة، وفرض نموذجهم الظلامي المتشدّد، إضافة إلى صراعاتهم البينية بذرائع واهية، انفضّ الناس عنهم وفقدوا الثقة فيهم. فالترحيب والإعجاب السابق بالإسلاميين حين كانوا الأشرس في مقارعة النظام بعيداً عن الاحتكاك بالسكان المدنيين، تحول إلى نفور وكره، وبات خطر الإسلاميين وضررهم في نظر السكان أكبر كثيرا من أي فائدة قد تتحقق بوجودهم، فأصبحت شعاراتهم وسياساتهم مرفوضة، إلا لدى قلّة من المناصرين الملتزمين أو المنتفعين. على الرغم من ذلك، لم تدفعهم أخطاؤهم إلى أي مراجعة جدية، فالقادة بخشون الاعتراف بالفشل كي لا يخسروا ثقة الأتباع وولاءهم، فأصرّوا على التمسّك بخياراتهم الكارثية، وإذا اضطرّوا إلى ادّعاء المراجعة لا يتعدّى الأمر إيجاد التسويغات والحجج وإلقاء اللوم على الخصوم والغرب والنظام للتنصّل من المسؤولية.
يبقى أنّ المعارضين غير الإسلاميين (العلمانيين) ربما ما كانوا ليقدّموا إدارةً أفضل في تلك المناطق ضمن متغيرات الحرب والحصار غير أنّ هذا ما لم يجرِ اختباره، فالإسلاميون هم من تولّوا الأمر واحتكروه لأنفسهم، وحكموا بشكل سيء نفّر الناس منهم ومن المشروع الذي أرادوا فرضه، وستكون ضربة قاضية لهم، ما لم يقوموا بمراجعات جدّية ونقد ذاتي حقيقي يفضي إلى تغيير أفكارهم وأساليبهم.
خاتمة
باستثناء تطوّر سجّلته “حركة النهضة” في تونس على صعيد الفكر والممارسة، فإنّ طروحات الإسلاميين ومنطلقاتهم وتصوّراتهم وممارساتهم في الثورات العربية كانت أبعد ماتكون عن تطلّعات الشعوب الثائرة، وتتناقض مع طموحاتها لبناء دول ديمقراطية حديثة وعصرية. والسوريون ممن خضعوا لحكم سلطات الأمر الواقع الإسلامية أدركوا حقيقتها التسلّطية وزيف ادّعاءاتها الدينية، فهي تستخدم الدين وسيلةً لتخدير الناس وصرف أنظارهم عن ممارساتها وغاياتها الحقيقية. خروج آلاف في تظاهرات تندّد بتلك التنظيمات وقادتها، مراراً في مناطق متفرّقة تحت سيطرتها، يؤكّد رفض السوريين لهذه المشروعات، وعدم قبولهم بمستبدّ جديد ولو باسم الدين، فهل سيتعلّم الإسلاميون الدرس؟
هوامش:
[1] سبق للكاتب تناول هذا في دراسة بعنوان: قراءة في ظاهرة “أسلمة” الثورة السورية. نشرها مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية ومجلة صور، في 15 نيسان 2016
[2] أكرم حجازي: “الجيش الحر جبهة النصرة كتائب أحرار الشام خريطة القوى المسلحة”. شبكة فلسطين للحوار. (14/6/2012)
[3] غازي التوبة: الإسلاميون هم عماد الثورة السورية ولم يخونوها. “عربي 21″، 13 أيلول (سبتمبر) 2019.
[4] تلخّص الفقرة أجوبة ناشط إسلامي عن أسئلة وُجّهت له في أثناء إعداد الورقة، وأغفلنا الاسم حرصا ً على سلامته.
بروكار برس
—————————————-
سوريا بين فكي استبداد مدني ودولة دينية/ حسيبة عبد الرحمن
كثرت التساؤلات في السنوات الماضية عن مستقبل الدولة السورية، الاجتماعي والسياسي والثقافي، ولكل منهم حقله ومفاعيله ومنظوماته ومساراته. وسنخص بالنقاش موضوعا متصلا بهذه الحقول اتصالا عضويا، وهو بنية وطبيعة الدولة السورية المستقبلية: هل هي دولة علمانية؟ أم دولة دينية؟ أم ستبقى دولة هجينة؟
وللإضاءة على ذلك، لابد من عرض مكثف عن جذور العلمنة المبكرة في سوريا والمرتبطة بالمشرق العربي، وأسباب فشل تطبيقها.
