الناظرون إلى الخلف/ جيان ابراهيم
– Sen nerelisin?
– Ben Suriyeli(فراغ).
– من أين أنت؟
ـ من حيث لا يوجد ميترو ولا خط أصفر تنبيهيّ في محطاته، فأنا «سوريالي».
باستخدام تركية صحيحة، يجب أن يكون الجواب (Ben Suriyeli(yim، لكن المِيم تسقط من جواب اللاجئ تحت تأثير صدمة اللغة الجديدة، فتجعل منه واحداً آخرَ إضافياً من بين آخرين كثر، لا شئ لديهم مميزٌ يستحق التعرف إليه؛ انتقلوا من وطن متغير بعنف إلى آخر قد يصبح وطناً جديداً، وطناً مُركّباً، أو لا وطناً… في الفراغ، فراغ يشبه ذاك الذي يتركه غياب المِيم في آخر كلمة «سوريالي».
الفراغ الميميّ
ما إن يبدأ اللاجئ بتعلم اللغة؛ مستبدلاً التأتأة بقواعد سليمة وإن لم يتحسن اللفظ، أي لم يصبح تركياً، سيمتلئ الفراغ بـ «المِيم»، اللاحقة العائدة على ضمير المتكلم أنا/Ben، وستتحول الـ «سوريالي» إلى سوريالي(م).
قد يكون التطور القواعدي انتصاراً من نوعٍ ما على مماهاة الفرد مع المجموعة التي تشاركه المكان الذي جاء منه، فاللاجئ يضيف المِيم ليس لينشقَّ عن المجموعة بالضرورة، ولكن لأنه بات موجوداً كفرد مستقل لغوياً أيضاً. إلا أن الفراغ ينجح بالتسلل إلى لاوعيه، متهكماً من محاولاته إثبات فردانيته عبر تجاوز الخطأ القواعدي الشائع، وتتحول «سوريالي» إلى زلة لسان تشكيكية وتوصيفية في آن.
فللاجئ مكانٌ وماضٍ سريالي أتى منه، ومكان أكثر سريالية يعيش فيه، وحاضر مبني على الشك في كل ما مضى. وله أيضاً مكانٌ في مستقبل مبني على صورة الفرد اللاجئ نفسه، سريالي بدوره وغير قائم على براغماتية حياة اللجوء أو متطلباتها المنطقية، وإنما على الماضي الذي يتشبث ليس بذاكرته، فالذاكرة من شأنها أن تنشغل بالماضي، وإنما بمخيلته ونواياه التي لا بدّ أن تتحول إلى أفعال.
الخط الأصفر
يغطي الخط الأصفر التنبيهيّ مسافة نصف متر تقريباً من منصة الانتظار في محطة الميترو، مقسّماً المكان إلى الجزء ما خلف الشريط/ ما تبقى من منصة الانتظار، أي العودة إلى الخلف حركياً، الماضي زمنياً، والوطن/سوريا المختزن في الذاكرة، ذكريات واعية أو لا واعية أو كامنة؛ والجزء ما بعد الشريط/الحفرة حيث مساق الميترو، التقدم نحو الأمام حركةً… المستقبل زمناً، الوطن مُركَّباً أو شبه مُركَّب من سوريا وتركيا. والشريط نفسه حيث تُكتب بأحرف تركية ذات لون أبيض Dikkat Tehlikeli/ (احذر/ خطر)، وهو المكان حيث السكون هو الحركة، والزمن هو الحاضر مُسقَطاً عليه الماضي، مساحة سورية جدلية تتفاوض مع نظيرتها التركية كـ «آخر» اضطراري في ما يمكن أن نسميه وطناً مؤقتاً. أما الحركة فهي النشاط اللغوي…معرفة/ إتقان/ تعلّم/ استخدام/ الرغبة بتعلم/ الرغبة باتقان/ عدم الرغبة بكل ما سبق، مع الامتناع عن التحدث باللغة التركية مصحوباً باستخدام متزايد للغة العربية/ اللهجة السورية كلما قلّ النشاط اللغوي المتضمن اللغة «الأخرى»، التركية.
