روائيون ونقاد عرب.. الرواية العربية بين إشكالية التجريب ومغامراته
(2)
ليندا نصار
ارتبط التجريب في الأدب بأسئلة الحداثة وتحولاتها الجوهرية وإسهاماتها في بناء وعي آخر بديل ممكن سواء أكان ذلك على مستوى الفكر، أم على مستوى ما هو أدبي في تجاور بين الموضوعات، أو ما هو فني؛ وهذا ما جعل من الأدب قادراً على اختراق الأزمنة واستشراف آفاق كتابية نوعية تسعى لتفجير كل ما هو جاهز وعابر. ويمكننا القول إن الرواية العربية قطعت أشواطا مهمة في بناء خصوصيتها، بدءا من الجيل المؤسس الذي استطاع أن يدخلها في خانات المحلي وينطلق بها نحو فضاءات مختلفة من العالم، غير أن ثمة مرحلة عادت فيها لتتقوقع حول نفسها وتدور في الاستعارة والنمذجة التي لم تواصل بناء ما قام بتشييده جيل من الروائيين العرب على الرغم من بروز تجارب روائية جديدة خلخلت كل الثوابت التي قامت عليها، ومنحتها خصوصيات على مستوى بناء رؤى مفارقة للتحولات التي يعرفها الواقع العربي.
هل نجحت الرواية العربية في الخروج من معطف استعارة الأشكال والعوالم من الرواية العالمية؟ وهل قام الروائي العربي بتبيئتها؟ هل استطعنا أن نواصل ما بدأه الجيل المؤسس؟ كيف تبدو الرواية العربية اليوم بين إشكالية التجريب ومغامراته؟- هذه الأسئلة وغيرها طرحناها على عدد من الروائيين والنقاد العرب في هذا الملف الخاص. هنا الجزء الثاني والأخير منه:
إسماعيل غزالي (المغرب): ليس عيباً إن استعارت أشكالها من المصادر الكونية للسرد
آن لهذه النظرة المرتابة إلى الرواية العربية أن ترتكن جانبا على قارعة السؤال، فليس ادعاء أو من قبيل الزعم، الجهرُ والإفصاح، بأن الرواية العربية الآن حقّقت جماليات نوعية متحولة، ومنزاحة، ذات تنوع وتعدّد وتشعّب، وعلاماتُ خصوصيتها دامغة.
ليس عيبا إن استعارت أشكالها من المصادر الكونية للسرد، لأنها جزء من كل، وبصورة من الصور الخلاسية تنتمي إلى هذه الشجرة العالمية وليست خارجة عن نسابة قيمتها الجمالية، كيفما كانت غائرة في محليتها، غير أنّ العيب هو أن ترتهن وتراوح مكانها في هذا العمل الاستعاري على نحو نمطي ودائم… بالمقابل ثمة تجارب فاتنة، لا تشبه إلا نفسها خرجت عن هذا التقليد الشائع حدّ الابتذال، وأسست لفرادتها الغريبة، وهويتها المدهشة باستقلال عن شرك المحاكاة والاشتباه بما هو نموذجي في هذه المصادر العالمية المنهمرة من كل صوب وحدب.
أشياء خطيرة حدثت في منحى الرواية العربية، والنقد العربي إما كسول أو جبان، في متابعة خطوط انفلات هذه الكتابات الجديدة، ذات المغامرة القصوى، والمجازفة العاتية فيما وراء الحدود التي انتهى إليها الجيل المؤسس بحسب تعبيرك.
المسألة لا علاقة لها بالتفاؤل هنا أو التبشير، وإنما ما أطلع عليه شخصيا، وفق ذائقتي الخاصة، نعم، قرأت وأقرأ لكتابة روائية مختلفة، ومغايرة ومتحولة جذريا، برغم قلتها، وهذا الطبيعي في العمل الروائي حتى عالميا، لأن الجدة والنوعية والخلق المغامر والجديد الذي يحدث رجة في الخرائط أو يفتح طرقا غير مألوفة، مسألة دائما ما كانت ولا تزال مخصوصة بأقلية لا أكثرية، وما نحتاجه هو الشجاعة والجسارة في اكتشاف هذه الأعمال المغمورة غير المكرسة، لأن مجملها نابت في ظلّ عتيد بعيدا عن البهرجة الإعلامية، وهامشية لأنها خارج مدار التواطؤ وصناعة المؤسسة والسلط.