أسباب فشل العلمنة في سوريا
بدأ الفكر العلماني القومي بالظهور في المشرق العربي أواسط القرن التاسع عشر (إبان الاحتلال العثماني) وترجم على الأرض بتكوين الجمعيات الفكرية والثقافية، وكان المركز الرئيسي لهذا النشاط مدينة بيروت (سوريا ولبنان كانتا موحدتين).
تأسست أول جمعية سورية لإحياء الفكر القومي العلماني (1857) الجمعية العلمية السورية، التي تأثرت بقيم وأفكار الثورة الفرنسية نتيجة الدراسة والاحتكاك والبعثات التبشيرية (إبراهيم اليازجي، محمد أرسلان، بطرس البستاني، فرنسيس المراش) وشكل هؤلاء المثقفون وسواهم، أحد أهم روافع الفكر القومي العلماني، وانضم إلى هذا التوجه (لاحقا) ضباط خدموا في الجيش التركي (وتأثروا بالثورة الفرنسية وبالفكر القومي الألماني) إثر فرض سياسة التتريك الإجبارية، ومن هؤلاء (مصطفى وصفي، وأمين الحافظ) بعد ثورة (1909) ونهوض القومية الطورانية، الأمر الذي أجج عوامل نهضة الفكر القومي وبلورته على الأرض، من خلال الانضمام إلى الثورة العربية الكبرى (1916)، ونيل دول المشرق العربي استقلالها ومن ضمنها سوريا (قلبه) عن الدولة العثمانية. لكن لم يمض عامان من الاستقلال (1918, 1920) إلا وانتدب الفرنسيون سوريا، بعد أن وجهوا لها الضربات المتتالية (ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر)، سواء للصناعات المحلية، أو لتراكم رأس المال (أثره السلبي في نهوض طبقة برجوازية ليبرالية). لكنهم استحضروا بعض مظاهر الحداثة سياسيا (الانتخابات), إضافة إلى مناح أخرى محدودة كالطرق!
وبنفس الوقت، حافظ الفرنسيون على البنى القائمة، وتحالفوا مع القوى التقليدية التاريخية والراسخة من التجار، ورجال الدين والإقطاع الذين شكلوا السلطة المحلية للانتداب، ولم تختلف الصورة بعد الاستقلال، فهؤلاء من حكم سوريا حتى الوحدة، وعادوا بمرحلة الانفصال.
وسنفرد لكل مرحلة أسباب العجز البنيوي عن بناء دولة علمانية ديمقراطية. ولن ندخل مرحلة الانتداب ومفاعيلها من توزيع طائفي ومذهبي وجغرافي مُدَسْتر بين (1920، 1936).
فشل في إنجاز المهمات الوطنية
وسنلج إلى مرحلة الاستقلال والنخبة المسماة زورا “ليبرالية” التي تعاقبت على حكم سوريا، وفشلت في إنجاز المهام الوطنية والحداثوية، ومنها العلمنة، وذلك لأسباب تاريخية واجتماعية واقتصادية ودينية، أهمها العجز البنيوي لارتباطها العضوي بالسوق العالمية وتبعيتها له، إضافة إلى البنية التجارية الركيكة للمدن وتحالفاتها مع رجال الدين (الكثير منهم تجار وملاك أرض) والإقطاع المسيطر على الاقتصاد ككل (المديني والريفي)، ودور هذا الثلاثي المتجذر في البنية السورية الاقتصادية والسياسية لعقود طويلة.
وهذه البيئة والبنية أفرزت الصناعيين ورجال الأعمال بطبيعتهم المحافظة وعلاقاتهم، وهو التحالف الضعيف الذي تحكم بمفاصل الدولة والسلطة في سوريا (المتعددة الأديان والطوائف والمذاهب والقوميات). الدولة التي خرجت للنور مضطربة الاقتصاد والسياسة والجغرافية والحداثة، دولة متشابكة ومتناقضة ما بين مظاهر الحداثة وبنى القرون الوسطى، هذه العناصر جميعها تشابكت وتراكبت، لتصبح سببا رئيسا من بين أسباب عديدة أخرى، عرقلت تبلور طبقة أو فئة اجتماعية تتبنى عضويا مفاهيم العلمنة والحداثة والحرية والتعددية، وتحمل مشروعا حداثياً جدياً بمنطوياته المتعددة، ومنها العلمنة.