في هذا السرد، تنشط لغوياً أربع نماذج/لاجئين سوريين، تتحرك خلفاً وأماماً وتسكن. وستتم الدلالة على الشخص في كل نموذج باسم توصيفي يعبر عن علاقته/ا بمفهوم الوطن وفقاً لنشاطه/ا اللغوي وهم روبنسن كروزو؛ السائحة؛ المهاجرة من الجيل الأول؛ المجنّسة. وبينما لا يتفق الأربعة على تعريف موحد للوطن، يؤكدون جميعهم أن مفهومهم عن الوطن قد تغير بفعل الثورة ثم الحرب في سوريا، وشكل كلٌّ منهم تعريفاً شخصيا للوطن بناءً على تماهيه الشخصي المتفاوت مع تركيا؛ كآخر جغرافي ولغوي.
النموذج الأول: روبنسن كروزو
سامي(26 عاماً)، صحفي من دمشق قدم إلى تركيا عام 2015 ومقيم في اسطنبول، لا يتقن اللغة التركية ولا يرغب بإتقانها، تحرَّكَ بدء مجيئه إلى تركيا نحو الخلف ليتوقف بعد فترة قصيرة عن الحركة، منتهياً بحالة من السكون.
وطن استعادي
في الحركة إلى الخلف، العودة النوستالجيّة إلى ما هو أليف ومفهوم ومعتاد، عاد سامي إلى الوطن الأول، الوطن قبل الثورة، حيث أُنشئ على أن يكون «غريباً» أو «آخراً»، فقد ولد لعائلة سنّية من أم علوية، استقرّت في جرمانا ذات الغالبية الدرزية: «حرصت عائلتي على أن تدعم كوني غريباً مؤكدةً على ضرورة أخذ الحيطة، فيما عزز المجتمعُ نفسه (في جرمانا) مفهوم أنني غريب». في محاولة للإفلات من زمرة «الغريب» في سوريا، هرب سامي في نوستالجيا مختلفة إلى سوريّ مستقبلي، إلى نتائج ثورية تحولت مع الوقت من مرجوة إلى مُتخيّلة، أوجبت عليه الهرب منها أيضاً.
هارباً من وطنين، الحقيقي والمُتخيَّل/المرجو، انضمَّ سامي إلى «الهامش» السوري في تركيا، حيث حوله ثقل بلد الهجرة الذي سيحميه من هول الحرب «مؤقتاً» كلاجئ، إلى «غريب» مرة ثانية، لا سيما لغوياً. فمع نمط الحياة السريع والمكلف في تركيا، حالت ساعات العمل الطويلة دون تعلّمه اللغة، وبالتالي دون انخراطه في المجتمع التركي: «كنت أنام في صف اللغة. في المستوى الأول كنت أستيقظ عند لكزي، أما في المستوى الثاني كنت أتقلب وأتابع نومي وحسب». تسبب ذلك في انحناء وجهته نحو الوطن المستقبلي، ليدور ويتقدم نحو الخلف: « تحولت الغربة في الوطن بطريقة غريبة جداً إلى وطني».
وطن أسود
خوفاً من اشتباك عنيف بين الغريبين، ذاك الغريب في سوريا و«المُنتَهَك على كافة الصعد»، والآخر الغريب في تركيا حيث «المجتمع غير مرحب وغير متقبل للسوريين»، سمح سامي للهامش باحتضانه. فاختار حالة السكون في غيتو لغوي قائم على شبكة من المعارف السوريين/الناطقين باللغة العربية فقط، عملاً وحياةً، محولاً اللغة التركية والناطقين بها إلى «آخر» يقتصر التفاعل معه على شخوص يوفرون متطلبات يومه في معزله اللغوي، كصاحب البقالية وشوفير التكسي.
