ليتشيه… موعد مع حلب التي عرفتها والتي ستكون/ مها حسن
في مدينة ليتشيه Lecce الإيطالية، كانت حلب القديمة بانتظاري.
ذهبت للمشاركة في مهرجان “حوارات حول المستقبل”، الذي ضم فعاليات كثيرة؛ سينما، مسرح، مطبخ، لقاءات، تواقيع كتب، حفلات موسيقى…
انتشرت الفعاليات في أرجاء مدينة ليتشيه المحتشدة بالمعالم التاريخية، المدينة التي تعتبر بمثابة المركز الثقافي لشبه جزيرة سالينتو، وتدعى بفلورانس الجنوب.
أكثر من ثلاثين مكاناً للفعاليات الثقافية والفنية، امتدت على مدار أربعة أيام، من العاشرة صباحاً وحتى الواحدة ليلاً. في الوقت ذاته، كانت تحدث عدة فعاليات في عدة أمكنة، الأمر الذي أقلقني وقلت لنفسي إن الجهور غالباً لن يهتم بندوة تقدم كُتاباً من الشرق الأوسط، وسوف يفضلون كتابهم الإيطاليين!
من مطار برينديسي حتى مدينة ليتشيه، استغرق الطريق بالسيارة قرابة الساعة. كنت أحاول فيها التملص من أسئلة مارسيو، الصحافي الذي تصادف وصوله من ميلانو، على طائرتي التي بدلتها هناك، ليقلنا السائق المرسل من قبل المهرجان إلى الفندق الذي يقيم فيه أغلب المدعوين. كنت أحاول مراقبة المكان المفعم بالشمس، بالحقول الخضراء ورائحة هواء تنقل لي روائح البلاد المجاوره، في بلادنا العربية.
لم يكن لدي وقت للراحة، وضعت حقيبتي في الفندق وأخذت خارطة المدينة بعد أن رسم لي موظف الاستقبال خط مسيري على الخارطة بحيث أصل إلى مكتب إدارة المهرجان: خمس عشرة دقيقة من السير! حدّد لي الموظف..
خمس عشرة دقيقة، كانت كفيلة بأن تجعلني أزور عدة بلاد في الشارع الطويل الممتد من الفندق حتى الكنيسة الضخمة (سانتا كروتسي) أو كنيسة الصليب المقدس التي صارت بمثابة نقطة علام أرتكز عليها لتحديد طريقي صوب الفندق أو من الجهة المعاكسة قادمة من الفندق صوب مقر إدارة المهرجان.
خمس عشرة دقيقة زرت فيها عدة مدن: مقطع من الشارع، وطريقة البناء، وتفاصيل الدكاكين والأسطح وأبواب البيوت، جعلتني أسترجع بعض يومياتي في مدينة مرسين التركية، ربما ثمة حضور للبحر الذي لم أره، لكنني شعرت به. في مقطع تال من الشارع ذاته، وجدتني في حي الأشرفية في حلب، أجهزة استقبال القنوات التلفزيونية “الستالايت” على الشرفات، جعلتني لا أصدق أنني في أوروبا.. في شارع تال جديد، داهمتني رائحة بيروت…
حلب القديمة
حددت اسم الشارع الذي سوف أسلكه بعد الكنيسة الضخمة، لأجدني في قسم مختلف من العمران، فأتزحلق بالذاكرة صوب حلب القديمة: الأزقة الطويلة الضيقة، الحجارة الملساء، الضوء المتسرب من آخر الزقاق، وروائح الطعام…
لم أكد أستوعب اختلاط الأمكنة أمامي في تلك اللحظة، حين وجدت قبالتي لوغو المهرجان مثبتاً على جدار كبير، لأضطر للتوجه إلى المقر، تاركة حلب التي اختبأت في ليتشيه تنتظر أن تفاجئني.
التقيت غابريلا مديرة المهرجان التي وجهت لي الدعوة، ورافقتني إلى مكان تناول الطعام، بينما أنا غائبة عن العالم، أسمع الإيطالية وأشعر بقوة أنني في حي الجديدة القديم في حلب، حين نتوجه إلى محل أبو عبدو الفوّال، الذي كان أحد معالم حلب القديمة.
ترددت في فتح هاتفي لالتقاط الصور، محاولة التركيز في الحديث الجاد حول المهرجان وترتيب تفاصيل ندوتي التي سأتقاسمها مع مجموعة كاتبات معنيات بالمنطقة وكاتب عراقي هو الرجل الوحيد بيننا.
تبعت غابريلا بقلق وأنا أدخل من زقاق لآخر، متسائلة بيني وبين نفسي: هل سأعرف التنقل غدا وحدي هنا، لإعادة اكتشاف هذه الشوارع الحلبية التكوين والروح؟ لأخفف قلقي، بدأت بنسج خطتي السرية للغد، بعد الانتهاء من ندوة اليوم الصارمة: الاستيقاظ باكراً، والمجيء لإعادة السير في هذه الأزقة، خاصة أن غابريلا أخبرتني بأن مكان الندوة في المساء يختلف عن مكان ندوتي الثانية في الغد. قد لا يتاح لي الوقت للسير مجدداً هنا، ليس أمامي سوى اقتراض بعض ساعات النوم الصباحية، لأعوضها بعد عودتي من إيطاليا.