هذا العجز البنيوي لليبرالية السورية (المستولدة من رحم الإقطاع وسواه)، هو من مهد الطريق جراء فشل سياستهم الاقتصادية، لاكتساح الأرياف معالم الدولة الحديثة، الأمر الذي أدى إلى إقصاء المدينة نفسها (ولو جزئيا) عن الأفكار العلمانية وعن التيارات السياسية الديمقراطية، وإلى تهميش الأرياف الذي وجد أبناؤها في الأحزاب العلمانية ملاذا، يعدهم بالمساواة والمواطنية المتساوية، ووجدوا في الجيش ميدانا للترقي الاجتماعي، فتضافرت تلك العوامل لإيصال الجيش إلى السلطة، بالتوازي مع حرب فلسطين (وقيام إسرائيل) التي كشفت عجز النخبة الحاكمة الوطني، فأطيح بها من قبل حسني الزعيم الذي أقر دستوراً اقرب للعلمانية (لم يذكر دين الدولة أو رئيس الدولة)، والذي أُخضع للتعديل (1950) مرحلة حكم أديب الشيشكلي بعد صراع طويل حول فقرتي دين الدولة ودين رئيسها، واتفق المعنيون على كتابة الدولة مجردة، في حين تم تحديد دين الرئيس (الإسلام).
وبقيت قوانين الأحوال الشخصية خاضعة للشريعة الإسلامية، وبهذا استمرت الدولة الهجينة (حتى الآن) رغم صعود أحزاب علمانية فاعلة آنذاك، ولكن اقتصر فعلها على الحقل السياسي والحكم، وغاب عنها الفعل التنويري، لأنها أرجأت كل مشاريعها التنويرية والحداثية إلى حين وصولها إلى السلطة. ولعل أبرز تلك النخب الحزب القومي السوري، الذي ناضل لتحقيق الحداثة والعلمنة (ضرب مبكرا) والشيوعي. أما حزب البعث، فلم يكن علمانيا، لأنه مزيج من الفكر القومي ذي البعد العلماني ومرتبط بحبل سرة بالتاريخ العربي الإسلامي.
عندما حكم البعث
ولذا عندما حكم البعث سوريا (1963) بانقلاب عسكري، حاول ضرب مواقع القوى الاجتماعية والاقتصادية الرأسمالية المدينية من خلال التأميم، والإقطاع بقوانين الإصلاح الزراعي، والمتحالفين معهم من رجال الدين، وأبقى على البنى القديمة القادرة على إعادة إنتاج المفاهيم التقليدية وحواملها الاجتماعية والثقافية، وعندما سن البعث دساتيره المؤقتة (الثلاثة) لم يجرؤ على فصل الدين عن الدولة، ولم يحدث ثورة أو إصلاحاً على مستوى التشريع بما يختص بقوانين الأحوال الشخصية (الدينية) ولم يخض معركة الحداثة، والعلمنة (كما فعل بورقيبة في تونس)، وإنما دخل بصراع على السلطة والنفوذ والثروة وتجريد القوى المناوئة من مكامن قوتها، وتم ذلك على مراحل، حتى عندما حكم راديكاليو البعث (1966، 1970) اقتصرت إجراءاتهم الجذرية على التأميم والمواقف السياسية، ولم يفتحوا معركة العلمنة نتيجة ضعف قاعدتهم الاجتماعية وحوامل الحداثة والعلمنة، ولخوفهم أيضاً من القوى المناهضة وتمردها واتهامهم بالكفر. وبالتالي، حافظت “الدولة” على صيغتها الهجينة.
حافظ الأسد.. علاقة وثيقة بين الدولة وعلماء الدين
وعندما جاء حافظ أسد (ذو الخلفية الأقلوية) إلى السلطة ونتيجة حاجته لتوطيد أسس نظامه السلطوي وفي سياقٍ سياسي متغيّر، أحدث تغييرات في البيئة العلمانية المحدودة، فقام النظام بالعمل على رعاية علاقةٍوثيقةٍ بين الدولة وعلماء الدين على وجه الخصوص (دار الإفتاء والأوقاف) وعقد تحالفاً وثيقا معهما بما يمثلان (إضافة إلى الكومبرادور). وهذه الصيغة شكلت ركائز معادلة حكمه (وأبقى مسحة علمانية لاستدامة تآلفه الخاص البيئي والسياسي) ولا تزال سارية المفعول.