يلتزم سامي بالحدود التي رسمها في الوطن الأسود، فقد شبّه شبكة العلاقات السورية بـ «سوق سوداء» خارج حيز الرقابة اللغوية التركية، فهو يقول Türkçe bilmiyorum (أنا لا أعرف التركية) مدافعاً عن مكانه/ وطنه في الغيتو، أو «المساحة الثانية، القادرة على حماية كرامتي بنسبة صغيرة بالمقارنة مع سوريا».
الجهل كنجاة
يدرك سامي التهلكة التي تحيط به في حالة السكون، أي الرغبة بالجهل باللغة التركية، والحفاظ على التفاعل بأدنى مستوياته مع المجتمع التركي. «لا أدري كم مرة تعرضت فيها للشتم في أماكن عامة، غير أن عدم قدرتي على فهمها تعني أنه (التركي) غير قادر على أن يؤثر بي. أعرف أنه يكرهني، ولكنه لن يجتهد بأن يلجأ إلى لغة الإشارة أو استخدام بضعة كلمات من هنا وهناك لكي يخبرني بأنه يكرهني»، يقول سامي. إن عدم المعرفة يعني عدم التحديق بالعنصرية في عينها، وبالتالي الإصابة «بالجنون»، كما تعني تدخلاً تركياً أقل في المساحة الثانية التي صنعها لنفسه، لا سيما وأن «الآخر» التركي لا رغبة لديه في استطلاع أبعاد مساحته أو لِمَ اضطُرَّ إلى ابتكار هذه المساحة بالأساس، فهي «خارجة عن التداول (اللغوي)، وبذلك لن يستطيع الأتراك تحديد جنسيتي، لأكون بذلك قادراً على الهرب متى ما شئت. يسألونني من أين أنت؟ فأجيب من الأردن مرة، ومن فلسطين مرة أخرى».
جهل اللغة، أيّ لغة غير العربية، وليس حصراً التركية؛ يساعد سامي على عدم الانتماء أو تشكيل أي رابط وطني مع مكان ما. يدفع رفضه هذا «الحدث السياسي الكبير في سوريا» ومفهوم الوطنية نفسه، فبالنسبة له «الوطنية هي مشاعر تعطي أولوية لجماعة محددة من البشر على حساب البشر عموماً، فمثلاً لكي تكون تركياً أكثر عليك أن تمعن بالسفالة مع السوري». ولولا واقعية الحياة التي تفرض عليه الانخراط بالحدث العالمي، وبذلك الإنتماء إلى وطن ما، وطنه الأسود مثلاً، يفضّل سامي لو كان باستطاعته أن يلجأ إلى مكان معزول لا أحد يقطنه، ولا حاجة فيه لأن يبرر نفسه أو الأسباب خلف غربته، حيث بإمكانه أن يتحول إلى روبنسن كروزو، منفقاً وقته في صيد السمك.
النموذج الثاني: السائحة
ورد (27 عاماً)، فلسطينية سورية عاشت في حلب ودرست الصحافة في دمشق، قَدِمَت إلى تركيا عام 2015 وتقيم في إسطنبول. لا تتقن اللغة التركية، لم تحاول ولن تحاول إتقانها، تدرك تماماً أن حركتها نحو الخلف، فتقريباً كل ما يهمها هناك خلفاً ولا شيء مُشجّعٌ في تركيا.
بيت أهل وقضيتان
خلافاً لسامي، الذي بات لا يؤمن بمفهوم الوطن أساساً، عادت ورد بعد «أن ضاعت تعاريف الوطن المختلفة» في ذهنها بفعل الحدث السياسي الكبير أيضاً، حيث كان الوطن هو القضية الفلسطينية في صغرها، ليتحول خلال الثورة إلى القضية السورية، إلى المحليّ السوريّ بأبسط أشكاله.