أحمد عبد اللطيف (مصر): الرواية العربية قطعت شوطاً كبيراً في طور التطوّر والنضج
يتذرع الذين يهاجمون درجة الجودة في الرواية العربية بأن الرواية فن غربي، وأننا استعرناه منهم. لا أظن أن هذه ذريعة كافية لإقناعي بأن الرواية الغربية تتفوق على الرواية العربية، لم ندخل المنافسة بشكل عادل، على مستوى العالم، حتى نصل إلى هذه الخلاصة. لقد قطعت الرواية العربية فيما يزيد عن مئة عام شوطاً كبيراً في طور التطور والنضج، وأضافت لفن الرواية الكثير من العوالم الشرقية وأسئلة الفرد العربي والثقافة العربية. اختارت روايتنا الشكل الذي يناسبها، وعبرت عن نفسها بأفضل الطرق الممكنة، واستأنف شباب الكُتّاب تطورها بعد أجيال مؤسسة لها، واستعانوا بتراثنا السردي والصوفي لإثراء فن الرواية. ربما يكون الغرب من اخترع شكل الرواية، لكن فن السرد، المقامة والحكايات، كانت فنوناً عربية أفاد منها الغرب وواظب على ترجمتها. ربما هناك نقطة تحسب للغرب ما زلنا نتحسسها نحن بكثير من القلق: التجريبية. لدى الكاتب الغربي الجرأة على التجريب، على اللعب مع الشكل الروائي، هو أكثر انشغالاً بالراوي، موقعه في العمل، درايته بالأحداث. ورغم أنه انشغال جلي عند العديد من روائيينا العرب إلا أنه لا يعتبر انشغالاً عاماً في كتابتنا. مع ذلك، الأجيال الجديدة أكثر جرأة، أكثر تماساً مع الثقافات الأخرى وأكثر إدراكاً لفن الرواية كفن جمالي، وهي نقطة لا يجب أن نغفل عنها عند تقييم الرواية الجديدة في العالم العربي.
لدينا، بحسب ظني، كل المقومات الاجتماعية والثقافية، بل والتاريخية والسياسية، لصنع رواية تتفوق على الغرب، لدينا ثراءً في المجتمع ومشكلات خاصة بثقافتنا ستكون ضوءاً كاشفاً لثرائنا لو استغللناها كما ينبغي. ليس في ذلك مبالغة، لكن مستقبل الرواية في العالم سيكون في الهوامش، في العالم العربي، في شرق أسيا، في كل البؤر الملتهبة بالصراعات وتناطح الهويات. هنا حرارة الأدب، سخونة الحدث بوسعه أن يمنح قدرة للرواية لتتجاوز المألوف. الرواية الأفضل منذ النصف الثاني من القرن الماضي كانت الرواية الأميركية اللاتينية، ولن تمر ثورات الربيع العربي بكل إخفاقاته، ولن تمر السلطات العسكرية المناوئة للحريات، بدون أن تكون جزءاً من سردية عربية كبيرة، قادرة على السخرية والتجسيد، وقادرة على الفانتازيا والإلهام. لن تكون مبالغة، الرواية العربية، بحمولاتها الثقافية، بتطلعاتها، بتعبيرها عن واقعها المأساوي، ستكون رواية القرن الجديد.
إدريس الخضراوي (المغرب): ما يلفت الانتباه في نصوصها التجريبية ذلك التطور المهم الذي يمسّ مقوماتها السردية والتخييلية
منَ المؤكدِ أنّ الروايةَ العربيةَ منذ بداية الألفية الثالثة، دخلت مرحلةً جديدةً من التحولاتِ العميقةِ على الصعيدين الفنّي والفكرِي. ولفهمِ هذه التحولات لا بدّ من مراعاةِ مسألة أساسية مفادُها أنّ الروايةَ باعتبارها مقولةً أجناسيةً، ليست مجرّد اسم يُطلقُ من الخارجِ على النصوصِ، وإنما هي كتابة تتصلُ بسياقٍ سوسيوثقافي محدد، وبأفقِ انتظار يشتركُ القرّاء في تقاسم عناصره في مرحلةٍ معينة. وعلى هذا الأساس، نَحسبُ أن أيّ مسعى للإمساكِ بمنجز الروايةِ العربيةِ اليوم، ينبغي ألا يَنطلقَ من السؤالِ عمّا إذا كانت الرواية العربية قد تخلّصت من هيمنةِ الأشكالِ السردية الغربية، وإنما ممّا إذا كانت الرواية العربية، في الوقت الراهن، تشاركُ في توسيعِ المفهومِ عن الرواية في سياق عابر للثقافات والآداب، وبالتالي ما إذا كانت الرواية قادرة، بَعدَ الإنجازِ اللمّاح الذي قدمه نجيب محفوظ، ومن خلالِ النّماذج الجيدة، على بلورة جماليات مغايرة تَجعلُ منها ليس فقط رافدا مهمّا من روافد الإبداع العالمي، وإنما أيضا تجربة إبداعية مختلفة تَدفعُ النقد إلى إعادة النظر في الافتراضات المتمركزة التي ظلت تربط الرواية بالآداب الغربية.