هذا العقد التحالفي أنتج دستور (1973) الذي أعاد صيغة دستور (1950) إثر مظاهرات في مدينة حماة، ورفض رجال الدين للنسخة التي لم تأت على ذكر دين رئيس الجمهورية، وفي هذه المرحلة ازدهر بناء الجوامع ونشط الخطاب الديني الذي تزامن وازدهر مع بناء الجوامع، وذلك لإرضاء حلفاء النظام الجدد وقاعدتهم الشعبية، وللوقوف بوجه اليسار الراديكالي الخ.
استمر العمل بجوهر دستور (1973) بما فيه دستور (2012). ولم تطرأ تعديلات حداثية فعلية تتعلق بالعلمنة وعلى وجه الخصوص شؤون الأحوال الشخصية والتشريع المرتكز على الشريعة الإسلامية.
أما في ملف الأحزاب، ومع العلم أن تحالف النظام السياسي ذا الطابع (الشكلاني) مع الأحزاب الخمسة المشكلة للجبهة الوطنية هي أحزاب علمانية ومدنية. ورغم ذلك أصدرت الحكومة السورية قانوناً ينظم عمل الأحزاب السياسية (2011)، ولم يأت القانون في مواده على ذكر “العلمانية”، وإنما أشار إلى شروط التأسيس بعدم قيام الحزب على أساس ديني أو قبلي أو مناطقي أو فئوي أو مهني، أو على أساس التمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللون.
خطأ إطلاق صفة العلمانية على الدولة السورية
إن الوقائع سابقة الذكر، تؤكد خطأ إطلاق صفة العلمانية على الدولة السورية (المسيطر عليها من قبل الباتريمونالية، وتعني الإرثية الرأسمالية وإعادة إنتاج البنى التقليدية والغنائمية) وهذا ينطبق على توصيف المجتمع السوري أيضا ( المتعايش فطريا إلى أن يدخل الدين بالسياسة).
يضاف إلى تلك الوقائع، التذكير بأن المساجد والكنائس لا تزال كلمتها هي العليا، وقانون الأحوال الشخصية مازال ضمن إطار ومحور الشريعة الدينية، وفي المدارس لم تستطع المؤسسات التربوية إلغاء التربية الدينية، واستبدالها بمواد عن المواطنة. وأي مراقب محايد يلاحظ مؤخراَ ازدياد الجرعة الدينية في الدولة والمجتمع السوري من ازدياد معاهد تحفيظ القرآن إلى الجماعات الإسلامية مثل “القبيسيات” والجمعيات الخيرية، وتوسع ٍ في صلاحيات وزارة الأوقاف، وكأنها إعادة إنتاج وتجديد لتحالف النظام مع الأوقاف والإفتاء ولشرعيته بعد التحولات السورية الكبيرة، التي بدأت بالانتفاضة السورية كجزء من الربيع العربي (2011).
هل حجارة البركان السوري حجبت العلمنة؟
حمل الانفجار الجماهيري الكبير (2011) احتماليات مستقبلية كبيرة من مشاريع وبرامج جذرية لمسارات ديموقراطية وعلمانية (ونفث أيضا بواطنه المتخلفة). ولكن للأسف كانت قواه الفاعلة والمحركة, سياسيا وشعبيا, من الإسلام السياسي التقليدي بتلاوينه المتعددة، لأن اليسار الماركسي والقومي فقد مشروعيته ومشاريعه، والقوى الليبرالية (الحداثوية) ضعيفة، ولذا لم يُطرح أي مشروع نهضوي، واقتصر حقل الصراع على السلطة ( وأهمية صندوق الانتخاب)، ترافق ذلك مع تنظير بعض النخب العلمانية لمصطلح الدولة المدنية بدل العلمانية، كخطوة تراجعية عما طرح طوال العقود المنصرمة. وفي هذا الإطار، يأتي تخلي برهان غليون في مقابلته التلفزيونية مع المؤسسة الوطنية للإرسال (إل بي سي) عن الدولة العلمانية بما تمثل، إلى الدولة المدنية كمحصلة لاتفاقه مع الإسلاميين وغيره الكثير. وهذا التراجع هدف إلى تسويق مفهوم الدولة المدنية تمهيداً للحكم الإسلامي على النموذج التركي، وبرروا ذلك بأنه استبدال للاسم فقط، وليس المضمون.