«أفكر أحياناً أن الوطن بالشكل الأمثل والأسلم هو بيت أهلي. ولأن الوطن ضائع كفكرة أعمد إلى ربطه بأشخاص، فإن لم تكن عائلتي فهو أولادي حتماً. حتى في علاقتي مع زوجي، فعلاقتنا ستكون جيدة بالمقدار الذي سينجح من خلاله أن يمنحني الشعور الذي رافقني بين أهلي».
كـ «عالقة في الماضي» قد تتحرك ورد إلى الخلف أبعد من بيت الأهل إلى بيت الجدة، أي مكان أكثر محلية، أكثر ألفة، بروتينه وعاداته، عند اضطرارها لمواجهة «الآخر» التركي، خاصةً وأن المواجهة غير عنيفة. فورد لم تستعد نوستالجياً وطناً نَبذها اجتماعياً بالمقارنة بتهميش تركي، أي أنها لم تفضّل غربة محلية على غربة تركية بل أقدمت على اختيارٍ واعٍ، وهو أن تعيش على نُظُم البيت المركّب: «ليس حلبياً ولا سورياً.. هو البيت في إطار تفاعله مع بيئته. العائلة الفلسطينية التي تعيش في مدينة سورية وتتفاعل معها من خلال هامش معين، فيما استطاعت أن تخلق لنفسها بيئة مختلفة جداً. قد لا يكون التفاعل مدركاً أو واعياً، غير أن البيت حلبي، سوري، شامي وفلسطيني: التركيب…».
خلف الخط
رغم أنها في تركيا جغرافياً، إلا أن ورد اختارت لنفسها الموقع خلف الخط الأصفر من حيث التفاعل مع اللغة التركية، ما يجعلها خارج الغيتو اللغوي العربي/ السوري، أي المكان الذي يُتفاوض على وجوده ضمن الحيز التركي اللغوي. لم يمنعها أي شيء عن تعلم اللغة التركية غير رفضها أن تتعلم لغة ضاربة بالمحلية، ليس بالمقارنة مع اللغة العربية وإنما مع اللغة الإنجليزية كمثال، التي تستطيع استخدامها في أي مكان من العالم.
كجزء من وجودها في الخلف، تعمل ورد في مؤسسة إعلامية سورية، ينطق أغلب موظفيها اللغة العربية فقط، فيما تسعى في تعاملها مع الأتراك إلى أن تخبرهم أنها لا تتقن لغتهم، فنشاطها مع «الآخر» اللغوي مرتبط بعملية الشراء فحسب، وأكثر ما تستخدمه هو ?Ne Kadar (بِكم؟)، وهو ما ينبع عن رغبتها بأن يتم النظر إليها كـ «سائحة» فقط، ليس لأنها تخشى العنصرية وإنما منعاً لأي محاولة اندماج أو دمج غير مخطط/ غير مرغوب به في المجتمع التركي، من قبلها أو من قبل المجتمع المنغلق على نفسه.
تأطير محلي وديني
لأن الأتراك «أتراك وحسب»، تخشى ورد على هويتها المركبة من المحلية التركية، ففي حين تعرف عن نفسها كسورية، وفلسطينية- سورية إذا ما اقتضى الحديث تفاصيل أكثر، لتقول فلسطينية- سورية- حلبية عند التطرق إلى مناطقية سورية، سيكون تعلم اللغة التركية انتماء إلى الحيز التركي الذي سيُطالبها بتغيير قائم على التنازل عن التعددية الهوياتية: «لا أرفض اللغة التركية لأنها تركية ولكن لأنني لا أريد أن أتغير. تركيا مكان متقوقع على نفسه رغم المساحة الجغرافية الكبيرة. هم أتراك فقط وأنا لا أريد أن أصبح مثلهم، تركية فقط. خاصة وأن الأتراك سيرفضونكِ إذا لم تصبحي مثلهم، إذا لم تتحدثي لغتهم بطلاقة ولم تفهمي عاداتهم. لا استطاعة لي بهذا الكم من المحلية، لم أكن محلية يوماً في بلدي فلماذا سأقبل أن أكون كذلك هنا؟ لا سيما وأنني أبحث عن هوية لا تحددني بمكان».
