الآخر الذي هو أنا: شعبان عبّود يجعلنا نقف أمام المرآة/ وائل السواح
في مسرحية “يعيش يعيش” لفيروز والرحابنة تسأل هيفا (فيروز) سؤالا مخيفا. تقول مخاطبة الإمبراطور الذي أخذ اسم برهوم وفرّ من الحكم: “وك يا برهوم، بسأل حالي: اللي بيندفع حقه ناس ترى هو أغلى من هالناس؟”
الإجابة عن هذا السؤال تقف على حدّ السكين، وقد تهوي بك في لجّة التخوين والتكفير والترهيب. في روايته “ملكة الفوعة، تلميذ بنّش” يطرح شعبان عبّود هذا السؤال بشكل آخر، ويترك لنا أن نجيب عليه.
والحال أن هذا سؤال وجودي أكثر منه سياسيا. وقد سألت نفسي هذا السؤال منذ إطلاق أول رصاصة. وانقسمت داخليا في الجواب: فالقسم الإنساني كان يؤكد بوضوح على أن لا شيء يستحقّ التضحية بطفل أو صبية أو رجل أو امرأة لهم أسرة وأصدقاء ومحبون. أما السياسي الذي داخلي كان يقول إن الثورة لو لم تحدث اليوم لحدثت بعد سنوات، ولكان وقعها اشد مرارة. وأعتقد اليوم أن ذلك ما سيحدث بعد سنوات أو عقود.
في روايته الأولى (والمتأخرة؟)، يسرد شعبان عبّود عبر مائة وعشرين صفحة فقط قصّة بلدتين وحبيبين وطائفتين وعالمين. في بلدة بنّش ناس يقتلهم نظام طائفي دكتاتوري بغيض ويدفع بهم إلى الكره والحقد والقتل والتجويع. في بلدة قريبة منها، الفوعة، ناس يقتلهم الجوع والخوف واليأس والكره. بنّش بلدة سنيّة سورية؛ الفوعة بلدة شيعية سورية. بين البلدتين كيلومترات قليلة جدا، وشباب وصبايا البلدتين يدرسون في مدرسة ثانوية واحدة، ويتشاطرون الدروس واللهو والعشق أيضا.
من بين هؤلاء الشباب كان شاب وسيم، خجول، سيصبح فيما بعد صحافيا معارضا للنظام، سيدفعه موقفه السياسي إلى الهجرة إلى بلد يستطيع أن يكتب فيه دون أن يعتقل، فيسافر للولايات المتحدة مع زوجته وأولاده، ويدخلون في سيستم الحياة الأمريكية. بين الصبايا واحدة جميلة قوية الشخصية. لنتخيلها بكلمات الروائي نفسه: ” الفتاة التي كنت أفكر فيها ليل نهار، الفتاة التي كنت أحلم بها، أجمل فتيات الصف وأكثرهن أناقة وجاذبية وأنوثة، صاحبة الصوت المميز والمشية المميزة، حبيبتي التي كانت نظرات عينيها تخترق كياني، ولا أستطيع أن أفعل شيئا أمامها سوى الخجل والارتباك.” تابعت سلمى دراستها لتغدو مدرسة للغة الإنكليزية، وتتزوج وتنجب أولادا رائعين. الشاب أحبّ الصبية، ولكن خجله منعه من الاقتراب منها؛ الصبية أحبّت الشاب، ولكنها كانت تنتظر حركة أولى منه.
وأخيرا، لا! لم تنته القصة نهاية سعيدة. الشاب انشغل بمستقبله وعائلته وبلده الجديد. الصبية انشغلت بمدرستها وطلابها وعائلتها وولديها. ومرّت ثلاثون سنة. بدل النهاية السعيدة جاءت الحرب.