فشل الانفجار العربي الكبير في معظم الدول (بما فيها سوريا) من تحقيق المأمول منه (ديمقراطية، حداثة، عدالة اجتماعية…) وانزلق نحو الحروب الأهلية في كل من ليبيا، اليمن، سوريا، والتي لا تزال دائرة.
حرب قادت سوريا إلى التطرف والتطيف والتقوقع، وربما التقسيم فخسر الوطن السوري (وغيره من بلدان المنطقة) فرصة تاريخية لبلورة مشروع تنويري حداثوي وديمقراطي، أو محاولة تقديم مشروع إصلاح جدي، كما حصل في القرن التاسع عشر والقرن العشرين على يد رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وقاسم أمين وطه حسين وعلي عبد الرازق وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم الكثير.
والسبب (كما قلنا) يعود إلى طبيعة الفواعل السياسية والاجتماعية في الحراك وبنيتها الدينية التقليدية، فهي قوى بدون مشروع ولا برنامج، وكل ما تطمح إليه السلطة السياسية والثروة وإدخال رأس مال بنكهة إسلامية (أصحاب رؤوس الأموال من الإسلام السياسي) في تماثلية شديدة الوضوح بين أحزاب الإسلام السياسي والقوى الحاكمة المستبدة (ذات القشرة المدنية) من حيث البنية الرأسمالية، والهدف المركزي السطو على السلطة، وغياب المشروع، أضف إلى أنهما قوى غير ديمقراطية. إن طبيعة الصراعات الأخيرة قادتنا إلى تراجع جديد في مسار المشروع النهضوي. وفي هذا السياق لن ننسى دور التدخلات الخارجية ومشروعها مع الإسلام السياسي “المعتدل”، الإخوان المسلمين، وإن تراجعت عن تحالفها معهم بعد سقوطهم في مصر.
مسارات الحل السوري وأفق العلمنة
بعد سنوات من الحرب الأهلية السورية المدمرة والصراع الدامي على السلطة والثروة وسمات الصراع المذهبي متعدد الوجوه، إن لم نجرؤ (من باب توخي الدقة) على القول بأن الصراع اتخذ شكلا وبعدا مذهبيا، لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقه الصراع المسلح بين النظام والأصولية الإسلامية (1979، 1982) وإن اكتسى قشرة تقدمي/ رجعي (ما يؤكد ما ذهبنا إليه أن النظام لم يكن يوما نظاما علمانيا) آنذاك.
وهذا الصراع المتجدد، يأتي في سياق اقتصادي واجتماعي وسياسي وثقافي، يتمظهر بالتوضع الطائفي والمذهبي نتيجة طبيعة وبنية القوى المتحاربة والمتخاصمة من حيث التركيبة الديموغرافية والمذهبية والفكرية القصووية المتقابلة. فالنظام السوري ذو الطبيعة الاستبدادية له سماته المذهبية والطائفية، ولاحقا جاءت بعض تحالفاته في المحيط الإقليمي (إيران) لتراكم رؤية وموقفا من النظام على أسس مذهبية من قبل كتل شعبية وقوى معارضة إسلامية، جاءت انتفاضة (2011) ومسارها، الذي جوبه وقطع بالعنف الوحشي الممارس من النظام، لتبلور معارضة تناقضه بالبيئة الاجتماعية وبالتوجه السياسي والتحالفات، وعناوين الصراع، قوى تعمل على القطع مع النظام والقتال ضده تحت شعار مذهبي دفع به إلى واجهة الصراع ومتاريس القتال من قبل الطرفين وعبّآ بيئيتهما، وشكّلا أدواتهما من ميلشيات عنف وعنف مضاد مع استخدام النظام لكل أدوات العنف في الدولة بحيث جر وحوّل الصراع، والذي كان يفترض أن يكون أفقيا، إلى صراع عامودي اجتماعي وسياسي، أسس لآفات تقسيمية طائفية ومذهبية مذرية، لأن طرفي الصراع بدون برنامج ولا رؤية، سواء للدولة أو للنظام، ومشروعهما السلطة، فالنظام دافع عن بقائه بكل الوسائل الدموية وغير الدموية، واستخدم ادعاءات الدفاع عن العلمانية (والأقليات) والممانعة وغيرها من الشعارات.