بَنَت ورد رفضها للانتماء إلى تركيا لغوياً على تقبل تركي تمييزي أسسه دينية، فالمجتمع التركي، المؤلف من غالبية مسلمة، يرحب بك عندما تعرف عن نفسك كمسلم عربي: «التركي يزاحم هويتي الأساسية، والأتراك يجردونك من هويتك الوطنية باستخدام هويتك الدينية. يبدون رغبة شديدة بالتعامل معك، لكن سنتعامل معك على أنك مسلمة وليس سورية، أي أنهم سيمنحونك هامشاً من الفرادة والاهتمام فقط لأنك قادرة على قراءة القرآن باللغة التي أُنزل بها وهو ما لا يستطيع الأتراك فعله». ينسحب معيار القبول هذا على خطاب اللجوء نفسها في تركيا، الذي تنفتح على غير التركي طالما أنه «مهاجر» يمنح الأتراك أحقية أن يكونوا «أنصاراً»، فيما سيتم تحويله إلى «آخر» يمكن أن تُمَارَس العنصرية ضده بسهولة أكثر إذا ما طلب اللجوء كسوري ورفض أن يتحول إلى تركي، تحولٌ مقياسه قدرتك على النطق باللغة التركية.
النموذج الثالث: لاجئة/مهاجرة من الجيل الأول
شهد (30 عاماً)، صحفية من دمشق تعمل كـ «فريلانسر» مع مؤسسة إعلامية سورية، قدمت إلى تركيا عام 2015 وتقيم في إسطنبول. أم لطفلين. بدأت تعلّم اللغة التركية قبل مجيئها إلى تركيا وترغب بمتابعة تعلمها، تتحرك ببطء من حالة السكون إلى الأمام.
مُغادِرة متصالحة
لدى شهد مفهوم أكثر وضوحاً عن الوطن من ذاك الذي يرفضه سامي وتسعى إليه ورد، وهو ليس سورياً، ليس الخلف، فهناك «الحلم صفر» و«المستقبل صفر». تتصالح مع الحنين إلى «مراحل الطفولة، المراهقة، الشباب وبيت الأهل» وتتجاوز الحيرة «هل سنعود إلى هناك يوماً؟» لتُسقِطَ تعريفها للوطن على تركيا بوصفها «المكان الذي أستطيع فيه أن أؤمن مستقبلاً لأولادي ولي ولزوجي، فكلانا شابان والعمر أمامنا».
كلاجئة سورية، تمكّنت شهد من التصالح مع تركيا أيضاً، ففي حيز السكون «المؤقت» الذي تشغله بنشاطها اللغوي تنتمي إلى مجتمعها السوري، سواء في العمل أو خارجه، والأصدقاء وأفراد العائلة والسوريين الآخرين. وتحاول الانتماء بمقدار مساوٍ تقريباً، أو بالقدر الذي يساعدها عليه ما تعرفه من لغة حتى الآن، إلى المجتمع التركي الذي لا ترفض أن يتحول إلى مجتمعها الثاني، فهي لم تهرب إلى غيتو لغوي، وليست اللغة التركية «آخراً» بالنسبة لها.
صراع حركي
تخاف شهد العنصرية، ولكن هناك عوامل تحوّل انتمائها من رغبة شخصية إلى ضرورة حتمية، وتدرك تماماً أن مفتاح الانتماء هو اللغة: «لا زال لدي خوف، حاجز يمنعني من الاندماج معهم، وهو اللغة. أتوقع أن تَحَسُّن لغتي سيغير من نظرتهم لي وسيساعد على تقبلي أكثر، خاصةً وأنهم متعصبون للغتهم، سيتقبلونني إن تعلمت اللغة ولو أنني سورية».