إن ما يعطي المشروعية لهذا المنظور، هو الحضورُ الرفيعُ الذي تحظى به الرواية اليوم في الفضاء الثقافي العربي، والاهتمامُ الواسعُ الذي تَتمتعُ به على صعيد الإنتاج والمتابعة والتلقي، والجاذبيةُ الكبيرةُ التي تمارسها على مبدعات ومبدعين من أجيال مختلفة وبخلفيات ثقافية وفكرية متنوعة. لقد أصبحَ من الخطأ الاعتقاد أمام هذا الكمّ الكبير من الروايات التي تَصدرُ في أقطار عربية مختلفة، وما يلمسه القارئ للنصوص الجيدة من ضروب المغامرة التي يخوضها الكتابُ بحثا عن الفرادةِ والأصالةِ في مستويات السّرد وبناء الشخصياتِ والفضاءات والأزمنة، وعمّ يُغذي الفكر والوجدان والشعور، بأن هذه الأعمال الروائية لا تتكئ على أيّ جهدٍ جمالي في الثقافة العربية، أو أنها محصلة ذلك التوافق بين الشكل الروائي الغربي والمادة السردية المحلية.
نعتقدُ أن الرواية العربية تُمثلُ اليوم ظاهرةً ثقافيةً شديدة التأثير والأهمية في إبداعنا المعاصر. فهي تمدّ جسوراً قوية بين السّرد وأشكال المعرفة المختلفة لتَمثيلِ الغرابة المقلقة التي تكتنفُ الفرد في بيئة حضارية شديدة التعقيد والتحول. ويكفي إلقاء نظرة على التجارب الجيدة لنقع على كثير من العناصر التي تظهر أن الرواية العربية المعاصرة تَفتتحُ طرقا تعبيرية جديدة مستفيدةً من التطورات الكبيرة التي عرفتها الرواية على الصعيد العالمي. وعليه فما يلفت الانتباه في نصوصها التجريبية هو ذلك التطور المهم الذي يمسّ مقوماتها السردية والتخييلية، وأجواءها وفضاءاتها وعلاقتها بالواقع، وذلك الشكل من التأمل الذاتي الذي يسائل قدرة السارد على الإمساك بلغزية العالم الذي يسعى لرسم حدوده. ولما كان هذا المسعى الفنّي يحوّل، ضرورةً، الاهتمام بالقصّة المروية إلى الاهتمام بالتفاعل بين الرواية وجمهورها، فإنه يسهم في توسيع مفهوم الرواية، وفي تحريرها من ضرورات الاستنساخ، وتعميق قدرتها على قول كل شيء. وليس أدلّ على توسّع مفهوم الرواية العربية من تعدد الأجناس الفرعية التي يبدع فيها، اليوم، الكاتب العربي مثل: السيرة الروائية والتخييل الذاتي، والرواية التاريخية، ورواية الخيال العلمي، والرواية البوليسية.. وغيرها من أشكال الكتابة التي يَتعيّنُ التخييلُ فيها بوصفه أداة ضروريةً لإنتاج معرفة مضادة تُشخّصُ التوتر اللامنتهي بين الفردِ والمجتمعِ.
الناقد د. محمد الداهي: لكل شعب عقدته التاريخية وعلى الروائيين العرب أن يجسدوها بطريقة مجازية وفنية
في “الأيديولوجية العربية المعاصرة” (1967) بيّن عبد الله العروي طبيعة المفارقة التي تفصل الرواية العربية عن بنيتها الاجتماعية بحكم صعوبة استنباتها في تربة مغايرة لمنبت نبْعتها. كان عدد الروايات- وقتئذ- محدودا كما ونوعا، وطغى على الروائيين هاجس التجريب من أجل التجريب مقتفين أثر نموذج من النماذج الغربية المعتمدة.