عدت إلى الفندق لتبديل ملابسي والتحضير لندوتي بعد قرابة الساعة، حيث يمر فرانشيسكو لاصطحابي إلى مكان الندوة.
وصلت أمام ساحة مغلقة، تحوي مباني ضخمة، كأنها مسارح متصلة، أو كاتدرائيات، وفوجئت بجمهور كبير يزدحم في الساحة التي تحيط بها عدة مقاه. اقترحت على شايدا، الصديقة الإيرانية التي تعرفت عليها في الظهيرة، وقابلتها في الساحة، أن نذهب لنحتسي فنجاناً من القهوة، إذ لا يزال هناك قرابة ربع ساعة لبدء الندوة.
كنت مذهولة بالبناء، والموسيقى، وحضور كبير لعناصر الشرطة، الأمر الذي لم أفهمه، ولم أجد خطورة تستلزم وجودهم. جلسنا على طاولة أمام المقهى، تطل على الساحة، حيث البناء الشاهق الذي سنلجه بعد دقائق، انضمت إلينا لوتشيا وإيمانويلا، المترجمتان اللتان سترافقانني في ندوة اليوم والغد. لم أنه قهوتي بعد، حين رأيت شاباً يقترب من الطاولة، ويقول لصديقه الذي يرافقه: هذه مها! ثم اقترب مني أكثر وصافحني ملقياً السلام باللغة العربية. ظننته عربياً، حيث لغته الصافية لا تشي بغير ذلك. سألته عن اسمه: سلفاتورو، أجابني، وسرد لي سريعاً علاقته باللغة العربية وعشقه لدمشق التي تعلم فيها العربية وحبّه لبلاد المشرق العربي، حيث تجول في لبنان والأردن ومصر، وعاش لسنوات طويلة في هذه البلاد.
لم يكن قلقي في مكانه فيما يتعلق بحجم الحضور، بل إنني لم أر من قبل جمهوراً يتوافد على الصالة حتى اللحظات الأخيرة من الندوة. كان الإصغاء قوياً وشعرت برهبة المكان وصدق الجمهور الذي خمّنت أن بعضه تأخر، حيث حضر ندوات أخرى، وغادرها، ليلتحق بهذه الندوة.
في الصباح، طبّقت خطتي السرية: أفقت باكراً جداً، تناولت قهوتي وفررت من الفندق قبل أن أصادف من يعرقل مسيري، وذهبت كأنني على موعد سري مع صديقتي الشخصية: حلب التي لمحتها البارحة وأجلت اللقاء الحميمي حتى اليوم.
حلب التي ستكون..
لم تخيّب حلب ظني. رأيتها. كانت الشوارع خالية في صباح الأحد المبكر، وتسنى لي شم رائحة الحجارة والجدران، التقطت الكثير من الصور، في كل تفصيل كنت أرى حلب، ثم أرى صلباناً وأمارات البناء الباروكي الذي تُعرف به هذه المدينة، وتنتشر فيها القصور الشاهقة، والساحات الكبيرة، والقلاع والكاتدرائيات. أقول لنفسي إنني في أحياء السليمانية، حيث الأغلبية المسيحية في حلب، أو في أحياء القلعة وباب الحديد وقارلق وجب القبة. ولكن ربما في الزمن القادم، حيث لن تفرّق الأديان بين أهل حلب، الذين عاشوا دائماً في توافق وانسجام، وسيكملون هذا في الأزمنة القادمة.
شعرت بقشعريرة تسري في جسدي وروحي، حين تخيلت أنني في حلب القادمة، حلب التي ستأتي على هذه الصورة من النظافة والترتيب والجمال والفخامة العمرانية.
قالت لي هويدا، الصحافية اللبنانية التي شاركتني ندوة المساء: هل لاحظت نظافة الشوارع والأزقة؟ لم أكن قد انتبهت. نعم، يمكن لأحدنا السير بقدمين حافيتين في شوارع ليتشيه، أعني في شوارع حلب القادمة بلا ريب.
في نهاية الندوة التي تقاسمتها مع شايدا وهويدا، برفقة لوتشيا وإيمانويلا، وبعد أن تحدثنا بألم طويل عن معاناة شعوبنا ونسائنا، اعترفت بسرّي الصغير: التقيت حلب هنا، حلب التي عرفتها، وحلب التي ستكون.
قال لي سلفاتورو وأنا أغادر المسرح الكبير، حيث مكان الندوة: صديقة جاءت من حلب، قالت لي الأمر ذاته. ابتسمت وقلت له: هذه أسرار بنات حلب، ولكننا لا نخفيها، لأننا ننتظر هذا اللقاء هناك… أن نقيم ندواتنا هذه، بحرية كبيرة، دون خوف، في حلب التي تقع هناك، في سورية.
(فرنسا)
ضفة ثالثة