ما يحثّ شهد على تجاوز الصراع اللغوي السوري- التركي نحو الانتماء هو صراعٌ بين جيلين من المهاجرين، الأول تمثله هي كأم؛ والثاني ابنتها التي وصلت تركيا في عمر الثلاث سنوات ونصف، وابنها الذي ولد في تركيا. تجرّ شهد نحو الأمام حركةُ مهاجر آخر يشاركها اللغة العربية، اللغة الرسمية في المنزل والتي تشعر أن من واجبها أن تلقنها لأولادها، ولكنه لا يشاركها الذاكرة: «من الصعب أن أقنعها بأنها من هناك (الخلف/ سوريا) وهي هنا (الأمام/ تركيا)».
رغم أن شهد تُحدِّثُ ابنتها عن سوريا، عن طفولتها وشبابها وبيت جدها، إلا أن كل هذه التفاصيل تبدو كقصة ما قبل النوم بالنسبة لابنتها، وعمرها سبع سنوات ونصف اليوم، التي تقف في منتصف المنزل وتحيي العلم التركي، بالنشيد الوطني التركي، باللغة التركية. تدرك كأم أن عليها تتبُّّعَ إيقاع ابنتها في الحركة أيضاً إذا لم ترغب في أن تتحول إلى «آخر لغوي» بالنسبة لها، فهي تمارس حياتها في حيز أكثر تركيةً منه سوريّةً، وكذلك لكي تحميها من صراع هوياتي كشخص يعيش في بيت سوري/ عربي اللغة تماماً، فيما تجول هي في عالمها التركي الخارجي.
النموذج الرابع: المُجنّسة
شيرين (27 عاماً) من الحسكة، تعمل في التسويق الإلكتروني، وشريحتها المستهدفة مكوّنة من عرب وأتراك. قدمت إلى تركيا أوائل عام 2014 وتقيم في مدينة بورصة. إتقانها للغة التركية يساعدها على الحركة المستمرة نحو الأمام، أي مزيد من الاندماج في المجتمع التركي.
السوري الغائب
الوطن بالنسبة لشيرين هو الابتعاد قدر الإمكان عن الخلف/ سوريا إلى أي مكان يوفر لقاطنيه «الأمان، الاستقرار، والقدرة على التأسيس». هو كذلك النأي بالنفس عن كل الروابط مع الماضي، حيث تهدد وجودك قذيفة أو برميل في كل ثانية من يومك. على عكس شهد، لم تتجاوز شيرين الحنين بل حصرته في ثلاث أشخاص، أب وأم وأخ صغير فقط، لا زالوا عالقين حيث كانت عالقة هي الأخرى قبل أن يهرب زوجها من الخدمة الإلزامية إلى تركيا وتلحق به بعد ثلاثة أشهر.
ولأنها استقرت في بورصة، وهي مدينة صناعية لا تنافس اسطنبول بعدد السياح الأجانب الذين يقصدونها فيكسرون هيبة المحليّ، استخدمت شيرين عدداً من برامج الترجمة لتعلّم التركية، والمشي في الشوارع واستراق السمع لحديث الباعة في البازارات والزبائن في المحلات التجارية. لتخرجها فيما بعد من مرحلة التأتأة اللغوية عائلةٌ تركيةٌ «صبورة» كانت، في وقت ما، من ضمن المتحمسين لاحتضان «مهاجر» هارب لم يوفر له الوجود السوري المحدود عام 2014 أي «هامش» لغوي سوري يسمح للماضي بالتسلل إلى الحاضر فيدخلها في حالة السكون اللغوي أو الانتمائي، قاذفاً بها إلى الأمام في عملية احتكاك شحذت لسانها بمحلية تركية تساعدها على قول Bu nekadar geliyor (بكم هذا؟) وهو لفظ أكثر شعبية من سؤال ?Ne kadar ناقلاً إياها من حالة السائح إلى حالة متسوق البازار التركي/ المواطن الذي لن يستطيع البائعُ أن يتلاعب معه بالأسعار فيجعلها أضعاف مضاعفة.