وعندما أجريت حوارا مطولا مع العروي في 1996، اعترف بأن الملاحظة السابقة لا تنطبق على الرواية العربية الراهنة التي استطاعت أن تحقق طفرات نوعية، وتصبح “ديوان العرب الجديد” ومستودع تجاربهم ومآثرهم وتطلعاتهم. ومما زاد من ترسيخ مكانتها في المجتمع العربي إقبال دور النشر على طبعها، وارتفاع منسوب قراءتها مقارنة مع الأجناس الأدبية الأخرى، وإن ما فتئ ضعيفا ومحتشما، والإقدام على ترجمة عينات منها إلى اللغات الأجنبية، وحصول بعضها على جوائز هامة. ومع ذلك تبقى نقطة الضوء في صيرورة الرواية العربية حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، وما صاحبها من ترجمة رواياته إلى مختلف اللغات العالمية، وتنظيم ندوات دولية عنها، وإعداد أطاريح حولها في مختلف المؤسسات الجامعية والمحافل العلمية. ومما يعاب على مترجمي نجيب محفوظ تعاملهم معه بصفته “فلوبير العرب”، في حين كان حريا بهم أن ينعتوه بـ”بلزاك العرب” لعنايته بالتشريح الأخلاقي أكثر من التأنق اللفظي.
ورغم تضاعف نسبة ترجمة الروايات العربية إلى اللغات الأخرى، وفي مقدمتها اللغتين الإنكليزية والفرنسية، لم تحظ أية واحدة منها بالعناية النقدية الفائقة، ولم تصل أيضا إلى المراتب التي تشغلها قمم الإبداع العالمي، من قبيل “الجبل المسحور” لتوماس مان، و”البحث عن الزمن الضائع” لمارسيل بروست، و”صحراء” لجون ماري لولكليزيو، و”كاتسبي العظيم” لسكوت فيتزجيرالد و”عناقيد الغضب” لجون شتاينبك. وما يلفت النظر أن كثيرا من الأعمال الروائية العربية تحظى باهتمام النقاد العرب في لغاتها الأصلية، وتجد رواجا بين القراء العرب لقيمتها الفنية من جهة، وإثارتها لقضايا جديدة تؤرق الإنسان العربي من جهة ثانية، ومن جملتها نذكر “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي، و”ساق البامبو” لسعيد السنعوسي، و”موت مختلف” لمحمد برادة، و “في قلبي أنثى عبرية” لخولة حمدي، و”الحب في المنفى” لبهاء طاهر، ولكن عندما تترجم إلى اللغات الأجنبية لا تلقى الاهتمام والعناية نفسيهما. مع العلم أن جملة من روايات أميركا اللاتينية لغابرييل غارسيا ماركيز، وخورخي لويس بورخيس، وميغل أنخل أستورياس، وخوليو كورتزار، وكارلوس فونتيس وغيرهم اكتسبت الشهرة والصفة العالميتين، وأضحت من قمم الإبداع العالمي التي يعتد بروعتها الفنية وقدرتها على بلورة واقعية جديدة (الواقعية السحرية). هل مرد عدم تجاوب الغرب مع الرواية العربية (باستثناء روايات نجيب محفوظ) بما فيه الكفاية إلى الوساطة الترجمية التي لم تحسن التبليغ المنشود؟ أم إلى طبيعة المواضيع والشكل المسكوب فيها مما يجعل الغرب يردد “هذه بضاعتنا ردت إلينا”؟ أم إلى عدم قدرة الروائيين العرب على استيعاب “عقد شعوبهم التاريخية” كما فعل أندادهم في الغرب؟ لكل شعب عقدته التاريخية وعلى الروائيين العرب أن يجسدوها بطريقة مجازية وفنية في أعمالهم، كما فعل أندادهم في الغرب. فمجال الرواية هو ميدان السلوك، ليس السلوك الواعي أو الظاهر وإنما ما وراء السلوك، أي ذلك الشيء الموروث والمستقر في وجدان الشعوب وذاكرتها وتاريخها. وخيبة أمل العروي مع نجيب محفوظ تكمن في كون رواياته لا تكشف عن العقدة المصرية مكتفية بالموصوف فحسب. وهو لا يجدها في أفلام يوسف شاهين لأنها خارج اللعبة، في حين عاين بعضا من معالمها في فيلم “المومياء” لشادي عبد السلام، وفي رواية ” أديب” لطه حسين، وفي قصة ” قنديل أم هاشم” ليحيى حقي.
ضفة ثالثة