انتفض السوريون ضدّ الظلم والقمع والخوف والفقر. الصحفي الذي سافر إلى الولايات المتحدّة وقف بكل قوته مع ثورة أهله، ولكنه رُوِّع من كثرة العنف والدم الذي سال. في سوريا، وبين البلدتين. وتذكّر – فجأة – كما لو أنه صحا من حلم تلك الصبية الجميلة التي استأثرت في وقت ما بكل جوارحه. قرر أن يبحث عن حبه القديم، ليكتشف أنها ما زالت تعيش في الفوعة، تحت الحصار الذي كان أهالي بلدته “بنش” يفرضونه عليها. سيجد أيضا أن أحد أبنائها قد قُتِل في الحرب، وعلى أيدي مسلحين من بلدته محسوبين على الثورة، فيما ابنها كان يقاتل في صفوف ميليشيات طائفية محسوبة على النظام وحزب الله وايران.
قبل عامين، كان اثنان من أولاد أخيه الأقرب إلى قلبه قد قتلا: سارة ذات الأعوام الستة وأخوها بلال الذي يكبرها بخمسة أعوام جراء قذيفة مصدرها “الفوعة”. واحدة بواحد؟ واحدة باثنتين؟ سيعاني الصحفي من صراع مخيف: هل الخطأ يبرّر الخطأ؟ هل القتل يبرّر القتل؟ أثمة حرب ظالمة وأخرى عادلة؟
سيجد الاثنان طريقة للتواصل المباشر. وعندما يفعلان، يكتشف أن تلك الفتاة التي كان يعرفها ويحبها، تعيش في حالة من الحزن الشديد واليأس بسبب موت ابنها، حتى بدت كما لو أنها غير تلك الفتاة التي عرفها، فيقرر أن يفعل أي شيء ليعيد لها راحة البال ويخرجها من تلك الحالة، هو يقرر ذلك مدفوعا بصورتها التي في ذاكرته عن فتاة جميلة ومليئة بالحياة.
هي أيضا كانت تبحث عنه من بين الناس جميعا خلال مرحلة الحرب، ولم تكن تعرف ما الذي يدفعها لأن تبحث عن شخص بعينه من “بنش” التي قتلت ابنهالتبوح له بكل شيء.
يلتقي المراهقان وقد هرما، وواجها نفسيهما. من المحقّ بينهما؟ من الضحية: سارة ابنة أخ الصحفي، أم نور الدين ابن سلمى؟ من المجرم: القناص الذي قتل نور الدين، أم الطيار الذي قصف سلمى وأخاها؟
ولكن، ثمّة أسئلة لم يطرحها الكاتب: ماذا لو ولدتُ أنا علويا أو شيعيا أو مسيحيا؟ وماذا لو ولدت أنت سنيا أو يهوديا أو هندوسيا؟ ماذا لو كان والدي سني وأمي علوية؟ أي فرق أن أكون ملحدا؟ ألا أومن بأي إله؟ أسئلة كثيرة فتح لنا شعبان الباب على مصراعيه لتصفعنا، ونفشل في الإجابة عنها، فتعذّبنا أكثر. أوقفنا شعبان في المطهر، بين الجنّة والنار؛ أوقفنا أمام الآخر، فإذا بالآخر يطلّ علينا من مرآة مجلّلة بستارة، حين أزيلت، صفعتنا وقاحة الواقع.
بلغة جميلة في معظم أنحاء الرواية أوصل لنا شعبان رسالته. ولكنه لم ينسَ أنه صحفي، فمال إلى التكثيف والإيجاز، في مجال كان يمكن أن يفصّل فيه أكثر، أن يجعلنا نعيش أطول مع دقائق شخصياته التراجيدية. كان يمكنه أن يجعلنا نعيش أجواء بنش والفوعة والمدرسة وملعب كرة القدم لو أنه ترك لقلمه حرية أكبر في السرحان. ومع ذلك، هذا هو ما لدينا الآن: رواية من مائة وعشرين صفحة، وهي رواية جديرة بالقراءة والتأمل حقا.
خاص ألف