أما القوى المعارضة المسلحة الفاعلة على الأرض، وهي معظمها قوى إسلامية، طالبت بحقوقها (المفترضة) بحكم سوريا بما تمثل، ومن بينها الإخوان المسلمون. أما قوى المعارضة الأخرى، من يسارية وعلمانية وليبرالية، فهي الحلقة الأضعف (مفككة) وعاجزة عن الفعل.
والانتفاضة التي فتحت الباب أمام مشروع نهضوي تنويري حداثوي (كما ذكرنا سابقا) أغلقت الأبواب سريعا بالرتاجات بسبب طبيعة مواجهة النظام (استخدم كل صنوف العنف في وجه المتظاهرين) ورد الفعل من البيئة الواقع عليها العنف والقوى المشكلة والفاعلة لمواجهة هذا العسف، وتحولها السريع إلى الأسلمة، عدا عن وجود الإسلام السياسي الكامن في المجتمع السوري. هذه العوامل الداخلية، معطوفاً عليها التدخل الإقليمي الذي ضخ المال والسلاح من أجل إسقاط النظام وضرب ما يسمى الهلال الشيعي في منطقة هي قوس أزمات أصلا، فتحولت الساحة السورية إلى حرب خنادق بين طرفيين مستبدين وقصويين وقتلة، واستحضرت أشباح الماضي القاتم، وتجاهلوا عن قصد ابن رشد وابن سينا وغيرهم. وخسرت سوريا صياغة مشروع دولة وطنية ديمقراطية وعلمانية، بسبب غياب كتل شعبية لها أدواتها، تشكل حوامل هذا المشروع، واستطاعت القوى التقليدية الإسلامية السيطرة على الحراك وقيادته إلى حيث أرادت بدعم من الأطراف الإقليمية والدولية.
وبعد ثماني سنوات عجاف من أنهار الدم والتدمير والتهجير، وانهيار الحلم بالمشروع التنويري وسحقه، وتحوله إلى حلم ببقاء الدولة بحدودها الحالية وشعبها المتشظي إلى “ملل ونحل” وإنهاء الحرب بأبعادها كافة، وأهمه البعد المجتمعي والسياسي إثر بروز الهويات القاتلة (الطائفية والمذهبية) ما قبل مدينية، والذي يتطلب مصالحة وطنية مبنية على حل سياسي وتقاسم للسلطة بين النظام والمعارضة (بعد الفشل في إسقاط النظام). والسؤال الذي يطرح نفسه: أي معارضة سياسية، وهي إلى حد كبير افتراضية؟! هل هي المسلحة الفاعلة؟ وماذا سيكون دورها؟ وما هي طبيعة تحولاتها الداخلية، خصوصا والجزء الفاعل منها هو متطرف راديكالي؟ والذي يقود أيضاً إلى تساؤل عن الدور الذي ستلعبه هذه القوى (التقليدية والمتطرفة) مجتمعة في بنية وطبيعة الدولة القادمة وبنيانها، وإلى أي درجة ستخترقها؟ وعليه كيف سيعاد بناء هوية سورية وطنية؟
إنها تساؤلات جدية حول المستقبل السوري وسيرورة تطوره؟ وما هو شكل الدولة والحكم!
واستطرادا، من هي القوى التي ستحدد مستقبل سوريا الوطني؟ في واقع مدمى وممزق وممذهب، والذي يدفعنا لإعادة طرح علمانية الدولة مجددا كمفتاح لحل الأزمة السورية من أجل مجتمع موحد وسياسة معقلنة، دولة وطنية علمانية تضمن الوحدة الوطنية وتستطيع تجاوز الانقسام المجتمعي والشرخ البنيوي (بانتماءات ما قبل الدولة)، وفي الوقت نفسه تعبر عن مصلحة الدولة العليا، رغم ما يدور من التباس حول مفهوم العلمنة وارتباطه بأذهان العامة بالكفر…الخ، نتيجة الهجوم والتضليل الذي سيق ضدها طوال عقود مضت، بحيث لم يتم فهمها باعتبارها منظومة معرفية عقلية، وأحد وجوهها فصل ما هو دنيوي عن ما هو ديني.
