السنّة السوريون وخروفهم الأسود إياد شربجي/ وليد بركسية
لا يمكن النظر إلى الهجوم الذي تعرض له الصحافي والناشط السوري المعارض إياد شربجي، على خلفية مقارنة مثيرة بين النبي محمد والديكتاتور السوري بشار الأسد، طوال الأيام الماضية، من دون التدقيق في الهويات الطائفية التي تحكم بلداً ممزقاً مثل سوريا، والتي أثبتت الحرب المستمرة فيها منذ 8 سنوات، أن فكرة وجود هوية سورية ليست سوى وهم رومانسي في أفضل الأحوال.
وفيما يبدو الجدل للوهلة الأولى مندلعاً بين معارضين سوريين حول هوية الثورة السورية ومعناها، وإن كانت في أساسها قامت لتعزيز الحريات بلا حدود بما في ذلك حماية حقوق لا تحبذ المجتمعات العربية الحديث عنها مثل حقوق الحرية الدينية والجنسية، كالإلحاد مثلاً، أو أنها قامت كحركة تمثل صراعاً على السلطة فقط من أجل استبدال حكم علوي بآخر سني ضمن مفهوم الهويات الطائفية. فإن نظرة معمقة تبين أن الجدل منحصر بشكل أساسي ضمن السوريين من الطائفة السنية تحديداً، وتوسع ليشمل تعليقات من أشخاص يعرفون عن أنفسهم بوضوح أنهم مسلمون عرب سنّة ويرفضون هذه النوعية من الخطاب “التحقيري”.
ويعود ذلك لأن الخطاب الذي يقدمه شربجي، في منشوره الجدلي ومنشورات سابقة، يمثل شرخاً للصف السني نفسه من داخله، بوصفه هوية جمعية تتخطى المعنى الروحاني للكلمة، نحو المعنى السياسي، وبالتالي المعنى الوجودي. ويرتبط بحقيقة تحول الدين في المنطقة إلى محدد للهوية، على المستوى الشخصي والجماعي، بدلاً من كونه مجرد اعتقاد، حيث غذت هذه الهويات الجديدة – القديمة سياساتُ دول المنطقة، والتي يمكن الدلالة عليها بالخطاب المذهبي الذي ينشره موالون للأنظمة أيضاً، مثل ما كتبه الباحث المقرب من النظام السوري نبيل فياض في “فايسبوك”، الخميس، حول عدم إمكانية تعايش “سوريا الحضارية”، من الأقليات كما كان واضحاً من النص والتعليقات ضمنه، مع أهل إدلب وأريحا والباب، أي السنة عموماً.
وهكذا، فالسوريون السنة مثلاً يشعرون على الأغلب بأنهم في خطر وجودي نتيجة سياسات محلية تهميشية، عززتها حملة الإبادة التي قام بها نظام بشار الأسد وحلفاؤه، ضدهم، ومشروع التشييع الذي تقوم به الميليشيات الإيرانية. وتعمل هذه السردية على تعزيز الانتماء الديني كمحدد للهوية التي تصبح مرادفة للحق في الوجود، علماً أنها تتكرر لدى بقية الطوائف الدينية في البلاد كل على حدة، وتنشر كل طائفة بشكل منفرد إحصاءاتها الخاصة حول إفراغ البلاد من أبنائها، وظهرت ربما بشكل واضح في الحالة المسيحية السورية عند طرح مشروع القانون رقم 16 الخاص بوزارة الأوقاف في البلاد العام الماضي.