في تعلّم اللغة التركية الشعبية شيء من الانتقام للنسخة السورية من شيرين، التي تستطيع اليوم إبرام أفضل الصفقات الشرائية وفق ميزانيتها المنزلية، «فكثيراً ما دفعنا مبالغ تأمين هائلة لأشياء لا ضرورة لتأمينها لمجرد أن البائع كان يعرف أننا لا نتكلم لغته».
وضع الحماية
خلال حركتها إلى الأمام، تقدم شيرين على نوعين من الحماية، أولهما غيري؛ فعلى الرغم من أنها تسعى لعدم الانتماء إلى ما هو سوري في الحيز العام التركي (شوارع، محال، مدارس) معتمدة في نشاطها على اللغة التركية حصراً، إلا أنها تتخلى عن حالة اللا-نتماء هذه ما أن تواجه سوريين في حالة السكون، أي في أزمة سببُها اللغة، إذ تترجم من العربية إلى التركية مشكلة فلان الصحية في المشفى؛ وتصاحب ابن جارتها للحديث مع أستاذه في المدرسة؛ وتتصل بصاحب مكتب العقارات من أجل مشكلة في بيت سوري آخر. بقدرتها على استخدام اللغة التركية، تحمي من تستطيع من «عنصرية» الآخر اللغوية، «فالأتراك في بورصة متمسكون جداً بلغتهم، وغالباً لا ينطقون غيرها» وقد يعزف بعضهم عن تقديم يد العون حال عجزهم عن التواصل.
أما ثاني النوعين، فهو حماية ذاتية. تجاوزت شيرين زلة لسان ثانية طورتها منذ عامين Ben Vatandaşıyım (أنا مواطنة تركية)، فالاعتراف بها حكومياً لا يساعدها على مواجهة الآخر الذي يظن أن «السوريين قد سعوا إلى الجنسية كي يسرقوا منّا بلدنا وفرص عمل يجب أن تكون لنا» رافضين انتماءها إليهم وفقاً للوثيقة الرسمية، فهي اليوم تعتمد في حماية نفسها على لغتها التركية وحسب، وتستخدمها لتجيب بأنها لن تغادر تركيا، ولن تعود إلى سوريا. فكلما اقتنت شيئاً جديداً لبيتها، يحرص الأتراك عند رؤيته إلى تذكيرها بـ «هذا حرام، إنك تملئين المنزل أثاثاًعلى الرغم من أنك ستعودين إلى بلدك… ألن تعودي؟»
?Sen nerelisin
من أين أنتَ/أنتِ؟
أنا سوريالي (روبنسن كروزو)
أنا سوريالي (سائحة)
أنا سوريالي (مهاجرة من الجيل الأول)
أنا سوريالي (مجنسة)
في الفراغ المِيَمي أربع أشخاص، يعمل النشاط اللغوي لكل منهم على سرد جانب آخر للوجود السوري في تركيا. يدافع كل منهم عن «سريالية» اللاجيء ووطنه، أحادياً أم مُركّباً، فهو ليس لاجئاً وحسب: ليس لاجئاً آخر فقط، وليس سورياً وكفى. لكل سوري قصة فريدة، تستحق أن يتعرف عليها «الآخر»، وتستطيع أن تقاوم الواقعية المحدودة التي تدفع كثيرين إلى وضع جميع السوريين في قصة واحدة، معروفة.. مكررة ومملة: قصة الفارين من الحرب الذين يملؤون الميترو والشارع والمعامل وصفحات الأخبار والسوشيال ميديا، يملؤونها حرباً وهرباً وأزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية.
موقع الجمهورية