في مديح الحب/ رشا عمران
“الحب ليس سوى عدوى ووباء”، قالت الشاعرة الأميركية المنتحرة آن سيكستون في قصيدتها “أريد أن أموت”، وانتحرت بعدها بقليل. لم تنتحر بسبب الحب، بل بسبب ميولها الانتحارية والاكتئاب الهوسي المزمن الذي كانت تعاني منه. لا أحد ينتحر بسبب الحب. دائما هناك دوافع أخرى، قد يكون الحب الفاشل أو الفقد أو الهجر سببا مباشرا لظهورها، لكنه حتما ليس سببا للانتحار، إذ مهما بلغ الكائن البشري من الضعف والعجز، فإن قدرته على التأقلم والعيش وحيدا عالية جدا، إنْ لم يكن مصابا بميولٍ انتحارية، أو إن لم يكن يعاني من فرط الإدمان الذي يجعله يدمن كائنا بشريا آخر، وذلك بالمعنى الفعلي لمفردة إدمان الحبيب، لا بالمعنيين، المجازي والشعري. إذ اعتدنا على قول جملة “أنا أدمنتك” للآخر الذي نحبه، تعبيرا عن شدة حبنا له. ولكن في الحقيقة، حين تنتهي علاقة الحب، نكمل حياتنا وندخل في تجارب وعلاقات أخرى، وهكذا.
الحب يشبه الوباء، معها كل الحق آن سيكستون، فحين نكون صادقين في مشاعرنا ونترك أنفسنا للحب، من دون أن نهتم بوضع العتبات الواقية، ومن دون أن نكترث لحساباتٍ نفسية، قد تكون ضروريةً لمن يبحث عن ثبات المشاعر، فإننا نمرض بالحب فعلا، أو ربما نمرض منه، لا فرق أبدا. لكن لا يمرض من الحب سوى الشجعان، على عكس ما يقال، إن المحب ضعيف، فالضعف أن تبتعد عن الحب، أن تضع مسافة بينك وبينه، أن تراقبه من بعيد وهو يدخل كاللص إلى قلب آخر، يسرق منه أمانه، ثم تضع يدك على قلبك، لتطمئن إلى سلامته، وتبعد نظرك كي لا يظن الحب أنك تناديه. الضعف هو أن تكون في منجىً من كسرة القلب، أو أن تكون سببا بكسرة قلب شخصٍ آخر أحبّك.
الضعف صنوٌ للأنانية، عكس الشجاعة. الشجاع غيري، يعطي من دون حساب. الضعيف يأخذ من دون أن يتوقف. يعتاد على هذا، خوفه يجعله يطلب المزيد، وكأنه في أخذه يحاول أن يملأ المساحة الفارغة في روحه، الفوّهة الواسعة التي لا يسدّها سوى الحب. الحب تجاه شريك ما، العشق والهوى والوجد، لا الحب المجرّد، إذ ثمّة ما يبقى ناقصا في الحياة إن لم نختبر هذا الهوى، وإن لم يتلف الوجد جزءا من أرواحنا وقلوبنا. هذا التلف الذي ليس سوى الحب، هو الحرية الكاملة، وهو القوة كما يراها أرسطو، “القوة التي لا يمكن إدراكها أو شرحها، التي تبدل شخصية الإنسان لتظهرها على حقيقتها، ومن ثم تظهر الأنا المختفية، حيث إن ما يخفيه الإنسان من مشاعر سيظهر مع الحب، فيتخلى عن حب السيطرة والأنانية والتملك”؛ الحب إذا هو المفهوم الأوضح للحرية، وليس قيدا كما تُبديه لنا ثقافات بطريركية ذكورية، تضع شرط الارتباط الشرعي للحب.
لا أحد يموت بسبب الحب. هناك عوامل بيولوجية تجعل الكائن البشري على حافّة الموت. قد تساعد شدة الحب على إظهارها. حدث هذا معي ذات يوم، وقد يحدث مرّات أخرى، فأنا لا أنوي التوقف عن الوقوع في الحب. قد أقول لكل رجلٍ أحببته الكلام نفسه. وسأصف الجميع بالصفات نفسها، ولن أكون كاذبةً، ففي الحب شيء من المبالغة، وفيه أيضا مقدرةٌ على الكشف، إذ تظهر كل احتياجاتنا ومخاوفنا معه، وبقدر القلق في حياتنا نتعلق بالحب الذي نعيشه. شدة الحب تتناسب طردا مع شدة احتياجاتنا الإنسانية. لهذا تختلف شدّته من علاقة إلى أخرى، إذ ليس صحيحا أن المرء يحب مرة واحدة ووحيدة في حياته، كل حب حقيقي هو الحب الوحيد، وكل وقوع في الحب هو الوقوع فيه لأول مرة، وقد يرتكب المحب الأخطاء نفسها التي ارتكبها في السابق، فمن قال إن الإنسان يتعلم من أخطاء الحب؟!
من لا يرتكبون الأخطاء نفسها لا يحبون، أو على الأقل لا يتركون أنفسهم على سجيّتها، والحب حتما ليس أعمى، فنحن عادةً ما نحب أشخاصا متشابهين من دون أن ننتبه. ليس التشابه في الشكل الجسدي، بل في الشكل الاجتماعي وفي الصفات النفسية. نحب الأشخاص الذين يضغطون على ما هو مخفيّ في لاوعينا. وعندما يوجعوننا بشدة، نهاجمهم، ونقول إننا كنا عميان بسبب الحب، بينما الحق أن للحب باصرة مدهشة، تكتشف كل نقاط ضعفنا، ثم تضعها أمام أعيننا بوضوح. لهذا ربما يبتعد عنه من يعيشون في ظل أقنعةٍ متراكمة، من يخشون من إظهار حقيقتهم، من يخافون من الكشف، بينما يُقدم عليه من لا يهتم بصورة الآخرين عنه. الحب هو الاستغناء عن صورتنا الجيدة لدى الآخرين، واستبدالها برضانا عن أنفسنا فقط.
العربي الجديد