كيف ستأتي العلمنة؟
والسؤال الذي يتلو بالضرورة هذه الرؤية: كيف ستأتي العلمنة؟ بإسقاط فوقي (وله مساوئ عديدة) أم تحتي؟ وأي كتل شعبية وطبقية ستكون رافعة للعلمنة وممثليها (سياسيا)؟ وهل ستحّمل اجتماعيا للأقليات، كحالة دفاع عن ذواتهم؟
عندئذ تعاد الكرّة ثانية حول محدودية القاعدة الاجتماعية الرافعة لها (أيا كانت) والقوى المالية والدينية والاجتماعية الكلاسيكية التي سبق وأفشلت وستفشل تطبيق العلمنة في مرحلة كانت القوى الحداثية والعلمانية في ذروة حضورها وفاعليتها ولديها مشروعية، خصوصا والمنطقة تمر بأسوأ مرحلة لا تقتصر على الإسلاموية، وإنما على التطييف والتمذهب كنتاج للحروب المدمرة التي اصطبغت بالداء المذهبي. وهذا ما يعّقد هذا الطرح ويدخله باب الأمنيات والترجي! أم علينا الانتظار إلى حين نضوج إرادة شعبية أفقية لها قواعدها الاجتماعية والسياسية؟
سورية مريضة
وسورية، في حالتها الراهنة، مريضة، وفي العناية المركزة، وتحتاج للعلاج السريع، علاج يفتح الأفق لدولة سورية سليمة البدن، بحيث لا تبقى رهينة حليّن كليهما مر، الأول: بقاء نظام استبدادي ذي قشرة علمانية، والثاني: الذهاب إلى دولة دينية متطرفة تقضي على ما تبقى من مؤسسات مدنية وهياكل دولة، خصوصا والنخب العلمانية السورية الحالية لم ولن تستطع فرض ذاتها على طاولة المفاوضات، وبالتالي على شكل وماهية الدولة السورية التي يعاد بناؤها وصياغتها، وسوف تكون محصلة موازين القوى الفاعلة في الداخل والخارج ومعظم هذه القوى، العلمنة ليست على أجندتها، وبالتالي لن يأتي الحل بدولة علمانية ديمقراطية على أسس المواطنة المتساوية، وإنما ستبقي دولة هجينة (بناء على توازن القوى) في حال جرى تقاسم في السلطة! أو يتكسر المساران (العلماني والهجين) ونذهب إلى تحاصص طائفي ومذهبي، وهو الطريق الأخطر على مستقبل سوريا، لأنه يؤسس لحروب أهلية متعاقبة. أو تخرج من بين الأنقاض نخبة جديدة تقنع السوريين بضرورة العلمنة ودولة القانون…الخ.
مهمة ممكنة وملحة
وإلى حين ذلك، لدينا مهمة ممكنة وملحة، وهي الضغط على اللجنة الدستورية (الشكلانية) المشكلة حديثا، لأجل صياغة دستور علماني ديمقراطي يحفظ حقوق المواطنين جميعا لبلد فسيفسائي الطوائف والمذاهب والقوميات والأديان وممزق. دستور قائم على مبدأ المواطنة المتساوية والتشريعات الوضعية. مع أني لست متفائلة لأن القوى الدينية ستكبح ذلك، خصوصا أن الولايات المتحدة ودولا أخرى تعمل على دستور طائفي كما في لبنان والعراق، وهذا ما اتضح من خلال تسريب أوراق نوقشت (لقاء الولايات المتحدة والأردن والسعودية ودول غريبة أخرى 2018) عدا عن طرح بعض المبعوثين الغربيين للديمقراطية التوافقية” المذهبية والطائفية ومحاولة إقناع بعض النخب السورية بهذا الطرح، فهل سيقبل الشعب السوري ونخبه بهذا الطرح؟
About the Author: Hassiba Abdel Rahman
حسيبة عبد الرحمن كاتبة وناشطة سورية أمضت ثماني سنوات في السجن، لثلاث اعتقالات. أصدرت روايتين عن سجن النساء (تجليات جدي الشيخ المهاجر) ومجموعة قصص قصيرة بعنوان (سقط سهواً) وكتاباً عن المجتمع المدني بعنوان (غزو المصطلحات) كما نشرت مقالات في جريدة السفير وتنشر الآن في جريدة حزب العمل الشيوعي
*تُنشر هذه المادة ضمن ملف “آفاق العلمانية في سوريا” بالتعاون مع “حكاية ما انحكت” و”جدلية“
————————————–