وبالتالي فإن النقمة على شربجي، وأي منتقدين آخرين من السنة للهوية السنية القائمة على النص الديني المقدس، تبدو أكبر من نظيرتها التي تواجه الانتقادات التي قد تأتي من طوائف وأديان ومذاهب أخرى، والتي عند حدوثها يتم الرد عليها بتحقير طائفي معاكس، وهو ما حصل مثلاً في حالة الممثل المعارض فارس الحلو في تموز/يوليو الماضي، الذي هاجم الفكر الأخواني سياسياً عبر “فايسبوك”، من دون الحديث عن الإسلام نفسه، وكانت الردود حينها تركز على وضع التعليق في خانة طائفية بوصفه صادراً عن مجرد “مسيحي حاقد”، ما يستوجب الاستهزاء به، أكثر من التنصل منه، كما يحصل مع شربجي، الذي يحيل البحث عن اسمه في “فايسبوك” و”تويتر” إلى العديد من المنشورات من سكان مدينة داريا التي ينحدر منها، والتي يتبرؤون فيها منه، بوصفه خارجاً عن الصف والإجماع، ما يحيل بدوره إلى خطاب التخوين والعمالة، وهي اتهامات لا تتوجه إلى منتقدي الفكر الديني من غير المسلمين، وتحديداً من غير السنة.
وهنا تعددت الاتهامات التي طالت شربجي، من الكفر والردة إلى العمالة والخيانة وصولاً إلى اتهامات بتلقي الأموال مقابل الإلحاد، وإن كان شربجي في منشوره يقارن بين الأسد والنبي محمد، فإن أتباع الرجلين يقدمان اليوم نفس النوعية من الخطاب ضد معارضيهم، فيقول أتباع الأسد عن الثائرين السلميين الأوائل أنهم تلقوا الأموال من دول خليجية وعربية للخروج في مظاهرات، وهو ما كرره الأسد بنفسه قبل أيام في لقاء تلفزيوني. أما منتقدو شربجي ممن يعرفون في منشوراتهم عن أنفسهم بأنهم مسلمون سنة، فكرروا عبارات مثل: “كم دفعت لك أميركا كي تصبح ملحداً؟”.
الملاحظ هنا أن الردود تأتي من أفراد وليس من مؤسسات، كما كان الحال سابقاً، ولا يعود ذلك لتفاوت في الأهمية بين شربجي، وهو شخصية اعتبارية إلى حد ما لكونه صحافياً، ومنتقدين آخرين، بل لأن المؤسسة الدينية التقليدية لم تعد مقتصرة على هيئات رسمية توجه جموع المؤمنين وتحرم وتحلل على مزاجها وتلقي الاتهامات هنا وهناك، حتى في الحالات التي لا تستحق التفاتةً من الآلهة الأسمى شأناً كتحريم الألعاب الإلكترونية مثل “بوكيمون غو” مثلاً، حيث باتت تلك المؤسسة أكثر التصاقاً بالمؤمنين أنفسهم، وتتحرك خلفهم ومعهم في آن واحد، بقوة السوشيال ميديا على الأغلب، والتي قد تكون الأداة الأكثر مباشرة لعكس صورة المجتمعات العربية اليوم، ككانتونات طائفية، تنتفي معها معاني الهويات القومية الأوسع.
ومن المؤسف، الاضطرار للكتابة مجدداً عن مدى تراجع الحريات الأساسية في المنطقة العربية، حيث يجب الدفاع مرة أخرى عن حقوق الأفراد في تجاوز المقدسات والتعبير عن أفكارهم حتى لو كانت تلك الأفكار تتضمن الإلحاد والسخرية من الرموز الدينية والانزعاج من حالة الحصار التي يفرضها الدين على الحياة اليومية في الشرق الأوسط، حتى لو وصل ذلك التعبير إلى حدود قصوى ومستفزة كالمقارنة بين ديكتاتور دموي أباد شعبه وبين نبي يقدسه الملايين حول الكوكب.
وربما لا يوجد كثير من الأمل بخصوص معركة الحريات في المنطقة، طالما أن دول منطقة الشرق الأوسط عموماً، بما في ذلك سوريا، مازالت بعيدة عن التحول إلى دول مدنية ديموقراطية تكفل تلك الحقوق، وهو ما تطالب به ثورات الربيع العربي التي تجددت في عدة دول عربية مؤخراً. وحتى ذلك الوقت، ستبقى مجتمعاتها الميليشياوية الضيقة تعبر عن نفس الخوف المرضي من “الخراف السوداء” ضمنها، باعتبارهم خطراً يهدد تماسكها في المعركة الطائفية التي آل لها أن تتنتهي مرة واحد وللأبد.